قصص و روايات - روايات عالمية :

رواية غير قابل للحب للكاتبة منال سالم الفصل السادس والعشرون

رواية غير قابل للحب للكاتبة منال سالم الفصل السادس والعشرون

رواية غير قابل للحب للكاتبة منال سالم الفصل السادس والعشرون

سرت بجسدي رعشة قوية تغلغلت في أعماقي وأنا أقاوم بصعوبة ما حملته كلماته الصادمة من وقائع تقشعر لها الأبدان، رفض عقلي تصديق ما أملاه فيجو على مسامعي، استغرقني الأمر عدة لحظاتٍ حتى أستفيق من صدمتي الذاهلة، اندفعت ناحيته لأمسك به من طرفي سترته لأهزه في غضبة مندلعة، وصوت صراخي يرن في الأرجاء:
-ما الذي تقوله؟ أنت تكذب!

لم أكترث للفضيحة التي قد أتسبب بها أمام الحرس والخدم، كنت في أوج عصبيتي، أريد الانتقام منه بضراوة، وكان هو على عكسي تمامًا: هادئًا، متحكمًا، ومتوقعًا لردة فعلي. وضع فيجو قبضتيه على يدي دون أن ينتزعهما، وسلط نظراته علي قائلًا ببرود:
-إنه ما حدث، وعليكِ تقبل ذلك.

في هذه الثواني الفارقة، استحضر ذهني صدى كلمات شقيقتي وهي تخبرني بأنها تفضل الموت على أن يكون مصيرها مثلي، انقبض قلبي انقباضة مميتة، وامتلأ داخلي بغضبٍ محمومٍ على غضب مستعر، اتخذتُ موقفًا معاديًا متوقعة أنه فعل ذلك للانتقام مني، فهو يتلذذ بإيذائي فيمن أحب، لذا لم أتردد وأنا اتهمه علنًا:
-أنت أردت حدوث ذلك.

أبقى نظراته الجامدة علي، ليزيد ذلك من استفزازي، فبادلته نظرات كارهة حاقدة، هززته مجددًا صارخة فيه وقد شعرت بملمس صلب خلف سترته:
-أرسلتها بعيدًا لتضمن إتمام الزيجة دون أن تكترث بما قد يصيبها بعد ذلك.
قال وهو ينظر في عيني:
-لا تقلقي عليها، ف لوكاس يهتم لأمرها.
شعرت بموجة جارفة من الحنق تجتاحني، فصحت به باستنكارٍ أشد:
-أتهزأ بي مثلًا؟ أيملك هذا القاتل مشاعرًا؟
قال وأنا أشعر بأصابعه تداعب جلد كفي:.

-أخبرتك سابقًا لا وجود للمشاعر لدين؛ لكن ما أضمنه لكِ أنها الآن تقع رسميًا في حماية العائلة، ولن يسمح لوكاس لأحدٍ أو حتى لشيء بإيذائها.
علقت في نقمٍ وقبضتي تشتدان على القماش:
-يكفي أن تكون بجواره لتتألم وتعاني، أنت أصدرت حكمك بالموت عليها.
أخبرني في تحيزٍ مزعوجٍ، والقسوة تنتشر في عينيه:.

-لما لا تستوعبين أنكِ جزءًا من هذا العالم، أنتِ مثلنا، ولو جاءت لكِ الفرصة لقتل أحدهم فستفعلين ذلك، إنه أمر يجري في عروقك.
ثم أزاح كفيه عن يدي، كأنما يريدني أن أنفث عن غضبي الأهوج بتحديه المبطن، أغاظتني كلماته، بل إنها بعثت كل مشاعر الغضب والحنق في كل حواسي، واصلت هجومي المنفعل عليه، ويداي لا تزالان ممسكتان بطرفي سترته السوداء:.

-لم أطلب منك شيئًا لنفسي، كل ما أردته أن تظل شقيقتي بعيدة عن كل هذا، أن تبقى كما هي بريئة، خارج هذا العالم الموحش؛ لكنك لم تفعل.
جاء رده كالوقود المسكوب على نيران متأججة حين أخبرني ببروده القاسي:
-مصيرها كان محتومًا منذ البداية، مثلك.

هبطت جملته كصفعة قاسية على وجهي، أصبحت مغيبة بالكامل، لم أرَ سوى كل مساوئه مجتمعة معًا لتخبرني أني اقترنت بشيطانٍ عتيد. لم أشعر بيدي وهي تنسل داخل سترته، نحو حامل الأسلحة، تلمس واحدًا من خاصته، سحبت ما طالته يدي، مسدسًا محشوًا بالطلقات. ما إن أمسكته حتى اندفعت مبتعدة عنه، لا أعرف كيف تمكنت من نزع زر الأمان، ليبدو جاهزًا للاستخدام، ربما لأني رأيت ذلك يحدث أمام عيني فكان ذلك من السهل فعله. تراجعت عنه عدة خطواتٍ لأشهره في وجهه، تفاجأ بتصرفي، ورفع ذراعه أمام ماسورة السلاح يأمرني بصرامةٍ:.

-ضعيه جانبًا.
تجاهلت الانصياع له، ولوحت بالمسدس في الهواء قائلة بصوتٍ خرج كالبكاء:
-لقد سلبتني أحب الأشخاص إلى قلبي، قتلتها بمباركتك تلك.
من جديد كرر أمره علي:
-كفى سخافة، واتركيه.
وكأني لا أسمع ما يقول، ظللتُ أردد في حسرةٍ وقهر:
-الخبر التالي هو أن تعلمني بموتها الأكيد.
أبقى يده مرفوعة في الهواء وهو يدنو مني بخطى ثابتة مصحوبه بأمر المنطوق:
-اخفضي السلاح.
سألته وأنا أطوح به مهددة:
-أتخشى على حياتك؟

قال وهو لا يزال يقترب مني:
-أنتِ تعلمين جيدًا أني لا أهاب الموت؛ لكنك ستؤذين نفسك.
أتى إلي بفكرة مجنونة، كنت استبعد حدوثها، أو الأحرى أن أقول أني كنت أخاف تطبيقها، لئلا أُحزن أحبتي؛ لكن لا مانع الآن من تنفيذها. حولت مسار فوهة السلاح، وجعلتها مصوبة أسفل ذقني. نظرت إليه بكره بغيض، ثم أخبرته في مرارة، وبغير ندم:
-ربما ذلك أفضل لأستريح من جحيمك.

كنت مستعدة كليًا للتخلص من حياتي، وأوشكت على فعل ذلك وصوتي الحاد يصدح:
-اللعنة عليك يا قاتل!
في غمضة عين، وقبل أن يدرك عقلي حدوثه، كان فيجو قد بلغ موضعي، ويده في خفة قد قبضت على ذراعي فأبعدت الفوهة عن أسفل ذقني، وهو يصيح آمرًا:
-توقفي.

انطلق العيار الناري فالهواء فلم يصب سوى الفراغ الشاسع الممتد فوق الرؤوس، لحظة من الشلل أصابتني؛ لكنها أعطته الأفضلية لينتزع السلاح من يدي، ويقيدني بذراعه القوي، حيث أدارني في لفةٍ سريعة، ليلصق ظهري بصدره، ثم ضم رسغي معًا وأحكم تكبيلي بلا قيدٍ فعلي. جاء على إثر الصوت بعض أفراد الحراسة، بادر أحدهم متسائلًا في تحفزٍ شديد:
-ما الأمر أيها الزعيم؟
أشار لهم بعدم الاقتراب صائحًا بصوته الصارم:.

-انصرفوا، لا يوجد شيء.
امتثلوا لأمره دون نقاشٍ، وغادروا لأبقى معه، تلويت بانفعال مضاعف محاولة المناص منه، وصوتي المجروح يصرخ فيه:
-دعني، أنا أكرهك، لا أطيق وجودي بقربك.
لم أكترث إن كان هناك عقابًا لرعونتي أم لا، لم أعد أهتم، ولن أفعل، واصلت التلوي والاندفاع بهوجاءٍ حتى أرخى ساعده عني فتحررت، اندفعت للأمام خطوة، ثم التفت ناحيته قائلة بلومٍ صريح، وإصبعي يشير إليه:
-لقد قتلتها بدمٍ بارد، قتلتها.

كان كعادته هادئًا، منضبط الأعصاب والتصرفات، رمقته بنظرة نارية غير متسامحة، قبل أن أهرول ركضًا بعيدًا عنه، كان يناديني، فلم أجبه، سددت أذناي بيدي فلم أسمع صوته، ثم تابعت الركض حتى عدت إلى داخل القصر؛ قفصي الذهبي. كان الخدم ينظرون لي بغرابةٍ، فلم أعبأ، اتجهت للدرج، وصعدت عليه شبه قافزة في خطواتي، كنت أبكي بلا توقف، الدموع تشوش رؤيتي، لم أذهب إلى غرفة نومي، بل انحرفت نحو الجانب الآخر من القصر، ذاك الذي اعتادت والدتي وشقيقتي البقاء فيه، كانت وجهتي غرفة النوم التي احتوت على أغراضهما قبل أن يتركاني، ولجت إلى الداخل، وأوصدت الباب ورائي، ثم ارتكنت بظهري عليه التقط أنفاسي اللاهثة من بين بكائي المرير.

بعد لحظاتٍ، انهرت جاثية على ركبتي، وكلي يرتجف تقريبًا، لأدفن بعدها وجهي بين راحتي، أطلقت العنان لبكائي الحارق حتى نضبت دموعي بعد وقت ليس بقليل، عندئذ نهضت بتثاقل من مكاني لأرتمي على الفراش، دَفْستُ رأسي في الوسادة، وأنا فاقدة للرغبة، شعرت بالظلام يزحف ناحيتي، وكنت في كامل استعدادي لاستقباله.

تشابهت الأيام التالية في مرورها البطيء، وتناوبت علي مشاعر الألم، والحزن، والعجز، والقهر، توقعت أن تكون شقيقتي المتهورة بصدد تنفيذ تهديدها، هي لا تتراجع أبدًا عن وعد قطعته، عهدتها هكذا، لذا لن تقبل بإجبارها على هذا الزواج، فقط ستنتظر اللحظة المناسبة للتخلص من حياتها، حينئذ ستصل إلي الأخبار السيئة لتجهز على الجزء الأخير الحي المتبقي بداخلي.

خلال هذه المدة كنت قد حسمت أمري، وقررت اتخاذ موقفًا مناوئًا لرغبات زوجي، حيث هجرت غرفته السقيمة، وأقمت في هذه الغرفة، وبصحبتي زجاجات الخمر، لم أتوقف عن تناول المشروب لا في الليل ولا في النهار، أردت الهروب من الواقع بقساوته المهلكة، وإغراق نفسي في كل ما يدمرها، لهذا تجرعته بشراهة على غير المعتاد مني، كما أني أهملت في العناية بنفسي، فبدوت عليلة، ذابلة، وغير مهندمة، ولم أهتم بمظهري المنفر على الإطلاق.

تركت الحزن ينهش في نضارتي، ويأكل من بهجتي، كما أن الدموع أصبحت مستديمة على وجنتي، كنت أقرب للأموات بهيئتي المزرية عن الأحياء، حتى أني رُحت استسلم لنومٍ بلا انقطاع، وكأني أحاول استدعاء الموت بأي صورة له؛ لكنه أبى أن يلبي دعوتي، وتركني في لوعتي. جاءت إلي الخادمة كعادتها الروتينية السخيفة في مطلع كل نهار، اقتربت من السرير، ونادتني في أدبٍ:
-سيدتي.
لم أرفع رأسي الثقيل عن الوسادة، وقلت لها بحدةٍ:.

-اذهبي من هنا، لا أريد أحدًا.
ألحت علي بإصرارٍ:
-أرجوكِ تناولي هذا الدواء، لقد وصفه الطبيب لك.

جعلي تحت وطأة الدواء، وما على شاكلته، خاصة في الأوقات العصيبة، استحث غيظي وغضبي، وأشعلهما بشدة، لهذا انتفضت دفعة واحدة من رقدتي لانقض عليها، وكأني كنت أريد من أفرغ فيه ما هو مكبوت بداخلي، فزعت المسكينة من هجومي المباغت، وارتجفت تحت قبضتي، طرحتها أرضًا بقسوة، فتأوهت من الألم، وسقطت أقراص الدواء من يدها وتناثرت بعشوائية. اشتطت غضبًا لمعاملتي كمريضة مجذوبة، وصرخت بها مهددة:.

-اغربي عن وجهي، لا تقربي هذه الغرفة أبدًا!
حملقت في بعينين متسعتين في رعبٍ، فواصلت بتهديدٍ أكبر، ويدي قد التقطت إحدى زجاجات الخمر الفارغة لألوح بها بالقرب من رأسها:
-وإن جئتِ بأي دواء إلى هنا سأقتلع عينيكِ بعد أن أفجر رأسك، سمعتِ؟
هزت رأسها بالإيجاب في ذعرٍ، حدجتها بنظرةٍ مميتة، ثم نهضت عنها، وألقيت بالزجاجة من يدي، لتزحف بعدها الخادمة هاربة من الغرفة، صفقت الباب خلفها بقوةٍ، وصياحي يردد في الأركان:.

-يا ليتكم تحترقون في الجحيم، يا ليتكم!

على ما يبدو قامت الخادمة بالشكاية علي لرئيسها، أو لنقل أنها أعطته تقريرًا مفصلًا بما آلت إليه أحوالي في هذه الفترة المنصرمة، وخاصة تصرفي الأخير، فسابقًا كنت اكتفي بالصمت، أو التجاهل؛ لكن اليوم موقفي كان مُعاديًا، لهذا توقعت أن يعرج علي ليلًا حين يفرغ من عمله، أو معاشرة إحدى عشيقاته العابثات. قمت بإغلاق قفل الباب بالمفتاح، لن أجعل الأمر ميسرًا حين يأتي لزيارتي، لا أعرف كم كانت الساعة ليلًا عندما جاء؛ لكن عقلي تأرجح بين اليقظة والهذيان جراء الخمر الذي أسرفت في تناوله، سمعت صوت الدقات المتلاحقة على باب الغرفة، بعدها سمعت دفعة عنيفة جعلت الصوت أقوى، ليتبع ذلك سماعي لوقع أقدامٍ ثابتة على الأرضية الخشبية.

أزعجني الضوء حين سطع فجأة مبددًا ظلام الغرفة، لهذا أغمضتُ عيني بقوة تجنبًا لتأثيره المؤلم. اقترب فيجو من سريري وأنا ممددة عليه بمنامتي الحريرية، رمقني بنظرة مستاءة غير راضية، ثم أردف يسألني:
-هل ستبقين على هذه الحالة كثيرًا؟
التقطت الوسادة المجاورة لي، ووضعتها على وجهي قائلة في برودٍ:
-لا شأن لك، إنها حياتي وأفعل بها ما أريد.
سحب الوسادة، وألقاها أرضًا قبل أن يقول في صوتٍ أجوف جاد:.

-حياتك لا تخصك، هي ملكي.
تقلبت على جانبي، وأخبرته في سخافةٍ:
-حسنًا، وأنا أفسد أملاكك.
فجأة اختفى الفراش من أسفلي، وأصبحت معلقة في الهواء، لأدرك بعد ذلك أنه حملني بين ذراعيه عنوة، نظرت إليه مشدوهة، فوجدته يقول في لهجته المتحكمة:
-ستأتين معي.
كورت قبضتي، وضربته في صدره صارخة باحتجاجٍ، وقدماي تركلان الهواء:
-اتركني.

وجدتني أتأرجح فجأة بين ذراعيه، لأحلق لحظيًا في الهواء، قبل أن يلقي بي على كتفه، شهقت من الصدمة وهو يخبرني بنبرته الحاسمة:
-لن تبقي هنا بعد الآن.
حاولت التعلق بإطار الباب لإيقافه؛ لكني لم أستطع أمام قوته المعاندة، سحبني للخارج في سهولة، وسار بي في الرواق ليعود بي إلى حيث من المفترض أن أتواجد. ظللت أصرخ به في تذمرٍ محتج:
-ابتعد عني، دعني لشأني.

تجاهل صياحي، ولم يهتم إن سمع أحدهم صوتي، وأكمل مسيره إلى غرفة نومه في الجانب الآخر من القصر.

لم يكلف فيجو نفسه عناء إغلاق الباب بعد أن ولج بي لغرفة النوم، لم يكن ليجرؤ أحدهم على القدوم إلى هنا دون استدعاء مباشر منه، وكأنها منطقة محظورة الاقتراب. استمر يحملني حتى دخل إلى الحمام، وهناك أنزلني على قدمي بداخل المغطس دون أن يفلتني، ألصق ظهري بالحائط، فحاولت التقدم ودفعه؛ لكنه ثبتني دون عناء، صرخت شاهقة عندما غمرت رأسي كتلة مندفعة من الماء المتدفق:
-ما الذي تفعله؟!

حاولت بشتى الطرق المناص من حصاره، ومع هذا باءت محاولاتي بالفشل الذريع، اجتاحني الماء من كل جانب وأصبحت مبتلة بالكامل، تذمرت في صوتٍ مرتجف:
-توقف، إنه باردٌ للغاية.
رد علي في غير مبالاة، وقد تناثر الماء عليه أيضًا:
-ربما يجعلك أفضل.
لكزته في كتفه بعصبيةٍ وأنا أقول:
-اللعنة عليك.
أمسك بكومة من شعري، وجذبني منها نحو الماء المتدفق، ثم شدها للأسفل ليرفع وجهي نحو المياه، فغمرتني كليًا، سمعته يحذرني بهدوءٍ:.

-توقفي عن السباب.
سعلت من دفقات الماء التي اقتحمت جوفي، وحركت رأسي للجانب رغم قبضته لأتفادى منبع هبوطها المتتابع، ثم سألته بصوتٍ مرتجف ومتحشرج:
-وإلا ماذا؟
نظرت إليه من طرف عيني، وتحديته في نزقٍ:
-هيا اقتلني، ربما غرقًا هنا، فأنا انتظر هذه اللحظة بفارغ الصبر.
لم ينبس بكلمةٍ، فأضفت في تهكمٍ مَغِيظ:
-على الأقل سألحق بأحبائي في النعيم السماوي، وأنت لن تكون معنا.

توقعت أن يقوم بالرد؛ لكنه صمت، وأغاظني سكوته، شهقة مرة ثانية عندما وجدت يده الأخرى تتحرك على طول منامتي لتنزعها عني، ورغم اعتياده على رؤيتي بدون ثيابٍ في المرات التي احتل مواطني فيها، إلا أني خجلت بشدة لتصرفه المتسلط، وكأني فتاة لا خبرة لديها. حاولت إبعاد يده باعتراضي الشديد:
-توقف، لا تلمسني.

تجاهل تذمري، واستل مني المنامة المبتلة، ليلقيها أرضًا، ثم انحنى جاذبًا سائل الاستحمام، وأغرق جسدي به، تفاجأت مما يفعل، وصحت في استهجانٍ حرج:
-ماذا تفعل؟ أنا لا أحتاج لذلك.

استمر على نفس المنوال حتى أصبحت كل أطرافي مليئة بفقاعات الصابون، لن أنكر أني انتعشت، وانتشيت، وملأتني الإثارة والحماس من طريقته في اقتحامي، واحتلالي، وإجباري على الانصياع لأوامره وإن كانت بسيطة، نجح فيجو بطريقة ما إلى إعادة النبض الحي إلى مكامني الفارغة، فانطلقت بداخلي شرارة انجذابٍ جعلها بين لحظة وأخرى تتأجج، وتتوهج، وتُطالب بالإخماد، ولم يبخل في منحي ما أريد رغم مقاومتي الظاهرية له، ظل يفيض علي بكل ما يملك من سبل السعادة إلى أن اكتفيت، حينئذ نظر إلي نظرة مختلفة، وقال في غموضٍ:.

-أنا متأكد أنكِ أفقتِ الآن.
كنت ألهث من فرط النشاط الذي اندلع في أوصالي، وقبل أن يثبط تحول إلى دبيب متلاحق في قلبي عندما قال وهو يمسك بالمنشفة ليجفف يديه:
-شقيقتك آن تريد التحدث إليكِ.

غريبٌ جدًا، من بين هذه الهموم والأثقال التي تحاوطك، أن يستطيع أحدهم إيجاد السبيل لانتشالك من وسطها بلا عناء! اندفعت خارج المغطس وأنا أقطر ماءً لألحق ب فيجو بعد أن ألقى بقنبلته في وجهي. سحبت المنشفة من موضعها على الرف، لففتها دون إحكامٍ حول جسدي، لأتبعه متسائلة في وَجِيبٍ متواتر:
-ماذا قلت بالداخل؟

كان يخلع عنه قميصه المبتل، فتجاهل الرد علي ليزيد من توتري، تحركت لأقف قبالته، وسألته مجددًا في صوتٍ كان أقرب للرجاء، ويدي الممسكة بطرفي المنشفة ترتعش بوضوح:
-هل حضرت شقيقتي إلى هنا؟
راح يُطالعني بنظرة فاحصة مدققة، فوضعت يدي برفقٍ على كتفه العاري استحثه على إجابتي:
-أرجوك، تكلم...

نظر إلى يدي الملامسة لجلده مليًا، فأبعدتها في تردد حرج، ربما كان من الخطأ أن أبدو بهذا الضعف والتذلل بعد إظهار عدائي الصريح له؛ لكني كنتُ لا أقوى على التحلي بالصبر، شعرت بخفقات قلبي تتسارع أكثر وأنا ألح عليه بنبرة تحولت للاتهام:
-أم أنها كذبة أخرى لخداعي؟
ظل وجهه على جموده، فصحت محذرة إياه بتشنجٍ محسوس في صوتي:
-لا تلعب بأعصابي.
جلس على طرف الفراش بعد أن استل بنطاله، ثم خاطبني في هدوءٍ:.

-أنا قلت بوضوح أنها تريد التحدث إليكِ، وستتواصل معكِ هاتفيًا في الصباح الباكر.
تعقدت تعابيري، وتقارب حاجباي في استنكارٍ وأنا أردد:
-هاتفيًا؟ فقط هذا؟!
انتصب بكتفيه مُضيفًا في غموض مشوق:
-وربما تأتي لاحقًا إلى هنا إن استقرت الأوضاع في ميلانو.
من فوري هتفت في حماسٍ:
-ستعود؟ أنت متأكد؟
قال في جديةٍ بائنة على وجهه ونبرته ونظرته إلي:
-لا أمزح في هذا الشأن.

يبدو أن عقلي وجد صعوبة في تصديقه، فأخذت أقول بما بدا وكأنه هلوسة:
-يا إلهي! قل إنها بخير، لم يصبها مكروه!
قرأ حاجتي لسماع مثل هذه العبارات المطمئنة، فردد بتكلفٍ؛ وكأنه لا يستسيغ البوح بهذا:
-هي بخير.
تنفستُ الصعداء، وضممت يدي أكثر على طرفي المنشفة، لأتنهد قائلة بوجهٍ مسرور:
-لقد أرحتني.
وجدته يلاعبني بكلماته قبل نظراته الماجنة:
-الآن وقد أصبحتِ في كامل وعيك، لما لا تعوضين فترة غيابك؟

فطنت لمقصده، فتراجعت خطوة عنه قائلة في عتابٍ ندمت عليه بعدها:
-ألم تقم عشيقاتك بهذه المهمة المبجلة عني؟
أجابني مبتسمًا ابتسامة خفيفة:
-لسن مثلك.
شعرت وراء ابتسامته تلك بأنه يسعى لاستفزازي، وقد نجح ببساطة في تحقيق غرضه، فحل بي الضيق لمجرد تخيلي أنه في أحضان أخرى، فالأنثى لا تحب مشاركة رجلها مع غيرها وإن كانت تمقته. عبست بملامحي، وأخبرته وأنا أوليه ظهري:.

-بالطبع فهن الخبيرات المتمرسات ببراعة لأجل إرضاء الزعيم وتلبية ما يريد في أي وقت.
قال معلقًا بغرورٍ:
-بالطبع، هذه مهمتهن.
اشتاطت نظراتي حقدًا، فاستدرت لأتطلع إليه، ثم عقبت في غيظٍ ظاهر في كامل وجهي قبل نبرتي:
-إذًا اذهب إليهن، أو قم باستدعائهن إلى هنا...
تحركت بالقرب منه أحذره:
-لكن ليس على هذا الفراش، ليس مسموحًا لك.
أنذرني في عنجهية أحرقتني كمدًا:.

-أنا من أضع الشروط، لا تنسي ذلك، لذا أنا أملكه، وأملك من تنام عليه.
بلغت غيرتي كأنثى مبلغها، فهتفت في كبرياءٍ جريح:
-أوه، بالطبع، فأنت الزعيم، تملك كل شيء، وأنا بصفتي زوجتك أقع ضمن أملاكك.
من جديد أوليته ظهري، وأنا أخبره في سخرية مريرة:
-لأعد أنا إلى الغرفة الأخرى، وأتركك تستمتع مع الساقطات.

حين هممت بالتحرك أحسست فجأة بنسمات هواء تهب على جسدي، تنبهت عندئذ لكون فيجو قد أمسك بطرف المنشفة وجذبها بقوة ناحيته لتصبح في حوزته. تكومت على نفسي محاولة بذراعي تغطية ما بَدَرَ مني قائلة بوجه مشتعل خجلًا:
-ماذا فعلت؟ أعدها.
كورها، وألقاها عند الطرف الآخر من الفراش قائلًا بنبرة عازمة:
-لن تذهبي إلى أي مكان دون رغبتي.
عاندته في ضيقٍ مبرر:.

-لن أبقى هنا للحظة أخرى لمشاهدتك تغازل غيري، اعذرني، لستُ من ذلك النوع.
تخللتني رعدة شبه عاصفة عندما نطق بهدوءٍ:
-وأنا لا أريد سواكِ.

نظرت له بتشككٍ، حيث احتوت كلماته المتوارية على ما يُحير، حاولت اختزال معانيها في كونه يبحث عمن تطفئ الرغبة المتصاعدة فيه كرجل. ومع هذا كان الإصرار الظاهر في عينيه على نيل مبتغاه مني قد أوقد هذه الجذوة الكامنة في أعماقي، وأنا حقًا أكره الشعور بذلك، أن أبدو في توقٍ مغاير لما يجب أن أكون عليه ناحيته. لديه هذه السمة المميزة لاستمالة حواسي، ومداركي، وحتى وجداني، وجعلي أتغاضى عن الجانب السيء المستبد له. تخطيت ناحية جلوسه، وخطوت تجاه غرفة الثياب الملحقة وأنا أخبره:.

-سأرتدي ملابسي وأرحل
استوقفني بالإمساك بي من رسغي، وفي اللحظة التالية كنت مستلقية على الفراش، يطوقني بكله، وعيناه تجريان على تفاصيل وجهي، قبل أن يخفض شفتيه ليلامس خاصتي وهو يهمس لي:
-ليس قبل أن...
ترك جملته معلقة، لم ينهها، ليمنحني قبلة حسية عميقة مُطالبة بشيء كان واثقًا أنه سيحصل عليه في النهاية مهما صمدت وقاومت.

الصراع الدائر في جنبات عقلي أجبر النوم على مخاصمتي بعد ليلة مشحونة بالعواطف المتأججة، فقد كنت استنكر استجابتي التواقة لاقتراب فيجو الحميمي مني، كأني انتظر ندائه لألبيه في التو، وهو فطن إلى حاجتي لهذا، فلم يدخر وسعه لإثبات ذلك بالأدلة المدموغة. خيانة الجسد أصعب من خيانة العقل؛ فالأخير يذكرك بضعفك واستسلامك، وإن كنت تظفر بلذة تذوق متعة مختلفة في كل مرة!

تأملت الفجوة الفاصلة بيني وبينه على امتداد الفراش في نظراتٍ طويلة شاردة، قبل أن ترتكز عيناي على ظهره الموالي لي، كنت ممتنة لكونه غارقًا في النوم، ولكون الظلام سائدًا لئلا يرى ما يبدو على وجهي من أمارات الضيق والامتعاض، فحين تخمد الأحاسيس، وترتوي الأجساد، يحدث الافتراق، ويسود الجفاء، كأننا لم نتلاحم قبل برهة ونذوب معًا.

تعجبت من حالة التناقض المستبدة بي، تلك التي لا أجد لها تفسيرًا مقنعًا، فرغم كل ما مررت به معه، والأسباب القوية التي تدفعني لنبذ اقترابه المتودد إلا أن هناك ما يجذبني إليه، يجعلني أغفر له خطاياه، بل وأتغافل عما يفعل فلا أرى مساوئه بعين الكاره الناقم، وهذا جلَّ ما أرعبني! كنت أخشى أن أكون في غمرة نفوري منه وقعت في حبائل حبه. اضطرب قلبي وخفق لمجرد التفكير في احتمالية حدوث ذلك، شعرت ببرودة قارصة تضرب أطرافي فسحبت الغطاء على جسدي لأتوارى أسفله، باحثة عن الدفء الذي ينفض هذه الهواجس المملوءة بها رأسي.

رحت أخبر نفسي بعنادٍ:
-إنها أوهام، أفيقي منها قبل أن تبتلعك دوامتها.
ظللت أردد هذا في أعماقي، لأؤكد لنفسي أن الأحاسيس الإنسانية بمرادفاتها المختلفة محذوفة من قاموسه الشخصي، من الأفضل أن أؤمن بذلك لئلا انسحق بين رُحى قساوة مشاعره.
زارني النوم أخيرًا، فرحت في سباتٍ متقطع إلى أن سطع النهار، ورغم الصداع المستبد برأسي إلا أن توقي للحديث مع شقيقتي كان له الغلبة.

اجتاحني الحماس منذ أن جلست بغرفة المكتب انتظر لحظة الاتصال الهاتفي، بالكاد تمالكت أعصابي وضبطتها إلى أن ورد، أعطاني فيجو الهاتف بعد أن تبادل عبارات مقتضبة مع ابن عمه، وضعته على أذني، وتغاضيت مضطرة عن سخافات لوكاس حين قال:
-آخر من أرغب في سماع مباركتها.
ناطحته الرد بالرد، فأخبرته في نفورٍ متبادل:
-ومن قال أني سأمنحها لك؟
أتى رده مغيظًا، ومعكرًا لهدوئي:.

-لا انتظرها منك، يكفي أني حصلت على قطتي الشرسة لأشاكسها ليل نهار.
هتفت به في صبرٍ نافد:
-هيا أعطني آن، أريد التحدث معها.
لم أسلم من مماطلته إلى أن قرر في النهاية أن يضعها على الهاتف، حينئذ سألتها في اهتمامٍ صادق:
-أأنتِ بخير؟
جاء صوتها عاديًا وهادئًا وهي تجيب:
-نعم، لا تقلقي ريانا، أنا في أحسن حال.
سألتها بنبرة خفضتها نسبيًا، وأنا اختطف نظراتٍ سريعة نحو فيجو الواقف قبالة الشرفة:.

-أخبريني، كيف وافقتِ على الزواج منه؟
جاوبتني في نفس الصوت الهادئ:
-لا يهم، ولا تشغلي بالك بذلك، فأنا وضعي الآن مستقر.
شعرت في قرارة نفسي أنها تخفي شيئًا عني، فألححت عليها، ويدي موضوعة أمام فمي لتغطيه:
- آن، لا تخافي شيئًا، أنا إلى جوارك.
صدمتني بتعليقها:
-صدقيني أنا هانئة مع لوكاس.
سألتها مستنكرة:
-كيف ذلك؟ أنتِ تكرهيه، لا يمكنني تصديق أنكِ وقعت في غرامه.

قبل أن أحصل على ما يشبع فضولي المستريب تدخل فيجو مقاطعًا بلهجته الآمرة:
-يكفي ذلك.
نظرت له بغير رضا، وقلت مودعة شقيقتي على مضضٍ:
-سنتحدث مجددًا، إلى اللقاء حبيبتي.
أنهيتُ الاتصال، وأعدت الهاتف إليه وأنا أحادث نفسي بصوتٍ خافت؛ لكنه كان مسموعًا إليه:
-هذه ليست آن، أنا أعرفها جيدًا، هناك ما تخفيه عني.
علق علي بوجهٍ شبه واجم:
-توقفي عن الشك في الآخرين.
رددت عليه بتصميمٍ:.

-إن لم أكن أعرف شقيقتي لربما صدقت ذلك، لكن حدسي لا يخيب.
ظلت عيناي عليه وأنا أسأله:
-ما الذي حدث في ميلانو؟
توقعت أن يراوغ في الرد؛ لكنه أخبرني ببساطة:
-يمكنكِ أن تصفيه بانقلابٍ منقوص لم يكتمل.

اتسعت حدقتاي في ارتعابٍ، فما يعتبره مجازًا بأنه نوعٍ من الانقلاب يعني تفشي الخيانة في الصفوف الداخلية لجماعته، وإنهائه لن يتم إلا بحربٍ دموية رادعة ومخيفة على كافة الأصعدة. لم أتغلب على فزعي وأنا أردد سائلة إياه:
-كيف حدث ذلك؟ ومن المتورط فيه؟ وهل وصلتم للمسئولين عنه؟ أم أن التمرد ما زال مستمرًا؟
قال في يسرٍ، كأنه لا يتحدث عن خطب جلل:
-تمت السيطرة عليه، وعادت الأمور لهدوئها من جديد.

تملكني المزيد من الارتياع، ورحت أقول في توجسٍ أشد:
-شقيقتي عالقة هناك، بالطبع ستكون مهددة طوال الوقت.
أطلق زفرة بطيئة، وتكلم في ثقة:
-أخبرتكِ أنها تقع تحت حمايتنا، لن يمسها سوء.
لم أسمع ما يقوله، وواصلت التعبير عن مخاوفي بوجهٍ مرعوب:
-وأمي المسكينة خرجت من جحيم شيكاغو إلى نيران ميلانو.
سخر من فزعي قائلًا:
-يبدو أن الحرب تلاحقها كمغناطيس.
رمقته بنظرة مستنكرة، وقلت:
-لديك مزاج رائق للمزاح.

قبل أن يعلق علي، ولج السيد مكسيم إلى الغرفة هاتفًا في حماسٍ غريب:
-أنتما هنا، جيد.
التفت ناظرة إليه لألقي عليه التحية بتهذيب:
-صباح الخير عمي العزيز.
اقترب مني، فانحنيت برأسي قليلًا كنوعٍ من إظهار الاحترام له، ربت على كتفي، وقال:
-أهلًا بكِ كنتي الغالية...
ثم أشار إلى ابنه آمرًا إياه:
-أغلق الباب، وأجلس هنا إلى جوار زوجتك.

حلت بي دهشة مؤقتة، فليس من المعتاد أن يجتمع معنا في هذا التوقيت المبكر، ربما كنا نلتقي في وقت الغذاء، وفي أغلب الأحيان عند العشاء؛ لكن في الصباح كان من النادر حدوث ذلك. بدأ القلق يتصاعد بداخلي وقد وجه حديثه لكلينا في لهجة جادة بعد أن جلسنا متجاورين:
-أنا أريدكما في شيء هام للغاية...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة