قصص و روايات - روايات عالمية :

رواية غير قابل للحب للكاتبة منال سالم الفصل السابع والعشرون

رواية غير قابل للحب للكاتبة منال سالم الفصل السابع والعشرون

رواية غير قابل للحب للكاتبة منال سالم الفصل السابع والعشرون

الألوان الداكنة كانت السمة المميزة لكل شيء أو شيء له صلة بهذه العائلة، وكأن ألوان البهجة محظور عليها التواجد في مكانٍ يعيشون فيه. غصت في الأريكة الجلدية، ولم أجلس باستقامة، كان الإرهاق مستبدًا بي بعد ليلة من النوم القلق والمتقطع. وزعت نظراتي الحائرة بتساوٍ بين الاثنين بعد أن جلس فيجو إلى جواري، واستقر عمي مكسيم في الأريكة الجانبية الملاصقة لي. طلبه المريب بحاجته للحديث إلى كلينا أصابني بالمزيد من التوتر، فأنا لم استوعب بعد ما حدث لشقيقتي من أجل الاستعداد لمغامرة جديدة بالطبع ستكون محفوفة بالمخاطر طالما أنها ذات ارتباط بهم.

في البداية تكلم مكسيم بقدرٍ من الحيطة، فاستطرد:
-أنتما تعلمان بحربنا المستمرة مع جماعة الروس.
هززت رأسي في تفهم، فأنا أكثر من تعرض للإيذاء على يد أفرادها القساة، طوفت ببصري على وجه فيجو وقد أضاف على حديث أبيه في جدية:
-بلغني من أعيننا المتربصة في الشوارع والأزقة أنهم عالقون مع الكوريين.

أحسست من البداية الغامضة للحديث أن الموضوع شائك، به الكثير من التعقيدات، ومع ذلك لم أسعَ للاستفهام عن شيء، سأبقى على الحياد، طالما أن الحديث لا يخصني. تحولت نظراتي تجاه مكسيم وهو يعقب عليه:
-نعم، الكوريون غير متساهلين على الإطلاق، كما أن جماعة المكسيك تحالفوا معهم ضدهم كذلك.

كنت أتخذ دور المستمع الصامت في حوارهما، ليس لدي ما أعلق به عليهما، فأنا بالكاد أعلم بالقشور، ولم أحاول مُطلقًا –منذ نعومة أظافري- التحري بدقة عما يدور من صراعات محتدمة بداخل كل جماعة، كم وددت لو بقيت بعيدًا عن كل ذلك، محتفظة بنقائي وبراءتي. عاد فيجو ليقول مشيرًا بيده:
-وهم في مأزق بحربهم معنا أيضًا.
خاطبه مكسيم مؤكدًا:
-بالضبط، الوضع معقد من كافة النواحي.

من زاويتي، رأيتُ ابتسامة خفيفة تتجسد على فم فيجو وهو يكلم أبيه بعد أن فرد ذراعه على حافة الأريكة، ليبدو كما لو كان يحاوطني من كتفي:
-لنرى كيف سيصمدون.

شعرت بالخجل قليلًا من تصرفه رغم كونه لم يضمني فعليًا؛ لكن أن يقوم بذلك علنًا أمام والده الصارم كان مربكًا إلى حدٍ ما، فالأخير أبعد ما يكون عن الرومانسية، شاغله الشاغل أن يحصل على الأحفاد ليس إلا! أفقت من سرحاني اللحظي في تصرفات فيجو غير المفهومة بالنسبة لي عندما قال مكسيم وقد انعكس على تعابيره لمحة من التردد:
-بهذا الشأن، تواصل معي ألكسي بشكلٍ شخصي.

عندئذ اختفت ملامح الاسترخاء من على وجه فيجو، سحب ذراعه من ورائي، وهتف سائلًا في تحفزٍ شبه متعصب:
-ماذا يريد؟
كانت مرتي الأولى التي أراه فيها على غير عادته الهادئة، بل بدا هجوميًا بشكلٍ واضح وهو يكمل مشيرًا بسبابته، وبما صدمني للغاية، وأشعرني أني محور الكون لا مجرد زوجة ملائمة فرضتها عليه الظروف:
-لم أنسَ له فعلته مع زوجتي، ولن أمررها دون حساب!

كنت أناظره عن قربٍ شديد، فرأيتُ كيف اشتدت عضلات وجهه، ناهيك عن نظراته التي مالت للقتامة، بدا وكأنه يتحول إلى آخر شرس وهو يتابع:
-أنت منعتني من عقابه، واحترمت قرارك لأجل كشف باقي الخونة بداخل جماعتنا، فلا تضغط علي أبي، في النهاية ثأره معي.
خفق قلبي بشدة، وجاهدت لأبدو غير متأثرة بتصريحه الذي احتوى على معان كثيرة لم أرغب في تفسيرها في الوقت الحالي. أتى رد مكسيم هادئًا نوعًا ما:.

-أعلم ذلك، ولك كل الحق في فعل ما تريد معه، لن أمنعك؛ لكن علينا أن نرجئ أي خلافات ونضعها جانبًا من أجل الاتفاق على هدنة مؤقتة.
هنا نهض واقفًا ليردد بلا اقتناعٍ:
-هدنة؟ مع هؤلاء؟!

اتفقت معه في رأيه المعارض لإقامة أي هدنة، واحتفظت بتأييدي لنفسي، فلم أفصح عنه. مرة أخرى تعلق ناظري ب فيجو وهو يتجه صوب المكتب ليفتح علبة السيجار الكوبي، التقط واحدة، وقص طرفها ثم أشعله قبل أن يسحب منها نفسًا عميقًا، ليلفظ بعدها الدخان وهو يواصل الكلام:
- ألكسي لن يلتزم بها، سيتحين الفرصة للغدر بنا، أنا أعرفه جيدًا.
أكد له مكسيم بصوته الهادئ:.

-لن يخاطر هذه المرة، هو بحاجة لإيقاف الحرب معنا، ولو لفترة بسيطة.
لم يعد فيجو إلى موضع جلوسه، بل اتجه إلى نافذة الشرفة، أولانا ظهره، وتطلع إلى الحديقة المورقة بالخارج، بقى صامتًا لبضعة ثوانٍ، ثم قال مقتضبًا، وسحب الدخان تتطاير من فمه:
-لا أثق به.
وافقه والده الرأي فاستطرد موضحًا أيضًا:
-لا أحد يثق به؛ لكنه سقط في الهوة، ويبحث عن مخرج.

عاد فيجو لصمته المشحون، فحاول مكسيم إقناعه بالقبول من خلال استرساله:
-وليبدي حسن نيته سيسلمنا سيلفيا...
الاسم لم يكن غريبًا على مسامعي، حاولت اعتصار ذهني عصرًا لأتذكر أين سمعت به سابقًا، عدت للإصغاء إلى مكسيم وهو يخبره:
-ولنا كامل الحرية في التصرف معها، لن يحميها بعد الآن.
يبدو أن الأمر اتخذ مسارًا جادًا للغاية، خاصة ووالد زوجي يؤكد بتصميم:
-لن نعتبرها صفقة بقدر ما تكون بادرة جادة لإظهار صدقه.

هنا استدار فيجو ليتطلع إلينا، فأكمل مكسيم مشيرًا بيده:
-وأنت تريد الانتقام منها جراء ما فعلته مؤخرًا.
خاطبه فيجو في صوتٍ جاف، وعيناه لا ترمشان:
- ألكسي لن يفرق معه إن تخلص منها الآن أم لاحقًا؛ لكنه سيورطنا مع أعوانها، ويدها تصل للكثيرين، وخصوصًا أفراد مكتب التحقيقات الفيدرالي...

تفاجأت من معرفة زوجي لهذه التفاصيل متناهية الدقة، لم يكن غافلًا عما يدور، على عكسي أنا التي تنحصر همومها في الاطمئنان على صوفيا وشقيقتي. من جديد تكلم فيجو في نبرة متوعدة:
-ألا تعلم مقدرتي للوصول إليها؟ لكني لا أريد خوص معاركٍ جديدة غير محسوبة جيدًا، وهناك أمور أكثر أهمية نحاول إنجازها.
علق عليه مكسيم بحذرٍ:
-الوضع بالنسبة للجميع على المحك.
نفث فيجو سحابة من الدخان، فاستطرد والده متابعًا:.

-لكن علينا الاختيار، في أي جانب سنكون.
جاء رده أكثر جديةٍ:
-الأمر ليس بهذه السهولة...
لحظة سكت فيها قبل أن يدنو مجددًا منا، عاد ليجلس بجواري، وأكمل:
-ولا تنسى ما أطلعنا عليه أتباعنا في الشرطة، هم يستعدون للقيام بحملة شرسة ومعادية على الأغلب.
رد عليه مكسيم بثقةٍ:
-وضعنا قانوني، لا يوجد ما يديننا.
هنا أخبره فيجو في لهجة جادة:
-إذًا لسنا بحاجة للفت الأنظار تجاهنا في هذا التوقيت تحديدًا.

تحايل عليه مكسيم بإصرارٍ ملحوظ:
-لن يعلم أحد بتورطنا في التخلص منها.
بدا الأمر غامضًا ومحيرًا بالنسبة لي في نفس الآن، وتضاعفت حيرتي مع تساؤل فيجو المهتم:
-كيف ذلك؟
عندئذ اتجهت أنظار مكسيم ناحيتي، وخاطبني قائلًا ببسمة ثعبانية ماكرة:
-لأنها مهمة كنتي الجميلة.
قلت معلقة في بلاهةٍ، وقد صدمني إشراكه لي في الحوار، حيث قد تناسيت أني طرفًا فيه منذ البداية:
-هل تقصدني أنا؟

حافظ مكسيم على نفس الابتسامة اللئيمة وهو يؤكد لي:
-نعم، ومن غيرك حلوتي؟
تعالت دقات قلبي، وانتابني الاضطراب وأنا أسأله في توجسٍ:
-وما المطلوب مني؟
ظلت هذه البسمة السخيفة موجودة على محياه وهو يجيبني بقليلٍ من المراوغة:
-الأمر بسيط للغاية، وأنا أثق في قدراتك...
تطلعت إليه بغير فهمٍ، فأضاف بمزيدٍ من الغموض الموتر:
-خاصة أن في المسألة اختبار لولائك للعائلة.
زويت ما بين حاجبي متسائلة بخيفةٍ أكبر:
-كيف؟

شعرت بأن قلبي هوى بين قدمي، وهناك من قام بدعسه لينسحق بلا هوادة عندما طلب مني في هدوءٍ:
-ستقتلين سيلفيا!

كانت المرة الأولى التي تمنيتُ فيها أن أصاب بالصمم حقًا، فلا أسمع ما قد قيل لي. جلستُ مشدوهة للحظاتٍ متجمدة في مكاني، جمود الارتعاب لا جمود التأدب، وكأني تحولت إلى صنم مصنوعٍ من الحجر، كما عكس وجهي علامات الذهول، استغرقني الأمر عدة لحظاتٍ لاستوعب جدية مطلبه، رددتُ بعدها وأنا أشعر بارتجافات متتالية تضرب في أطرافي:
-ماذا؟ قتل من؟

قال ببساطةٍ شديدة، تُشعرك بأنه يتحدث عن وصفة إعداد كعكة لا عن إزهاق روح:
- سيلفيا، أظنكِ التقيتِ بها، هذه المرأة –غريبة الأطوار- التي حضرت عرسك.
جحظت بناظري في صدمةٍ أكبر، وتساءلت في صوتٍ مرتعش، وسبابتي تشير إلى فيجو، كأنما أريد التأكد من صحة تخميني:
-تقصد، حماة زوجته الأولى؟
بادر فيجو بالرد:
-نعم، إنها هي.

عصفت بي غصة غريبة، سرعان ما تلاشت لتتأجج بداخلي مشاعر الرهبة، في حين أومأ لي مكسيم مبتسمًا في استحسانٍ:
-جيد، أنتِ تذكرتيها إذًا.
زاد الخفقان بقلبي، وأحسست باختناق أنفاسي من مجرد اقتراحه لتوريطي في هذه المسألة الخطيرة، انعكس الخوف على كامل ملامحي، بينما قال مكسيم بنفس الهدوء القابض للروح:
-الأمر ليس معقدًا، ببساطة ستقومين بحقنها بمادة كفيلة بإسكاتها للأبد.

كانت الغلبة لمشاعر الخوف بين كل ما يدور في رأسي من أفكارٍ متصارعة ومتزاحمة، بالكاد حاولت إظهار تماسكي؛ لكني كنت أرتجف بشدة، شعرت بشلل مؤقت يصيب تفكيري، فأصبح ما يُملي علي مجرد عبارات فارغة غير مفهومة، لعقتُ شفتي، وهتفت في تلعثمٍ بائن:
-م، ماذا؟
أفهمني مكسيم باختصارٍ:
-سيدربك فيجو على كيفية استخدام الإبر الصغيرة، لن يتطلب ذلك منك مهارة كبيرة، أو احترافية عالية، فقط الاعتياد على التعامل معها.

كان يتحدث بجدية، لا يمزح، ولا يلقي نكتة سخيفة، حين استوعب عقلي خطورة مطلبه، انتفضت واقفة، وصرخت برفضٍ قاطع:
-لا، لن أستطيع، ولن أفعل.
تبدلت تعابير مكسيم للوجوم، وقبل أن يقوم بتوبيخي تساءل فيجو في نظرة غامضة مدققة:
-لن تستطيعي أم لن تفعلي؟
وجهت أنظاري ناحيته، وأجبته مؤكدة بصوتٍ متهدج:
-الاثنان معًا، أنا لستُ بقاتلة.
ثم حولت ناظري إلى مكسيم وأخبرته بإصرارٍ:.

-أعذرني عمي، أنا لن أقدم على ذلك مع كائنٍ من كان.
هنا قام واقفًا وصاح مخاطبًا ابنه في حدةٍ، والضيق يكسو كل وجهه:
- فيجو تحدث إلى زوجتك، إنه ليس بطلب، بل أمرٌ غير قابل للنقاش.
تمسكتُ بقراري قائلة بتصميمٍ:
-لن أقتل أحدًا.
شهقة خافتة انفلتت من جوفي وقد قبض فيجو على ذراعي، سحبني منه بعيدًا عن أبيه الغاضب إلى خارج حجرة المكتب وهو يأمرني:
-تعالي معي.

تبعته قسرًا، وخرجت معه من الغرفة بطريقة شبه ذليلة؛ لكني ظللت أردد بلا توقفٍ، وبعنادٍ أكبر:
-أنا لستُ مثلكم، لن أقتل أحدًا.

لم أعرف وصفًا أصلح لهذه العائلة سوى أنها عتيدة في الإجرام، لا تتوانى عن إظهار مدى قسوتها في كل موقف، كذلك لا يشكل فارقًا معهم إن كان القاتل رجلًا أم أنثى، المهم أن يتم المراد بلا جدال. دفعني فيجو دفعًا وهو يسحبني معه على الدرج حتى وصل بي إلى غرفة نومنا، وهناك أفلت قبضته بعد أن سبب لي الألم، لم أكترث لهذا الشعور اللحظي، وأصررت على رأيي هاتفة بحدةٍ:
-لن أقتل أحدًا، لن ألوث يدي بالدماء.

تأملني صامتًا، فزاد ذلك من حمئتي، ورفعت سبابتي أمام وجهه متابعة بتصميمٍ:
-أخبر والدك أني لن أنفذ طلبه مهما حدث.
جاء تعقيبه في صيغة تساؤلية:
-حتى وإن علمتِ أنها أرادت رؤيتك ميتة؟
كنت أعلم في قرارة نفسي أنه سيسعى بشتى الطرق لإقناعي؛ لكني لن أرضخ، سأحافظ على مبدأي، لهذا قلتُ في حديةٍ، وإصبعي يلوح في الهواء:
-هذا شأنها، لن تورطني في قتلها...
بدا صوتي مختنقًا وأنا أتم عبارتي:.

-يكفي ما حدث لشقيقتي البريئة، كلتانا غرقتا في الوحل.
لوى ثغره مرددًا في سخطٍ:
-كفي عن ترديد ذلك الكلام السخيف، واخرجي من فقاعتك الوردية...
برقت بعيني مستنكرة، فتابع بنفس الجمود القاسي:
-العالم من حولك في غاية البشاعة، وعزيزتك آن ليست مثالية لهذه الدرجة.
كانت كلماته مليئة بتوريات الضغينة، شعرت به يريد إفساد ما بيني وبين شقيقتي من روابط أخوية وثيقة، لهذا هتفت مدافعة بحرقة عنها:.

-أنا أعلم شقيقتي جيدًا، ربما تكون طائشة في بعض الأحيان، متهورة، مزاجية؛ لكنها لا تنتمي لذلك العالم المُوحش.
تساءل في لمحة ساخرة، وهذه النظرة القتامة تطل من عينيه:
-حقًا؟
أكدت بلا شكٍ:
-نعم، لقد تلقت نفس التربية الجيدة، بعيدًا عن الفوضى، وأنا أعرفها كأصابع يدي.
دس يده في جيب بنطاله، وأخرج هاتفه المحمول وهو يخبرني:
-حسنًا، يبدو أنكِ بحاجة لإعادة النظر في بعض الأمور.

تابعته بنظراتٍ حانقة، فأمرني وهو يرفع هاتفه أمام وجهي:
-انظري لهذه الصورة جيدًا.
أشحت بنظراتي بعيدًا عنه قائلة في عنادٍ أحمق:
-لا أريد.
يبدو أنه لم يتحمل سخافتي، فدنا مني ممسكًا بي من طرف ذقني، أجبرني على الاستدارة والنظر إلى الهاتف مكررًا بلهجته الآمرة:
-انظري.

اضطررت للتحديق في الصورة المعروضة على مساحة شاشته، برزت عيناي على اتساعهما في ارتعابٍ وقد رأيت جثة لرجل مُدرجة في دمائها، كان هناك كذلك سكينًا مغروزًا في صدر الضحية، أرعبني المشهد، وصرخت في فزعٍ:
-يا إلهي! إنه بشع للغاية...
أطبقتُ على جفناي، وتساءلت:
-من فعل ذلك؟
أتى رده صادمًا للغاية، محملًا بالسخرية، وبما دفعني لفتح عيناي:
-صغيرتك البريئة آن!

وقعت المفاجأة التي لم تكن في الحسبان على رأسي كمطرقةٍ تدك مسمارًا في لوحٍ من الخشب ليخترقه بلا تردد، في البداية تصلبت في مكاني، وجحظت مقلتاي، وتحول لون بشرتي للبياض الأقرب للموتى. ما إن استوعبت أنه بالفعل يقصدها، حتى ترنحت متراجعة مسافة خطوة عنه وأنا أسأله في غير تصديقٍ:
-ماذا تقول؟
أكد لي بهذا الوجه البارد:
-إنها الحقيقة.

رفضت الانسياق وراء ما اعتبرتها أكذوبته اللعينة، وقلتُ في هياجٍ يحمل الإدانة وأنا ألكزه في صدره:
-أنت تكذب، تريد إفساد صورتها في نظري.
تغاضى عن وكزتي، وراح يمرر إصبعه على الشاشة لأرى المزيد من المشاهد المتلاحقة لجريمة قتل تظهر فيها شقيقتي في الخلفية، تطعن أحدهم في غضبٍ عارم، وكأنها شخص آخر أجهل طبيعته كليًا. حملقت بعينين متسعتين فيما أراه متجسدًا بوحشيةٍ، بينما سألني فيجو في جدية:.

-وماذا عن هذه؟ وهذه؟ وتلك؟
في البداية أخرستني الصدمة؛ لكني هتفت أنكر كل ذلك بإصرارٍ:
-إنها ملفقة.
نظر إلي باستخفافٍ، فتمسكت برأيي قائلة بتجهم:
-ربما استعنت بأحدهم ليختلق تلك الصور.
علق بنوعٍ من الغطرسة:
-لست مضطرًا لفعل ذلك لتنفذي الأوامر، هي من قامت بالقتل وبلا تردد.
لكزته من جديد بقسوة وأنا اتهمه:
-لكنك لئيم، لم تترك أحدًا إلا وجعلته مشوهًا في نظري.

راقب فيجو حركة يدي المتعصبة بتحفزٍ، ولم يتخذ خطوة مضادة، رد بجفاءٍ، وعيناه تشعان تحذيرًا صارمًا بالتوقف عن التصرف برعونة:
-بل هذا ما فعلته، لقد قامت بقتل أحدهم عمدًا عقب زفافنا، وتدخل لوكاس لإنقاذ الموقف، وقمنا بإرسالها خارج البلاد قبل أن تصل إليها الشرطة، وإلا لتم الزج بها في السجن، إذ كان من المحتمل أن ترين عنقها الجميل متدليًا على حبل المشنقة!

ظننت أنها افتراءات مفتعلة منه لتخويفي، خاصة أني لم ألتقي بها منذ العرس المشؤوم، لذا واصلت هجومي الضاري عليه ملوحة بيدي في الهواء، ودون أن ألمسه:
-أنت تهذي، شقيقتي لا تستطيع فعل ذلك...
تقاربت المسافة الفاصلة بين حاجبي بشدة وأنا ألح عليه بأسئلتي التشككية:
-ولماذا تقتل آن أحدهم وهي لا تعرف أحدًا هنا؟ إنها لعبة سخيفة منك لإرهابي.
نظر إلي بقتامةٍ، فأردفت بلكزة أخرى غاضبة في كتفه:.

-أنت تتعمد خداعي، وممارسة ألاعيبك وحيلك الذكية علي لأصدقها.
هذه المرة وجدته يطبق على يدي، يضمها أسفل قبضته بخشونةٍ طفيفة، شعرت بها تزداد قسوة بالتدريج، ليخفضها بعد ذلك وهو يخاطبني مستفيضًا في الإيضاح:
-أخبرتكِ مرارًا وتكرارًا أني لا أكذب، ولأكون أكثر وضوحًا تم تخليصها من هذه الورطة في مقابل زواجها من لوكاس، فارتضت بالصفقة، وحدث الأمر بمباركة الجميع.

صدمة أخرى تلقفتها على رأسي فبات من العسير علي استيعابها، حاولت استعادة يدي من بين أصابعه الغليظة، فعجزت أمام قبضته المحكمة، ظللت أتلوى بها لأحررها، واستنكرت بشدة كل ما أطلعني عليه بتحسرٍ:
-كل ما تقوله كذب، لن أصغي إليك.
لم يرخِ قبضته عني، وقال في نبرة تأرجحت بين الجدية والاستهزاء:.

-أنتِ فقط ترفضين تصديق حقيقة انتماءك لهذا العالم، وكل من فيه إن واتته الفرصة للقتل سيفعل بلا تردد، وأولهم شقيقتك البريئة، لقد أقدمت على ذلك بوحشية تُحسد عليها.
بعد محاولات لا بأس بها تمكنت من تحرير يدي، حينئذ تراجعت عنه خطوتين، وهتفت رافضة تقبل ما حدث:
-لن أصدقك مهما قلت، هذا هراء، وأنا أعلم كم هي ضعيفة ورقيقة، إنها لن تقدم على ذلك، وأنت تخدعني.

وضع كفه في جيب بنطاله، وترك الآخر طليقًا، ثم انتصب في هامته قبل أن يأتي تعقيبه هادئًا للغاية:
-لا يهمني إن صدقتِ أم لا، فلديك مهمة واجبة النفاذ...
تحرك بثباتٍ نحو باب الغرفة مشيرًا بإصبعه كتحذيرٍ ضمني:
-سأدعكِ تفكرين، لكن اعلمي جيدًا أنكِ شئتِ أم أبيتِ ستقومين بها، لا مهرب لكِ!
لم يقل المزيد، وانصرف، لأبقى بمفردي على حافة الانهيار، انفجرت باكية بحرقة، وأنا أهتف في استنكارٍ مرير:.

- آن ليست مجرمة، ليست كما يقول، إنها بريئة، بريئة!

حاصرتني الهموم والأوجاع، فقضيت باقي نهاري حبيسة الغرفة، رافضة الخروج أو الكلام، لم أتناول لقيمة منذ وقت الإفطار، ولم يكن لدي الشهية لوضع أي شيء بداخل معدتي المتقلبة. بقيتُ معزولة بين الجدران الخانقة، أبكي حزنًا وكمدًا على شقيقتي، قبل نفسي الملتاعة، فكلما جاء يوم جديد، أتت معه كوارث أفظع! لم أمسح ما انساب من دموعي الساخنة، وظللت أردد بصوتٍ مليء بالحيرة:.

-كيف لها أن تقتل؟ إنها أضعف من أن تقوم بذلك!
نضبت عبراتي في النهاية، ومع ذلك بقيتُ متمسكة بموقفي الرافض لإدانتها، خاطبت نفسي في شكٍ:
-هناك حلقة مفقودة بالأمر، هي لن تفعل ذلك مُطلقًا!

حل الليل بسواده المُطابق لهذه العائلة المتوحشة، ومع ذلك لم أسعَ للتخلي عن عزلتي الاختيارية، كنت استلقي على الأريكة، بثيابي التي لازلت أرتديها منذ مطلع النهار. اعتدلت في جلستي حين جاء فيجو في موعده المعتاد، تطلع إلي بثباتٍ نازعًا عنه سترته، طرحها على طرف الفراش ليظهر حامل أسلحته وهو يسألني:
-هل فكرتِ؟
أجبته وأنا أعقد ساعدي أمام صدري:
-ما زالت عند رأيي، لن أقتل أحدًا.

فرك طرف ذقنه بحركة سريعة، ثم قال وهو يتقدم ناحيتي:
-توقعت ذلك، أرى أن تتحدثي إلى شقيقتك قبل أن تعطي قرارك النهائي.
نظرت إليه بغرابةٍ وقد ضاقت نظراتي ناحيته، أحسست بكونه يخطط لشيء ما، وإلا لما تعامل بمثل هذا الهدوء معي. وجدته يعبث بالهاتف قبل أن يُعطيني إياه، لأجد آن تحادثني في مكالمة مرئية، هتفت من فوري عندما رأيت صورتها تملأ الشاشة:
- آن، حبيبتي، أأنتِ بخير؟
قالت في اقتضابٍ، وهي ترفرف بعينيها:
-نعم.

رغم اعتدال الطقس إلا أني شعرت بموجة من الحرارة تجتاحني، نظرة خاطفة سددتها نحو فيجو وهو يتحرك تجاه غرفة تبديل الثياب، لأحدق بعدها في وجه شقيقتي أتفرسه وأنا أسألها بصوتٍ خفيض، مشككة في الأمر برمته:
-هل حقًا فعلتِ ما قيل لي؟
لوهلة تطلعت إلى في صمتٍ حذر، كأنما تخشى الحديث، فبسرعة ألقيتُ نظرة أخرى عابرة تجاه العتبة الفاصلة بين الغرفتين لاستوضح منها في صيغة متسائلة:
-أنكِ تعمدتِ قتل أحدهم؟

اعترفت لي في ارتباكٍ محسوس:
-نعم...
وضعت يدي على فمي لأكتم شهقة غادرة، فتابعت آن الكلام:
-كنت مضطرة لذلك، لو لم أفعل لساءت الأمور.
رفضت تصديق ما اعترفت به لتوها، وهتفت أخبرها بتوترٍ:
- آن أنا أعلم أنهم يضغطون عليكِ لقول ما لم يحدث.
هتفت نافية بتأكيدٍ:
-بل إنها الحقيقة، ولولا لوكاس لكنت في قبضة الشرطة.

تفرست في تعابير وجهها أكثر، وخاصة نظراتها، كانت تبادلني نظراتٍ منكسرة، غارقة في الحزن، مما زرع المزيد من الشكوك في نفسي، حاولت تمرير مشاعري المدعمة إليها، فقلتُ:
-مهما ادعيتِ لن أصدقك، أنا أعرفك جيدًا، أنتِ لستِ بقاتلة.
أطلقت آن زفرة سريعة، وقالت في لهجة تحولت للجدية:.

- ريانا من فضلك حاولي ألا تفسدي زيجتك مع فيجو، حياتنا منذ البداية محدد مصيرها، نحن فقط من رفضنا تصديق الواقع، وظننا أنه يمكننا أن نعيش بعيدًا عن هذه الصراعات الدموية، لكننا جزء منها.
تصاعد القلق بداخلي بعدما نطقت بهذه الكلمات الغريبة، استطردت أقول في ذهولٍ:
- آن، أنتِ...
قاطعتني بإصرارٍ:
-اسمعيني رجاءً، إن طلب أحدهم شيئًا منكِ فلا تترددي في فعله، نحن ندين لهم بالكثير.

كنت على وشك قول شيء؛ لكنها بادرت مضيفة:
-يكفي أنهم تقبلوا وجودنا بينهم، رغم كوننا تنتمي للخونة.
كأنني أتكلم مع شخصية أخرى أكثر عقلانية، تتحدث بالمنطق وبروية، عكس تلك التي نشأت وترعرعت معي على فعل كل ما هو متمرد ومعارض. دمدمت في دهشة مضاعفة:
-ماذا؟
ألجمت المفاجأة لساني وعقدته، بينما استمرت آن تقول مبتسمة لتخفف من وطأة الصدمة علي:
-لقد أصبحتُ أعلم كل شيء الآن.

سرت بجسدي برعشة أقوى وأنا أقاوم تصديق ما أسمعه منها، واصلت شقيقتي الصغرى إبلاغي، كأنها شعرت بما يستبد بي من هواجس مربكة:
-لا تقلقي علي، أنا بخير، وأمي كذلك.
منحتني قبلة في الهواء قبل أن تختتم اتصالها المرئي معي:
-انتبهي لنفسك قطعة السكر، وسنتحدث مجددًا.
انتهى بي الحال بعد مكالمتها الصادمة أكثر تحيرًا، وأكثر ذهولًا. عاد إلي فيجو ليستعيد هاتفه من يدي المتيبسة سائلًا في اهتمامٍ:
-هل سمعتِ بنفسك؟

في اللحظة التي ظننت فيها أن كل شيء يتأرجح ما بين شكٍ ويقين، جاءت شقيقتي وهدمت ما تبقى من ثوابت لدي، لقد طالتها الأيادي الآثمة، فلم أعد أعرف بعد تصرفها الصواب من الخطأ، ما كان صادقًا وما تغلف بالزيف، أحسست بانهيار عالمي، حيث أصبحت الفضائل فيه ركامًا، واللطافة أنقاضًا، حتى البراءة تدنست، والوداعة تبددت. نظرت إلى فيجو بعينين شاردتان، بدوت عاجزة خلالها عن الرد، أو اتخاذ القرار. تأملني في صمتٍ، قبل أن يتكلم أخيرًا:.

-يمكنني أن أمنحك المزيد من الوقت للتفكير.
تملكني اليأس، وقلت برأس مطأطأ في انكسارٍ:
-لا داعي...
فرت من طرفي دمعة سريعة، مسحتها بإصبعي قبل أن تشق طريقها على طول صدغي، وأخبرته بأنفاسٍ مضطربة:
-سأنفذ ما تريدون، وأقتل هذه المرأة...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة