قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية فراشة أعلى الفرقاطة للكاتبة منال سالم الفصل السادس

رواية فراشة أعلى الفرقاطة للكاتبة منال سالم الفصل السادس

رواية فراشة أعلى الفرقاطة للكاتبة منال سالم الفصل السادس

في غرفة الأستاذ أمجد بالمشفى
ظل الجدال سائدا بين كلا من الأستاذ عبد السلام والأستاذ أمجد حول تولية فرح مهام التحقيق الصحفي الخاص بفرع القوات البحرية كبديلة عن الأستاذ أمجد الذي أصيب بكسر مضاعف في ساقه مما أعاقه عن الحركة..
نظر الأستاذ عبد السلام بنظرات جادة إلى الأستاذ أمجد وهو يعتدل في جلسته و..

-عبد السلام بنبرة ضجرة: أنا مش موافق يا أستاذ أمجد، اظن إن أنا اتفقت معاك من البداية إن التحقيقات دي يتولاها شباب وبس، مافيش داعي للوضع المحرج اللي احنا هنتحط فيه لو فرح أو غيرها راحوا يغطوا الموضوع
-أمجد بنبرة معترضة، ونظرات ثابتة: يا أستاذ عبد السلام فرح دي بنت ممتازة ومجتهدة في شغلها..
صمت الأستاذ أمجد للحظات يتأمل رد فعل الأستاذ عبد السلام، ثم تابع ب...

-أمجد بنبرة حماسية، ونظرات متأملة: يمكن هي أكتر حد هيعرف يفيدنا ويغطي التحقيق بشكل مكثف، وماتنساش إنها مصورة محترفة يعني هاتقدر تصورلنا السفن والجنود بعين المصور مش مجرد عين الصحفي.

زفر الأستاذ عبد السلام في انزعاج، ثم أشاح بوجهه للناحية الأخرى و..
-عبد السلام بضيق: انت كده مصمم تحرجني يا أستاذ أمجد
-أمجد بهدوء: لا أبدا، طيب احنا نسألها الأول، ونشوف هاتقول ايه، وبعد كده نتكلم
-عبد السلام بنبرة ممتعضة: يا ريت تيجي من عندها وترفض
-أمجد بخفوت، وبنظرات متعشمة: ان شاء الله هتوافق...!

في منزل فرح عبد الحميد
جلست فرح على الأريكة الواسعة و المريحة – ذات اللون البيج - إلى جوار والدتها، حيث تناولت كلتاهما بعض الحلوى أثناء مشاهدتهما لأحد الأفلام الأجنبية..
كانت فرح ترتدي منامة قطنية على هيئة فستان يصل إلى ما بعد الركبة من اللون البامبي، وذات أكمام طويلة، كما عقصت فرح شعرها كحكة، ووضعت شريطة شعر على مقدمة رأسها من نفس لون المنامة..

سلطت السيدة فوزية بصرها على شاشة التلفاز لتتابع الغموض الذي يسود هذا الفيلم العجيب، في حين كانت فرح شادرة في ماضيها المحزن وذكرياتها الكئيبة مع زوجها الراحل، ورغم محاولاتها الجادة أن تبدو أمام والدتها أنها تجاوزت الأزمة، إلا أنها كانت تحترق من داخلها، فهي كانت الضحية والمخدوعة لأعوام، ومع هذا تحملت اللوم والعتاب على وفاة زوجها المخادع..

قطع شرود فرح رنين هاتفها المحمول، فمدت يدها ناحية الطاولة السوداء الصغيرة الموضوعة أمام الأريكة لتمسك بهاتفها..
نظرت فرح إلى شاشة الهاتف فوجدت أن المتصلة هي رفيقتها إيلين، فنهضت عن الأريكة، وابتسمت لوالدتها و..
-فرح بخفوت، ونظرات عادية: دي إيلي يا مامي، هاخش اكلمها جوا
-فوزية وهي توميء برأسها: طيب يا فرووح، ابقي سلميلي عليها
-فرح مبتسمة برقة: حاضر يا مامي.

سارت فرح في اتجاه غرفة نومها، ثم أغلقت الباب خلفها حينما دلفت للغرفة..
عاودت فرح الاتصال بإيلين وهي تجلس على طرف فراشها و...
-فرح هاتفيا بنبرة فاترة، وهي مجفلة لعينيها: هاي إيلي
-إيلين هاتفيا بنبرة متلهفة: ازيك يا فرح، عاملة ايه يا حبيبتي؟
-فرح بنبرة هادئة: عادي، ماشي الحال
-إيلين بنبرة حماسية: طب أنا عندي ليكي أخبار هتبسطك أوي.

عقدت فرح حاجبيها في استغراب، وتنبهت حواسها و...
-فرح بنبرة مهتمة، ونظرات ثابتة: أخبار ايه؟
-إيلين بنبرة متفائلة، ونظرات مشرقة: بصي يا ستي، وصلتني اخبار من مصادري الخاصة إن الاستاذ أمجد هيخليكي تبقي مكانه في تحقيقه اللي جاي.

هزت فرح رأسها في عدم فهم، واعتدلت أكثر في جلستها على الفراش و..
-فرح بنبرة متسائلة: يعني ايه؟ أنا مش فاهمة.

سردت إيلين بإختصار شديد ما نمى إلى مسامعها من وجود معلومات مؤكدة تفيد بقرب توليها مهمة التحقيق الصحفي المتعلق بإنجازات القوات البحرية وتطورها، وذلك ضمن سلسلة التحقيقات الخاصة بمناسبة أعياد سيناء..
أخذت فرح نفسا عميقا، وزفرته بتمهل، ثم نهضت عن فراشها، وسارت عدة خطوات للأمام في اتجاه مكتبها الصغير الموجود في أحد أركان الغرفة وهي تضع يدها على شعرها وتعبث بخصلاته و..

-فرح بهدوء حذر: بيتهيألي أنا، مش هوافق
-إيلين بخضة، ونظرات مصدومة: ليه بس يا فرح، صدقيني دي أنسب حاجة تقدري تخرجي بيها من جو الاكتئاب اللي انتي عايشة فيه ده، البحر والهوا وال، آآآ
-فرح مقاطعة بجدية: بحر وهوا، وكلام فارغ ايه بس، أنا أصلا مش غاوية البحر ولا بحبه، أقوم أروح أعمل تحقيق صحفي مرتبط بيه.

عضت إيلين على شفتيها من الغيظ، ثم أردفت ب...
-إيلين متابعة بنبرة مصرة، ونظرات متعشمة: يا بنتي ده موضوع مهم، هينقلك في مكانة تانية خالص، وبعدين بصراحة أنا مش عاوزة حد تاني ياخده غيرك، انتي عارفة أد ايه الكل طمعان يبقى مكانك
-فرح بعدم اكتراث: إيلي، بليز أنا فيا اللي مكفيني، عاوزة أطمن على نتايج التحاليل بتاعتي، وعاوزة أركز في حياتي دي، وأنا مش حمل أشيل مسئولية مكونش أدها..

-إيلين بنبرة متحمسة: اطمني يا فروووح، النتيجة هتبان بالليل، وأنا متفائلة خير، بس عشان خاطري يا فرووح أوعي تضيعي الفرصة دي من ايدك، اوعي تقولي لأ، وحياة مارسيل عندك...!

زفرت فرح في ضيق، ثم حكت فروة رأسها عدة مرات بأصابع يدها و...
-فرح على مضض: ربنا يسهل
-إيلين متسائلة بحماس: يعني موافقة؟
-فرح بإنزعاج زائف: إيلي، بلاش تزني كتير على وداني
-إيلين وهي تمط شفتيها في ترقب: ماشي، ماشي، وأنا هاعدي عليكي كمان شوية عشان نجيب نتيجة التحاليل
-فرح بخفوت: اوكي..
-إيلين متابعة بجدية: وبالمرة تشوفي مارسيل وتسلمي عليها
-فرح بنبرة دافئة: وحشيتني المفعوصة دي أوي.

ظلت الاثنتين تثرثران لعدة دقائق أخرى، ثم أنهت بعدها فرح المكالمة وهي تفكر فيما قالته إيلين حول تكليفها بالمهمة الصحفية الجديدة..

في منزل آدم
عاد آدم من القاعدة البحرية بالإسكندرية إلى منزله في القاهرة ليجد زوجته شيماء مندمجة في أعمال المنزل، وترتدي عباءة منزلية شبه بالية من اللون الأزرق، وترفع إحدى أذيالها للأعلى قليلا لكي تربطها في منتصف خصرها فتكشف عن أحد ساقيها، وتلف حول شعرها حجابا من اللون البني المنقوش بالورد العريض..
تأمل آدم هيئة زوجته والتي تشبه الخادمة إلى حد كبير بوجه ممتعض وهو يرفع أحد حاجبيه في دهشة و...

-آدم بنبرة مازحة: وأنا اللي كنت مفكر هلاقي مارلين مونرو مستنياني، أقوم ألاقي بكيزة مكانها، لله الأمر من قبل ومن بعد...!

إنتفضت شيماء فزعا في مكانها، واستدارت بجسدها للخلف لتجد زوجها واقفا في مكانه وهو يحمل حقيبة سفر صغيرة في يده ومرتديا حلته العسكرية البيضاء..
تهللت أسارير شيماء حينما وجدت زوجها أمامها، فركضت مسرعة عليه، غير عابئة بملابسها المبتلة من أثر تنظيف الأرضيات، ولا بهيئتها المزرية..
احتضنت شيماء زوجها آدم بقوة، ثم إنهالت بالقبلات على وجهه، في حين ترك هو حقيبته على الأرض، وأحاط زوجته بذراعيها و...

-شيماء بنبرة عالية، ونظرات مشتاقة: حبيبي، وحشتني أوي، حمدلله على السلامة.

حاول آدم أن يخلص نفسه من أذرع شيماء المتشبثة به، و...
-آدم بجدية: حاسبي يا شيموو، البدلة اتبهدلت.

توقفت شيماء عن تقبيل زوجها، ثم تراجعت خطوة للخلف و..
-شيماء بوجه شبه عابس، ونظرات حانقة، ونبرة منزعجة: بقى خايف على البدلة، ومش خايف إني أزعل..!

ابتسم آدم لزوجته، ومد يده ووضعها أسفل ذقنها و..
-آدم بنبرة هادئة، ونظرات حب: زعلك غالي عليا، بس أي حاجة تبوظ البدلة هتودينا ورا الشمس..!

زمت شيماء شفتيها في انزعاج، وضيقت عينيها وهي تنظر إلى آدم، ثم تابع آدم ب...
-آدم متسائلا بنبرة شبه عالية: اومال البت سلمى فين؟ أنا مش شايفها؟
-شيماء وهي تشير بيدها، وبنبرة ممتعضة: أعدة بتلعب في أوضتها جوا، وأنا مشغللها كرتون
-آدم مبتسما في خبث: طب حلو أوي، أهوو ألحق أسلم على أمها اللي وحشاني، وبعد كده أرجع أقعد معاها.

نظرت شيماء إلى آدم بعدم فهم، في حين ازدادت ابتسامة آدم اتساعا، ثم مد يده الأخرى ناحية زوجته، ليمسك بكف يدها المبتل، ثم رفعه إلى فمه وقبله برفق، وقام بعدها بجذب زوجته ناحيته، ليضمها أكثر إلى صدره، ثم وضع ذراعه خلف ظهرها، وانحنى بجذعه للأسفل قليلا ليضع ذراعه الأخر أسفل ركبتيها ويحملها برفق، فتركل هي بقدميها قليلا في الهواء و..
-شيماء بنبرة خجلة: إنت، بتعمل ايه؟

-آدم غامزا بنبرة رخيمة: هنضف البدلة اللي اتبهدلت، وشايل الفلبينية عشان تاخدها فومين في الطشت...!
-شيماء بضيق: طب اوعى بقى
-آدم بنبرة مشتاقة، ونظرات راغبة: أوعى مين، ده احنا عندنا غسيل للفجر.

سار آدم وهو يحمل زوجته في اتجاه غرفته، ثم دفع الباب بقدمه لينغلق من خلفه، ثم وضع زوجته التي اقتقدها برفق على الفراش ليتذوق معها طعم الحب الذي يتمناه.

في مركز ماميز الطبي
وصلت إيلين ومعها فرح إلى المركز الطبي الفخم بعد أن حصلت فرح على نتائج التحاليل من المعمل القريب، بالإضافة إلى صور الأشعة..
لم تعرف فرح ما الذي تشير إليه نتائج التحاليل ولا صور الأشعة، فكانت متوجسة خيفة من أن يكون بها مكروها ما..
جلست فرح على المقعد المعدني ذو اللون الفضي وهي تهز ساقيها في توتر ملحوظ..

مدت إيلين يدها ووضعتها على يد فرح لتهديء من روعها، وبعد قليل جاءت الممرضة إلى كلتاهما لتخبرهما بأن دورهما قد حان لمقابلة الطبيبة هايدي..
دلفت فرح أولا إلى مكتب الطبيبة هايدي الواسع، ثم لحقت بها إيلين، وتلك المرة وجدت كلتاهما هايدي جالسة وهي منتصبة في مقعدها تتطالع بعد الأوراق..
أشارت لهما هايدي بعينيها ليجلسا، وبالفعل جلست الاثنتين في مقابلتها..

مدت فرح يدها المرتعشة والممسكة بنتائج التحاليل وصور الأشعة إلى هايدي التي أخذتهم منها بهدوء تام..
ساد صمت رهيب في المكان، وظل تبادل النظرات والإيماءات هو السائد في الأجواء إلى أن قاطعه صوت هايدي ب...
-هايدي بنبرة باردة وهي تمط شفتيها: ممم، مافيش حاجة خطيرة، زي ما توقعت، اضطراب في الهرمونات، وصور الأشعة الخاصة بالرحم والمبايض طبيعية.

تنهدت فرح في ارتياح، وشعرت أن ثقلا ما قد أزيح عن صدرها و..
-فرح بنبرة ارتياح: الحمدلله يا رب، ده انا كنت خايفة يطلع فيا حاجة
-هايدي بنبرة جافة: لأ، كله كويس، بالعكس انتي تقدري تحملي لو حابة..
-فرح وهي تتنحنح في حرج: احم، آآ، بس أنا، آآ، مش متجوزة.

عقدت هايدي حاجبيها في استغراب، ورمقت فرح بنظرات متفحصة و..
-هايدي بنبرة جافة، ونظرات حادة: بس مكتوب قدامي إنك مدام
-إيلين متدخلة في الحوار بنبرة متعجلة: أصل فرح كان مكتوب كتابها بس، لكن جوزها مات وآآ..
نظرت فرح إلى إيلين بضيق، ورمقتها بنظرات معاتبة لإفصاحها عن أمورها الشخصية، فتوقفت إيلين عن باقي حديثها..
أسندت هايدي التحاليل على سطح مكتبها الزجاجي، ثم نظرت إلى فرح بعد أن عقدت كفي يدها معا و..

-هايدي بنبرة باردة، ونظرات حادة: على العموم، مش هاتفرق كتير، أنا هاكتبلك على ( دوا ) يقوي بطانة الرحم عندك شوية، ويساعدك في تنظيم البريود، بس نصيحة مني ابعدي عن أي ضغوط، وغيري جو، ده هايفيد اكتر
-فرح مبتسمة نصف ابتسامة: إن شاء الله.

نهضت هايدي عن مكتبها، واتجهت إلى طاولة زجاجية جانبية مسنود عليها آلة تصوير صغيرة، وقامت بوضح الأشعة والتحاليل الخاصة بفرح فيها لأخذ صورة ضوئية منها، وضمها في الملف الخاص بفرح، حيث تحتفظ هايدي دائما بنسخ من الأوراق التي تخص مرضاها حتى تتمكن من الرجوع إليها في حالة الاستمرار في المتابعة معها..

أمسكت هايدي بالنتائج مجددا بعد أن انتهت من تصويرها، ثم مدت يدها في اتجاه فرح، ونظرت إلى فرح ورفيقتها إيلين بنظرات قاسية و..
-هايدي بلهجة شبه آمرة: اتفضلوا، أنا خلصت..
نظرت فرح إلى إيلين بنظرات محرجة، ثم أومأت برأسها، ونهضت عن المقعد، وسارت مبتعدة عن المكتب، في حين لحقت إيلين هي الأخرى بها، ومالت عليها بجسدها لتهمس لها ب...
-إيلين بصوت هامس، ونظرات مغتاظة: اسلوبها وقح أوي.

-فرح بخفوت: شششش، مالناش دعوة، المهم إن أنا كويسة
-إيلين بنبرة مبتهجة: اه طبعاااا، وبالمناسبة دي أنا هعزمك على العشا، بس نعدي ناخد مارسيل وناكل سوا في ماك
-فرح مبتسمة، وبنبرة هادئة: اوكي...
-إيلين بنظرات متفائلة، ونبرة متعشمة: وعقبال ما توافقي على اللي في بالي...

في خلال اليومين اللاحقين، إلتقت فرح بالأستاذ أمجد بعد أن طلب اللقاء بها في غرفته بالمشفى، ومحاولة إقناعها بالموافقة على الاشتراك في ذلك التحقيق الصحفي، ورغم إصرار الأستاذ أمجد على إشراكها ولو بالتكليف المباشر، إلا أن فرح لم تبدي رغبتها أو حتى حماستها للموافقة على طلبه، و اكتفت فقط بوعده بالتفكير في تلك المسألة والرد خلال يومين ريثما تستشير والدتها في تلك المسألة..

ودع آدم زوجته بعد قضاء يومين بصحبتها هي وابنته الغالية سلمى، ورغم أن يزيد قد أخذ إجازة معه إلا أنه لم يمر عليه كعادته، وقضى وقته في نادي التجديف، أو في الذهاب إلى المركز الرياضي لمتابعة لياقته البدنية، ثم عاد مجددا إلى منزله ليعد هذه المرة حقيبة سفر مملوءة بملابس تكفي لمدة شهر، وذلك لأنه سيغيب عن القاهرة مدة تتجاوز عدة أشهر بسبب الاعداد لاحتفالات أعياد سيناء، وعقبها التدريب لحفلة تخرج الدفعة الجديدة من ضباط القوات البحرية، بالإضافة إلى المهام الروتينية والتقليدية، والمهام الخاصة التي تقوم بها القوات البحرية، إذن فيزيد لديه أشهر قادمة حافلة بالكثير من المهام والتكليفات.

أبلغت فرح والدتها السيدة فوزية بمسألة رغبة الأستاذ أمجد بتكليفها بمهمة تغطية التحقيقات الخاصة بالقوات البحرية بدلا منه، وأنها تقتضي منها التفرغ لمدة اسبوعين والبقاء بصحبة أفراد القوات البحرية لإكمال التحقيقات، وبالتالي غيابها عن منزلها طوال تلك الفترة..

فكرت السيدة فوزية مليا في هذا الموضوع، وظنت أنه من الأفضل لابنتها أن تبتعد عن هذا الجو المشحون بالحزن والاكتئاب، وتذهب إلى تلك المهمة التي ربما تكون عطلة مفيدة أكثر منها مهمة رسمية...

في مقر جريدة الضحى
طلب الأستاذ عبد السلام مقابلة فرح في مكتبه ليحصل منها على موافقة نهائية وكتابية على الاشتراك في التحقيق الصحفي حتى يتمكن من استخراج التصاريح الرسمية الخاصة بها..
سارت فرح بخطوات ثابتة في اتجاه مكتبه، ثم استأنت من سكرتيرة المكتب لكي تدلف إليه، وما إن طرقت الباب حتى سمح لها بالدخول..

كانت فرح ترتدي بنطالا كلاسيكيا من القماش الأسود، ومن الأعلى كنزة فضفاضة سوداء ذات أكمام قصيرة تصل إلى منتصف عضديها، وفتحة صدر ضيقة تبرز فقط عنقها الطويل، ومن أسفل الكنزة بادي أسود ذو أكمام طويلة تصل إلى معصميها، بينما ربطت شعرها برابطة شعر مطاطة فجعلته ينسدل كذيل حصان خلف ظهرها..
أشار الأستاذ عبد السلام لفرح بيده لكي تجلس، ثم رمقها بنظرات جادة من خلف نظارته الطبية و..

-عبد السلام متسائلا بحزم: ها يا فرح، قررتي هاتعملي ايه؟ أنا عاوز ردك حالا..!

أطرقت فرح رأسها للأسفل، ونظرت إلى أصابع يدها التي تفركها من الارتباك، هي ترغب في الاعتذار، ولكنها في نفس الوقت لا تريد أن تخذل رئيس قسمها الذي وثق فيها وأولاها تلك المهمة دون غيرها..
كرر الأستاذ عبد السلام سؤاله مجددا حينما لم يجد أي رد من فرح، فرفعت رأسها، ونظرت إليه بنظرات شبه مضطربة، في حين سلط هو بصره عليها، ونظر إليها بجدية تامة و...
-فرح بخفوت وبنبرة متلعثمة: أنا، أنا موافقة.

مط الأستاذ عبد السلام شفتيه، ثم تراجع للخلف وهو جالس في مقعده و...
-عبد السلام بنبرة جادة: تمام يا فرح، ولو إني كنت أفضل إنك تعتذري عنها، بس طالما دي رغبتك، فأنا هاكمل باقي الإجراءات..
أخرج عبد السلام ورقة ما من درج مكتبه، ثم وضعها أمام فرح، وأشار لها بيده و...
-عبد السلام بحزم: عاوزك توقعي على الاقرار ده..
-فرح بنظرات حائرة، و نبرة متوجسة: ده ايه يا مستر عبد السلام؟

-عبد السلام بجدية، وبنظرات ثابتة: ده اقرار بالتفرغ التام خلال فترة التغطية الصحفية واللي مش هاتزيد عن 20 يوم على أقصى حد، مع الالتزام بتعاليمات رؤسائك من ضباط القوات البحرية خلال الفترة دي.

عقدت فرح حاجبيها في استغراب شديد، ولوت شفتيها في تعجب و...
-فرح بنظرات مندهشة، ونبرة متعجبة: رؤسائي! مش المفروض انا صحفية وآآ...
-عبد السلام مقاطعا بنبرة صلبة: هناك في قوانين والتزام، وأي حد كان مكانك برضوه هيمشي عليه الوضع.

هزت فرح رأسها في اقتناع، ثم أمسكت بالقلم الحبر وقامت بالتوقيع على الإقرار بعد أن قرأته جيدا، ثم أسندت القلم على سطح المكتب، ومدت يدها بالورقة إلى الأستاذ عبد السلام الذي أخذها منها، ونظر إليها مجددا قبل أن يطويها ويضعها في الدرج..
استأذنت فرح بالانصراف، ثم عادت إلى مكتبها مجددا لتجد رفيقتها إيلين بانتظارها على أحر من الجمر وهي متشوقة لمعرفة قرارها...

جلست فرح على مقعدها، في حين استندت إيلين بساعديها على سطح مكتب فرح، ونظرت إليها بنظرات متسائلة و...
-إيلين متسائلة بلهفة: ها يا فرووحة؟ عملتي ايه؟

تنهدت فرح في ارتياح، ثم نظرت إلى إيلين بنظرات دافئة و..
-فرح بنبرة رقيقة: خلاص يا إيلي، أنا وافقت.

اتسعت عيني إيلين في سعادة، وانفرجت أسارير وجهها، و...
-إيلين بنبرة متحمسة للغاية: أيوه بقى، أخيرا، هي دي الأخبار التمام، بجد أنا مش مصدقة إنك وافقتي، كنت حاطة إيدي على قلبي لأحسن ترفضي.

ابتسمت فرح ابتسامة هادئة، ثم أشاحت بوجهها بعيدا عن إيلين لتخفي لمحة حزن في عينيها وهي تتذكر أن سبب موافقتها على تلك المهمة هو للابتعاد عن أحزان قلبها، ونسيان ماضيها المؤسف مع ذلك المخادع...

في اليوم التالي
كانت فرح قد أعدت حقيبة سفر صغيرة مليئة ببعض ملابسها العملية والتي ستحتاج إليها خلال فترة غيابها، وقررت فرح – بعد إلحاح من والدتها – ألا ترتدي الملابس السوداء، وترتدي فقط الملابس ذات الألوان الداكنة..

لذا ارتدت فرح بنطالا من الجينز ذو اللون الأزرق الداكن، ومن فوقه كنزة رمادية فضفاضة و داكنة ذات أكتاف طويلة تصل إلى ساعديها، وفتحة صدر شبه واسعة، وأحد طرفي الكنزة أطول من الأخر، ومن أسفل الكنزة ارتدت ( بادي ) أسود اللون والذي برز كتفيه من أسفل الكنزة..
أسدلت فرح شعرها خلف ظهرها، ووضعت فوق رأسها نظارة شمس داكنة، وارتدت حول عنقها قلادة ذهبية بتدلى منها مفتاح الحياة الفرعوني..

كان الجو حارا نوعا ما رغم أن شهر إبريل قد بدأ لتوه، وفي مثل هذا التوقيت من العام يكن الطقس معتدلا، وليس مائلا للحرارة المرتفعة، ولكن تلك هي تقلبات فصل الربيع..
ودعت فرح والدتها، وطلبت منها المكوث في المنزل، وأن تنتبه لحالتها الصحية وألا تنسى تناول أدويتها اليومية..
أدمعت عيني السيدة فوزية لفراق ابنتها، ولكنها متيقنة أنها ستعود، مدت السيدة فوزية يدها على شعر ابنتها لتمسده، ثم قبلتها من وجنتيها، و...

-فوزية بصوت باكي: خدي بالك من نفسك يا حبيبتي، وكلميني كل يوم، عشان تطمنيني عليكي
-فرح مبتسمة بهدوء: حاضر يا مامي، بس بليز متعيطيش، أنا مش هاغيب كتير.

مدت فوزية أطراف أناملها لتمسح عبراتها المنسدلة على وجنتها، و...
-فوزية بنبرة دافئة، ونظرات حانية: تروحي وترجعي بالسلامة
-فرح بنبرة متعشمة: إن شاء الله.

في نفس التوقيت وصلت إيلين بصحبة زوجها الذي صف سيارته أمام مدخل البناية، ثم اتصلت هاتفيا بفرح لتبلغها بأنها تنتظرها في الأسفل..
أصرت إيلين وزوجها أمير على إيصال فرح إلى محطة ال ( حافلات ) بمنطقة ألماظة حتى تستقل الحافلة إلى الإسكندرية، وهناك ستنتظرها سيارة تابعة للجيش لتقلها إلى القاعدة البحرية حيث الوحدة التي ستمكث بها..

في القاعدة البحرية بالإسكندرية
صدرت الأوامر إلى المقدم يزيد بأن يضم فردا جديدا إلى طاقمه البحري الذي سيصعد على متن الفرقاطة الجديدة، ورغم امتعاض يزيد من هذا الطلب وعدم موافقته عليه إلا أنه اضطر أسفا أن يقبل به، فيزيد أكثر الناس حرصا على إنتقاء من يعمل معه...

دلف يزيد خارج مكتب قائده وهو يحمل مظروفا مغلقا في يده يضم التصاريح الخاصة بالموافقة على انضمام الصحفي الخاص بتغطية أخبار القوات البحرية بناءا على اتفاق مسبق، ثم سار بخطوات ثابتة نحو مكتبه الملحق بوحدته..

وبينما كان يسير في طريقه إلى المكتب، أمسك يزيد بالمظروف، ثم رفعه قليلا لينظر إلى البيانات المدونة على ظهره، والخاصة بالعضو الجديد في طاقمه، فتفاجيء من قراءة الاسم بأنها امرأة، فإزدادت ملامحه قسوة، وضاقت عينيه أكثر، وظل يزفر في انزعاج جلي...

-يزيد بنبرة غاضبة، ونظرات محتقنة: جايبنلي واحدة ست، ضاقت بيهم الدنيا عشان يجبولي واحدة فاشلة تبقى ضمن الطاقم بتاعي، واحدة هتبقى زي هايدي مش فالحة غير في القرف وبس...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة