رواية غوى بعصيانه قلبي الجزء الثاني للكاتبة نهال مصطفى الفصل الحادي والثلاثون
كُل الأشياء التِي أريدها
بشكلٍ ما أو بآخر تُصبح مستحيلة
فالحياةُ تُمسك المرء من قلبِه لا يده.
خُلق القلب عصيًا.
< قبل بضع ساعات >
-الحياة علمتني قبل ما أحكم على أي حد، أحط نفسي مكانه. وبصراحة لو كنت مكانك ورجعت لقيت أختي المفقودة متجوزة راجل غريب وكمان حامل. طبيعي مش هبقى مرتاح.
انفرد عاصي برشيد أثناء انشغال رسيل مع أخيها يونس بأحد الغُرف، وقرر كسب ثقته شراءً لخاطر زوجته كي تنعم بحياةٍ هادئة برفقة أحبابها. ترك رشيد كأس الشاي من يد فوق المنضدة وقال بجمود: -كده نبقى متفقين.
أيده عاصي مُقاطعًا قبل أن يواصل حديثه: -أحنا لازم نتفق يا رشيد، لأن عدونا واحد، أنا عارف أن فريد هو اللي وراء اختفائكم وحاول يخلص منكم، وحاول يخطف رسيل. وكمان اللي متعرفهوش هو اللي ورا حادثة المركب اللي راح فيها أبوكم واتنين من العُمال.
انصبت الصدمة بقدمي رشيد فوثب فجأة ليستوعب ما قاله: -أنت بتقول أيه؟
أجابه عاصي بثقة: -اللي سمعته. شفت بقا أن عدونا واحد ويا عالم بيخطط لأي دلوقتي!
سبه رشيد في سره وعاد ليجلس مكانه: -فريد ده لازم يتربى ويدفع تمن عمايله دي كلها.
عاصي بثبات: -يبقى نتفق!
< عودة إلى الوقت الحالي >
يقال إنَّ المرء يموت في نهاية المطاف، من تراكُمِ الأيّام وقسوتها التي ابتلعها طوال سنوات عمره.
تحملت عالية على حُطام أيامها الهاوية فوق رأسها وهي تلتقط أنفاسها بصعوبة بالغة وتقترب من عبلة أكثر وأكثر وبنبرة أكثر شراسة:.
-أنا من حقي أعرف مين هي أمي، انطقي. قولي أنا مبن وبنت مين.؟
ثم اندفعت صارخة بجزعٍ: -متسكُتيش. مش وقت سكوت وتعيشي دور الضحية.
فمن يرسل شخصًا إلى الحزن العميق وتحطيم حياته كيف يبقى كاملًا في حياته دون خوف مما فعل؟
تقدمت خطوات مراد لعندها كمحاولة فاشلة منه بأن يهدأ جسدها المتقلقل: -عالية ممكن تهدي.
انضم عاصي إلى مجمعهم تحت تأثير صدمته الشديدة: -وكمان عالية مش بنتك! ومفهماني طول الوقت ده أنها بنتك وأنا الشرير الوحيد في البيت ده؟
فانضم إليهم تميم مشدوهًا مذهولًا: -يعني عيشتينا كُلنا في كذبة السنين دي كلها! مفهمة الكل أني ابن زنا وأنا الوحيد اللي من صُلب شهاب دويدار والوريث الشرعي لكُل ده؟ وكمان أختي طلعت مش أختي ولا هي بنتك أصلا؟
أطلق من شدق ضحكة استهزاء: -لا وكمان البيه الكبير المكوش على الليلة دي كلها لا هو ابنك ولا ابن دويدار؟ أنتِ جنسك أيه؟
حلقة من خطايا الماضي طوقت عبلة التي تقف مرتعدة تتلقى زعابيب الرياح قبل أن تستعد لاستقبالها. وضعت يديها على أذنيها صارخة كي تفيق من ذلك الكابوس المروع بصرخة هستيرية: -كفاية كفاية بقا. اخرسوا كُلكم.
وبختها عالية بحقدٍ: -مفيش مبرر واحد يشفع لك أنك تعملي فينا أحنا التلاتة كده غير أنك ست مريضة ولازم تتعالجي.
خرجت عبلة عن صمتها باعترافات مرعبة: -هما اللي عملوا فيا كده. لما أبويا ومراته باعوني لشهاب دويدار وأنا عيلة مش فاهمة حاجة. كُنت كل ليلة بعيش فيلم رعب لما يتقفل عليا الباب مع راجل زي شهاب. في الوقت أن كل اللي في سني بيلعبوا ويستمتعوا بحياتهم. أنا كنت بتعذب...
ثم تحركت لتقف أمام عالية مواصلة سرد أحزانها: -لما ألقى نفسي حامل وأنا عيلة مكملتش ال14 سنة، ومن قسوته ووحشيته معايا كان السبب أنه يخليني عقيمة طول حياتي، حرمني أكون أم.
ثم تقطعت الكلمات بفمها وبكفها المرتعش وقفت أمام عاصي باكية: -لما سابني مرمية في المستشفى وحب عليا الخياطة بتاعته وعاش معاها اللي حرمني منه. كان يعاملها هي ست البيت وأنا اللي خدامة عنده. كل ده عشان يذل أبويا اللي خسر كل فلوسه وشغله. وكمان مش أنا الست اللي تكفي احتياجات رجل زيه!
حيث أشارت إلى مراد: -أمك طول الوقت كانت بتشوف نفسها أحسن مني. عشان هي عندها أم وأنا أمي ماتت. هي كُل طلباتها مجابة وأنا بنت ضرتها اللي يا تقبل بخدمتهم ياما تتجوز راجل أد أبوها، كان لازم اكسرها واخليها دايما محتاجة لي.
ثم انشق ثغر الحية بضحكة خبيثة: -وأنا السبب في العداوة اللي بينك وبين عاصي وتميم. عشان انت رفضت تكون تحت سُلطتي ومشيت فكان لازم أهدك يا مراد. بس لما لقيتك بتنجح وبترجع تُقف على رجلك قلت لازم أجوزك عالية. اللي ماتعرفش تهده صاحبه. وأهو خيره يُعم على الكُل!
فوجهت أنظارها ناحية عالية المنهارة: -يعني أنتِ اتجوزتيه بمزاجي أنا، وبسبب خطتي أنا. بس طلعتي خايبة.
فدارت نحو تميم وأكملت حملة صراخها بوجهه: -ومش بس كدا. بعد ما ماتت تحية، فضل يبات في أوضة لوحده خمس سنين من حزنه عليها. وأنا زيي زي عفش البيت ماليش لازمة، بقيت أم لطفل وأنا مش عارفة اتعامل معاه ازاي. بدفع تمن إفلاس ابويا وأنانية شهاب. لحد بقا ما قابل أمك، أصله كان غاوي خدامين.
ثم غرزت سبابته بكتف تميم وأكملت لومه كأنها تنتقم من أبيه: -سابني كمان سنين وهو عايش مع أمك في السر لحد ما رجعت القصر معاه وأنت على كتفها والمفروض اقبل بالذل ده؟
فصاحت معلنة بحرقة تمزق قلبها إربابًا: -يعني بصريح العبارة كلنا كده ضحايا شهاب دويدار...
قال أحد السلف ناصحًا: لا تذهب إلى للبقالة وأنت جائع، ستأخذ الأشياء الخاطئة.
و نفس الشي ينطبق على الحياة، لا تدخل علاقة وأنت تشعر بالوحدة لقتل شبح فراغك حتمًا ستأخذ الشيء الخطأ،.
لانك عندما تكون يائسًا ستلتقط أي شيء تريد وليس ما تحتاج. وهذا ما مارسه شهاب دويدار على خريطة عمر تلك الفتاة التي أخرج منها شبحًا مُخيفًا. جوعه للانتقام من أبيها. جوعه ليلبي نزواته الدنيئة. جنونه بالمال وتكوين ثروة طائلة من مصادر غير مشروعة. جميعها أفعال كانت كافية لتحويل ذلك القصر العملاق لقبر تُدفن به حياة سكانه...
شدها عاصي إليه بقوة وسألها بحدة: -أنا ابن دويدار ولا عبد العظيم!
ثم خفض نبرته ليلتقط أنفاسه المحملة بالغضب: -جيه الوقت تكشفي فيه كُل الورق. اتكلمي.
تدخل فريد مُصفقًا بغل: -أنا شايف تحلوا مشاكلكم العائلية دي بينكم، بلاش فضايح أكتر من كده. ميصحش.
ثم تأهب أن يغادر: -استأذنكم أنا.
دار عاصي إليه برياح غضبه وهو يُنادي على سيدة: -سيدة نادي على الرجالة يجوا يأخدوه في أي داهية لحد ما أفوق له ده كمان.
بنبرة متحشرجة وسُحب الحزن متقطرة على وجنتيها انفجرت عالية متوسلة إليها:.
-أعملي حاجة واحدة صح في حياتك وانطقي قولي فين أمي وأبويا. أنا بنت مين؟
كادت عبلة أن تحضنها بلهفه معلنة: -بنتي انا. أنتِ مش بنت حد غيري. وعاصي كم.
دفعتها عالية بعيدًا عنها برفض قاطع: -كفاية تمثيل بقا أنت ما بتزهقيش؟
عاصي مهدئًا أخته وهو يشيع عبلة بنظرات استنكار: -سيبيها يا عالية، هي هتتكلم بس مش دل.
في اللحظة التي انشغل فيها الجميع عن الشرارة المتوقدة بين عالية وعبلة وثرثرتهم الصاخبة، استغل فريد الفرصة ليسحب السكين المتروكة فوق صحن الفاكهة وهو يشد حياة إليه عنوة في لحظة غفل فيها الجميع واستغلها خصمهم لصالحه كمحاولة أخيرة لنجاته من براثن الموت، صرخة قوية تحمل إشارة استغاثة انطلقت من جوف حياة إثر ملامسة حد السكين لرقبتها...
في لحظة مباغتة اختارت الكلمات الهرب من الأفواه تلاشت الأصوات أصبحت دواخلهم فراغٍ واسع باتساع صدمتهم. بأعين متسعة تكاد تهرب من الوجوه من هول ما تراه. قلة حيلة كانت بسبب الخوف على ألا يصيب حياة بمكروه.
اقترب عاصي خطوة عفوية بانفعال شديدٍ: -لو لمست منها شعرة هدفنك مكانك.
بنفس النبرة المرتفعة التي يكسوها الرعب وهو يشد حد السكين على رقبتها. عج فريد وهو يدور حول نفسه: -متقربش، خطوة كمان وهصفيها قُدامكم كلكم.
هاجت ثورة الغضب برأس أخوتها فتقدم رشيد موبخًا: -سيبها وخلي حسابك مع الرجالة، بدل ما بتتشطر على الستات.
قهقهه فريد بضحكة مستهزئة: -دي مش أي ست، دي رسيل بنت المعلم قنديل المصري. يعني بنت بمليون راجل!
ثم لهث قائلًا بوشوشة: -فاكرة يا رسيل!
نهره يونس محذرًا بصوتٍ مشحون: -ورحمة أبويا لو ما سبتها لأقتلك بأيدي يافريد.
فاندفع تميم مزمجرًا: -ولاه سيب السكينة دي! أنت محدش مالي عينك يعني! واللي عايزه هنعمله.
فريد بنبرة المجنون الذي فقد عقله وهو يضم مقبض السكينة ؛ ليقول لاهثًا: -أيوة. كلكم كده هتنفذوا كل اللي أقوله بالحرف. ده لو تهمكم سلامة الحلوة. أنا كده كده مبقتش باقي على حاجة.
تلاقت أعينها المتراقصه فوق حد السكين بأعين عاصي المضطربة، فقرر مُسايسته بدون تفكير وهو يناظرها بعجز: -كل اللي عايزه هيحصل، وده وعد من عاصي دويدار بس سيبها. سيبها وخلى كلامك معايا.
فريد مستنصحًا: -لا أنا مش غبي عشان أبلع الطُعم مرتين، أنا هوريكم ازاي تلعبوا عليا.
احتدت نبرة عاصى بنفاذ صبر: -بقولك سيب الزفت اللي في أيدك ده وخرج حياة بره.
طافت عينيه في كل الاتجاهات وهو يتراجع للوراء حيث قال وهو ينهجُ: -لا. لسه شُغلي مع بنت عمي مخلصش. ولا أيه!
ثم غمغم في أذنيها بجحود: -الدهب ؛ الدهب فين يا رسيل.
فرفع نبرة صوته محذرًا: -قول لرجالتك بره يوسعوا الطريق. وأي حركة غدر السكينة هتمشى على رقبتها. يلا!
حتى هرول كالسكير مغمعمًا: -عشان تعرفي مفيش مفر منى لا دنيا ولا أخرة.
تحرك الحشد متبعًا خطوات فريد المتراجعة للخلف، إلا عالية التي تمسكت بكف مراد تترجاه ألا يتركها. وضعت كفها المرتعش فوق فمها وهي تراقب مجانة فريد التي تخطت الحدود. أجبر مراد أن يترك كفها البارد ويندفع نحو ذلك المجنون. ارتفعت عيني عالية المحملة بالعتاب واللوم نحو عبلة الجالسة على طرف المقعد مغيبة عن الصخب الذي يحدث حولها:.
-عاجبك! كل ده بسببك أنتِ، أهو البيت اللي عشتي عُمرك كله تبني فيه اتهد على رأس الكل وأولهم أنتِ.
ركضت شمس إليها واحتوت كتفيها المنتفضة بشفقة: -عالية مش وقته الكلام ده. أهدي يا حبيبتي!
صرخت عالية بوجهها بعجزٍ: -خليها تشوف نتيجة أنانيتها وطمعها. أهو كلنا بندفع تمن أفعالها. مبسوطة كده؟ هو ده إللي سعيت له يا عبلة هانم؟ كُنتِ مستنية تحصدي أيه من الحقد والشر اللي زرعتيه.
تسلل مراد من بين الحشد المتكتل حول فريد الذي سن أنياب انتقامه على رقبة رسيل وجهر قائلًا: -أنت فاكر هتطلع من هنا على رجليك! بلاش تزود حسابك وسيبها. بلاش دم يا فريد وكله هيتحل.
دحرج جسدها من فوق درجات السُلم فألتوت ساقها عقب عنها صرخة قوية منها فتت قلب ورأس عاصي وهي تتشبث بساعد فريد المُتلف حول كتفيها وقالت متألمة وهي على أبواب الهلع بألا يُصاب جنينها بأذى: -هقولك مكان الدهب، بس سيبني يا فريد. سيبني.
اشتدت قبضته عليها وهو يقول بصوت مخيف: -أنتِ كده كده هتقولي. وهتيجي معايا. عاجبك كده! كل ده أخرة عنادك وتمردك يا بنت المصري.
ثم أشار إلى عاصي محذرًا وهو يتأمل فوهات أسلحة رجاله المحيطة بفريد: -قولهم ينزلوا سلاحهم. وإلا مش هتشوف مراتك تاني.
خرجت رسيل عن وعيها صارخة بذعر لتستعطفه: -فريد كفاية. كفاية غباء وأنانية لحد كده. أعقل ياخي وبطل تهور! فكر في فريال أختك؟
أخذت يطوف بها حول نفسه برعب وهو يُقر اعترافه: -أنانية! أنتِ أخر واحدة تتكلمي عن الأنانية. عشت عمري كله محبتش غيرك وأنت ولا شيفاني ولا عايزة تديني فرصة ورحتي اترميتي في حضن صبي من بتوعنا.
تقطرت عِبراتها على كفه الذي يحمل السكين وأكمل سرد مبررات أفعاله الدنيئة: -كنت شغال مرمطون عند قنديل المصري وفي الأخر يرميلي ملاليم كل أخر شهر. أبويا لما كان بيصارع الموت وأبوكي استخسر فيه يبيع مركبة من بتوعه عشان يسفره يعمل العملية. وفي الاخر اطلع من المولد بلا حُمص! لا مش أنا يا رسيل اللي يتضحك عليا!
ثم أطلق ضحكة مفعمة بالشر: -جيه وقت سداد ديونكم يا ولاد قنديل المصري. وأنتِ اللي هتدفعي التمن ده، زي ما حرقتي قلبي وقررتي تغمضي عينك عن حبي ليكي، أنا هقتلك، حتى عشان يبقى لك قبر ازورك فيه براحتي.
حملة من المشاعر الثائرة هجمت على القلوب. ما بين عاصي العاجز عن إحداث أي حركة غير محسوبة فيكون ثمنها روح حياته. وتميم المهزوز ما بين الحقائق التي رفعت الستائر عنها وأخوته ليست بأخوته، للتو أدرك حقيقة ثلاثين عامًا من الكذب عاشهم في كنف خداع عبلة. وإخوتها الذين يشاهدون شبح الموت يحيط بأختهم الكبرى بعجز تام منهم.
الشخص الوحيد المتحكم بأعصابه كان مُراد وهو يفحص المكان حوله بعينيه الثاقبة حتى تلاقت بأعين بحارس كامن خلف الشجرة مُصوبًا سلاحه ناحيته محاولًا إصابة الهدف. حاوره مراد بعينيه أن ينتظر اللحظة المناسبة ثم تدخل ليُلاغيه:
-أنت عايز أيه دلوقتي؟ خلي كلامك معايا.
رد فريد بنبرة الخوف الساكن بجوفه: -عربية بالسواق توصلني للمكان اللي هقوله عليه. بس هاخد رسيل معايا.
جهر عاصي رافضًا وهو يسحب السلاح من حارسه ويوجهه نحو فريد: -رسيل مش هتخطي خطوة واحدة بره. وأنت حياتك مش كفاية ل عمايلك دي يافريد.
ضحك فريد بجنون وقال متفاخرًا: -السلاح معايا وعلى رقبتها. قبل ما تدوس على زينادك هتلاقيها سافرت تستناني فوق.
ثم وشوش بأذنها كمجمون ليلى: -مش كده يا سيلا!
صرخت بنبرتها المرتجفة وقطرات العرق تتصبب من وجهها بملامح عجوز على أعتاب السبعين: -بكرهك. بكرهك يا فريد.
صرخ فريد بنفاذ صبر: -فين العربية.؟
تدخل مراد مطاوعًا وهو يقترب منه بخفة: -هاتوله عربية يا بني.
ثم رفع يديه مستسلمًا: -هيجيبولك عربية، وهنفذلك طلباتك وو
قاطعه فريد منذرًا: -متقربش. خليك مكانك. ولا حركة بقولكم هدبحها قُدامكم!
مد عاصي ذراعه أمام مراد ليمنعه من الإقتراب بتلقائية: -خلاص أهدى. خلاص يا مراد، هنفذلك اللي عايزه.
تمسك مراد بساعد عاصي الممتد أمامه وهو يُطيل النظر بأعين حياة التي ألتفتت بصعوبة لنظراته المُرشدة بالطريقة التي تحمي بها نفسها من أذية فريد. ضم على ذراع عاصي بكفيه مغيرًا نبرة صوته التي تحولت فجأة وما زالت عينيه متعلقة بعيون حياة المتراقصة حتى دفع ذراع عاصي بكل قوته لأسفل كأنه يُرشد حياة أن تُقلده:
-أنت هتسيب المجنون ده يمشي كلامه علينا!..
شرعت حياة بتنفيذ أوامر وتسللت أصابعها الرفيعة لتلتف حول معصم يد فريد كوجهة دفاع عن نفسها في أبعاد حد السلاح الأبيض عنها. اختلق مراد مشكلة وهمية مع عاصي ليُشتت انتباه فريد، في تلك اللحظة التي أحست فيها رسيل بارتخاء يده عن عنقها وهي يقول:
-وفروا خلافاتكم العائلية دي لحد ما امشي صدعتوني؟
في تلك اللحظة استجمعت رسيل قوتها ليعطي مراد نظرة آمرة للحارس الذي يراقبهم في الخفاء بأن يُطلق رصاصته في نفس الثانية التي تعلقت فيها رسيل بساعد فريد لتخفضه بعيدًا عنها ؛ مع صدى صوت الرصاصة التي امتزجت بصوت صرخة رسيل التي شدها مراد من كفها لترتمي كالحمامة المذبوحة في حضن عاصي، استقرت الرصاصة بجمجمة رأس فريد الذي لقي حدفه في الحال...
كانت لقاء أرواحهم قبل أجسادهم، ككرة ملتهبة عانقت ماء البحر. رغم شدة العناق إلا أنها بدأت تهدأ وتستكين تدريجيًا بين يديه التي أسرتها بحضنه. مسح على وجهها المتصبب بمياه الفزع: -أنتِ كويسة.
انعقدت حلقة البقية حول فريد الذي التقى بمصيره الذي يستحقه، بصق رشيد على جثمانه ثم قال مستنكرًا:
-كان نفسي أخلص عليك بأيدي يا.
تفوه يونس بهدوء ليمارس مهنة المحاماة التي يدرسها: -كلموا الشُرطة وجهزوا الكاميرات عشان نثبت أنه دفاع عن النفس.
ثم قال تميم بهدوء مريب وهو يشير لكبير الحرس: -نفذ الأوامر بسرعة.
خرجت شمس راكضة أثر صوت الرصاص الذي أعجزها عن ممارسة مهمتها لمداواة عالية التي غرقت في حالة من الانهيار العصبي المفزعة، رفعت حياة مُقلتيها الاتي اعتلاها كرب ثقيل وهي تتمسك ببطنها، فسألها ملهوفة:
-أنتِ كويسة؟
بصمت مُريبة انصب بمقلتيها السابحة بدموع الألم طالعته بعجزٍ قفز الرعب بقلبه فكرر سؤاله ملهوفًا: -حياة! قولي حاسة بأيه؟
انكمش قميصه حول قبضة يدها المتعلقة به كأنه أخر ما تملك بالحياة وهي تُجيب بصوت مشج متهدج: -عا صي. بطني. ابننا.
ثم انغلقت جفونها وهي تتلوى بوجع صامت بين يديه، فوقعت أنظاره على القليل من قطرات الدماء الممطرة من رحمها، فاتسع بؤبؤ عينيها بصدمة لا توصف: -حياة. ردي عليا.
حملها بدون تفكير صارخًا باستغاثة: -هاتوا عربية بسرعة.
اندفعت شمس نحو مراد الواقف في وسط الحادث مستغيثة: -مراد، تعالى بسرعة شوف عالية.
-مالها عالية؟
-تعالى...
استوطن اليأس بقلبها إثر أنانية عبلة وعدم جوابها على أهم سؤال وأبسط حقوق المرء أن يعرفه من أنا؟ شعرت بأنها لا تُريد من الحياة سوى أن تهرب من هذا الشعور القاتل. فهو يشبه النار التي تشتعل في جسدها وتلتهم روحها. طاحت يدها بالفازة التي تتوسط المنضدة لينتشر فتات زجاجها مثلما تفتت قلب عالية وهي تترجاه تارة وتصرخ بوجهها طورًا:.
-أنتِ ساكتة ليه؟ قولي أي حاجة طيب؟ أنا أذيتك في أيه عشان تحرمي طفلة من أهلها!
ثم جلست أمام ركبتي عبلة المهزوزة وتوسلت إليها: -طيب ماما عايشة ولا ماتت! لو عايشة قوليلي تلحق تعوضني عن سنين القسوة اللي عشتهم معاكي.
ثم قبلت يدها بترجى ودموعها التي تغسل وجهها: -عشان خاطري لو بتحبيني. والله مش هسيبك ولا هبعد عنك بس مين أمى.
لم تتفوه عبلة إلا بجملتين كأنها لم تتعلم غيرهم: -أنتِ وعاصى ولادي، أنتوا مش ولاد حد تاني!
ركض مُراد إليها وهو يشاهد موقفهم المثير للقلب والعاطفة، مكث على ركبتيه: -عالية، قومي، مش هتتكلم، هي لو عايزة تتكلم كانت اتكلمت من زمان!
طالعته بأعينها الذابلة: -مراد قولها تتكلم. أنا عايزه أعرف مين هي أمي. مراد أعمل حاجة لو بتحبني.
أمسك برسغها ليساعدها على النهوض: -قومي يا عالية مفيش فايدة. قومي.
تعلقت بملابسه كالطفلة وهي على أعتاب حالة من الانهيار العصبي: -أنا عشت أسوأ أيامي في البيت ده! ومش عايزة اسمع اعتذار من حد، قولها بس تقولي مين أمي وأنا هسامحها والله.
لم يجد حلًا سوى حملها بين يديه متجهًا إلى غُرفتها. فتدخلت شمس مقترحة: -هجيبلها مهدئ تاخده عشان تنام.
مراد باهتمام: -بسرعة يا شمس. جسمها كله بيترعش.
ردت بعجلٍ: -حاضر حاضر. هكلم الصيدلية حالًا...
انضمت نوران إلى أختها بملامح يخيم عليها الآسى: -مسكينة يا عالية.
تنهدت شمس بحزن: -وربنا يستر على حياة التانية هي والبيبي.
حدجت نوران بأعينها الصقرية عبلة الجالسة مطأطأة الرأس بخزى: -أهو كله من العجوزة دي!
زفرت شمس باختناق في وجهها اختها واتجهت ناحية الهاتف لتطلب دواء لعالية حيث جهرت آمرة قبل أن تتلقى ردًا بالهاتف: -سيدة اعملي لمون لعالية بسرعة.
ضربت سيدة كف على الآخر: -كان مستخبي لكم فين كل ده بس؟
بالطابق العلوى
بنهاية كُل أزمة الأشياء والشعور بداخل المرء، ولم يبقى منه إلا الذكريات المغبرة على رف النسيان الذي تمرر مذاق الحياة بفمه. يصبح كل شيء باردًا وهادئًا ومُريبًا. تكاد تكون كالجثة متبلد الأطراف والشعور تستقبل المزيد والمزيد من الصدمات بدون أي رد فعل.
شد مُراد الغطاء فوق جسد عالية البارد فتشبثت بيده راجية: -مراد. خليك معايا.
مال ليطبع قُبلة خفيفة على جبهتها ليُطمئنها بوجوده: -جمبك متقلقيش.
ثم ابتعد عنها وزاح الغطاء ليُعري قدميها وينزع الحذاء منهما برفق وهي تتلوى على مراجل الحزن كأن ما ترقد فوقه جمر مشتعل وليست بقطن. انتهى مراد من فعله ثم نزع هو الأخر حذائه ورقد بجوارها فتعلقت بعنقه وهي تتمتم: -يعني أنا ماليش أهل يا مراد؟ هعيش طول عمري منسوبة لعيلة أنا مش بنتهم! أنا ليه بيحصل فيا كل ده؟
أخذ يمسح على رأسها كي تهدئ: -حبيبتي ممكن تهدي ومتفكريش في حاجات سلبية! أنتِ ملكيش ذنب في كل اللي حصل يا عالية!
رفعت جفونه المحمرة إليه: -يعني أنتَ مش هتسيبني بعد اللي عرفته!
-وايه يعيبك في كل اللي عرفته أسيبك عشانه!
انخرطت العبرات من مقلتيها و بشفاه مرتعشة: -هي عملت فيا كده ليه؟ انا أستاهل القسوة دي!
-عالية اهدي أنتِ جسمك كله بترعش! أهدي وأنا جمبك أهو. مش هسيبك.
أطالت النظر بوجهه لتتأكد من وجوده وأنه خير ما أتى بظلمة أعوامها. أخذت ترتجف وتأن وجعًا حتى طلبت منه بتوسل ينزف دمعًا: -ممكن تحضني أوي. خدني في حضنك يا مراد أنا ماليش غيرك دلوقتِ.
بالمشفى
حملها بين يديه ودخل استقبال المشفى يُنادي بحنجرته القوية: -فين الدكاترة اللي هنا.
تابعه أخوتها بنفس السرعة التي يسير بها. تحرك رشيد ناحية الاستقبال مندفعًا: -اختي حامل وبتنزف، عايزين دكتور بسرعة.
أمسك يونس بكف أخته التي تتضور وجعًا من تقلصات رحمها المميتة: -استحملي يا رسيل، إن شاء الله مفيش حاجة!
انفجرت صوتها الباكي الممزق من شدة الألم: -مش قادرة. وجع فظيع.
كاد عاصي أن ينفجر بموظفى المشفى إلا أن جاء طاقم التمريض بالسرير المتحرك بعجلٍ، وضعها فوقه وركضوا بها ناحية غرفة العمليات. أمسك بكفها ليطمئنها بالمصعد: -متخافيش. اهدي اهدي التوتر مش في صالحنا يا حياة.
ضغطت على كفه باكية وكأنها تفقد روحها: -ابني يا عاصي. ابني بيروح مني. مش قادرة.
رد ملهوفًا: -سلامتك أهم. عشان خاطري اهدي، مفيش حاجة! أنتِ عندي بالدنيا.
ثم نهر طاقم التمريض: -فين الدكتور اللي هنا.؟
فُتح باب المصعد وأجابته الممرضة بسرعة وهي تركض بالسرير المتحرك: -جاي حالًا. لو سمحت ماينفعش تدخل العمليات استناها هنا.
انضم إليه رشيد ويونس ركضًا من ناحية السُلم حيث سأله رشيد: -فين؟ رسيل خدوها فين؟
رد بثقل وهو يعاصر نفس الحالة ونفس الألم الذي عاشه من قبل، فرغ طاقته المكبوتة وهو يضرب الحائط بقبضة يده: -العمليات. دخلت جوه.
ربت يونس على كتفه: -مفيش حاجة ان شاء الله تخرج بالسلامة هي والبيبي.
أخذ يجوب المكان بعجز تام وقلة حيلة يعد الدقائق كي تعود إليه كي ينظر بعينيها فيستمد قوته من جديد ليواجه جمة المصائب التي تنتظره. كي يتقلص إحباطه ويغتال هزائمه ويختفي كُل هذا الظلام بداخله.
اشتعلت ملامحه بجمر الغضب الذي توقد بملامحه. رفع ساعده على الحائط وسند جبهته عليه وهو يلوم نفسه التي فشلت أن تحميها. عن عجزه في تنفيذ وعده لها في ليلة ملأ عطر الحب صدورهم، فأخذ على عينيها عهدًا عندما سألته: -هل تحبّني؟
فطبع وسام العشق بقبلة طويله بين عينيها وقال: مهمتي في الحياة العيش لأحبك أولاً والحراسة المشددة لقلبك من كل حزن وألم. لقد تجاوزت فيكِ الحب وأصبحت عاشقًا لكِ.
بعد مرور الساعة خرج الطبيب من غُرفة العمليات وهو يخلع الماسك عن وجهها. هرول عاصي وأخوتها نحوه فسأله ملهوفًا: -مراتي عاملة أيه!
بملامح حزينة أردف الطبيب: -بنحاول بكل جهدنا نحافظ على الجنين. ولازم تبقى تحت الملاحظة والأجهزة ال24 ساعة الجايين، واللي عايزه ربنا هيكون.
عارضه ملهوفًا: -دكتور لو الجنين هيأثر على حياتها نزله، المهم هي.
-أنا هتابع الحالة بنفسي، واتأكد صحة الأم عندنا أهم. بعد أذنك.
ركل المقعد المعدني بساقه وهو يجهر صارخًا معترضًا: -ليه! ليه عشان اخد حاجة لازم أخسر حاجة قُدامها!
ثم لجأ للزجاج الفاصل بينهم ليُراقب ملامحها النائمة ويترجاها بملامحه المنكسرة وكأنه يشكو من فكرة غيابها. هل تعي حجم الألم الذي سيسكنني أن ضب العمر حقائبه معك تلك المرة، وتلك النظرة المميتة التي سترافقني بقية أيامي بعد بُعدم! وتلك الدموع التي سترهقني وكل الليالي المؤلمة التي سأقضيها بدونك؟ هل تعي ما سأكون عليه أن غربت شمسك؟ كلما لملم جرح قلبهُ، زارهُ الألم قديم:.
-حياة متهزريش. قومي، أنا اللي كنت هسيبك ودلوقتي بقولك متسبنيش؟
عودة للقصر
ضبت عبلة سنوات عُمرها وهي تدور بتيهٍ في أرجاء القصر الذي شهد على مُعاناتها حتى وقفت أمام صورة شهاب دويدار المُعلقة على الحائط، طالعته بأعين يملأها السخط والحقد على حياة سوداوية عاشتها معه أخذته تحاوره كأنه يقف أمامها:
-شفت بنت ال 14 سنة عملت فيك أيه؟ لعبت بيك الكورة أنت وولادك يا شهاب. مش أنت اللي فضلت شوية خادمات عليا؟ مش أنت اللي حرمتني أكون أم باقي عُمري.
هجم شريط الذكريات على ذهنها وهي طفلة تُعاني تحت يده، بكفوف مكبلة وصرخات مرتفعة وخوف شنيع يحاصرها، تترجاه أن يتركها. أن يبتعد عنها، تخبره عن البركان الثائر برحمها ولكنه لم يهتم، كان يتجرع كؤوس النبيذ بدون وعي ثم يعود إليها ليجدد أسوأ كابوس في يقظتها. صرخات لا تعثر استغاثة. دموع لا تجد مصبًا لمجراها. آلآم يئست من تعانق الدواء. خوف يعقبه نوبات هلعٍ لا تصادفها طمأنينة...
جففت عبراتها الجارية وأكملت محاورة صورته: -قولت لك هاخد حقي منك. وخدته، شوفت انتقمت في ولادك، السنين اللي عشتها متعذبة معاك عيشتهم زيها وهما خايفين.
خيم فطر قديم من الذكرى على رأسها وهي تحاوره: -أنت حبيت كُل الستات دي، اشمعنا أنا كنت بتنتقم مني؟
شد رابطة عنقه وقال بفظاظة: -لأنك بنت المحلاوي.
-تارك مع أبويا، ليه اخلصه أنا؟ حرام عليك سيبني في حالي؟
أمسك ذراعها بقوة ورجها بعنفوان: -أنتِ تحمدي ربنا، لولا عاصي أنا كان زماني خلصت منك. حظك الحلو خلفتي وأنا مش هربي عقدة نفسية لابني لما يشوف أمه بتتعذب قدام عينه. عيشي لابنك يا عبلة وارضي. وبلاش تفتشي في الماضي.
استردت وعيها وهي ترمقه بشماتة: -أنتَ اللي عملت فينا كده. كُنت مفكر إني هنسى؟ خلاص أنا هديت البيت اللي بنيته وفرقت ولادك. ضيعت كل اللي عشت عشانه.
ثم انسحبت بهدوء وهي تغادر القصر شاردة تائهة لا ترى أمامها، ولكن ذاكرتها تتخبط هنا وهناك حتى تأرجحت مشاهد الماضي برأسها وهي تقف وراء الباب تُراقب العلاقة بين زوجها والخياطة التي تدعى تحية وهي تأخذ مقاساته بشريط القياس، فدار إليها وهو يطوق خصرها قائلًا:
-كل ليلة يا تحية هتحجج بالمقاسات عشان أشوفك.
لتتملص الفتاة الشابة من يده: -ياخبر يا شهاب بيه؟ مايصحش ست عبلة تشوفك!
-وأنا أعمل أيه في قلبي اللي مش عارف يشوف غيرك، تحية تتجوزيني!
كان الذعر منعكسًا بعينيها: -انا مخطوبة لعبد العظيم يا شهاب بيه مش هينفع!
نهرها بعنفوان وهو يدنوها منه: -بصي في عيني. أنا متأكد أنك بتحبيني زي ما بحبك، مش هينفع تخبي. تعرفي أنا وقعت بغرامك من أول يوم، بقيت حابب لبسي كله يبقى تفصيل أيدك.
-وأنا كمان حبيتك ياسي شهاب، وفاهمة نظرتك ليا من أول يوم جيت فيه هنا. بس بقول كل ده وهم بقا البيه الكُبرا ده هيبصلك أنتِ.
أطرقت بخجل وهي تسكر من كلماته حتى انفرد الرجل الأربعيني بالفتاة التي لم تكمل العشرين من عمرها حتى هبت صارخة بوجهه: -تكتب عليا الأول...
لقد عقد زمام نواياه فرد مطاوعًا وهي يكمل رحلة امتلاكها: -هيحصل...
< عودة للوقت الحالي >.
تشبثت عبلة بقلبها وهي تغادر من بوابة القصر سيرًا على قدميها بصمت مريب لتكمل حلقة استعادة ماضيها الأليم لتذهب لتلك اللحظة التي جاءت إليها تحية تتوسل إليها: -ست عبلة البيه مسافر وأنا عايزة اكلمه ضروري؟
ردت عبلة بتوجس: -ايه اللي بينك وبين البيه يا بت انطقي.
ردت تحية بخوف: -شغل، كان طالب مني شغل! قوليلي بس جاي أمتى؟
وثبت عبلة تتأمل ملامحها المذعورة: -البيه مش هيرجع قبل سنة لأنه بيأسس شغل جديد بره مصر.
لطمت تحية على وجهها بندم: -يانهار أسود ومنيل.
ثم جلست على ركبتيها تتوسل إليها: -انا في عرضك يا هانم، استري عليا. أنا حامل ولازم شهاب باشا يعرف أن اللي في بطنه ده ابنه. هو وعدني هيرجع من السفر ويكتب عليا وانا صدقته! اتصرفي عبدالعظيم لو عرف هيقتلني. اتصرفوا وخليني أكلم البيه.
بعد ما وبختها عبلة بأسوأ الكلمات والمصطلحات التي تُقلل منها وهددتها أن تفضحها أمام الجميع وأولهم خطيبها عبدالعظيم، نظرت إليها بمكر وهي تقول: -بس في حل ينقذك من كُل ده. وأنتِ حُرة يا توافقي يا ترفضي.
ردت عليها بعجز وكأنها تتعلق بقشة الغريق: -انا هنفذ كل اللي تأمريني بيه، بس استري عليا.
جاء اليوم التالي حيث أرسلت عبلة لتحية أن تأتي لعندها وبعد حوار طويل قالت عبلة: -بصي أنا هساعدك عشان أنتِ بنت غلبانة. وعشان شهاب دويدار ضحك عليكي واستغلك وأنت زي الهبلة صدقتيه لانه مستحيل يتجوز شغالة عنده، فوقي لنفسك يابت. والطفل اللي جاي ملهوش ذنب. انا هاخدك بعيد عن القصر وهصرف عليكي لحد ما تولدي، وهاخد العيل اربيه واكتبه باسم أبوه واقوله أنه ابني، وأنتِ الداية اللي هتولدك هتصلح غلطتك وأجوزك لعبد العظيم وتسافروا بره. قُلتِ أيه!
ردت مستنجدة: -موافقة.
بعدما خرجت تحية من الغرفة رن جرس الهاتف الأرضي لتركض إليه عبلة، إذن بصوت شهاب الذي اتصل ليطمئن على حال القصر فزفت له عبلة ذلك الخبر التعيس له: -شهاب أنا حامل...
رُد إليها وعيها وهي تستريح على أحد المقاعد العامة تلتقط أنفاسها المحترقة فوق سُلم العمر مواصلة استعاد ذكرياتها بعد مرور ثمانية أشهر على اتفاقها مع تحية. لقد أزفت ساعة وضعها. جاءت تهرول إليها برفقة إحدى المولدات التي أسرعت لمساعدة تلك الشابة المتوجعة، مرت أصعب لحظات على تحية حتى وضعت صغيرها وإذن بصبي يحمل معالم أبيه. حملت عبلة الطفل وأشارت للداية أن تنفذ اتفاقها مع عبلة وهو إنهاء روح المسكينة والخلاص منها في الحال. ثم دخل عبدالعظيم المُرتشي بالأموال الكثيرة ليُسجل الصغير باسمه وفي لحظة خروجه من السجل المدني جاءت سيارة بأقصى سرعة لتقضي عليه وبهذه الطريقة وبمساعدة ابن خالها نفذت عبلة مخططها كما يجب أن يكون...
المشاعرُ المكتومة لا تموت أبدًا، إنها مدفونةٌ وهي على قيد الحياةِ وستظهرُ لاحقا بطرقٍ بشِعة ومروعة للعقل البشري..
عودة إلى القصر
أقبلت شمس نحو غُرفة المكتب التي خرج منها تميم فاصطدم الاثنان ببعضهما. تراجعت شمس مبررة: -تميم كنت جاية لك، لازم نتكلم.
رد بتجاهل: -بعدين يا شمس.
-طيب أنتَ رايح فين الوقت ده؟
-المستشفى عند عاصي.
همت مقترحة وهي تتبع خُطاه بإصرارٍ: -هاجي معاك.
فجر اليوم التالي
حالة من الذعر والقلق أصابت الجميع، ما بين تراكض الأطباء وطاقم التمريض نحو غُرفة حياة والتساؤلات المتعرية من الإجابة التي اندلعت من فم عاصي، جعلته يقف مضطربًا مكبل الأيدي، مال الدنيا لم يكن كافيًا ليُردها إليه.
يُراقب الازدحام حوله ولكنه لم يرٍ سواها. الكثير من الكلمات لا تصف حالته، تاهت الكلمات ببحر حزنه وعجزه ومعاصرته لنفس الألم من جديد وكأن أعضائه الداخلية باتت ملطخة بالكدمات التي أحدثها الماضي والحاضر على عظامه.
جلس على طرف المقعد المعدني عندما يأس من جواب الأطباء عليه دافنًا وجهه بين يديه باستسلام لمشيئة الأقدار. متنهدًا بمرارة كأنه يتمنى أن يهرب بعيدًا إلى مكانٍ يجهلونه جميع الناس ومن أوجاعه وماضيه المُغبر. ومكانٍ خالي لا يضم سواها.
خرج الطبيب بملامح الحزن والأسف فأسرع الجميع إليه بلهفة حتى قال متأثرًا: -للأسف خسرنا الجنين.