قصص و روايات - روايات عالمية :

رواية غير قابل للحب للكاتبة منال سالم الفصل الخامس والعشرون

رواية غير قابل للحب للكاتبة منال سالم الفصل الخامس والعشرون

رواية غير قابل للحب للكاتبة منال سالم الفصل الخامس والعشرون

الانخراط في هذا العالم السوداوي أصبح إلزاميًا، لا مناص منه، فإن زلت قدمك، وغصت في وحله، فلا سبيل للعودة أبدًا. كنتُ مضطرة لتنفيذ تعليمات فيجو بحذافيرها، وإلا لتلقيت عقوبة رادعة كغيري لمخالفة أوامره، تهيأتُ للذهاب إلى التجمع النسوي المُقام في منزل واحدة من زوجات أعوانه المخلصين، السيدة كاميلا، ليس من أجل التقارب الودي، وإنما لتقصي الأخبار، والإتيان له ببعض المعلومات المنقوصة عما يدور من خلفه، فإذ ربما ينوي أحدهم التآمر ضده، أو التحالف مع أعدائه من أجل إيقاعه، خاصة بعد كشف الخيانة الأخيرة، والتي تورطت فيها الخادمة، وكنت أنا الضحية بغير قصد.

تأنقتُ في ثوبي الأسود المحتشم، ووضعت قبعة صغيرة على رأسي المرتب خصلاته في كعكة صغيرة، سرت بخطى سريعة وثابتة لأخرج من بهو القصر، نظرة خاطفة منحتها للحارس الشخصي الضخم المكلف بحمايتي وهو يخبرني برسمية:
-تفضلي سيدتي، العربة في انتظارك.

لم أعلق عليه، ما زالت منزعجة من وقاحته السابقة معي، رمقته بتعالٍ، قبل أن اتجه للسيارة، وجلست بالمقعد الخلفي واضعة نظارة الشمس على وجهي، بدت هذه الزيارة ثقيلة، سقيمة، مسببة للضيق، ومع ذلك أرغمت نفسي على مجاراة ما فُرض علي. بعد وقتٍ ليس بقليل، اصطحبني أفراد الحراسة إلى المكان المنشود، ألقيت نظرة شمولية على القصر من الخارج، كان رابضًا في بهاء لافت للأنظار، رغم كونه أصغر في المساحة من ذاك الذي أقطن به، تأملته بنظراتٍ سريعة عندما عبرت السيارات البوابات الحديدية، كانت الأجواء بالداخل يغلب عليها الطابع الإيطالي، تذكرك بالوطن، وبمدى الشوق للعودة إليه، والتمتع بأحضانه. لن أنكر أني شعرت بألفةٍ غريبة تجتاحني حين تم استقبالي بحفاوة وتقدير من صاحبة البيت الوديعة، قبل أن تلتف حولي السيدات والبنات للتعارف بشكلٍ أعمق في لطافة واضحة، مما ضاعف من ضيقي الداخلي، لإحساسي بأني قد جئتُ هنا لخداع هؤلاء النساء المغلوبات على أمرهن، فهن مثلي اضطررن للارتضاء بما فرض عليهن.

ربما لو كانت صوفيا متواجدة معي لاستمتعت عني كثيرًا بهذه الزيارات، طاف في خلدي واحدة من عباراتها اللطيفة حين يتم دعوتها لمثل هذه الحفلات:
-كم أحب إعداد الباستا بوصفة جدتي السرية لإسعاد صديقاتي!
اشتهيتُ تذوق ما كانت تعده، وزاد الشوق بوجداني، حقًا افتقدت وجودها، وأصابني الحزن لغيابها الطويل عني، فحضورها كان يهون علي الكثير.

الهالة المقدسة التي فرضت من حولي جعلتني أبدو كشخصية هامة للغاية لا كضيفة عادية، وحاولت قدر المستطاع -بلطافة وتهذيب- إزالة هذا الحاجز الوهمي؛ لكن مُضيفتي أصرت على إبقاء مسافة بيني وبين البقية، من أجل زوجي، فأنا لست فردًا عاديًا، أعامل كغيري، وبالرغم من تحفظي على هذا التمييز في التعامل، إلا أني امتثلت لرغبتها لئلا أثير المتاعب، فاقتضبت في الحديث، وعلقت بالمختصر من الكلام، وعند الضرورة.

تابعت بنظرات مهتمة الأطفال الصاخبون والفتيات وهم يركضون معًا من حولي، تنقلت نظراتي على الصغيرات المبتهجات، كن بريئات للغاية، لا يعكر نقاء حياتهن شائبة، كم تمنيتُ لو بقيت صغيرة مثلهن للأبد!

عاودت التركيز مع مجموعة السيدات الجالسات معي في الحديقة، حيث كانت معظم الأحاديث تدور حول الأزواج والمشاكل الزوجية المعتادة، خاصة فيما يتعلق بالعلاقة الحميمية، كنت أخجل من تطرقهن لمثل هذه المسائل الحرجة، فلم أعتد على نقاش أكثر الأمور خصوصية على الملأ، ربما بين صديقاتي في أحاديث عابرة؛ لكن ليس بمثل هذا الوضوح المتجاوز. من ناحية أخرى بدت النقاشات بعد برهة وكأنها فرصة جيدة لتبادل الخبرات، وتقديم النصائح لمن تعانين من مشكلة بعينها.

تنبهت لإحداهن عندما استطردت تقول بتفاخرٍ وهذه الضحكات تختلج كلامها:
-أنا أعرف كيف أبقيه في الفراش، لي طُرقي الماكرة.
تساءلت أخرى في فضولٍ مهتم، ونظراتي تتوزع بتساوٍ بينهما:
-كيف ذلك؟
أجابت بلا خجلٍ:
-أتعامل معه وكأني عشيقة مجنونة، لا زوجة غيورة.
شهقت امرأة ثالثة، وتساءلت في استنكارٍ:
-وهل تقبلين بذلك؟
جاء ردها على صورة ضحكة عالية؛ لكن أخرى اعترضت على أسلوبها، وسألتها مباشرة:.

-كيف لكِ أن ترتضي بإهانتك من أجل إشباع شهوته؟
أطلقت ضحكة رقيعة قبل أن تجيبها في رضا:
-وما العيب إن كان كلانا يحبان المرح والمتعة؟!
حذرتها أخرى في توجسٍ:
-قد يتجاوز معكِ.
هزت كتفيها في عدم مبالاة، وعلقت:
-أغلبهم يفعل ذلك في الفراش، ألسنا وسيلة إمتاعهم؟
بدت المرأة غاضبة إلى حدٍ ما وهي تخبرها:
-أنا لا أقبل أن أعامل كساقطة، لستُ كهؤلاء الماجنات المنحرفات.
نظرت إليها الأولى في استخفافٍ قبل أن ترد:.

-ومن منكن لا يخونها زوجها لأجل عاهرة متمرسة؟ لما لا نؤدي الدور ونظفر بكل شيء؟
ثم جالت بناظريها على البقية، وتساءلت في تحفزٍ:
-هيا تكلمن؟
عندئذ تدخلت السيدة كاميلا لإيقاف النقاش قبل أن يتطور لجدالٍ بقولها الصارم:
-لنغلق النقاش في ذلك الموضوع ونتحدث في آخر، عن حفل ال
قاطعتها إحداهن قائلة بجديةٍ تامة:.

-عذرًا سيدة كاميلا ؛ لكنكِ تعرفين كيف يُساء إلينا، ولا يتم حمايتنا من البطش الأعمى لأزواجنا، وآخر ضحايانا المسكينة مارتينا.
تحولت الأنظار نحو امرأة تجلس في زاوية مترامية الأطراف، بدت وكأنها منسية، حتى أني لم ألمحها في البداية إلى أن تم الإشارة إليها، ركزت بصري عليها، ولمحت الآثار الباقية على تقاطيعها، كانت مشوهة، مكدومة، بها سحجات مرئية للعيان. بتلقائية قلقة تساءلت:
-ما الذي حدث لوجهك؟

وكأن الجميع كان يترقب اللحظة التي أتخلى فيها عن جمودي الزائف لأشاركهن الحديث، هتفت إحداهن من فورها تجاوبني في صوتٍ متلاحق:
-لقد صار أفضل، لم ترِها حينذاك سيدة ريانا، المسكينة كادت تخسر حياتها، حتى الكدمات أخفت كامل معالمها.
سلطت عيناي على المرأة، فرأيت الخوف ظاهرًا على تعبيراتها، حتى أنها تلجلجت وهي تبرر لي ما مرت به معاناة قاسية ما زالت توابعها تؤثر عليها:
-كانت نوبة جنون عابرة.

احتجت عليها أخرى، فلامتها في توبيخٍ:
-حقًا؟ بالكاد نجوتِ هذه المرة مارتينا.
وجدتها تنكس رأسها في خزيٍ وهي ترد:
-إنه قدري، ماذا أفعل؟
علقت عليها المرأة في تحيزٍ:
-أليست السيدة ريانا زوجة الزعيم، وكلمتها مسموعة لديه؟

خفق قلبي لإقحامي المفاجئ في الأمر، وحافظت على هدوئي لئلا أبدو مرتبكة، فكيف أخبرهن ببساطة أني مثلهن؟ لا ناقة لي ولا جمل! بلعت ريقي بحذرٍ، وتابعت باقي كلامها وهي ما تزال تحاول إجباري على التدخل:
-لما لا تبلغه عن تصرف زوجك المسيء إليكِ؟ لا أظن أنه سيقبل بهذا!
ظهر الذعر على وجه المرأة المكدومة، وقالت في تعجلٍ مضطرب وهي ترمش بعينيها:
-لا داعي لذلك.
ردت في تصميمٍ بدا مُحرجًا لها:.

-صدقيني السيدة لطيفة ولن تمانع، أليس كذلك سيدة ريانا؟
أنهت سؤالها والجميع ينظرن إلي في ترقب، فما كان مني إلا أن قلتُ بدبلوماسية وببسمة مرسومة بعناية:
-بالطبع، أنا هنا لسماعكن.
تنفست المرأة الصعداء، وهتفت في سرورٍ:
-باركك الرب فيكِ.
أسهبت المرأة في توضيح مشكلتها، فقالت بترددٍ وهي تعصر كفي يديها معًا:.

-أنا أعلم أن زوجي يخونني، ولم أمانع، أتركه يفعل ما يحلو له؛ لكنه يفرط في شرب الخمر، ويعود كل ليلة سكيرًا للغاية، فلا يعي ما يفعل، ويتشاجر معي لأتفه الأسباب، وحتى في الفراش
تهدجت أنفاسها بشكلٍ ملحوظ وهي تتابع بصعوبة:
-يكون عنيفًا معي لأقصى حد، فلم أعد احتمل.
رأيتُ كيف تواسيها من حولها بالنظرات أو الكلمات الداعمة، وحتى باللمسات الرقيقة المهونة. شعرت بنبرتها تختنق وهي تكمل:.

-وآخر مرة حين اعترضت عليه بسبب ظروفي الشهرية، ظن أني أكذب وأتملص من لقائه الكريه، فنلت عقابي القاسي على يديه.
تدخلت سيدة أخرى لتوضح لي:
-بالكاد نجت فيها، لقد حولها لكيس ملاكمة، وأفرغ فيها جنون غضبه.
أيدت كلامها ثالثة، وأخبرتني
-أوه، المسكينة أوشكت على الموت لولا مشيئة الرب.
نفرت من عيني دمعة متأثرة، طردتها برفرفة أهدابي في حركات خاطفة متواترة، وأصغيتُ للرابعة التي خاطبتني:.

-ولولا بعض الوساطات لوصل الأمر للشرطة.
ظهر الاستنكار على وجه أخرى قبل نبرتها وهي تتولى الحديث لتطلعني على الجزء الأسوأ:
-حتى أنه رفض علاجها، تخيلي سيدة ريانا؟ تركها بين الحياة والموت، هل هذا ما نستحقه في النهاية؟
تألمت لهذه الأخبار، وأشفقت على الضحية، رفعت بصري تجاه من تخاطبني وهي تطلب مني في رجاءٍ واضح:
-نحن لا نطلب الكثير، نريد فقط القليل من الاحترام داخل بيوتنا.

هززت رأسي معقبة في لهجة جادة، وأنا أنتوي فعل ذلك حقًا:
-آسفة لسماع ذلك، سأحاول التصرف.
ظهر الارتياح على وجوههن، وبادرت إحداهن بالتعبير عن امتنانهن الشديد لموقفي:
-أشكرك سيدتي، أنتِ رائعة للغاية.
بينما أضافت أخرى في حماسٍ:
-أتوقع أن تكون السيدة ريانا أمًا حنونة حين تحملين ولي العهد المنتظر.

يبدو أن دفة الحديث اتجهت لموضوع الإنجاب، يا للسخرية! لقد قُمن بالإسهاب في التخيل والتوقع، وهن لا يعلمن أن ذلك الأمر مستحيل الحدوث. تنبهت للسيدة كاميلا وهي تستطرد:
-أوه، أنا متشوقة لرؤية ردة فعل السيد مكسيم فهو ينتظر ذلك بفارغ الصبر.
أضافت عليها أخرى في مرحٍ:
-هو يريد حفنة من الأحفاد.

أحسستُ بثقلٍ يجثم على صدري، بانقباضة موجعة في صدري، فمن بعيد يبدو كل شيء مثاليًا، أم إن غصت في دواخله لوجدت ما يفزع أوصالك. فقط إن كن يعلمن بالحقيقة، لما رجون أبدًا أن يختبرن ما أمر به من تهديدات مخيفة طوال الوقت! عدت لمجرى الحديث مرة ثانية عندما علقت سيدة ثالثة بنبرة ذات مغزى تبعتها بضحكة ماكرة:
-ومن لا يريد من الزعيم فيجو؟ إنه أقوى الرجال وأكثرهم إثارة.

وقتئذ نهرتها السيدة كاميلا عن التمادي في كلامها بصورة متجاوزة، وقالت وهي تقوم من مكانها:
-كفى ثرثرة، وهيا إلى الطعام.
نهضتُ واقفة في ثبات، وأنا أخفي بداخلي الاضطراب الذي اعتراني، ورأيت من حولي ينهضن واحدة تلو الأخرى لتتابع بعدها السيدة كاميلا حديثها إلي وهي تشير بيدها:
-تفضلي عزيزتي.
منحتها بسمة صغيرة وأنا أتقدمهن في السير:
-أشكرك.

انقضت الزيارة بكل ما فيها من ثرثرة ولهو على خير، مضى الوقت سريعًا رغم تخطيه بضعة ساعات، كنت أتحرق لخلع الحذاء عن قدمي، فقد كانتا تصرخان من وخزات الألم المنتشرة فيهما. صعدت إلى غرفة نومي، دون أن أقابل أحدهم في طريقي، بدا القصر هادئًا على نحوٍ مريب، ولم أحاول الذهاب في اتجاه القبو، فيكفيني ما رأيته سابقًا فيه من مشاهد دموية أذهبت النوم عن عيني لفترة لاحقة.

فتحت باب الغرفة، فكانت غارقة في الظلام، وفيه تبدو كل المعالم متشابهة، إلى أن يشقه بصيص من الضوء، حينئذ تتمكن من رؤية ما يحيط بك. انتفضت بغتة عندما ضغطت على مفتاح الإنارة ووجدت فيجو جالسًا على المقعد في وسط الحُلْكة السائدة، مستندًا بمرفقيه على مسندي المقعد، وفي يده اليمنى كأس مشروبه. بدا متوقعًا قدومي، أو الأحرى أنه ينتظر عودتي. استعدت ثباتي، ورمقته بهذه النظرة المزعوجة قبل أن أكمل سيري في اتجاه تسريحة المرآة، سألني بصوته الهادئ:.

-ما الأخبار؟
لم أجبه، فواصل سؤالي:
-هل قضيتِ وقتًا ممتعًا هناك؟
لنقل أنه حاول إغاظتي بأسئلته المستفزة، وأنا لسذاجتي منحته الفرصة عندما علقت عليه بتشنجٍ طفيف:
-أتهزأ بي مثلًا؟
أوغل في نظراته المراقبة لي، وقال:
-أنا اطمئن على أحوالك زوجتي العزيزة.
نظرت لانعكاسه في المرآة من زاويتي، وهتفت في تبرمٍ ساخط:
-ألست من أرسلني إلى هناك لأتجسس عليك؟
صمت ولم ينبس بكلمة، فتابعت في ازدراء:.

-لا تقلق، لقد أديتُ مهمتي بنجاحٍ منقطع النظير.
انتزعت ما ارتديته من حُلي، وألقيتها على التسريحة، ثم التفتُ من جديد ناحيته وخاطبته في تهكمٍ صريح:
-والنساء لا شكوى لديهن سوى انغماس أزواجهن مع العشيقات، أو اعتدائهم بالضرب المبرح عليهن.
علق بإيجازٍ وهو ينهض ببطء مسترخي من جلسته:
-جيد.
اشتاطت نظراتي على الفور ناحيته، وسألته في استهجانٍ أكبر:
-أترى ما يفعلوه جيدًا؟
جاء رده صادمًا وموجعًا في نفس الآن:.

-وما المانع طالما أنهم لا يسببون المتاعب لي أو يؤثر ذلك على العمل؟
تحيزتُ بشدة لجنسي من النساء، ورُحت أدافع عنهن بضراوةٍ:
-حقًا؟ وماذا عن هؤلاء النسوة؟ أليس لديهن حقوق؟
اكتفى بمطالعتي بهذه النظرة الغامضة، فاستأنفت هجومي بحرقةٍ، وبصوتٍ شبه عالٍ، وقد استحوذ على مخيلتي ملامح السيدة المكدومة:
-أنت لم ترَ وجه واحدة منهن بعد أن أشبعها زوجها ضربًا لمجرد أنها تمنعت عليه قليلًا، ولسبب طبيعي.

رفع سبابته كنوعٍ من الإنذار وهو يخبرني:
-احذري من ارتفاع نبرتك.
استنكرت تغاضيه عما أحاول إخباره به، وحولت هجومي عليه:
-هذا ما يهمك فقط، علو صوتي، لا شيء سوى ذلك.
أتى رده مثيرًا للغيظ:
-أرسلتكِ إلى هناك لنقل ما يهم، لا لإزعاجي بهذه الأمور التافهة.
حل بي المزيد من الكدر، ورمقته بتأففٍ قبل أن أوليه ظهري لأسير مبتعدة عنه وأنا أكلمه:
-أنت محق.

ولجت إلى داخل غرفة تبديل الثياب الملحقة بغرفة النوم، أخذت أعبث في الأرفف بعصبيةٍ لأبحث عما ارتديه، ولساني لا يزال يردد في تعصبٍ:
-إنها توافه، فأتباعك الأوفياء يخفون عجزهم وخوار رجولتهم بهذه التصرفات الشنيعة، فقط يبحثون عن وسيلة للظهور بمظهر الأشداء، وهم لا يقدرون على صلب ظهورهم إلا على النساء الضعيفات.
وقف فيجو عند العتبة الفاصلة بين الغرفتين، وارتكن بظهره على الإطار الخشبي قائلًا في هدوءٍ حذر:.

-لاحظي أنكِ تسيئين إلى رجالي.
لم استدر ناحيته وأنا أعلق عليه في نفس الحدةٍ:
-وهذا جل ما يهمك أيها الزعيم العظيم، أما النساء فلا حق لهن حتى للشكوى.
سحبت ما وجدته مناسبًا من الرف السفلي، ثم استقمت واقفة لأواجهه، رجفة سريعة انتابتني وقد وجدت عيناه تلاحقني باشتهاءٍ، تجاوزت عن مضمون نظراته، ثم تقدمت ناحيته وقلتُ بهذه النبرة الغامضة:
-لن أتعجب إن تواطئوا مع أعدائك لرؤيتهم أموات.

وجدته يتخلى عن استرخائه المستمتع، فانتصبت هامته، وراح يحدجني بنظرة قوية، على عكس سابقتها الشهوانية، دبت في أعماقي رعدة سريعة، وهو يسألني في لهجة مالت للاستنكار:
-ماذا تقولين؟
لم أخشاه بالرغم من نظراته المخيفة المسددة لي، تسلحت بشجاعتي التي انتفضت من جديد، وأخبرته كما لو كنت أحذره بصورة ضمنية:
-هذا ما سيحدث لاحقًا، فما أراه بوادر لذلك.
توقعت أن يقابل ما قد يعتبره لغوي باستهزاءٍ؛ لكنه سألني في هدوءٍ.

-أأنتِ متأكدة؟
أجبته بإيماءة من رأسي:
-نعم، أتعلم لماذا؟
انتظر إكمالي للرد، فلم أضع الوقت، وأخبرته:
-لأن زعيمهن المبجل إن كان يعبأ بأمرهن لباتوا أكثر إخلاصًا من أزواجهن، لكونهن يعلمن بمدى دعمه لهن في أزماتهن الأسرية، وهن لا يطلبن الكثير، الشعور بالأمان والانتماء.
نظر إلي صامتًا؛ كأنما يختبر صدقي، فتحركت من موضع وقفي وأنا أخبره:
-لكن لا يهم أي شيء.

على حين غرةٍ استوقفني بالإمساك بي من ذراعي، فشعرت بقوة قبضته تشتد على عضدي الضعيف، رفعت بصري إليه، وكتمت تأويهة تنازع للخروج من جوفي كتعبير عن تألمي. أبقى فيجو نظراته ثابتة، لا يرف له جفن، كأنما ينفذ بعينيه الثاقبتين إلى داخلي في سكوته المدروس، ليزيد ذلك من شعوري بالرهبة، حاولت التماسك أمامه، ورمشت بجفني في توترٍ حين قطع حاجز الصمت اللحظي ليسألني في خفوت تشوبه الصرامة:
-أنتِ ماذا تريدين بالضبط؟

سددت له نظرة متحدية، كأني أرفض محاولته لقمعي، فقال:
-هيا أعطيكِ الحرية للكلام.
نفضت يدي محاولة المناص من قبضته المحكمة، لم أنجح في الإفلات منه، فاستسلمت لئلا أبدو ضعيفة رغم تأكده من عدم قدرتي على مجابهته، وأخبرته:
-حسنًا، لو كنت أنا الزعيم لعاملت الرجال والنساء على حد السواء، لا فرق بينهما، خاصة حين يصل الأمر إلى العنف البدني المُفضي للموت..

شعرت بارتخاء أصابعه، فتمكنت من استعادة ذراعي، وأكملت وهو لا يزال ينظر إلي بغموضٍ:
-أنت تريد أن تكون إمبراطوريتك قوية، غير مزعزعة، كيف تضمن حدوث ذلك وأعمدة منظومتك مهتزة من داخلها؟!
استمر على سكونه المريب فتشجعت للمضي قدمًا في الحديث، وأوضحت له مستخدمة يدي في الإشارة:.

-مثل الخادمة المسكينة، حين اعترفت بخطئها، فلو كانت تضمن وقوفك إلى جوارها لما خانتك، وكثيرات سيفعلن إن أتيحت لهن الفرصة للتخلص من أزواجهن، لن يكترثن مُطلقًا بانهيار عالمك هذا.
شاب وجهه التفكير العميق، استشعرت اتخاذه لما نطق به فاهي على محمل الجد، لذا لعبت على هذه الجزئية بترديدي المؤكد:
-أنت لا تعلم ما يدور في عقول النساء حين يصل الأمر للخيانة والإيذاء، قد يفعلن ما يفوق المتوقع بكثير.

استطرد معقبًا على حديثي في لمحة من السخرية:
-يبدو أنكِ تجيدين قراءة المستقبل.
تجاوزت عن نبرته الهازئة، وقلت بمنطقية بحتة:
-أنا فقط أضع التوقعات بناءً على ما أراه من وقائع حقيقية، لذا إن كنت تريد العمل بنصيحتي، فعليك أن تعيد النظر فيما يفعله رجالك.
هممتُ بالتحرك بعد أن أنهيت كلامي؛ لكنه اعترض طريقي بجسده، مما أجبرني على الارتداد خطوة للخلف، سلط فيجو كامل نظراته علي متسائلًا في ملامح غير مقروءة:.

-وماذا عنكِ؟
زويت ما بين حاجبي في تعجبٍ، فسألني بوضوحٍ:
-هل ستقدمين على خيانتي مثلهن؟
بادلته السؤال بآخر، وبشكلٍ مباشر ونزق:
-أي نوع من الخيانة تقصد؟

أصابني شيء من عدم الارتياح بعد سؤالي الأخير، ليتني تريثتُ قليلًا في انتقاء المناسب من الكلمات قبل أن أفوه به، إذ ربما تلعب برأسه الظنون، ويعتقد في الأمر الآخر الذي حتمًا استحوذ على تفكيره؛ أن انغمس في المحرمات مع غيره، يبدو أن توقعي كان في محله، فقد انقلبت سِحنته بشكلٍ واضح، وخاطبني في لهجة أفزعتني قبل أن أجد يده تطوق عنقي فجأة بقساوةٍ:
-لن تنالي الرحمة إن أقدمتِ على ذلك.

انحشرت أنفاسي في حلقي، وسعلت متأثرة بقبضته المؤلمة على حنجرتي، ألقيت ما بيدي من ثيابٍ على الأرضية، ووضعت كلتا قبضتي على يده الخانقة لعنقي محاولة إزاحتها وأنا أرجوه:
-توقف، أنا اختنق.
زاد من ضغطه على مجرى الهواء، كأنما يتعمد قطعه لأعاني أكثر، وهو لا يزال يحذرني بغير هوادةٍ:
-سأقطعك إربًا قبل أن أفصل رأسك عن جسدك، وستكوني الأخيرة بعد أن أفني أحبائك أمام عينيكِ.

أكدت عليه وقد بات من العسير علي التنفس بسهولة:
-لن أفعل، صدقني
نهج صدري بقوة، وأنا بالكاد أقاتل لأخبره:
-أنا أقدس الزواج، ولا أخون، مُطلقًا.
دفعني من رقبتي بخشونةٍ للخلف، قبل أن يفلت قبضته، ثم رفع سبابته في وجهي ينذرني لمرة ثانية في وجهٍ غاضب للغاية:
-هذا تحذيري الشفهي لكِ، إن شككت للحظة في هذه المسألة لن أخبرك بما سأفعله بكِ.

هززت رأسي بهزات متتالية مؤكدة له استجابتي الكاملة لتهديده الصريح، دون أن أنطق، وضعت يدي على عنقي أفرك موضع الألم القاسي، وكلي يرتجف بشدة، حدجني فيجو بنظرة مميتة قبل أن يتركني في مكاني وينصرف. انهرت جاثية على ركبتي وأنا أعنف نفسي:
-ما هذا الغباء الذي قمت به لتوي؟

طفرت الدموع من محجري في تلاحقٍ، خاصة أني استحضرت استرساله السابق عن خيانة والدته له مع أبي، شهقت في جزعٍ أكبر، وانطلقت ألوم رعونتي غير المدروسة:
-كيف أتهور واختبره في مسألة كهذه؟
ضربت على رأسي بكفي يدي، وتابعت عتابي اللاذع:
-لا أظنه سيأمن لي بعد ذلك.
دفنت وجهي بين كفي وصوت نهنهات بكائي يرتفع، أخذت أقول في تحسرٍ:
-يا إلهي، أنا لم أؤذِ نفسي فقط، وإنما جعلت أمي وشقيقتي في موضع التهديد.

عجزت عن التفكير كليًا، ورحتُ أردد في ندمٍ شديد:
-اللعنة، لقد أفسدت حياتهما مرتين!

كنت في أمس الحاجة لاستعادة شعور الأمان من جديد، وللأسف بات ذلك متعذرًا طوال الأيام اللاحقة التي تلت صدامي الأخير مع فيجو، كان يتجنبني بشكلٍ صريح منفر، كأنما يرفض اللقاء بي في أي وقت؛ حيث تجاهل الحديث معي، ولو بكلام عابر مقتضب، فأصبح يأتي متأخرًا، وينهض مُبكرًا قبل أن أستيقظ من نومي. كنت استشعر قدومه من رائحة دخان التبغ المنبعثة من ثيابه، وكذلك رائحة الخمر المختلطة بأشياءٍ أخرى لم أرغب في تخمين مصدرها.

حافظت على جمودي وأنا إلى جواره في الفراش، ادعي استغراقي في النوم، ثم أشعر بأنفاسه تنتظم بعد لحظاتٍ من تمدده على جانبه، لاستسلم بعد إجهادٍ للنوم في خوفٍ وارتعاب. كم رجوت وجود أمي معي، فربما أفادتني بنصائحها في موقفٍ كهذا، بالطبع لم أجرؤ على طلب الاتصال بها أو بشقيقتي، كنت أخاف أن يصب جام غضبه على واحدة منهما عن طريق لوكاس، خاصة أنه كان لصيقًا بهما. حتى عمي مكسيم ارتعدت من فكرة اللجوء إليه، فربما جاءت ردة الفعل غير مبشرة، لهذا اكتفيت بالعقاب الصامت الذي اتلقاه إلى أن يتم الصفح عني.

أصبحت أغلب الوقت أمكث بمفردي، لا أحادث أحدًا، ولا أحد يُحادثني، كنت سجينة القصر، نعم أتجول بين أروقته في حرية محددة، حتى الخدم أصبحوا كالآلات في تعاملهم معي، وفضلت أن يكون ذلك الحاجز مقامًا من أجل حماية الضعفاء منهم.

في ذلك النهار، كان الجو لطيفًا، فخرجت إلى الحديقة لأجلس بها، نفضة قوية سيطرت على جسدي عندما جاء فيجو إلي في غير موعده. انكمشت على نفسي ونظراته القاسية ترتكز علي وهو يدنو من مجلسي، انقبضت أناملي على مسندي الأريكة، وسألته في صوت مرتعش:
-هل هناك خطبٌ ما؟
وقف قبالته بهيبته الطاغية، فاستجمعت نفسي وسألته مرة أخرى وأنا أنهض من مكاني برجفاتٍ متعاقبة:
-ما الأمر؟

نظر إلي مليًا قبل أن يتكلم أخيرًا بما جعل قلبي ينقبض:
-لقد تزوج لوكاس بشقيقتك آن.
لحظة من الذهول سيطرت علي، بالكاد تخطيتها لأسأله محاولة التأكد مما سمعت:
-أنت تمزح؟
لم يعلق، وراح يُطالعني بثبات مريب، جعلني أغرق في المزيد من الذعر، رددت عليه في صوتٍ لاهث مملوء بالرجاء:
-أخبرني من فضلك، أهذه كذبة جديدة منك لإحزاني؟
تلبكت، وأصبحت أطرافي ترتعش بشدة، تقدمت ناحيته قائلة في ارتجافٍ:
-حسنًا، أنت نجحت في ذلك.

مددت يدي لأضعها على صدره، وخاطبته في صوتٍ يوشك على البكاء تأثرًا:
-أنا نادمة على ما قلت سابقًا، كنت غبية، لا أعي ما أقول، أردت حينها استفزازك فقط.

صمت، وأبقى على صمته ليضاعف من إحراق روحي، فبدت اللحظات طويلة، ثقيلة، لا تمضي، والنسمات المنعشة تحولت إلى شيء خانق، يجثم على الصدر ويقبضه. وضع يده على كفي الملامس لصدره، شعرت بقبضته تلف أصابعي في ضمة متحكمة، ظلت نظراتي متعلقة بعينيه، إلى أن جاءت كلماته كوخز وتدٍ خشبي في القلب بقسوة منزوع الرحمة منها حين أكد لي:
-لقد فعلها، وتلا عهود الزواج...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة