قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية فراشة أعلى الفرقاطة للكاتبة منال سالم الفصل الخامس

رواية فراشة أعلى الفرقاطة للكاتبة منال سالم الفصل الخامس

رواية فراشة أعلى الفرقاطة للكاتبة منال سالم الفصل الخامس

ظلت فرح على حالتها البائسة لعدة أيام لاحقة، وحاولت معها والدتها السيدة فوزية إقناعها تارة بالذهاب إلى العمل، وتارة أخرى بتبديل ملابسها السوداء، فلا داعي للحداد على شخص مخادع ككريم..
ولكن لم تصغ فرح إلى والدتها، فالصدمة كانت أكبر من مجرد إدعاء مرورها بسلام وكأنها لم تترك في روها أثرا قبل حياتها..

لم يكن أمام السيدة فوزية سوى اللجوء إلى إيلين رفيقة فرح المقربة لمعاونتها في إخراج إبنتها من تلك الحالة الكئيبة...
وبالفعل لم تكل أو تمل إيلين من محاولات إقناع فرح بالعودة مرة اخرى للعمل من أجل تناسي الماضي، والبدء من جديد، واستعادة ثقتها المهزوزة ونسيان تلك الذكريات البغيضة..
لم يكن أمام فرح أمام تلك الإلحاحات المتلاحقة إلا أن توافق مضطرة على رجاء رفيقتها، وتوسلات والدتها..

وقفت فرح أمام دلفة دولابها تحاول إنتقاء ما سترتديه في العمل، وظلت مترددة لفترة، هل تعود لارتداء الملابس الملونة وكأن شيئا لم يحدث، أم تظل على حالها وتتشح بالسواد..

حسمت فرح قرارها في النهاية بالاستمرار في ارتداء الملابس السوداء، وذلك حفظا لماء وجهها، فلم يعرف أحد بحقيقة زوجها الراحل بعد، وهي ليس لديها الرغبة أو القدرة على توضيح أسباب عدم حزنها على زوجها الراحل للغير، ولن تتحمل رؤية نظرات الاشفاق عليها في أعين زملائها، وقررت أن تحتفظ لنفسها بما يخصها من أمور شخصية...

كانت فرح تعاني من بعض الآلام في أنحاء متفرقة من جسدها، وكذلك أسفل معدتها، فدلفت إلى المرحاض الموجود بالمنزل لكي تغتسل بالماء الدافيء لعل جسدها يرتخي وتخف حدة آلامه، فوجدت أن ضيفتها الشهرية قد زارتها، فامتعض وجهها، وزمت شفتيها في ضيق جلي، فهي ليست في حالة مزاجية تجعلها تتحمل آلامها الشهرية..

بدلت فرح ملابسها في داخل المرحاض، وارتدت بنطالا أسودا مصنوعا من خامة الجينز، وقميصا حريريا أسودا، ووضعت حول عنقها وشاحا قطنيا من نفس اللون..
دلفت فرح لاحقا خارج المرحاض، ثم توجهت ناحية غرفتها لتكمل تعديل هيئتها، ومشطت شعرها ووضعت رباطة شعر مطاطة بعد أن عقصته ليصبح كذيل الحصان، ومن ثم دلفت للخارج لتجد والدتها هي الأخرى مرتدية ملابسها وفي انتظارها..
حدقت فرح في والدتها بإستغراب و..

-فرح بخفوت، ونظرات متعجبة: مامي؟ انتي رايحة في حتة؟
-فوزية بهدوء، وابتسامة مشرقة: أنا جاية أوصلك يا حبيبتي لشغلك
-فرح بنظرات مندهشة، ونبرة قلقة: ليه؟
-فوزية مبتسمة في حنان: عاوزة أطمن عليكي يا فرح.

هزت فرح رأسها في اعتراض، ثم تابعت ب...
-فرح بنبرة شبه منزعجة: مامي اطمني، أنا الحمدلله أحسن
-فوزية بصوت دافيء: معلش يا قلبي، ريحيني يا حبيبتي.

مطت فرح شفتيها، ثم نظرت إلى والدتها بنظرات متفحصة فلمحت إصرارها جليا في عينيها، وهي ليست راغبة في الجدال معها، ومن ثم أومأت برأسها موافقة و..
-فرح بهدوء مصطنع: حاضر يا مامي.

ارتسمت ابتسامة عذبة على وجه السيدة فوزية، وتأبطت في ذراع ابنتها، ودلفت كلتاهما خارج المنزل، ثم نزلتا عبر المصعد للطابق الأرضي، وتوجهت الاثنتين إلى خارج البناية...
أشارت فرح بيدها لأحد سائقي سيارات الأجرة لكي يتوقف، ثم فتحت باب السيارة الخلفي وركبت هي أولا، ولحقت بها والدتها، ثم طلبت من السائق أن يوصل كلتاهما إلى مقر جريدة الضحى..

في مقر جريدة الضحى
اجتمع الأستاذ أمجد بالفريق الصحفي الذي سيتولى التحقيقات الصحفية الخاصة بإنجازات القوات المسلحة، وتم توزيع الأدوار على الجميع والتنسيق بين فريق التحقيق الميداني، وفريق الإعداد والتحرير، ثم تم أخذ الموافقات النهائية على من سيتفرغ لمتابعة العمل الميداني..

وخلال هذا الاجتماع، اعتذر ثلاثة من الزملاء عن عدم استطاعتهم المشاركة في فريق التحقيق الميداني وذلك بسبب سفر اثنين منهما لأداء مناسك العمرة في نفس توقيت فترة التحقيق الميداني، والأخير بسبب ظروف ولادة زوجته، والتي ستوافق تلك الفترة..

اضطر الأستاذ أمجد أسفا أن يعيد توزيع الأدوار من جديد، ويقلص عدد المشاركين في عدد معين من أفرع القوات المسلحة كي يتمكن من تغطية جميع الأفرع، وتلك المرة قرر أن يخوض هو بنفسه التحقيق الميداني، وخاصة في التحقيق الصحفي المتعلق بالقوات البحرية حتى يتجنب العجز الموجود في فريق التحقيقات الميدانية..

كما تم وضع خطوط العمل العريضة، وأيضا الاتفاق على خطوات العمل، والتنسيق بين الفريقين من أجل انجاز تلك التحقيقات بصورة شاملة ومتكاملة، وبالتالي يضمن الأستاذ أمجد تغطية جميع أوجه التحقيق الصحفي، كما لم يغفل الأستاذ أمجد عن تكليف كلا من إيلين وفرح بتولي تحرير الجزء الخاص بشهداء الحرب، وبطولاتهم المنسية كي يضمن موافقة الأستاذ عبد السلام على نشر جميع التحقيقات خاصة بعد أن وعده بعدم إغفال دورهم العظيم في تلك الحرب، شكرت إيلين الأستاذ أمجد أنه وافق على ضم فرح لفريق العمل رغم غيابها، وذلك بعد أن نجحت في إقناعه بأن تكليفها بأي مهمة حتى لو كانت كتابية ستخرجها من حالة الحزن التي تسيطر عليها، وهو لم يتأخر عن الوقوف إلى جوارها في تلك الظروف الحرجة...

عقدت إيلين العزم على أن تهاتف فرح في نهاية يوم العمل لتبلغها بذلك الخبر لعلها تتحمس وتبدأ تدريجيا العودة لحياتها السابقة..

صف سائق سيارة الأجرة سيارته أمام مدخل مقر جريدة الضحى، ثم ترجلت كلا من فرح وفوزية من السيارة..
انصرف السائق من أمامهما بعد أن دفعت له السيدة فوزية أجرته، أخذت فرح نفسا مطولا وهي تحدق في لافتة الجريدة العريضة، ثم زفرته في تمهل..
حاولت فرح أن تبدو هادئة في تصرفاتها، وتتغلب على ذلك التوتر الذي بدأ يعتري أوصالها..

هي تخشى ألا تتمكن من السيطرة على نفسها حينما تتعرض لتلك الأسئلة المتلاحقة عن حالها بعد موت من خدعها بإسم الحب..
لاحظت السيدة فوزية توتر ابنتها، واضطرابها، فمدت يدها وأمسكت بكفها الرقيق، وضغطت عليه في حنان، و...
-فوزية بنبرة ناعمة: اطمني يا بنتي، كل حاجة هتعدي على خير
-فرح بنبرة مرتبكة: ربنا يستر.

-فوزية بنبرة شبه جادة، ونظرات ثابتة: أهم حاجة تعملي اللي اتفقنا عليه، مش لازم حد يعرف بحاجة، الناس مش بيهمها غير بس الفضايح
-فرح وهي تمط شفتيها بإقتضاب: ربنا يسهل
-فوزية بنبرة مؤكدة، ونظرات مضطربة: كل حاجة هتعدي، المهم انتي خلي بالك من نفسك
-فرح وهي توميء برأسها: حاضر يا مامي.

تلفتت فرح حولها، ثم نظرت مجددا إلى والدتها و...
-فرح بقلق: طيب انتي هاتروحي إزاي يا مامي؟
-فوزية بهدوء، ونظرات دافئة: هاخد تاكسي، هي دي حاجة صعبة
-فرح وهي تتمتم بإيجاز: اوكي.

ودعت فرح والدتها أمام بوابة الجريدة الزجاجية، ثم احتضنتها وقبلتها من وجنتيها، وأخذت نفسا عميقا مرة أخرى قبل أن تسير بخطوات مرتبكة في اتجاه درجات مقر الجريدة الرخامية...

في القاعدة البحرية بالإسكندرية
استقبلت القوات البحرية الفرقاطة الجديدة ذات اللون الرمادي الداكن، وكان في حضور مراسم الاستلام كبار قادة القوات البحرية، بالإضافة إلى الضباط المكلفين بالتدريب والعمل عليها، وكان من ضمن الحاضرين المقدم يزيد الذي كان يرتدي زي البحرية الأبيض والمميز..

ألقى يزيد التحية العسكرية على رؤسائه وهو في قمه ثباته وصلابته، ثم استلم رسميا المهام الموكل بها، وبدأ في توجيه الأوامر إلى من هم تحت إمرته..
راجع يزيد قائمة فريق التدريب الخاص به، وكان من ضمنهم رفيقه المقرب آدم الجزار، وبعض الضباط الأكفاء، بالإضافة إلى عدد من المجندين..

بدأ يزيد في شرح كيفية التدريب على الفرقاطة الجديدة، وكيف سيكون العمل عليها، ونبه جيدا أنه قبل أن يتم البدء في تنفيذ الجزء العملي لابد أن ينتهي الجميع أولا من إتمام الجزء النظري الخاص بدراسة جميع أجزاء الفرقاطة، وحذر يزيد من التراخي خلال فترة التدريب، وشدد على الالتزام طوال تلك الفترة، وعدم إغفال أي جزئية غير واضحة لأنه يترتب عليها أرواح الكثيرين...

في مقر جريدة الضحى
استقبل الموظفون والعاملون في الجريدة فرح بالترحاب خاصة بعد غيابها لفترة طويلة، وقام الغالبية منهم بتعزيتها ومواساتها في زوجها الفقيد..
اضطرت فرح أن تتقبل تعازيهم على مضض، فهي تبغض سيرة هذا الرجل الذي خدعها بإسم الحب، ورسمت على وجهها قناع الحزن المزيف..

لم تصدق إيلين أذنيها حينما أبلغتها إحدى الزميلات بعودة فرح للجريدة، فركضت بخطوات سريعة ناحية الرواق لتجدها تقف مع بعض الموظفات تتلقى العزاء في زوجها..
سارت إيلين بخطوات سريعة في اتجاه فرح، ثم مدت كلتا ذراعيها لتحتضنها بقوة و..
-إيلين بنبرة متلهفة وهي مغمضة العينين: أنا مش مصدقة انك رجعتي، بجد دي أحسن خطوة عملتيها
-فرح بخفوت: شكرا يا إيلي.

أرخت إيلين ذراعيها لتبتعد قليلا عن فرح، ثم وقفت قبالتها، ونظرت مباشرة في عينيها و..
-إيلين بنبرة حماسية، ونظرات متفائلة: تعرفي أنا أصلا كنت هاكلمك بالليل عشان أبلغك ب آآ...
-فرح مقاطعة بجدية: طيب تعالي نتكلم في المكتب لأحسن جسمي مكسر، وتعبانة، ومش قادرة أقف
-إيلين بتوجس، ونظرات قلقة: ليه، مالك في ايه؟
-فرح بخفوت: تعب كل شهر، ما أنتي عارفة، بس يمكن المرادي بزيادة شوية.

-إيلين وهي تعيد رأسها للخلف، وبنبرة خافتة: اها، معلش يا فرووح، تلاقي بس الضغط النفسي اللي كنتي فيه..
سارت كلا من فرح وإيلين في اتجاه مكتبهما، ثم دلفتا إلى الداخل لتبدأ إيلين في ثرثرتها المعتادة حول أخر المستجدات في الجريدة، والمهام التي تم تكليف كلتاهما بها..

كانت ردود فرح مقتضبة، وخاوية، فهي وإن كانت تبدو أمام الجميع حزينة، إلا أنها كانت تتقد نارا من داخلها، فأكثر ما يؤلم المرأة هي أن تخدع فيمن عشقته بكل كيانها...

مرت الأيام التالية على الجميع دون أي جديد يذكر، فبالنسبة ليزيد لم يكف عن مواصلة تدريب من هم تحت إمرته لكي يضمن كفاءتهم حينما يصعدون على متن الفرقاطة الجديدة...
في حين انغمست فرح في العمل حتى أخمص قدميها، وظلت تبحث عن بطولات لشهداء لم ينالوا حقهم من التكريم خلال فترة حرب أكتوبر المجيدة، ولكن ما كان يؤرق فرح حقا هو استمرار نزيف دورتها الشهرية بغزارة لأيام دون توقف بالإضافة لآلامها المرهقة..

ترددت فرح في إبلاغ والدتها بما تعانيه، وخاصة أن الإرهاق أصبح جليا على جسدها، بالإضافة إلى ذبول وجهها، وحتى لا تثير فزع والدتها قررت فرح أن تخبر رفيقتها إيلين بمشكلتها المحرجة، ربما تعاونها في إيجاد الحل لها..
اقترحت إيلين على فرح أن يخرجا سويا بعد إنتهاء يوم العمل للذهاب إلى أحد المولات التجارية و التسوق وشراء بعض الملابس الجديدة لمارسيل، ولكلتاهما...

وافقت فرح على هذا الاقتراح، وبالفعل توجهت الاثنتين إلى مول شهير بوسط القاهرة، وبدأت الجولة المعتادة في تفقد المحال التجارية، وخاصة تلك التي تقدم تنزيلات وتخفيضات هائلة..

دلفت كلتاهما إلى داخل محل خاص بملابس الأطفال، وظلت إيلين تجوب ببصرها القطع المعروضة بحثا عن شيء مناسب لطفلتها الصغيرة، ي نفس الوقت كانت فرح تعاني من نفس الآلام والتقلصات، ولأكثر من مرة وضعت يدها على أسفل معدتها محاولة التحكم في أعصابها، وأخذت على فترتين متقاربتين أقراصا مسكنة لكي ترتخي آلامها، ولم تشارك إيلين في انتقاء ثياب صغيرتها..

لاحظت إيلين تجهم ملامح فرح، وابتعادها عنها، فنظرت إليها بإستغراب، ثم اقتربت منها، ووضعت يدها على ظهرها و..
-إيلين بنظرات حائرة، ونبرة منزعجة: فرح، مالك؟ شكلك مش مريحني
-فرح وهي تعض على شفتيها: مافيش حاجة يا إيلي
-إيلين بنبرة قلقة، ونظرات متفحصة: لأ في، انتي وشك بقاله كام يوم أصفر، وزي ما يكون فيكي حاجة ومخبياها.

تنهدت فرح في انزعاج، ثم أطرقت رأسها في خجل لتنظر إلى أصابعها التي تفركهم معا و..
-فرح بنبرة متلعثمة: آآ، أصل أنا آآ..
-إيلين بنبرة اهتمام، ونظرات جادة: ايه؟

سردت فرح لرفيقتها إيلين سبب تغيير مزاجها، واضطرابها، فابتسمت لها إيلين و..
-إيلين بنبرة مألوفة: يا شيخة خضتيني، ده أنا فكرت في كارثة ولا حاجة
-فرح بنبرة مضطربة: يا إيلي أنا حاسة إن فيا حاجة مش طبيعية
-إيلين بنبرة جادة: بضي أنا عندي حل لمشكلتك دي، في مركز متخصص لأمراض النسا.

عقدت فرح حاجبيها في استغراب، ثم وضعت يدها على شعرها تحاول العبث بخصلاته المنسدلة و..
-فرح بنبرة حائرة: مركز!
-إيلين بجدية، ونظرات ثابتة: ايوه مركز أمراض نسا، بصي بيني وبينك أنا كان عندي مشكلة في انتظام البيريود وكده قبل الجواز، فواحدة من قرايبنا دلتني على المركز ده، والدكتورة اللي فيه ممتازة جدا، وبصراحة لما تابعت معاها، حالتي اتحسنت كتير، وفي أقل من سنة كانت البريود منتظمة عندي.

زمت فرح شفتيها، ولم تعقب، في حين تابعت إيلين في سرد محاسن ذلك المركز الطبي، و...
-إيلين بنبرة مشجعة: أقولك على حاجة تعالي نروح دلوقتي المركز ده ونطمن
-فرح بتوجس، ونظرات خائفة: لالالا، مش هاينفع طبعا
-إيلين بنبرة مصرة، ونظرات جدية: يا فرح ماتخفيش، والله ما هنتأخر، ده المركز قريب أوي من هنا، وبعدين بصي احنا هنحجز مستعجل، وهتدخلي على طول وتطمني على نفسك..

-فرح وهي تهز رأسها في اعتراض، وبنبرة متوترة: خلاص يا إيلي، وقت تاني
-إيلين بجدية شديدة: لأ احنا فيها، يالا بس عشان نلحق وقتنا...
أصرت إيلين على اصطحاب رفيقتها الغالية فرح إلى ذلك المركز الطبي كي تطمئن على حالتها الصحية ولم تتراجع عن إلحاحها، فاضطرت فرح في النهاية أن ترضخ لطلبها، وتوافق على الذهاب معها إلى ذلك المركز الطبي..

في مركز ماميز الطبي
استقلت كلا من فرح وإيلين إحدى سيارات الأجرة وتوجهت كلتاهما إلى مركز ماميز الطبي..

توقفت سيارة الأجرة أمام مدخل المركز الذي كان يبدو فخما للغاية، كانت معظم حوائط المبنى من الزجاج اللامع والعاكس، وفي الأعلى قليلا معلق لافتة كبيرة وعريضة بها صورة أم وطفل وبجوارها اسم المركز باللغتين العربية والانجليزية، وفي نهاية اللافتة توجد صورة كبيرة للطبيبة المسئولة عن إدارة هذا المركز ومن خلفها فريق العمل الخاص بها..

نظرت فرح إلى هيئة المركز بنظرات إنبهار، في حين دفعت إيلين فرح من كتفها لكي تتحرك معها وتدلفان إلى الداخل..
كان المركز شبه ممتليء بالعديد من النساء، ولكن تبدو من هيئتهن العامة أنهن من ذوي الطبقات الاجتماعية العليا، بالطبع لأن كان سعر الحجز في هذا المركز باهظا..

حجزت إيلين لفرح، وهمست للممرضة بشيء ما لم تتنبه له إيلين، ثم أشارت بعد ذلك لفرح بأن كل شيء على ما يرام، وانتظرت كلتاهما أن يأتي دور فرح، وجلستا على مقعدين جلديين متجاورين..
مر الوقت بطيئا نوعا ما إلى أن أتى دور فرح، حيث نادت إحدى الممرضات التي كانت ترتدي زيا من اللون الوردي ب..
-ممرضة ما بنبرة عالية ورسمية: مدام فرح عبد الحميد
-فرح بنبرة متحشرجة: أيوه أنا..

-ممرضة ما بنبرة جدية وهي تشير بعينيها: اتفضلي.

نهضت فرح عن المقعد الجلدي، وكذلك فعلت إيلين، ثم سارت الاثنتين بصحبة ممرضة ما عبر رواق جانبي حتى وصلتا إلى غرفة واسعة..
جابت فرح الغرفة الواسعة بنظرات متفحصة، وظلت تتأمل هيئتها بإمعان شديد..

كانت الغرفة مطلية باللون البيج المريح للعينين، وأرضيتها رخامية لامعة، وفي نهاية الغرفة يوجد مكتب ضخم سطحه من الزجاج، وجانبيه من المعدن الذهبي المنحوت، ويتوسطه مقعد جلدي ضخم من اللون البني، وأمامه مقعدان جلديان أقل حجما وموضوع بينهما طاولة خشبية صغيرة عليها مزهرية من اللون الذهبي الفاتح..

كان موضوعا على سطح المكتب شاشة لحاسوب، وبعض الأوراق، وملفات ما مرتبة بعناية، بالإضافة إلى لافتة ذهبية صغيرة محفور عليها إسم الطبيبة
كان تصميم الغرفة يدل على الأناقة والرقي، فاللوحات المعلقة على حوائط الغرفة تبدو باهظة الثمن، والتحف الموضوعة في الأركان تبدو ملفتة للنظر..
تعجبت فرح من شكل الغرفة الذي لا يدل مطلقا على أنها غرفة للكشف أو الفحص، بل الأحرى أن يقال عنها أنها غرفة مكتب لسيدة أعمال ناجحة...

مالت إيلين بجسدها على فرح لتبلغها أن تلك الغرفة هي مكتب مديرة المركز، فبالتالي زال عنها الغموض، واستطاعت أن تفسر اختلاف تصميم الغرفة عن تلك الغرف الطبية المعتادة..
مرت عدة لحظات قبل أن يفتح باب جانبي - يبدو أنه متصل بمرحاض رخامي فخم ملحق بغرفة المكتب – لتدلف منه طبيبة حسناء المظهر، صارمة الملامح، وحادة العينين..

رمقت الطبيبة كلتاهما بنظرات ضيقة، ثم اقتربت بهدوء من مكتبها، ومدت يدها لتسحب مقعدها قليلا للخلف قبل أن تجلس عليه..
اعتدلت الطبيبة في جلستها، وعقدت كفي يدها معا، ونظرت إلى كلتاهما بجدية و..
-هايدي بنبرة جادة: مساء الخير، أنا الدكتورة هايدي، مديرة المركز
-إيلين بنبرة متحمسة، ونظرات مألوفة: مساء النور يا دكتورة، إزي حضرتك؟
-هايدي بإقتضاب، ونظرات باردة: تمام.

-إيلين بنفس النبرة الحماسية: حضرتك مش فكراني، أنا إيلين عبد النور، الصحفية اللي كنت بتعالج عند حضرتك من كام سنة.

ضيقت هايدي عينيها، ونظرت إلى إيلين بنظرات جادة، و..
-هايدي ببرود: للأسف مش فكراكي.

حاولت إيلين أن تذكر هايدي بهويتها، وبمعرفتها السابقة بها وبإحدى قريباتها التي أوصتها بها حينما كانت تعاني من مشكلة سابقة، ورغم محاولات إيلين الجادة في تذكيرها بها إلا أن هايدي تعاملت ببرود تام معها، وكأن هويتها لا تعنيها في شيء..
أرادت فرح أن ترفع الحرج عن إيلين، فبادرت ب...
-فرح بنبرة إحراج: احنا يا دكتورة جايين النهاردة عشان مشكلة تخصني وآآ...

استدارت هايدي برأسها ناحية فرح، ونظرت إليها بتمعن وهي ترفع أحد حاجبيها و..
-هايدي بفتور، ونظرات دقيقة: خير، ايه مشكلتك؟

سردت فرح - ووجنتيها نوعا ما متوردتين من الإحراج - مشكلة النزيف المصاحب لدورتها الشهرية..
أصغت لها هايدي بإنصات تام، ثم دونت بعض الملحوظات في بطاقة موضوعة أمامها مدون عليها بيانات فرح، وما إن انتهت فرح من الحديث حتى باشرت هايدي ب...
-هايدي بنبرة جادة: طيب اتفضلي على أوضة الكشف عشان أفحصك.

أطرقت فرح رأسها في خجل شديد، ثم مدت يدها لتضع خصلة ما خلف أذنها و..
-فرح وهي تتنحنح في حرج: بس أنا آآ، احم، لسه عندي ال، آآآ، احم.

أومأت هايدي برأسها، ثم بدأت بالحديث مجددا عن أسباب زيادة النزف المصاحب للدورة الشهرية، وأوضحت لها أن السبب ربما يكمن في وجود اضطرابات هرمونية نتيجة ضغوطات عمل أو ضغوطات نفسية، أو مجهود بدني زائد فأدى لزيادة تدفق الدم عن المعتاد..
طلبت هايدي من فرح إجراء تحاليل للدم، بالإضافة إلى عمل أشعة على منطقة الحوض والرحم من اجل زيادة الاطمئنان..

حاولت إيلين أن تستفسر اكثر عن حالة فرح وخطورتها، فطمأنت هايدي فرح على حالتها، واخبرتها أنها ليست بالمعضلة الكبيرة، وسوف تثبت التحاليل والأشعة تلك المسألة...

أمام مقر جريدة الضحى
دلف الأستاذ أمجد خارج مقر الجريدة وهو يتحدث في هاتفه المحمول، ثم اقترب من سيارته المصفوفة أمام مقر الجريدة، وفتح باب السيارة ووقف مستندا عليه و...
-أمجد هاتفيا بنبرة جادة: لأ خلاص أنا جهزت كل حاجة عشان التصاريح، تمام، هابعتلك نسخة على طول..

لم ينتبه الأستاذ أمجد لتلك السيارة القادمة في الاتجاه العكسي، حيث اصطدم سائقها دون قصد بحدة به، فطرحه أرضا كرد فعل طبيعي للإرتطام، فصرخ أمجد بنبرة عالية من شدة الآلم...
تجمهر عدد من المواطنين، وكذلك بعض من موظفي الجريدة أمام سيارته، وأحاط بعض الموظفين بالأستاذ أمجد وحاولوا إسعافه..
اتصل أحد الأشخاص بسيارة الاسعاف التي أتت بعد لحظات إلى مقر الجريدة..

تم تثبيت ساق الأستاذ أمجد بجبيرة مؤقتة ريثما يتم نقله إلى أقرب مشفى..
ركض الأستاذ عبد السلام خارج مقر الجريدة حينما أبلغه أحد موظفي الاستقبال بحادث السير الذي أصاب الأستاذ أمجد.

لم يترك الأستاذ عبد السلام زميله في العمل الأستاذ أمجد، بل ظل ملازما له حتى أوصله إلى المشفى، ولحق به فريق التحقيقات الخاص به، وغالبية من يعمل بالجريدة لكي يطمئنوا على حالته..
وقف غالبية الموظفين، ومعهم الأستاذ عبد السلام، خارج غرفة الكشف في انتظار خروج الطبيب من الداخل..
دلف الطبيب بعد فترة خارج غرفة الطواريء، فرأه الأستاذ عبد السلام، ثم توجه ناحيته، ولحق به بعض الموظفين و...

-عبد السلام بنبرة متوترة، ونظرات متسائلة: خير يا دكتور، الأستاذ أمجد عامل ايه الوقتي؟
-الطبيب بهدوء: هو عنده للأسف كسر مضاعف في الساق اليمنى، وشوية رضوض وكدمات في جسمه
-عبد السلام بإنزعاج: يا ساتر يا رب
-موظف ما بحزن: لا حول ولا قوة إلا بالله
-موظف أخر بنبرة آسفة: ده كان واقف جمب عربيته، والمتخلف اللي سايق العربية طيره في الهواء
-الطبيب متابعا بنفس الهدوء: الخبطة مكانتش سهلة برضوه.

-موظف ما بجدية: كويس ان الاستاذ أمجد رمى نفسه بعيد عن الشارع، وإلا كان لا قدر الله حالته بقت أسوأ
-عبد السلام بإمتعاض: الحمدلله إنها جت على أد كده
-الطبيب بنبرة رسمية: هو للأسف مش هايقدر يمشي على رجله، على الأقل مش قبل شهرين.

تعالت الدهشة الممزوجة بالصدمة على أوجه الواقفين، خاصة أن وجود الأستاذ أمجد بالجريدة حيوي ومؤثر..
-عبد السلام بصدمة: ايه؟
-موظف ما بإنزعاج: يا ربي، دي مصيبة وحطت على دماغنا
-الطبيب بنفس الثبات الانفعالي: أي كسر في السن ده بيفرق مع المريض، ولسلامة الأستاذ أمجد هو محتاج للراحة
-عبد السلام مقاطعا بتوجس: طب نقدر نشوفه؟ هو فايق طيب؟

-الطبيب وهو يوميء برأسه: ايوه، لحظة بس ننقله غرفة عادية، وتقدروا تطمنوا عليه، بس يا ريت مايكونش العدد ده كله، هو محتاج يرتاح لفترة
-عبد السلام بحزم، ونظرات مضطربة: طيب يا دكتور..

انصرف الطبيب مبتعدا، في حين وقف الأستاذ عبد السلام حائرا في تلك الكارثة التي حلت به، لقد كان يعتمد اعتمادا كليا على الأستاذ أمجد في الفترة القادمة والتي تتضمن التحقيقات الصحفية الخاصة بأعياد سيناء، بالإضافة إلى التحقيقات الخاصة بالقضايا اليومية والتي تهم المواطنين، فكيف سيعوض غيابه خلال تلك الفترة..

في غرفة الأستاذ أمجد بالمشفى
زار معظم العاملين بالجريدة الأستاذ أمجد، وأبلغوه بأسفهم للحادث الآليم الذي تعرض له..
استقبل الأستاذ أمجد الجميع بابتسامة هادئة، ورغم تآلمه إلا أنه لم يرد أي زائر حضر خصيصا للإطمئنان عليه..
كما إمتلأت غرفته بباقات الورد المنوعة من أشخاص على معرفة وثيقة به، ومن أشخاص عاديين ولكن ذوي صلة عمل به..

حضر الأستاذ عبد السلام بعد أن انتهى من مباشرة عمله بالجريدة لكي يطمئن هو الأخر على حال الأستاذ أمجد، ثم سحب المقعد المعدني وجلس إلى جوار فراشه يتناقش معه حول خطة سير العمل خلال فترة غيابه و...
-عبد السلام وهو يمط شفتيه بهدوء: مممم، تمام، ده بالنسبة لخريطة العمل الاسبوعي، طيب وبالنسبة لموضوع تحقيقك الخاص بأعياد سينا.

-أمجد بنبرة حزينة: والله كان نفسي أغطي كل الأفرع في التحقيق ده، بس الظاهر إني هاكتفي باللي عندي، ويمكن أكنسل الموضوع خالص.

اكفهر وجه الأستاذ عبد السلام، وحدق في أمجد بنظرات ضائقة و...
-عبد السلام بنبرة منزعجة: يعني بعد ما تعبنا في التصاريح والموافقات نكنسل الموضوع ببساطة كده
-أمجد على مضض وهو يشير بيده على ساقه: طب هاعمل ايه، ما انت شايف حالتي يا أستاذ عبد السلام.

وضع عبد السلام يده أسفل ذقنه يحكها قليلا، ثم أخفض رأسه للأسفل، وظل يفكر في أمر ما، ثم رفع بصره بعد لحظات لينظر في اتجاه أمجد و...
-عبد السلام متسائلا بحيرة: طب مافيش بديل عندك؟ يعني حد يقدر يغطي مكانك
-أمجد بضيق واضح: لأ للأسف.

لوى عبد السلام فمه في إحباط، وأشاح بوجهه للناحية الأخرى و..
-عبد السلام بنبرة آسفة: لو كان في حد من المتدربين الجداد كويس شوية كنت خليته يغطي الموضوع، بس عودهم لسه أخضر، والموضوع مهم ومش آآآ...
-أمجد مقاطعا بنبرة جادة: طب أنا عندي بديل، بس مش عارف إن كانت تنفع ولا لأ..!
-عبد السلام بنظرات ضيقة، ونبرة مهتمة: تنفع! انت عاوز تخلي بنت تغطي التحقيق ده؟

-أمجد مبتسما بحماس: وليه لأ يا أستاذ عبد السلام، بالعكس أنا شايف إنها اكتر حد محتاج يشتغل على التحقيق ده، وهيفيدها كتير، خصوصا في حالتها.

عقد عبد السلام حاجبيه في دهشة شديدة، ومال بجذعه قليلا للأمام و...
-عبد السلام متسائلا بحيرة: انت بتكلم عن مين؟
-أمجد بنبرة متلهفة، ونظرات جادة: بتكلم عن فرح..
-عبد السلام فاغرا شفتيه: فرح..!
-أمجد وهو يوميء برأسه وبنبرة واثقة: أيوه، فرح عبد الحميد...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة