رواية غوى بعصيانه قلبي الجزء الثاني للكاتبة نهال مصطفى الفصل السادس والعشرون
كل الإحتمالات تقول أنني على مشارف النهاية من حياة لم أحصد منها إلا الخسائر.
ظننت أن العُمر انتهى عند مروري بكل الخيبات القاتلة لآمال المرء في أن ينجو من جديد.
بتُ أجلس على طاولتي بالمقهى المفضل بالنسبة لي احتسي قهوتي الدافئة منتظرة قدوم الموت، الوحيد الذي يستحق أن ننتظره لأنه لن يخلف وعده أبدًا حتى وأن جعلني انتظر طويلًا، فهو آتٍ لا محالة.
وبعد أن تعثر وشاح قلبي بمسمار أهداب عينيك الساحرة بالحب الذي كتبت لأجله كثيرًا ؛ واكتشفت أني لم أكتب إلا إليك. ولم يحفر سن قلمي إلا حبك بداخلي بحجة أن يكتب.
جعلتني اتمرد عن كل سلبيات الزمان واندفعت لعندك مُعلنة:
-أن المرء مهما صادف بمحطات العُمر يمكنه طيّ ماضٍ سحيق من الأسى، في ظل ضحكة نعرفها وتعرفنا.
والآن. لا رغبة لي بالعالم ولم أعد انتظر الموت، يكفيني أن أموت عشقًا تحت جناحك كل ليلة.
لا ينبض القلب إلا لعاصٍ.
#حياة المصري
#نهال مصطفى.
-عينك متنزلش عن بيت هاشم. أنت سامع!
بنبرة يملأها الذعر والإضطراب، أردف عاصي جملته الأخيرة وهو يتحدث مع شخص ما بالهاتف ويلقي عليه جُملة أوامره. اقتربت حياة على مضض وربتت على كتفه بدون إلقاء أي كلمة إضافية. لم يلتفت إليها بل أجرى مكالمة هاتفية أخيرة و قال بضيق: -يسري ؛ في أي أخبار عندك!
يسري برتابة: -للأسف معاليك، قلبت اسكندرية شبر شبر، مفيش أثر.
-الأرض متشقتش وبلعتها يا يسري! اتصرف.
جهر غاضبًا بجملته الأخيرة فاستقبلها يسري بطاعة:
-هتصرف. هتصرف يا عاصي بيه.
انضمت لهم شمس متسائلة: -مفيش جديد عن عالية!
هزت حياة رأسها يمينًا ويسارًا بيأسٍ حتى وجه عاصي حديثه إليها: -فين تميم!
-خرج. ومقالكش راح فين، حاولت ألحقه بس معرفتش.
جاءت نوران تركض من أعلى بخوف يتقاذف من ملامحها: -مفيش خبر عن مراد لقى عالية ولا لسه!
فتدخلت حياة مقترحة: -عاصي كلمه، شوف لو وصل لحاجة.
رد بحدة: -هو السبب في كل المصايب دي. بس أفوقله.
حياة بهدوء: -مش وقته الكلام ده يا عاصي، نلاقي عالية وكل حاجة هتتحل. لو سمحت كلمه.
رد بفتور: -مش وقته يا حياة. هكلم تميم أشوفه فين.
جاء كريم راكضًا وهو يقفل المكالمة مع أحد زملائه: -أنا كلمت واحد صاحبي باباه في الداخليه، وقال هيتصرف لحد ما ينفع نتحرك قانوني.
-تمام يا كريم.
قال عاصي كلمته باهتمام قبل أن تميل حياة على كفته إثر إصابتها بالدوار المفاجئ فالتفت إليها بلهفة: -مالك؟
ردت بوهن: -دوخة بس، أنا كويسة متشغلش بالك.
ضمها إليه متجهًا ناحية أقرب مقعد: -طيب تعالي اقعدي.
جاءت شمس إليها وجلست بجوارها وسألتها: -أخدتي أدويتك النهاردة.
رفعت عيونها بتثاقلٍ: -نسيت يا شمس.
تأفف عاصي باختناق ثم نادى على سيدة بصوته الرخيم فجاءت تركض: -اوامرك يا عاصي بيه!
-هاتي أدوية حياة من فوق، وأعملي لها حاجة تاكلها.
فتدخلت شمس قائلة: -روحي هاتي الدواء يا سيدة وأنا هعملها أكل وكوباية كزبرة دافية للدوخة دي.
استغلت نوران فرصة انشغال أختها مع حياة واقتربت من كريم هامسة: -عايزاك...
تمتم بحذر: -هستناكي بره.
بالسيارة
-أنتَ قلت كده لعبلة في ساعة غضب ولا. مراد، أنت تعرف أيه؟
أردفت سوزان جملتها بتردد بعد جولة طويلة من الصمت على أذان مراد الجالس بجوارها والذي لم يكف عن إجراء المكالمات الهاتفية. ترك الهاتف من يده بتردد وقال: -بخصوص أيه؟
ردت على الفور: -بخصوص عالية. مراد، عبلة وراها أيه!
انكمشت ملامح مراد وتمددت بتوتر حتى قال: -لا عادي، دي كانت لحظة غضب. المهم دلوقتي نلاقي عالية.
رمقته سوزان بعدم تصديق خاصة عندما لاحظت هروبه وانشغاله بالقيادة. ساد الصمت بينهم لدقائق معدودة حتى شرعت سوزان في سرد قصتها بدون أي مقدمات بعد ما أخذت سيجارة من علبته واشعلت وقود ماضيها: - أنا وعبلة كُنا صحاب من زمان. اتعرفت عليها في النادي كانت بتيجي مع عاصي التمرين، كنت متجوزة عِز الدين وأنا عندي 17 سنة. معرفش دخلت حياتي بسرعة رهيبة، كنا كل يوم مع بعض حتى لما بقيت حامل هي بعدها باسبوع جات تقولي أنها كمان حامل.
ألقى مراد نظرة تعجب على تلك السيدة المنغمسة في حقول الماضي ثم قال مجاريًا: -وبعدين!
أخذت نفسًا طويلًا من لفافة التبغ ثم قالت: -اتفقنا نسافر أمريكا نولد هناك. وقتها سمعت بخبر وفاة جوزي. كنت متعلقة بيه أوي وده كان سبب إني أولد قبل ميعادي. حالتي الصحية اتدهورت ومحدش وقف جمبي غير عبلة، والنتيجة أن البنت اتولدت ضعيفة جدا وكله أكد أنها مش هتعيش،.
انخرطت العبرات على وجنتها ولكنها مازالت محافظة على ثباتها ثم أكملت: -أول ما فوقت طلبت أشوفها وأرضعها. ودي كانت أول وأخر مرة احضن فيها بنتي وبعد كده جات الممرضة قالت لي أنها ماتت. مستحملتش الصدمة ودخلت في حالة انهيار عصبي، كنت فاقدة الوعي. أملي الوحيد اللي عشت عشانه خلاص راحت هي كمان.
دار مراد مقود السيارة هو يفكر في المغزى من وراء فتح سوزان لبوابات الماضي حتى أكملت: -لما فوقت وبدأت اجمع نفسي ملقتش حد معايا، حتى عبلة عرفت أنها مشيت بعد ما دفنت البنت. وعدت سنين طويلة دفنت نفسي في البزنيس والعلاقات المزيفة عشان انسى، لحد اليوم اللي كُنت قاعدة فيه مع عالية.
ألتفت مراد إليها: -حصل أيه؟
بللت حلقها بتردد: -مراد. على أيد عالية في وحمة صغيرة ودي نفس الوحمة اللي كنت في أيد بنتي لما رضعتها. للحظة حسيت أن عالية تبقى بنتي. أنا مش موهومة يا مراد بس بحاول افكر معاك بصوت عالي.
ثم ختمت حديثها بسؤالها الحائر الذي استقر كالسهم في رأس مراد: -عالية بنت عبلة ولا أنا بعلق نفسي بأمل على الفاضي؟
تجوب الغرفة ذهابًا وايابًا كمن فقد عقله، تهذي بكلمات غير مفهومة ولكنها مسموعة حتى توقفت في منتصف الغُرفة صارخة:
-معقولة! عالية هتكون راحت فين يا فريد.
انعكس الكذب من مقلتيه وهو يفك أزرار قميصه بملل:
-هتكون راحت فين! بصراحة غريبة، هي مش عيلة صغيرة عشان تتوه!
حدجته بشكٍ: -تفتكر ملعوب من عاصي؟ بس هيعمل كده ليه! لالا في حاجة غلط!
مط فريد شفته بتحير مزيف وهو يحك رأسه ثم قال: -عبلة، ابن أختك كان قصده أيه لما قال أنها مش بنتك!
تأففت عبلة بضيق كمن ينفض غُبار الماضي عن رأسه: -وده وقته يا فريد! تلاقيه بيقول أي كلام وخلاص.
رد بعدم تصديق: -بس مراد مكنش بيقول أي كلام يا عبلة.
-يووه يا فريد، أنا دماغي مش رايقة لكل ده، المهم عندي أعرف بنتي راحت فين.
أمسك فريد بذراعها بإصرار: -عبلة أنتِ مخبية عني أيه، قوليلي محدش هيساعدك غيري!
حدجته باستحقار: -أنت نسيت أنا مين ولا أيه! أنا عبلة المحلاوي يا فريد. يعني لو عايزة حاجة هعملها مهما كانت هي أيه!
حاول تهدئة الأمر بينهم ثم قال: -مالك قفشتي كده ليه! أنا قصدي أساعدك بس.
جذبت ذراعها بقوة وهي ترمقه بعينيها الحادة: -ساعد نفسك بس.
-تمام. بس افتكري إنك رفضتي أيدي اللي اتمدت لك.
نزعت الحلق من أذنها وهي تراقب تحركاته في المرأة حتى ألتفت متسائلة بثبات: -فريد، أنت متعرفش عالية فين. مش كده؟
عودة إلى القصر
-كريم أنت مقتنع بحوار خطف عالية ده!
توارت نوران خلف أحدى الأشجار وهي تردف سؤالها الأخير على مسامع كريم التي تقاسم الحيرة معالم وجهه. زفر بضيق ثم قال:
-في لغز مش مفهوم يا نوران. في حاجة غلط.
نوران بشك: -حتى عاصي، هادي كده. بصراحة حاسة أنه مخبي حاجة، معقولة واحد بمكانته دي كلها ومش عارف أخته فين!
كريم بتفكير: -بس عاصي هيستفاد أيه لو هو اللي عمل كده؟
أخذت نوران تقضم في أظافرها بتردد: -معرفش، بس أولهم حب يعاقبهم لأنهم عملوا حاجة من وراه. كريم هو عاصي يعرف أن عالية من بنت عبلة، يعني مش أخته؟
انعقد حاجبي كريم باستغراب: -مظنش. حتى ولو عارف ده هيفيد بأيه في اختفاء عالية!
-بحاول افكر معاك. كريم ؛ عاصي وراه لغز كبير ومش هنعرفه غير لما نراقبه.
بد الرفض يحتل معالم وجهه: -لا نوران أنتِ بتهزري! أحنا في أيه ولا أيه؟
-اسمع مني بس، أنت لو راقبت عاصي هنفك اللغز ده.
كريم بتساءل: -نوران. انت عايزة توصلي لأيه؟
-في حاجة في دماغي ولو اتأكدت منها كل الخيوط هتوضح، وهنعرف فين عالية. اسمع كلامي أنت بس وجرب مش هتخسر حاجة، عاصي ده حوار وانا لازم اعرفه.
- حياة اشربي البرتقال عشان سكرك ميهبطش
قالت شمس جُملتها الأخيرة وهي تمد كوب العصير ل حياة بعد تجرعها الأدوية فتفوهت متألمة: -مش قادرة والله يا شمس. كفاية كده.
-اضغطي على نفسك شوية. البيبي محتاج تغذية.
استسلمت حياة لإصرار شمس وأخذت العصير منها وشرعت ف ارتشافه حتى جاءت جيهان من أعلى وهي تحمل حقيبتها الكبيرة:
-لسه مفيش أخبار عن عالية!
ردت شمس باختصار: -ربنا يطمنا عليها.
نادت جيهان على سيدة بنبرة آمرة: -سيدة قوليلهم يحطوا الشُنط دي في العربية.
سيدة بفضول: -على فين يا ست جيهان!
-رايحة لهدير، هنستقر هناك، طبعا مش هسيب بنتي لوحدها دي مهما كانت حامل ولازم أكون معاها وو
تبادلت النظرات الحائرة بين حياة وشمس التي قالت باختناق: -هشوف عاصي. بعد أذنكم.
رمقتها شمس بحنق حتى أردفت جيهان بطريقة متعمدة إغضابها: -هو أنا قلت حاجة غلط عشان تتقمص وتمشي! ماهي بنتي حامل زيها وولادهم هيكونوا أخوات.
طالعتها شمس باختناق ثم قالت: -سيدة فين نوران!
-تلاقيها بتلف ورا كريم ابني.
قالت جيهان جملتها بفظاظة جعلت النيران تتوقد بجوف شمس التي سألتها: -نعم! مال أختي بابنك؟ وبعدين اي بتلف دي! أنا أختي متربية كويس.
-وأنا كنت قلت مش متربية؟ هي بس نسيت تتعلم تبص على أدها، خليها تبعد عن ابني وتعرف مقامها كويس.
شمس بضيق: -لولا أنك ست كبيرة أنا كنت عرفت أرد عليكي.
انصرفت شمس بمجرد انتهائها من جملتها الأخيرة وذهبت لتبحث عن نوران التي وجدتها قادمة من باب الحديقة الخليفة فسألتها بحدة: -كنتِ فين؟
-أبدًا يا شمس كنت بشم هوا.
امتدت أعين شمس للخلف وهي تتفقد المكان حولها باحثة عن شبح طيف كريم فلم تجده فقالت بحزم: -طيب اطلعي أوضتك وركزي ف مذاكرتك، اتفضلي.
علي حدى نهضت جيهان وعلقت حقيبتها بكتفها: -بتحلم بتاعت شبرا!
جاء كريم من الباب الأخر للقصر وهو يراقب الحقائب الخارجة منه: -ماما! أنتِ رايحة فين؟
تحدثت جيهان بنبرة مرتفعة متعمدة أن تصل لأذان نوران وأختها: -كويس أنك جيت. أختك ظبطت لك موضوع دراستك بره. جهز نفسك عشان هتسافر بعد كام يوم.
تجمدت نوران في منتصف الدرج مُتلقية خبر سفره كجمرة ملتهبة سقطت على قلبها ولا تعلم سببها. تلاقت الأعين المحملة بفيض من العتاب حتى قال كريم: -سفر أيه؟ أنا مش هسافر.
ارتفع صوت جيهان صارخة: -يعني أيه! مش بمزاجك واللي بقوله هتنفذه يا كريم.
-بس يا ماما.
ردت بحزم: -كريم. ورقك خلص وجهز نفسك ومش عايزة كلام كتير.
ثم مدت له حقيبتها: -خد شيل دي وتعالى وصلني للمطار.
ركضت نوران لتحتمي بغرفتها وهي تحمل قلبها على كفها وما أن قفلت باب الغُرفة انسكبت دموعها بدون مبرر ولكنه كان شعورًا اشبه بانتزاع الروح. للحظة أحست بفراغ الحياة حولها وأحساس الوحدة القاتلة الذي تعوده إليه من جديد، أجهشت ببكاء مبهمٍ لا تعلم حقيقته فلا يبكي المرء منَّا من فرط أحزان قلبه، بل من فرط يقينهُ بأنَّهُ لا يستحق كل ذلك.
بالمكتب.
- حبيبي وصلت لحاجة.؟
سألته حياة وهي تقترب منه حيث كان واقفًا بجوار مكتبه يطالع هاتفه كل ثانية والأخرى حتى قال بهدوء:
-مستني مكالمة أهو!
-أنتَ عرفت هي فين ومع مين؟
رمى الهاتف من يده على سطح المكتب وقال بتنهيدة: -هعرف. آكيد هعرف، انتِ أحسن دلوقتِ؟
-ربنا يطمنا عليها.
ثم مسكت كفه بحنان وطالعته بعينها اللامعة: -أنا كويسة يا عاصي، متشلش هم. بس نفسي الكابوس ده يخلص وعالية ترجع بالسلامة وارجع أشوفك بتضحك تاني.
هز رأسه بفتور وهو يضم رأسها لصدره مقبلًا جبينها: -كله هيبقى تمام. اطلعي ارتاحي أنتِ عشان متتعبيش.
رفضت بإصرار: -لأ يا عاصي انا هفضل هنا معاك مش هروح مكان.
-حياة بلاش عناد، لو مش خايفة على نفسك خافي على ابني هو أمانتك دلوقتي. معنديش استعداد أخسركم.
ابتعدت عنه مررت كفها على وجنته بحنانٍ: -وأنا معنديش استعداد اخسرك يا عاصي. طول ما أنتَ تحت عيني أنا مطمنة. أنا ماليش غيرك.
لم يمنحه هاتفه فرصة للرد عليها بسبب رنينه حيث جاءه اتصال يسري فرد عليه متلهفًا: -هاه يا يسري!
-عبلة هانم متحركتش من الفندق. والرجالة اتبعوا الكاميرات وجارٍ تحديد مكان العربية اللي أخدت الهانم.
وهاشم مدكور مظهرش من إمبارح وملهوش وجود فالقاهرة كلها.
عاصي بحدة: -يسري المكالمة الجاية عايز اسمع صوت عالية وإلا هحاسبكم كلكم نفر نفر.
قفل الهاتف بمجرد ما أردف جملته حتى تدخلت حياة معترضة: -مش كده يا عاصي.
رد بغضب: -عشان أغبية. مأكد عليهم عينهم متغفلش عن عالية، لسه حسابهم معايا.
-طيب ممكن تهدأ. هعملك لمون.
-لا ماليش نفس.
أصرت بإلحاح: -عاصي هعملك لمون يهديك عشان تعرف تفكر. مش هتأخر.
انصرفت حياة من مكتبه متجهة ناحية المطبخ فجاءته رسالة نصية مكتوب بها: - أختك معانا، عايزين 200 ألف وتيجي لوحدك على العنوان ده
فتح الموقع المرسل إليه فوجده على بُعد 50 كيلومتر منه، فتح خزانة نقوده وأخرج المبلغ بدون تفكير ثم وضع سلاحه بحزام بنطاله وارتدى سترته السوداء وخرج على الفور مفارقًا مكتبه.
ركضت شمس خلفه ولكنها لم تلحق خطوته الواسعة حتى زفرت بفشل وهي تضرب كف على الأخر: -هات العواقب سليمة يا رب.
خرجت حياة من المطبخ حاملة بيدها كوب العصير فاصطدمت بشمس فسألتها: -واقفة هنا ليه.
ردت شمس بقلق: -عاصي خد في وشه وخرج على طول!
انكمشت ملامح حياة بخوفٍ: -ازاي؟
ثم تركت العصير لشمس قبل ان تندفع راكضة للخارج: -خدي ده معلش هلحقه.
خرجت حياة كالمجنونة تبحث عنه وتركض في دهليز القصر وهي تتمتم باسمه حتى لمحت ضوء سيارته يفارق البوابة فهرولت مسرعة نحوه. وعلى الجهة الأخرى يقف عاصي أمام صندوق الأمن الخاص بالقصر:.
-تفتحوا عيونكم كويس، فاهمين!
-فاهمين معاليك.
دور عاصي سيارته مرة آخرى وانطلق على الفور ففشل مُخطط حياة في اللحاق به حتى وقفت على أعتاب البوابة صارخة باسمه: -عاصي استنى.
تقدم إليها الحارس: -اي خدمة يا هانم.
تجاهلت حياة سؤاله وخرجت من باب البوابة الجانبي بذعر يملأها فلحق بها الحارس: -ياهانم ما ينفعش كده لو سمحتِ ادخلي.
-مقالش رايح فين؟
اخرجت هاتفها وشرعت في مهاتفة عاصي ولكنها لم تجد ردًا فأتاها صوت الحارس: -ياهانم اتفضلي جوه. وقفتك كده متصحش.
لم يكمل الحارس جملته ففوجئ بمن يضربه على رأسه ويكتم أنفاس حياة بالمخدر ويدفعها بكل قوته داخل السيارة التي تنظره، فانطلقت على الفور بمجرد نجاح خطتهم.
بالقُرب من القصر صف مراد سيارته بناءً على طلب سوزان التي ظلت صامته أغلب الوقت، ومراد الذي انغمس في ربط الخيوط ببعضها والتفكير فيما سردته والشكوك الدائرة حول خالته التي تخفي الكثير والكثير من الأسرار، أردفت سوزان بتوسل: -مراد نزلني هنا.
-مش هتيجي القصر؟
-لا معلش، هحاول أعمل اتصالاتي.
مراد بتساءل: -طيب عربيتك.
ردت بفتور: -مش قادرة أسوق. ابعتها مع أي حد.
ثم فتحت باب السيارة متأهبة للذهاب: -لو عرفت حاجة قول لي.
في تلك اللحظة ركن تميم سيارته عندما لمح سيارة مراد. هبط متجهًا إليه بحماس:
-وصلت لحاجة؟
أجابه بيأس: -للأسف يا تميم. أنا هتجنن مين له مصلحة في كده؟
فرغ تميم غضبه بضربة قوية كانت من نصيب سقف السيارة: -أحنا مش هنقف نتفرج كده؟
ختم جملته بصوت رنين هاتفه باتصال من شمس فزفر باختناق وكتم الصوت وقال: -أنا مش قادر أرد!
-يمكن خبر عن عالية رد...
تميم بملل: -كده كده هندخل جوه تعالى.
تأهب تميم أن يغادر فتوقف إثر رنين هاتف مراد الذي تفقد هاتفه بلهفة وهو يقول: -ده رقم مجهول.
تميم بلهفة: -مستنى أيه. رد بسرعة.
فتح مراد مكبر الصوت فأتاه صوت رجولي خشن وهو يقول: -مراد بيه لو عايز تشوف مراتك تاني تيجي على العنوان ده ومعاك ورق أرض السخنة.
صرخ مراد: -اسمع صوت مراتي الأول.
-معندش تعليمات بكده. ساعتين وتكون في العنوان ده. ومش هأكد عليك تيجي لوحدك من غير حراسة ولا حكومة وإلا مش هتشوف مراتك تاني.
قفل الرجل المكالمة ثم تلتها رسالة نصية بها الموقع المحدد للمقابلة، هرول تميم ليجلس بالمقعد المجاور صارخًا: -يالا يا مراد مفيش وقت.
فكر مراد لبرهة: -معقولة يكون ممدوح علم هو اللي عمل كدا؟
-مين الراجل ده وايه حكايته.
دور مراد سيارته مستعدًا للانطلاق: -هقول لك في الطريق...
بالقصر.
تقف شمس على مراجل من خاصة بعد ما أخبرها الحارس بما وقع على حياة. فأخذت تتحرك كالتائه. ضربت الأرض بقدمها بقلة حيلة: -كلمي عاصي يا سيدة.
سيدة بخوف: -تليفونه مقفول يا ست شمس.
ثم غمغمت بعتب: -أيه خرجك لوحدك الساعة دي بس يا ست حياة؟
جاءت نوران تركض من أعلى بعد ما أحضرت هاتفها: -كريم كمان مش بيرد.
أوضحت سيدة: -سي كريم راح يوصل ست جيهان المطار.
نوران بعجز: -هنعمل أيه يا شمس!
أخذت تجوب الأرض ذهابًا وإيابًا حتى خرجت بفكرة وهي تتحدث مع الحارس الممسك برأسه: -مفيش حل تاني. تعالى ننزل نعمل بلاغ في القسم.
تحمست نوران للاقتراح: -أعملي كده يا شمس وانا هفضل ورا تميم وعاصي لحد ما يردوا.
شمس بسرعة: -يالا مفيش وقت.
توقف الحارس قائلًا: -بس الرجالة طلعوا ورا العربية اللي خطفت الهانم ويارب يلحقوها.
اعترضت شمس بخوف: -وأنا مش هقعد حاطة إيدي على خدي مستنية! لازم الشرطة تتصرف.
أقفُ على أطراف أصابعي في غُرفة مظلمة كظلام عُمري أحاولُ أن أَرى ما لا يُرى. افتش على يومٍ خالٍ من العناء. كم بقي من الطّريق والبكاء يا ترى؟
بالغرفة التي لم يتسلل إليها إلا ضوء القمر المنعكس من بين فتحات النافذة الخشبية دخلت عالية في نوبة من الخوف والقلق وهي تتملص محاولة فك كفيها المُكبل بالحبال. حتى فشلت جميع محاولاتها فنادت صارخة على أمل أن يجدها أحد:
-أنتوا مين وأنا هنا بعمل أيه.
ضربت الأرض بقدميها المكبلة بعجز مهللة بتسبيحات صاحب الحوت حتى ختمت يائسها: -يارب ساعدني.
لحظات قليلة وأصدر الباب المقفول عليها صريرًا مسموعًا فهلّ منه القليل من الرجال اللذين افسحوا مجالًا لدخول قائدهم. امتدت أنظار عالية للخارجة لاكتشاف هوية ذلك المجهول الذي قام باحتجازها. فقالت:
-أنت مين وعايز مني أيه.
دخل الرجل المريب وأشار لرجاله أن ينتظروه بالخارج ثم اقترب من عالية وقال بمكر:.
-بجد بجد أنا بعتذر على قلة ذوق الهمج دول! هما مش عارفين أنتِ مين ولا أيه؟
ثم جر أحد المقاعد الخشبية وجلس مقابلها: -اتمنى تقبلي اعتذاري يا مدام عالية.
علامات من الحيرة والغموض كانت تحوم حوله، فكررت عالية سؤالها بنبرة أحد: -أنت عايز مني أيه؟
-بصراحة مش منك، بس أنتِ الأداة اللي هتحقق مطالب البُص الكبير وأنا عبد المأمور.
عالية باستغراب: -أنا مش فاهمة.
-بصراحة يا مدام عالية في أرض مهمة جوزك رافض يبيعها وأنتِ الورقة الرابحة للأرض دي.
انكمشت ملامحها بتوتر: -مراد حُر! هو البيع بقا بالبلطجة الأيام دي؟
-أنتِ صح. بس كمان التجارة شطارة، والغاية تبرر الوسيلة!
خرجت عالية عن صمتها: -أنتوا مستحيل تكونوا بني آدميين.
رد المجهول بهدوء: -على فكرة أنتِ كمان مستفيدة. هنشوف مين بيحبك أكتر جوزك البيشمهندس مراد المحلاوي. ولا عاصي بيه اللي هيتنازل عن توكيل كارتييه .
ثم وثب قائمًا بهدوء: -على كل حال أنتِ منورانا ومحدش هيقدر يزعلك ألا ولووو. بس مظنش. بلاش نسبق الأحداث. اتعشيتي؟
رمقته عالية بأسهم الخسة والاحتقار: -أنت مش طبيعي،!
هنا صوت تحطيم الزجاج ملأ المكان مما جعل ذلك المجهول يصرخ مستغيثًا بقلق: -أنتوا ياللي بره!
وصل عاصي إلى الموقع المحدد له من قِبل المجهول الذي يعلم بحقيقة تلاعبه واستغلاله للأمر ولكنه ذهب ليعلمه درسًا لم ينساه، صف سيارته جنبًا بأحد المناطق الخالية من المارة وأمسك هاتفه فوجده مقفولًا بسبب نفاذ بطاريته، تأفف بضيق وهو يبحث عن الشاحن: -مش وقتك خالص.
وصل الهاتف بالكهرباء السيارة ثم أخرج سلاحه وشد أجزاءه وعاد ليفتح هاتفه. دقائق معدودة وأضاءت شاشة الهاتف مرة أخرى. بحث عن أخر رقم أرسل له الرسالة وهاتفه قائلًا: -أنا وصلت!
اتاه صوت البلطجي: -خلصانة يا منجهه.
قفل هاتفه وتفقد كشافات السيارة المركونة على مسافة معقولة منه. عاد الاتصال بأحد الرجال الجالسون بداخلها وقال بنبرة آمرة: -فتحوا عينيكم. عايز العيال دي واحد واحد، عشان يتعلموا أزاي يلعبوا مع عاصي دويدار.
في تلك اللحظة داعبت الأضواء عينه لأحد سيارات النقل الواقفة أمامه. فقال بحذرٍ:
-حاوطوهم بهدوء فاهمين. مش عايز رصاصة واحدة تتضرب ألا للضرورة.
اقترب منه أحد الرجال السوابق مستندًا على سيارته بهمجية: -محسوبك نفادي. فين الفلوس؟
وضع عاصي الهاتف بجانبه وقال بثبات: -فين أختي؟
حك الرجل ذقنه وقال: -ماهو عدم المؤاخذة مفيش أختك. بس في القُطة دي!
امتدت أنظار عاصي نحو السيارة الأخرى التي أشار إليها الرجل فاتسع بؤبؤ عينيه عندما سُلطت الأضواء عليها فظهرت ملامحها وهي تستغيث به تحت سطو السلاح الأبيض للمجرم وتقول:
-ألحقني يا عاصي.
لم تكن مجرد صدمة بل إنها ارتطام العقل بالأسفلت،
ليست عاصفة لكنه صوت قلبه. ما هبط من سيارته ليتقدم خطوتين ففوجئي بأربعة من الرجال يحاوطوه من كل صوب وحدب فصرخت باسمه:
-خلي بالك يا عاصي.
دار لرئيسهم وحاول أن يُجاريه: -مراتي بتعمل أيه هنا!
نفادي وهو يقترب منه: -الولا اللي كاان قاصدك من البيت عشان يتأكد أنك جاي لوحدك، لقى السنيورة في وشه، محبش يجي فاضي. بس أي رأيك في المفاجأة دي!
جرت جمرت الغضب بعروقه وهو يكبح غضبه: -أنت عارف اللي بتعمله ده هيوديك ورا الشمس!
ضحك نفادي ساخرًا: -أحنا كده كده وراها يابيه. مش فارقة، فين الفلوس.
-قوله يسيبها الأول.
ختم جملته بصوت صرخة استغاثة من صوت حياة عندما لامس مصل السلاح الأبيض عنقها فانخلع قلبه بلهفة: -هديك الفلوس خلاص بس يسيبها.
فتح نفادي مطوته بوجه عاصي ليستعجله: -أخلص يا بيه خلينا نخلصوا الطلعة المهببة دي.
ألقى نظرة سريعة ليطمئن على حياته ثم قال: -في العربية هتلاقي الفلوس. سيبها بقا.
سار نفادي ناحية السيارة وكان أحد رجال عاصي يحوم بحذر في الظلام حتى تلاقت أعينه بعيني عاصي. أخرج نفاذي النقود من السيارة وفحصهم سريعًا ثم قال:
-مش هعد من وراك يا باشا.
ثم هز رأسه للرجل كي يترك حياة التي اندفعت ملهوفة إليه لترمم خوفها وذعرها بين يديه. في اللحظة التي احتمت بذراعيه حملها متواريًا خلف سيارته أثناء اقتحام رجاله على البلطجية وهم يركضون للهروب. واستقرار الرصاصة بساق نفادي الذي سقط صارخًا.
دارت معركة طاحنة انتصروا فيها رجال عاصي لامتلاكهم أسلحة نارية جعلتهم يستسلمون للحياة بدلًا من الموت.
كانت متعلقة بملابسه دافنة وجهها في صدره مستندة بظهرها على مُؤخرة السيارة وجسده الذي يحاوطها كُليًا كعصفورة تحتمي بقفصها من صخب الحياة. الوطن الآمن ليس بشرط ان يكون منزلًا بأربع جدران. ربما ينحصر بمساحة صغيرة جدًا حدودها كتفين.
ما هدأ صوت الرصاص فأمسك بيدها الباردة وفتح باب سيارته وشدها بداخلها. ثم قفل الباب عليها واتجه نحو الرجال المطأطئين الرأس بالأرض وصرخ بيهم:.
-أنتوا قبل ما تلعبوا عرفتوا مين هو عاصي دويدار!
توسل إليه نفادي بصوت المتألم: -حقك علينا يا بيه. اللي ما يعرفك يجهلك. ااااه، مراتك عندك أيه مفيهاش خدش بس سيبنا نروح.
تقدم أحد رجال عاصي حاملًا حقيبة النقود: -اتفضل معاليك.
أشار إليه برأسه أن يضعهم بالسيارة ثم هتف أمرًا: -العيال دي سوابق وأنا مش هوسخ أيدي بدمهم.
ابتلع ما تبقى بحلقه من كلمات عندما رست أنظاره على الرجل الذي كان ممسكًا بحياة مصوبًا السلاح على عنقها، فغلت الدماء بعروقه وشد المسدس من الحارس بغتة وبدون مقدمات استقرت الرصاصة بكتف الرجل وهو يصرخ متأملًا ويرتطم بالأرض. فبرر عاصي فعلته:
-الأيد اللي تتمد على مراتي تستاهل تقطع.
ثم أعطى السلاح للرجل وقال بوجه مكفهر: -سلموهم للشرطة...
شرع رجاله بتنفيذ اوامره بينما عنه عاد إليها فوجدها ترتجف وتنكمش بمقعدها. ما جلس بجوارها ولم يقفل الباب فهبط سريعًا متجهًا إليها. فتح الباب من ناحيتها وانزلها برفق وهو يمسح على وجنتها لتهدأ:
-حياة محصلش حاجة أنا كويس وأنت كمان كويسة.
انفجرت باكية وهي تعانقه وتطفئ لوعة خوفها بحضنه: -كنت خايفة عليك أوي.
ربت على ظهرها بحنو وضم جسدها المرتجف إليه: -محصلش حاجة الحمد لله. أنا جمبك أهو، اطمني.
شرعت في اتخاذ انفاسها بهدوء وهي تجفف عبراتها وسألته: -أنت كويس طيب؟
-أنا زي القرد. خلاص بقا مش بحب أشوف دموعك دي. في حاجة بتوجعك؟
هزت رأسها بالنفي: -يالا نمشي من هنا.
فتح لها باب السيارة لتصعد ثم دار لجهة القيادة فألتفت لهاتفه الذي لم يكف عن الرنين وأخذ يتفقد الأرقام ويقول: -تليفونات كتير من البيت. هكلمهم اطمنهم.
كاد أن يعاود الاتصال بنوران ولكن جاءه الهاتف المنتظر، فأجاب بلهفة: -نجيب وصلت لحاجة.؟
-عالية هانم معانا يا عاصي بيه. وكله تمام!
-اديهاني بسرعة.
تحمست حياة بفرحة وهي تهمس له: -عالية؟
ما أيد سؤالها برأسها فقالت بشوق: -افتح المايك ياعاصي.
أخذت عالية بكفها المرتعش الهاتف من الرجل الذي اقتحم مزرعة هاشم مدكور بالأسكندرية وتسلل إليها بحذر وأخبرها بأنه تابع لأخيها عاصي دويدار. تفوهت بذعر ونبرة صوتها المنخفضة:
-ألووو.
رد بحماس: -عالية. أنتِ كويسة. فيكي حاجة.
ردت بخفوت: -لا. انا كويسة.
فقالت حياة بفرحة: -الحمد لله أنك بخير يا حبيبتي. يالا تعالي مستنينك.
جففت عالية عبراتها وقال بهمس: -حاضر.
عاصي: -عالية حبيبتي أدي التليفون لنجيب.
وضع نجيب الهاتف على أذنه: -أوامر معاليك يا باشا.
-اسمعني يا نجيب ما تعرفش حد أنك لقيت عالية، هبعت لك العنوان اللي توصلها فيه، وهتلاقيني هناك مستنيك عشان نشوف هنربي الأوباش دول أزاي.
اتسع بؤبؤ عيني حياة بذهول من تصرفه الغامض: -عاصي! أنت بتعمل أيه؟
وصل مُراد وتميم إلى المكان المُحدد لهم. فتح مراد تابلوه السيارة وأخرج من الملف. فأوقفه تميم:
-مراد أنت متأكد! مش يمكن اشتغالة؟
رد بقلة حيلة: -عندك حل تاني؟
رن هاتفه في هذه اللحظه فأتاه صوت الرجل آمرًا: -مش قولت لك تيجي لوحدك؟ أنت مش عايز تشوف مراتك تاني ولا أيه!
عنفه مراد قائلًا: -أنت اللي ليك عندي الورق وبس. سلمني مراتي اسلمك الورق.
-أنت كده بتتحدانا!
كاد مراد ان ينفجر بوجهه. فأخذ تميم منه الهاتف وقال: -ياريس أنت ليك الورق وأحنا لينا أختنا. سلم واستلم.
فكر الرجل قليلًا ثم قال: -طيب انزلوا من العربية!
هتف مراد بغل: -عالية فين؟ وأنت فين أنا مش شايف حد!
قال الرجل باختصار: -قلت انزلوا من العربية.
نفذ الاثنان أوامره على مضض. نزل تميم ثم مراد الذي شغل كشافات سيارته ووقف الثنائي أمام السيارة منتظرين ذلك الرجل الغامض. زفر مراد بقلق:
-مش مطمن وحاسس بلوش.
-استنى بس يمكن بيطمنوا أن مفيش حكومة في المكان.
-هنشوف!
من وسط العتمة بدأ ظهور الرجال ذوي البنية العملاقة واحد وراء الأخر فتحمحم تميم هامسًا:
-أنت شايف ال أنا شايفه؟
عقد مراد ذراعيه أمام صدره وهز رأسه قائلًا: -شايف.
حملق تميم ببنية الرجال المريبة وقال بقلق: -أنا حاسس اننا هنضرب!
-حاسس بس؟
-طيب هنعمل أيه يا مراد؟
عقد مراد حاجبيه قائلًا: -نضرب المهم منجريش!
ثم خشن مراد صوته هامسًا: - أخر مرة لعبت بوكس أمتى؟
تميم محاولًا أن يتذكر: -من 13 سنة. بس نفسي أرجع ألعب تاني.
-على بركة الله.
هز مراد رأسه متأكدًا من مصيرهم المنتظر حتى جهر بصوته قائلًا:
-كابتين! أومال فين مراتي؟
رد الرجل بفظاظة: -فين الملف!
رفع مراد الملف: -اهو. فين مراتي بقا!
تقدم الرجل كي يأخذ منه الملف ولكنه رفض قطعًا وقال: -مفيش ملف قبل ما اطمن على مراتي.
جهر الرجل بعنفوان: -أنا جاي هنا أخد الملف وياقاتل يا مقتول.
طافت عيني تميم بتردد وقال: -دي فيها كلام بردو! قاتل طبعًا. مراد هات كده الملف ده.
أخذ الملف من مراد وخبأه برابطة ذراعه المعلق برقبته وتبادل النظرات مع مراد الذي أعلن قائلًا: -فاكر السبينينك كيك!
-طبعا فاكر...
حيث باغته بركلة دائرة قوية على وجهه ثم استقرت قدمه في منطقة أسفل الحزام في جزء أقل من الثانية دارت المعركة بينهم وهجم الرجال على كل من مراد وتميم وكل منهما استخدم مهاراته الرياضية في الدفاع عن النفس.
بالقصر
لم يبق أحد لدي كي أخسره، لذا من الآن ف أنا متفرغة للبكاء.
بعد مرور الكثير من الدقائق الصامتة التي تجاهلت فيها نوران الرد على اسئلة كريم العديد والتي ردت نيابة عنها سيدة فقال كريم وهو يجلس بالقرب من نوران:
-سيدة ما تجيبيلي حاجة اشربها ولا أكلها. أي حاجة يعني
.
رمقته سيدة بعتب: -ومين له نفس يأكل ولا يشرب بس!
ألقى نظرة سريعة على نوران التي تتحاشى النظر إليه وقال بنفاذ صبر: -ياستي أنا هأكل واشرب! دا انتِ غريبة أوي يا سيدة.
نهضت سيدة من جوارهم على مضض وهي تتمتم: -أحنا في أيه ولا أيه بس!
تجلس نوران واضعة ساق فوق الأخرى دافنة وجهها بالهاتف حتى فاض صبر كريم منها. فركل قدمها بخفة: -ايه الوش الخشب ده؟
عارضته بضيق: -أيه ده! انت بتعمل ايه؟
-أنتِ اللي بتعملي ايه؟ وأيه مالك!
ردت باختصار: -مفيش.
-لا في.
-الله! قُلت مفيش.
قالت جملتها ثم عادت لتنظر مرة آخرى بالهاتف فسحبه منها بعندٍ: -على فكرة أنا مش هسافر ولا أروح حتة.
تمدت ابتسامتها بدون إدراك ولكنها فاقت لنفسها في آخر لحظة وتعمدت اللامبالاة: -هاه. وأنا مالي.
-حبيت أعرفك بس إني قاعد على قلبگ.
أحمر وجهها بخجل فجاءت شمس في تلك اللحظة لتنقذها من فخ كريم المُربك، ما رأتها فاندفعت نحوها بلهفة: -شمس طمنيني.
ردت بكلل: -عملنا محضر ولسه مفيش أخبار.
ثم طافت عينيها باحثة: -محدش لسه جيه؟
ردت نوران بيأس: -لسه. كلهم موبايلاتهم جرس ومحدش بيرد.
ركض كريم إليهم وهو يفتح مكبر الصوت بلهفة: -عاصي أنت فين!
ثم جذبت شمس الهاتف منه وقالت بخوف: -عاصي في حد خطف حياه لازم.
فقاطعها عاصي قائلًا: -حياة معايا يا شمس. اطمنوا.
نوران بقلق: -طيب وعالية!
رد عاصي باختصار وهو يدخل المصعد الكهربي: -ان شاء الله خير.
نوران بضيق: -ايوة يعني لقيتها ولا لسه!
-خير يا نوران.
تأففت نوران بضيق من طريقته: -أنا هشحت منك الكلام! ماله ده!
شد كريم الهاتف منها وقال: -طيب انت فين يا عاصي.
رد براحة لا توصف في صوته: -في فندق كده. حياة بس عايزة تريح أعصابها! شمس خلي بالك من البنات.
تبدلت ملامحهم لعلامات استفهام متراقصة على وجوههم حتى اندفعت نوران بسخرية: -نعم! كويس فاكر عندك بنات.
انفجرت حياة بضحكتها التي كتمها عاصي بيده كي لا ينكشف أمرهم. ف تدخل كريم على الفور: -طيب طيب يا عاصي. انجوي أنت وحياة وأحنا هنا هنتجنن على عالية...
قفل عاصي الهاتف بسرعة في تلك اللحظة انفتح باب المصعد أمام الطابق المقصود، فنظرت له حياة بعتب: -أنت مستفز على فكرة.
-أهو اللي جيه في بالي.
ساد الصمت للحظات بين الثلاثة حتى قطعته نوران بيقين: -شوفتوا! والله ما برتاحلو. بني آدم غريب مريب ملهوش مسكة. يعني أخته مخطوفة وده رايح فندق عشان يهدي اعصابه. أنا عقلي مش مستوعب.
أيد كريم كلامها: -فعلًا في حاجة غلط!
نوران بثقة: -أنا متأكدة أنه يعرف مكان عالية ومخبي! يا جماعة ده مش صوت ولا تصرف واحد عاقل اخته مخطوفة!
تنهدت شمس بحيرة: -في حاجة مش مفهومة فعلًا! بس هيستفاد أيه لو عارف مكان عالية!
نوران بضيق: -بني آدم غريب تتوقعي منه أي حاجة! مش انا قلت لك يا كريم. عشان تبقى تصدقني بعد كده.
حدجتها شمس بنظرات استكشافية: -قولتِ له أيه بقا!
بد التوتر على الثنائي لوقوعهم بفخ شمس الذي لا يرحم، فتحجج كريم وهو ينظر في هاتفه: -هطلع بره احاول اطمن على مراد. تقريبا في مشكلة في الشبكة.
تخلى كريم عن نوران وفر هاربًا من نظرات شمس الحادة التي توجهت إلى أختها: -في أيه بينك وبين كريم يا نوران!
تحججت نوران هاربة من استجواب اختها: -هاااه. هيكون ايه عادي يعني، هروح اطمن على البنات حرام أطفال ملهمش ذنب في عمايل أبوهم العجيبة دي.
وصل عاصي إلى غرفتهم الخاصة بالفندق فهمست له: -عالية قُدامها كتير عشان توصل!
نزع سترته السوداء وهو يجيبها: -يعني ساعتين تلاتة بالكتير.
أومأت بالإيجاب ثم اتجهت إلى السرير وضمت ساقيها إلى صدرها وشدت الغطاء فوقها وأخذت تنفخ في كفيها لتستمد من انفاسها الدفء. فطالعها بتسائل: -الجو برد؟
-أوي.
قام بتشغيل المدفأة الكهربائية ثم نزع حذائه واقترب منها: -وماقولتيش ليه!
-أقول أيه؟
-أنك سقعانة.
هزت كتفيها بعدم اهتمام: -عادي.
جلس بقُربها ثم جذبها لحضنه بحُب: -هو أيه اللي عادي! وأنا هنا بعمل أيه؟
رفعت عيونها إليه: -هتدفيني!
رفع حاجبه قائلًا: -جربيني.
مدت ذراعها حول خصره مستندة برأسها على صدرها مستسلمة لحضنه الذي لم تجد في دفئه. أخذها بين يده ومدد الثنائي جسدهم ليرتاحا بعد مرور يومًا قاسيًا عليهم. أخذت تتملص بين يديه تلتمس منه الدفء وتتعمد دس قدميها به كي يهدأ سقيعهم. فهمس لها وهو يمسح على شعرها:
-للدرجة دي بردانة!
أومأت بالإيجاب وهي تلتصق به أكثر فلم يجد حلًا سوى اندلاع نيران الحب بجسدها ربما تنجح في إخماد برودة جسدها. تبدل الوضع من محاذاتها لسماء ومطر يعلوها. بات غيث حبه يبلل تُربتها بدفء لم تعهده من قبل حتى زال سقيع جسدها وتحول لنيران تلتهمهم معًا فغمغمت بترجى: -عاصي أنا بقيت تمام.
تقابلت أعينهم بفيض من الاسئلة الخاصة بعالمهم. فتمتمت: -معلش تعبانة شوية. وآكيد أنت كمان. ممم.
تفهم حالة الذعر التي تعرضت لها ثم قبل جبينها بقبلة طويلة وفارقها وهو يقول بهدوء: -تمام، تصبحي على خير.
طبعت قُبلة خفيفة على كتفه قبل أن تنام عليه وقالت: -بحبك.
اكتفى بضمها إليه واحتواء كفها الراسي فوق بطنه وسألها: -مش هتحكي لي أي خرجك بره القصر؟
-قلقت عليك. عارفة إني غلطت بس انت اللي خرجت من غيري وانا كنت زي المجنونة عليك. متزعلش مني. انا مكنتش أعرف أن كل ده هيحصل...
لاحظت انغلاق عينيه وغوصه في عالم الأحلام، فنادت عليه: -عاصي؟
اصدر إيماءة خافتة وهو تحت سطو سلطان النعاس، فقال بيأس: -وأنت من أهله يا حبيبي!
بالغردقة
مع مطلع فجر نفس الليلة يحوم الرجلين حول منزلهم ليستكشفوا هوية الرجال المحيطة به. ومن هم؟ ومن أين جاءوا؟ تسلل رشيد بخفة لينقض فوق ظهر الرجل ويكتم أنفاسه على غفلة منه:
-أنتوا مين؟
حاول الرجل أن يتخلص من هجوم رشيد المفاجئ حتى حمله عكسًا وألقاه بالأرض رافعًا سلاحه بوجهه مهددًا: -أنت اللي مين؟
فسقطت العصاة التي بيد يونس فوق رأس الحارس فوقع مرتطمًا بالأرض، فمد يده لأخيه ليساعده على النهوض ولكنه فؤجئ بفوهة المسدس متوجهة إلى رأسه:
-ولا حركة!
دار يونس إلى الرجل وسأله: -أنتوا تبع مين؟
-أنتوا اللي مين؟ حرامية؟
نهض رشيد بحماس: -أحنا مش حرامية، أحنا أصحاب البيت ده!
رد الرجل بحدة: -أحنا هنا بأمر عاصي بيه. وده بيت مدام حياة مراته!
نظر كل منهما للأخر حتى تفوه يونس مثرثرًا: -بقول لك ده بيت أبويا. قنديل المصري!