قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية غوى بعصيانه قلبي الجزء الثاني للكاتبة نهال مصطفى الفصل السابع والعشرون

رواية غوى بعصيانه قلبي الجزء الثاني للكاتبة نهال مصطفى الفصل السابع والعشرون

رواية غوى بعصيانه قلبي الجزء الثاني للكاتبة نهال مصطفى الفصل السابع والعشرون

هناك عداء كبير بين الطب والحب...
الطبيب الذي نجح في إجراءِ أخطر العمليات الجراحية بمهارة فائقة، حتى الآن لم ينجح في مداواة قلب عاشق بعد...
-لا ينبض القلب إلا لعاصٍ.

(الجزء الأول من الفصل).

في الفندق.
-عاصي بيه، وصلنا.
رد عاصي بصوت مُفعم بالنوم، منخفض كألا يزعج حوريته النائمة على كتفه. فأكتفى بكلمة واحدة:
-نازلك.
ترك هاتفه على الكومود بجواره. وسحب ذراعه بحذرٍ وهو يشد الغطاء فوقها. فتمسكت بيده بدون وعي ولكن قلبها المتيقظ له دائمًا وسألته:
-عاصي، رايح فين؟
مسح على شعرها برفق وقال بخفوت: -شوية وراجع لك. نامي.

تسلل من جوارها وأخذ يقفل في أزرار قميصه بهدوء حتى انتهى من ارتداء ملابسه الموضوعة على مسند الأريكة. قفل نور الأباجورة وأخذ هاتفه ومفاتيحه ونزل لاستقبال الفندق.
ما تَعلمته من أيامي الصعبة هو أنها سَتمضي مهما وقفت أمامها بقلة حيلة وعجزٍ. و أن القوة وحدها هي رَد الفعل الذي لا نَدم بعده مهما كانت عاقبته...
وأن الأيام المُعتمه مهما طالت فلابد من شروق الشمس عليها.

وإلى أن يأتي ذلك اليوم، فلم أعد أنا تلك الفتاة اللينة الرخوة التي تنحني أمام رياح الصعاب، أن حلت فلن تَجدني أحتضن نفسي خائفة قرب سريري في الظلام بل سأكون في استقبالها بكامل حُلتي وأحسن ضيافتها وأقفل الباب خلفها بصمت. أصبحت لست بشبح يهابه قلبي، لقد أعتدتها وأعتدت قسوتها.
تجلس عالية على طرف المقعد تفرك كفيها وقدميها ببعضهم حتى رفعت عينيها لنجيب وقال بتردد: -ممكن الموبايل! عايزة أعمل مكالمة.

نجيب الواقف بمسافة كبيرة جوارها، رد برسمية: -آسف، معنديش أوامر أن حضرتك تكلمي حد.
تأففت عالية بضيق وغمغمت باعتراض: -ماله ده كمان!
فُتح باب المصعد فظهر منه عاصي، فاندفعت نحوه كاندفاع عطشان على بحيرة الماء حتى ارتمت بين ذراعيه كمن وجد مأواه. استقبل أخته بلهفة وقبل رأسها وأخذ يربت على ظهرها بحنان:
-عالية أنتِ كويسة؟
دفنت رأسها بصدره، وحركتها يمينًا ويسارًا، وكسا البكاء نبرتها: -كنت خايفة أوي يا عاصي.

أخذ يمسح على رأسها بشفقة حتى قال: -حقك هيرجع من ولاد دول.
ابتعدت برأسها عنه وسألته: -مين دول يا عاصي؟
ربت على كتفيها وقال: -متشغليش بالك. اطلعي ارتاحي دلوقتِ.
فأردفت بتوجس: -عاصي. مراد فين، عايزة أكلمه اطمنه، آكيد بيدور عليا.
رد بنبرة انتقام: -منا عايزة يدور. ولا هو فالح في الخطف وبس!
تبدلت نظراتها المرتجفة إلى نظرات إعتذار حتى قالت باستحياء:
-متزعلش مني، أنا آسف. بس.

-مش وقته الكلام ده يا عالية. البيبي بخير تحبي نروح لدكتور!
تجمدت الدماء بعروقها وصمتت طويلًا لتبتلع عواقب كذبتها، فاكتفت بأصدار إيماءة خافتة وقالت: -مفيش داعي.
-طيب يا حبيبتي.
ثم أشار لأحد عاملي الفندق وبأشارة منه فهم الرجل مهمته بتوصيلها لغرفتها. أما عن عاصي فأشار لنجيب أن يتبعه لأحد مقاعد الفندق. جلس الاثنان يتبادلان الأحاديث المتوارية بينهم حتى حسم عاصي الحوار الطويل بينهم قائلًا:
-عرفت هتعمل أيه!

رد بطاعة: -تمام معاليك.
فوثب عاصي قائمًا وقال: -كل الفلوس اللي هتحتاجها هتكون في حسابك الصبح، المهم يا نجيب مش عايز دليل واحد علينا، مفهوم؟
وقف نجيب هو الآخر وسأله: -بس هاشم مدكور من أمتى بيتحالف مع ممدوح علم! وهيستفيدوا أيه من خطف الهانم، أنا مش مرتاح للموضوع ده كله.
أجابه عاصي بثبات: -واضح أنه تحالف أعداء. نفذ أنت بس وبلغني أول بأول. اطلع ارتاح والصبح هنفوق لولاد ال دول.
-تمام معاليك.

تحرك نجيب إلى استقبال الفندق. واتجه عاصي إلى المصعد، وهو يرد على هاتفه الذي لم يتوقف رنينه، فأجاب متأففًا:
-أيوة!
-آسف معاليك إني بتكلم في وقت زي ده، بس ياباشا في اتنين هنا وبيقولوا أن ده بيت أبوهم قنديل المصري.
جاءه صوت الحارس محملًا بالإعتذار، فاستقبل عاصي رسالته بحماس: -متأكد! مش اتنين بيشتغلوكم!
-نتصرف معاهم ازاي معاليك؟

فُتح باب المصعد الكهربي أمام الطابق المقصود، فجهر عاصي قائلًا: -خليهم يدخلو البيت. وعاملوهم كويس. وعايزك تتأكد من الصور المتعلقة إنهم نفس الاتنين اللي معاك. والصبح هقول لك تعمل معاهم أيه.
-اللي تأمر بيه يا باشا.

تحرك عاصي ناحية غُرفة عالية أولًا ولكنه تردد في إزعاجها وتراجع في آخر لحظة عائدًا إلى غُرفته. دلف بداخلها ونزع حذائه وتجرد من ملابسه بهدوء كي لا يزعجها. فاقترب منها ووجد الغطاء بالأرض وباتت تتوسط فراشهم كطفلة شقية تمرح في نومها. اشعل النور الخافت وتناول اللحاف المتكوم أرضًا ولكنه توقف إثر انعكاس الأضواء الصفراء على تفاصيلها العارية. وشعرها المتدلي المُحدث أكبر فتنة بقلبه.

مدد بجوارها وأخذ يداعب شعرها بشوق يملأه ولهيب من المشاعر المتوقة إليها. هي أعمق من أن يستحقها شخصٌ سطحي، أكثر حنيّةً من أن يعرف أهميتها شخصٌ قاسٍ، تشبه الكم الهائل من الأحلام التي لا تتحقق في حياة المرء إلا مرةً واحدة...
تدلى ليشفى عليل روحه منها، نثر عطر قُبلاته فوقها بحنان زاخر. تململت في فراشها بخمول متمتمة باسمه: -عاصي!
-قومي.
-في حاجة؟
غمغم بلهفة: -وحشتيني.

ابتسمت بحب وهي تنهض مرغمة من نومها واستندت على كتفه. وسألته: -عالية وصلت؟
-ااه جات، وسبتها عشان تنام.
تمتمت بصوت مفعم بالنوم: -الحمد لله أنها جات بالسلامة.
كاد أن يبدأ جولة جديدة من احتياجات قلبه لتروي مرارة يومه. فباغتته بسبابتها ترسو على شفتيه وتقول بدلال: -هاخد شاور وأجيلك.
-متتأخريش.
أجابته بدلالٍ: -مش هتأخر.

نهضت من جواره واتجهت إلى المرحاض لتنهي مهمتها. أما عنه فنهض وأخذ يتجول بالغُرفة وينثر على جسده الكيثر من العطر ويعد تصفيف شعره. فالتفت إلى هاتفه المُضيء. ف رد على المتصل قائلًا:
-عملت ايه؟
رد الحارس قائلًا: -عاصي بيه، نفادي مصمم يقابلك.
-عايز أيه ده كمان!
-بيقول كلام مهم مش هيقولوا غير لمعاليك. اعمل أيه؟ اسلمهم للشرطة ولا تسمعه الأول.

فكر للحظة ثم قال: -طيب، الصبح هاته على القصر. نشوف وراه أيه ده كمان.
-أوامرك يا باشا.

جلس عاصي على المقعد الخشبي وظل يتابع بعض الأخبار ويرسل العديد من الأوامر والتعلميات ل رجاله. وأخذ يفكر طويلًا فيما سيفعله وكيف سيتخلص من أعدائه في ضربة واحدة. مرت قرابة النصف ساعة فقفله هاتفه ورماه بملل واتجه ناحية الثلاجة وأخرج منها زجاجة عصير وشرع في ارتشافها. في تلك اللحظة خرجت حياة من المرحاض تلف المنشفة البيضاء حول جسدها الممتلىء قليلًا. وبروز بطنها الأشبه بانتفاخ بسيط. أخذت تصفف شعرها الجاف من المياه وهي تراقب نظراته وتحركاته بالمرآة. حتى تقابلت أعينهم فقالت بإعجاب وهي تتأمل تفاصيل جسده الرياضي:.

-أيه الحلاوة دي!
ألقى الزجاجة الفارغة بالسلة. واقترب منها وضمها من الخلف وأخذ يدس قُبلاته المتلهبة بكتفها وجدار عنقها بهيام سلب عقله. ظلت تراوغ تحت يده بآهات الشوق والحب ثم قالت بشجن:
-لما فتحت عيني. فضلت ابص في الوشوش حوليا بدور عليك فيهم، لأول مرة أعرف يعني أي خوف من وقت ما قابلتك. أنا آسفة كان لازم اسمع كلامك ومخرجش من البيت.

ثم دارت تحته يده وأكملت بكلمات محشوة بأنين اللوعة وهي تعانقه: -عمري ما اتخليت إن ممكن يجي اليوم اللي أكون ملهوفة فيه على حد، زي ما أنا هتجنن عليك كده. أنت متعرفش وأنا بين أيديك ببقا طايرة أزاي.

‏رغم برودة الشتاء بالخارج إلا أن الاثنين تحولا لجمرتين في موقد الحب نشيعُ دفء هذه الحكاية على الساهرين. ظل يتراجع الثنائي بخطوات متناسقة ومازال صامتًا يذوب في بحر حبها العميق لم يُجب على شهد كلماتها الأ بالقُبل. ثم ترجته بقلبها الملتاع بأن يكف عن تلك المشاعر الجنونية التي عصفت بكيانها هامسه باسمه بنبرة يعلمها جيدًا:
-عاصي.

حملها في تلك اللحظة بخفة كي ينال من حبها مثلما يروق له ولكنه في تلك اللحظة تأوه متوجعًا: -اااه.
فاقت من غيبوبة عشقها وسألته بقلق: -مالك.؟ ايه بيوجعك.
تغلفت نظراته بالمكر وهو يمسك بكتفه: -شد عضل في كتفي يا حياة.
-طيب اقعد ارتاح. ده بيجي لك كتير؟
جز على فكيه: -لا دي أول مرة.
-طيب اجيب لك فوطة سخنة. ممكن اخدت برد ولا حاجة. طيب هو في الفندق آكيد في دكتور.

مدد جسده على الفراش مستندًا على الوسادة خلفه بآهات مزيفة: -هبقى كويس دلوقتِ، غطيني بس لما أنام وادفى هيفك.
شدت اللحاف فوقه بقلق ورفعت الوسادة من خلفه وقالت: -نام كويس طيب، بلاش النومة دي.
-هنام أهو، غطيني بس.
حُقن وجهها بدماء الغضب: -عاصي، أنت هتنام وتسيبني!
أحتج قائلًا: -ااه يا حبيبتي مش قادر. كتفي قافش أوي.
زفرت بامتعاض ينبعث من بين فكيها المنطبقة بغلٍ: -طيب، نام يا عاصي. نام.

-متزعليش. غصب عني الوجع صعب أوي.
أحكمت قفل المنشفة حول جسدها ولبت طلبه ثم قفلت الأنوار وقبلت رأسه قائلة بغضبٍ دفين لا سلامتك يا حبيبي ثم عادت مرة آخرى لتأخذ حمامًا باردًا ربما ينجح في إخماد تلك النيران التي أشعلها رجل الحب بجسدها...

فجرًا.
‏ كنت أحزن فحسب، الآن أحزن وأخاف، وليس هنالك أرعب من أن تواجه شعورين ليس بمقدور أي منهما إزالة الآخر.
تحاول شمس مرارًا وتكرارًا الاتصال بتميم ولكن دون جدوى. وكذلك كريم لم يتوقف عن البحث و مهاتفة أخيه، أقبل نحو مجلسهم بآسف:
-مفيش خبر، كأنهم اتبخروا. أنا بدأت أقلق.
قفلت نوران كتاب الفيزياء بيدها وقالت بحيرة: -مش طبيعي كلهم يختفوا كده.

أمسكت شمس برأسها من شدة الصداع: -أنا مابقتش عارفة أفكر. ولا اتصرف، في عالية ولا تميم ومراد. ولا حياة وعاصي، هما لو عايزين يجننوني مش هيعملوا كل ده.
تنهد كريم محاولًا تهدئتها: -إن شاء الله خير. اهدوا بس.

ختم صوت رنين الجرس جملة كريم الأخيرة. فركضوا جميعهم ناحية الباب الذي فتحه كريم فوجد أمامه مراد وتميم وهم في حالة لا توصف. حيث ذراع مراد الملتف بالشاش والمعلق برقبته. وعين تميم المتورمة. وساقه التي تؤلمه كثيرًا أثناء الحركة. فشهقت شمس مفزوعة وهي تندفع نحوهم وتفحص عين تميم:
-مين عمل فيكم كده؟
استند تميم على يد شمس وقال متأوهًا: -شوية بلطجية خدونا على خوانة. بس أسالي مراد أحنا علمنا عليهم كلهم.

ردت شمس بنبرة مبطنة بالسخرية: -ااه ماهو باين أهو.
ضحك مراد متأوهًا من ألم ذراعه: -طبعا علمنا عليهم. هو جوزك بس اللي بيحب يدخل الخناقات بوشه.
نوران بتلقائية: -ما تقولوا أنكم اضربتوا! أيه الافلام دي كلها!
حدجها تميم: -أنتِ منمتيش ليه لحد دلوقتِ! روحي نامي.
تدخل مراد وهو ينزع رابطة ذراعه ويحركه ببطء: -مفيش أخبار عن عالية؟

تدخلت نوران باندفاع: -يووه دا أنت متأخر أوي حصلت كوارث وأنتوا ببتروقوا. بص هو بنسبة كبيرة عاصي وصل لعالية بس مش عايز يقولنا.
مراد بلهفة: -عرفتي منين؟
ردت بثقة: -لا دا استنتاج عادي. أصلووو.
فقاطعتها شمس بحدة: -خلاص يا نوران.
كادت نوران أن تجادلها ولكن صوت رنين الهاتف المنزلي جمع الحشد حوله. رد كريم بلهفة: -الو.
حتى صاح فارحًا: -عالية. أنتِ كويسة؟

مجرد أن سمع اسمها خفق قلبه بلهفة وهو يشد السماعة من يد أخيه: -عالية. انت فين، طمنيني. انت كويسة!
انبثقت الدموع من طرف عينيها وهي تضغط على الهاتف الخاص بالفندق بقوة: -مراد. كلمتك كتير مش بترد.
رد مشغوفًا: -عالية، أنتِ فين هجيلك. انا هتجنن عليكي من الصبح. فيكي حاجة طمنيني.
مسحت عبراتها المتساقطة: -انا مع عاصي متقلقش.
احتدت نبرته بإصرار: -فين يا عالية!

توسلت إليه: -عاصي رافض أعرف حد مكاننا. مراد متزعلش مني.
تدخل تميم متسائلًا: -في ايه يامراد. طمني عليها هات أكلمها.
تجاهل مراد طلب تميم وقال بحدة: -أنتِ فاكرة مش هعرف أوصل لك! بس اشتري خاطري يا عالية وقولي أنت فين.
سالت الدموع من عينيها وهي تتفوه بنبرة متحشرجة: -أنا محتاجة لك أوي يا مراد.
حن قلبه لأجلها وقال متوسلًا: -عالية، أنا هتجنن عليكِ. قوليلي أنت فين. ،.

فكرت لبرهة لم يتوقف فيها مراد عن التوسل إليها حتى طاوعته قائلة: -أحنا في فندق في زايد.
رمى الهاتف في يد تميم وهرول مسرعًا ليُغادر القصر حاول ان يلحق به كريم ولكن بدون فائدة. تنهدت نوران بارتياح: -ااه لو تسمعوا لنوران بس. مش أنا قلت عاصي ده هو رأس الأفعى الكبيرة. ومش مرتحاله!
نهرتها شمس بحدة: -نوران. عيب كده!
شوحت بيدها وهي تغادر و تجمجم سرًا: -أنا هيجي لي الضغط من ورا حوارات البيت ده.

ثم جهرت: -سلامتك يا تيمو، تعيش وتاكل غيرها.
زفرت شمس بضيق: -شايف!
تميم بهدوء: -خلاص يا شمس، يالا عشان أنا كمان محتاج ارتاح.

‏أبحثُ عنّي، ولا أجدني. لقد أدركتُ، في إلهامٍ خاطفٍ، أنّني لا اتوهج إلا معك ولأجلك.

وصل مُراد الفندق في تمام الساعة السادسة والنصف صباحًا. كانت عالية قد غفت على مسند الأريكة من شدة التعب. فتحت عينيها على صوت رنين جرس الباب الواقف خلفه مراد والذي اضطر إلى حجز غرفة إضافية كي يُتاح له دخوله للفندق. وثبت عالية بتكاسل متناسية أمر مراد تمامًا وخمنت بقدوم عاصي للاطمئنان عليها. فتحت الباب وما أن وجدته أمامها صرخت متعلقة بعنقه وهي تهتف باسمه باكية:
-مرااد!

انزاح شعورها الحارق بتنهيدة قوية رُدت في صدره وهو يحملها قليلًا لترتفع قدميها عن الأرض متشبثة ملابسه. غرزت أصابعها العشرة بجاكته وقالت باكية:
-كان كابوس. كابوس صعب أوي يا مراد.
‏في لحظةٍ ما، لابدّ للتعب أن ينجلي وأن يستريح القلب وينعم في شعور آمن ومطمئن. دلف إلى الغرفة ببطء ولازالت معلقه بحضنه كالطفلة التي عثرت على والدها للتو. ركل الباب بقدمه وطوق خصرها بقوة وهو يملأ صدره من رائحتها:.

-كنت هتجنن عليكِ. كنت ماشي من غير عقل، تايه محتاج حد يقول لي أعمل أيه وأروح فين.
أمطرت سُحب حزنها على كتفه: -كنت أكتر حد بفكر فيه. ومحتاجة اطمنه عليا. كنت حاسة أن جوايا فاضي وروحي خايفة محدش هيطمنها غيرك، مراد متبعدنيش عنك.
جلس مراد على الأريكة واتخذت عالية من رجليه مقعدًا، تراقصت النظرات والتنهيدات بينهم حتى استسلمت واسترخت على كتفه نائمة. أخذ يغازل خصلات شعرها بحب ثم قال:.

-عالية احكي لي كل ده حصل ازاي.
استقر كفها الأيمن فوق قلبه النابض بحبها وأجابته: -صدقني مش فاكرة أي حاجة غير إني فتحت عيني على مكان كله ضلمة واصوات رجالة مرعبة. وكلاب. بس كان عندي إيمان ويقين أن ربنا معايا وعمره ما هيسيبني.
طبع قبلة طويلة على جبينها: -طيب قوليلي عرفتي مين دول!
-لا. بس عاصي عرف.

كان كل شيء به يبض حتى حنجرته التي تخاطبها لم تخلُ من نبرة اللهفة. أخذ يضرب الأرض بقدمه بثبات تحت سطو تفكير، فتمتمت: -عاصي قال هيتصرف. متشغلش بالك.
-مشغلش بالي ازاي يا عالية؟ أنتِ مراتي وفي حمايتي وأنا مسئول عنك وعن أي حد يفكر يتعرض لك.
-أنا فاهمة والله. بس ممكن نأجل كلام في الموضوع ده. خليك معايا وبس.

ضمها إليه أكثر وقال: -أنا معاكي وعمري ما هسيبك يا عالية. لازم تعرفي كده كويس، أنتِ ليه مكنتيش عايزة تعرفيني مكانك!
-عاصي عايز كده ولو جيه هنا ولقاك هتحصل مصيبة، بس مهنتش عليا وكنت هتجنن عشان أوصلك.
‏يحدث أن يخرج شعورك ‏من عينيك ‏لأن داخلك لم يعد
‏يتّسع حمله. انخفضت نبرتها وهي تسأله: -وحشتك!
تنهد بصوت مسموع وهو يمسك بذقنها ويرفع وجهها إليه: -أنا كنت ضايع من غيرك.

ثم فرغ العديد من القبلات بداخل كفها وبيده الأخرى التي تناسى وجعها لملم شعرها جنبًا ليملأ بأنفاسه الجانب الأخر، فانخفضت جفونها بخجل وهي يستشعر ضربات قلبها المتسارعة ويعترف:
-عالية أنا ما صدقت لقيتك، ومش هسمح لمخلوق يبعدني عنك.
تقلصت المسافة بينهم وهي تخبره بنبرة خافته ولكنها كانت كافية لاشعال النيران بصدره: -وأنا كمان ما صدقت لقيتك.

رد على جملتها بقُبلتين متتاليتين حتى طرق باب قلبها مستأذنًا: -آسف معرفتش احميكي. بس سيبيلي نفسك وهنسيكي كل اللي حصلك النهاردة
غمغمت بتمنع: -مراد لازم تمشي. وجودك هيعمل مشكلة.

كان لسانها يحمل الرفض وعينيها تترجاه أن يعانقنها كي يُمارسا الحُب كله في ليلةٍ واحِدة، أن يسدل سِتار القُبلاتِ على روحها المرتعدة للأبد. لبى نداء عينيها وحملها بين يديه واتجه إلى فراشها الذي لم تجلس عليه قط. فتوسلت إليه: -طيب حبة صُغيرين وتمشي.
رد تحت مُخدر سُكرها: -حاضر. لما تقوليلي أمشي همشي.

استسلمت السمكة لصيادها بكامل إرادتها. تحول حبه لأول مرة كسائل على جسدها كمن اعتصر الورد فوقه. تتلوى السمكة على شط الهوى محاولة بائسة منها في البحث عن الماء التي تروي روحها. فصرحت بأهات ملتاعة وهي تدفعه للوراء بترجي: -مراد امشي عشان خاطري.

رفع رأسه الغارقة في شعرها وملامحها ولكنها اندفعت وهي تعانقه بلهفة يملأها الحنين على الإستحياء كغصن ف الحديقة يحاول أن يُثمر عن جميع الأغصان حتى يدنو من الكرسي الخشبي أمامه. بأنين العشق: -لا متبعدش، خليك.

وقع بغرام تلك اللحظة وفزّة العين ولهفة القلب اللي سيطرت على رُوحها جعلته يحبها أكثر مواصلًا الطريق لامتلاكها وإطفاء لهيب النار التي ظلت تأكل في قلبه لساعات طويلة. شكل من أشكال مكاسب الحياة أن تعيش الحب مع من يشبهك...

التاسعة صباحًا
لم تكن أنت الغاية في البدء. لكني وجدتُ فيك ما جعلني أتخلّى عمّا كنت اكتب عنه.
انتهت حياة من إعادة إرتداء ملابسها ورفع شعرها على هيئة ذيل حصان بعد قضائها بقية الليلة بمفردها. ثم عادت إليه لتوقظه بهدوء، بدأت أن تمرر أناملها بين جدائل شعره بدلالٍ منادية باسمه:
-عاصي. ممكن تصحى بقى وكفاية نوم.
شد كفها الذي يعزف على أجراس شعره إلى ثغره وطبع بداخله قُبلة طويلة فتبسمت:.

-صباح الخير. قوم بقا عايز اطمن على عالية ومش عارفة رقم أوضتها.
اعتدل من نومتها بتكاسل: -هي الساعة كام دلوقتِ؟
-الساعة 9. قولي كتفك عامل أيه أحسن؟
طافت عينيه بمكر وهو يتصنع الألم: -ااه كتفي! لسه بيوجعني يا حياة. معرفش أي حصل فجأة.
-تحب نروح لدكتور.
-لا هو هياخد وقته ويفك لوحده.
ثم رفس الغطاء بقدمه ونهض من مكانه متجهًا إلى الطاولة الموضوع فوقها أبريق الماء. ارتشف القليل منه ثم عاد إليها:.

-هاخد شاور وهننزل.
-ماشي، تحب اساعدك.
-لا خليكِ، عشان هدومك والمية.

أخذت تتأمل تفاصيل المنحوتة على يد رسام وهو يتحرك أمامها متجاهلًا النظر إليها ولكنه قرر أن ينتقم لرجولته من تدللها الذي يعيث فسادًا بقلبه النابض بالشوق لها دومًا. أخذت تفرك كفيها باضطراب واضحٍ وتقلصات ببطنها تعلن شوقها إليها الذي بات لا يُحتمل. أحست بالدوار فجأة وانقباض معدتها، فركضت بسرعة مقتحمة الحمام للتتقيء. أخذت تسعل بقوة بالمرحاض وهي تتأوه بألم ظل رفيقًا لها كل صباح.

قفل صنبور المياه، وشد المنشفة التي حاوط بها خصره ومال إليها: -اطلب لك دكتور!
شدت القليل من المناديل الورقية وجففت ثغرها، وتلقى عبراتها بابهامه وهي تميل برأسها على صدره: -لا ده طبيعي. متقلقش.
-طيب تعالى.

حملها بين يديه وعاد إلى الغرفة. أخذت تلتقط أنفاسها بصعوبه حتى هدأت تدريجيًا. تحركت أناملها الرفيعة فوق صدره القوي وهي ترمقه بعيني تتلهفه. كمن يراقب قمر السماء في ليلة باردة والشَوق يلَفَحها، حتى دق قلبها مشتهيًا متى تَنقَضِي المَسافات ويَلِف الحُبُ ثَغرِي فَوق ثَغرِك!
وضعها برفق في منتصف فراشه وسالها باستغراب: -بتبص لي كده ليه!

لم تكن امرأةً هشة، ولن تظن يومًا بأن الحب سيهزمها، انها لستُ من النوع الذي يغلبهُ هواه ولكن الأمر كلهُ أنه هو أمامه تُكسر كل قواعد تمردها. رفعت حاجبه مستغربة: -أنت مش كان كتفتك واجعك؟
اتسعت ابتسامته الماكرة وقال محتجًا: -تلاقيه فك من الميه. أنت كويسة؟
يبدو أنها هضمت أكذوبته بمزاجها وأدركت أنه أراد رد الصاع صاعين متعمدًا اللعب بمشاعرها. كاد أن يفارقها ولكنها أوقفته قائلة:
-عاصي. أنتَ زعلان مني!

-ليه بتقولي كده؟
-شوف أنت؟
تحمحم بخفوت: -اطلب لك حاجة دافية؟
-لا هابقى أخلى سيدة تعملي وصفه من بتوعها.
شرع في ارتداء ملابسه متعمدًا إظهار تفاصيله المغرية لأي فتاة، فما ستفعله بقلب فتاة تحمل بين أحشائها قطعة منه. وضعت كفيها على بطنها وهي تفكر في سبب انعدام اللهفة إليها. وتعمده بتجاهل مشاعرها الفائضة من عينيه، حتى زفرت متأففة بكللٍ، فنظر إليها وهو يطالع طفلته التي غلبتها الحيرة وقال: -مالك؟

انفعلت بنفاذ صبر: -مفيش، ويالا عشان نروح لعالية.
لف الحزام الجلدي حول خصره وقال: -الأوضة اللي قُدامك على طول، روحي وأنا هحصل لك.
ثم توقف وسألته: -أنت هتعمل أيه معاها هي ومراد!
رد متوعدًا: -هطلع عينه ابن جيهان، بس افوقله، وحياة أمه ما هخليه يلمس منها شعرة.
-ليه بس، عاصي اختك بتحبه!
رد باعتراض: -لو فتحت بؤها هديها على دماغها هي كمان.
-ده بجد! انت هتعمل كده؟

أخذ يقفل أزرار أكمامه وهو يقول بحدة: -عشان يخطفها تاني من ورايا ولا كأن ليها أهل. ده أنا ناوي له.
ضربت كف على الآخر قبل أن ترحل: -حرام عليك بجد! ايه ده؟
سارت على مضض وتركت الباب مفتوحًا خلفها. قفزت عالية من نومها بين ذراعي حبيبها صارخة وهي ترجه بخوف: -يا خبر أسود ومنيل، مراد مراد قوم بسرعة.
فتح عينه مصروعًا: -ايه في ايه؟

نهضت بسرعة جنونية وأخذت تلملم ملابسه المبعثرة وأشيائه وتثرثر: -البس بسرعه. عاصي، عاصي بيخبط!
نفذ أوامرها بعجل بدون وعي أو إدراك لما يفعله: -وعاصي جاي هنا يعمل ايه؟
أخذت ترتدي ملابسها بسرعة فائقة: -مراد اصحى، وركز. عاصي واحنا في الفندق.
ثم أخذت تهذي وتلوم نفسها: -أحنا أزاي نمنا كده!
ما فرغت من ارتداء ملابسها لملمت مفاتيحه وهاتفه: -خد دول بسرعة. والجزمة الجزمة.

ثم صرخت مفزوعة وهي تنحني تلملم بقية أشياءه: -مراد، الشراب. المحفظة. اي تاني.
أتاها صوت حياة من الخارج: -عالية أنت لسه نايمة يا حبيبتي!
اتسع بؤبؤ عينيها بقلق يتقاذف منهما: -دي حياة!
ثم أخذت تدفعه للداخل: -مراد، استخبي في الحمام يالا.
عاد مراد لوعيه: -عالية ايه الهبل ده! أحنا ممسوكين ف شقة!
-اشش صوتك صوتك، مراد عشان خاطري ادخل جوه ومتعملش صوت يالا.
ثم صاحت بصوت مرتفع: -أيوة يا حياة. جاية أهو.

تأكدت من اختباء مراد بالحمام ثم اتجهت والخوف يتقاذف بين ثنايا ملامحها وفتحت الباب. حضنتها حياة بحب: -كده بردو تقلقينا عليكي؟
غمغمت عالية بشرود: -حياة.
-الحمدلله أنك بخير يالولي.
ثم جذبتها بعنفوان للداخل حتى نسيت عالية الباب مفتوحًا من إثر الصدمات المتراكمة على رأسها. جلس الفتاتان على السرير وشرعت حياة في مواساتها، ولكن مازالت عالية تحت غيمة شرودها وحالة من التوهان لا توصف. فمسحت حياة على شعرها:.

-مالك يا حبيبتي.؟
في تلك اللحظة انقبضت معدة حياة فوضعت يدها على فمها واندفعت نحو الحمام لتتقيأ وهنا كانت الصدمة الكبرى، أن فرغت ماء جوفها كانت عالية كتجمدة هلى أعتاب الباب، ومراد جالسًا فوق المرحاض. وتيرة من النظرات التي تحمل العديد من الأسئلة، والصمت القاتل الغير مبرر حتى جاء صوت عاصي من الخارج مناديًا:
-عالية!

انخلع قلب عالية وسقط بين قدميها، أما عن مراد فوقف لاستقبال عاصي بجراءة فتدخلت حياة راجية: -مراد بلاش. عاصي مش هيعديها.
ثم ركضت للخارج وجذبت عالية المتسمرة مكانها وقفلت الباب خلفها وهي توبخها: -مش تقولي يا عالية.
حتى اصطدمت بعاصي أمامهم قائلًا: -يالا.
تدخلت حياة وهي تجذبه من يده: -عاصي لحد عالية ما تجهز. تعالى عايزاك.
عاصي باستغراب: -عايزة أيه يا حياة؟

جذبته باصرارٍ: -تعالى بس، موضوع مهم، سيب عالية تخلص لبسها.
نجحت حياة في إخراج عاصي من الغرفة والاشارة لعالية بتخفي أن تُخرج مراد فور ذهابهم. عاد عاصي وحياة إلى غُرفتهم. حيث تنفست عالية الصعداء وهي تفتح الباب لمراد وتتوسل إليه: -مراد، يالا. اخرج بسرعة.
عارضها قائلًا: -والله بتهرجوا يا عالية! فيها أيه لو عرف إني هنا.
-أديك شوفت حياة قالت ايه، يالا بقا قبل ما يخرج. استعجل يا مراد.

ذهب على مضض وهو يقول: -هستناكي في القصر، لحد ما اشوف أخرتها مع اخوكي ده كمان.
بغُرفة عاصي
نفذ صبره من تحججها بمصطلحات غير مفهومة حتى قال: -حياة، بتلفي وتدوري على أيه؟ قولي موضوع أيه!
كأن عقلها شُل في تلك اللحظة فتعمدت إطالة الحديث قدر المستطاع: -بص، هما كذا موضوع مش موضوع واحد.
عاصي بجزع: -أيوة قولي واحد منهم بدل ماانت تايهة كده!
-أنت مشربتش قهوتك، تيجي نشربها سوا؟
رد باختصار: -مش عايز.

فركت كفيها بحيرة: -طيب أنا عايزة اشتغل واثبت ذاتي وأحس أن ليا كيان كده في المجتمع.
رد مسايسًا: -قومي بالسلامة بس أنتِ واللي في بطنك ونشوف موضوع الكيان ده.
قضمت على اصبعها بحيرة وقالت مقترحة: -طيب أنا عايزاك تعملي فرح كبير، الدنيا كلها تتحاكي عنه!
تأفف بضيق: -حياة، يعني أنتِ مجرجراني وراكي عشان احلام اليقظة دي!
هتفت معارضة: -مالها أحلامي ان شاء الله!

-اهدي، اهدي. يعني بالعقل كده نعمل فرح وتنزلي للمعازيم ببطنك دي؟ يقولوا علينا أيه؟ مضحكيش علينا الناس.
يبدو أنها اقتنعت برأيه: -اممم معاك حق، مينفعش
دنى منها متحديًا: -حياة، ماتقولي عايزة أيه من الآخر عشان واضح أنك بتتلككي!
ضحكت كالعادة بضحكتها الساحرة وعانقته بدلالٍ: -بصراحة.
-هاه بصراحة. قولي قولي.

أخذت تداعب أزرار قميصه متغنجة بين ذراعيه. وهي ترمقه بحب فأصبح منتظرًا رد فعلها وما سيأتي بعد تلك النظرات. حتى بادرت بتقبيله بقوة لهفتها عليه ونيرانها الخامدة بأحشائها ناحيته. نجحت في إغراقه ببحرها حتى تبدلت الأدوار. وأفشلت خطته. طوق خصرها وسألها: -هيجرى حاجة لو اتأخرنا على عالية شوية.
ابتعدت عنه بدلالٍ: -ده ابنك اللي حب يصبح عليك بس، لأنك زعلته.

تأهب لنيل منها ولكنها أوقفته بمكر انثوي: -عندك شد عضل ماينفعش. صحتك عندي أهم.
زفر متجاهلًا تمردها عليه مواصلًا رحلته لمدينة حبها فتملصت من يده هاربة وكأنها ترد له ما فعله بها: -عاصي بس بقا. عالية مستنية.
ثم خرجت قبله متجهة إلى غرفة عالية التي تجلس منتظرة عودتهم. همست لها بحذرٍ: -مشي!
أومأت عالية بالإيجاب ثم شكرتها: -شكرا يا حياة. بجد مش عارفة من غيرك كنت هعمل أيه!

بالخارج التقى عاصي ب نجيب، وقف الاثنان يتحدثان طويلًا حتى ختم عاصي الحوار بينهم: -عايزها نار جهنم عليهم يا نجيب...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة