رواية غوى بعصيانه قلبي الجزء الثاني للكاتبة نهال مصطفى الفصل الثاني والثلاثون
لم يخشى يومًا هول النهايات من كثرة ما عاناه، كل الذي أثار مخاوفه وحزنه قسوة هذه النهاية أن يبدو الأمر وكأنه مزحة أو حلم بدَّده التيقظ، يعيشها ككابوس مخيف مُجبر أن يُكمله لآخره مكبل مقيد الجسد بعجزٍ تام على يمنع هربك منه.
ربت تميم على كتف عاصي وكأنه يواسيه على فقدانه لابنه مستمعًا لحواره مع الطبيب: -طيب هي كويسة؟ في خطر على حياتها! أنا جاهز أسفرها حالًا.
رد الطبيب: -لالا متكبرش الموضوع يا عاصي بيه. المدام بخير وهننقلها أوضة تانية دلوقتي، كام ساعة وهتفوق، مفيش حاجة تستاهل القلق. اطمن.
غادر الطبيب فهتف تميم بحزن: -ربنا يعوضك يا عاصي. شد حيلك.
تبادل كل من رشيد ويونس نظرات الحزن حيث تقدم الأول مواسيًا: -متزعلش يا عاصي، المهم رسيل بخير.
مسح على وجهه عدة مرات متقبلًا مصيره الذي حش جذور قلبه، كان للمرة الأولى يعيش معها تفاصيل كونه سيصبح أبًا لطفل أمه إمرأة عظيمة مثلها.
خرجت من غرفت العمليات لتُفرق جمعهم، مال على السرير المتحرك وأمسك يدها متبعًا خُطى الممرضات. بلهفة سألهم: -هي نايمة وهتصحى كويسة؟
-إن شاء الله يا فندم.
مسح على جبهتها وسألهم: -أنتوا هتودوها فين؟
-هننزلها أوضتها تحت...
دخل معهم المصعد فسألها بنبرة طفل يخشى فُراق أمه: -هينفع أقعد معاها؟
-أيوة يا فندم مفيش مشكلة. تقدر تقعد جمبها لحد ما تفوق. هي زي الفل أصلًا.
تمتم بعرفان: -الله يطمنك.
وصل مع الممرضات إلى الغُرفة التي ستمكث بها، فتقدم التمرجي ليحملها ويضعها على سريرها الخاص فأرقفه عاصي بحدة: -أنت هتعمل أيه؟
ثم تقدم بدون تفكير وحملها ووضعها برفق تام، علقت الممرضة المحلول بمكانه و قالت له: -أول ما المحلول يخلص رن الجرس. الف سلامة عليها.
جر المقعد وجلس بجوارها ممسكًا بيدها المُعلقة بإبرة المحلول، مال ليطبع العديد من القُبلات فوق يدها كأنه يعتذر لها لانه خذلها في حمايتها وحماية صغيرها. تأمل تفاصيل وجهها النائم بشوق يمزق قلبه وقال: -فتحي عينك يا حياة.
أخذ يتأملها بأعين محب مغرم غارق في تفاصيلها تاركًا لقلبه الزمام كي يُخاطبها في منامها متوسلًا إليها: (خذِني إليكِ أن أردتِ بقاءنا.
أما الغياب بربك سيف يقتلُ!
لا تتركيني خائبًا وحيدًا لعقارب الزمن السامة أنتظر عودتك
وأنا الذي لا شيء مني أوجعك.
عودي. ووعدي لعينيكِ لأبقيك في عيني كأنك واقفة في طرفها حتى أخافُ أن أرمش فأدمعك!
بات قلبي على غُربتك غريبًا يبكي دمًا.
فقلبي لقلبك جوارٍ، كصلة العين بالرمشِ.
قلبي يتتوق شوقًا للقاءك ولكني أخشى أن ضممتكِ مرةً من لهفتي تُلاقي مصرعك، اشتقت ل عطرك مرةً في ملبسي أو صوتك يغرد حُبًا بمسامعي.
واللهِ قلبي لا يطيقُ بُعدك
واللهِ نبضك لن يبارحَ أضلعي
لا شيء عندي قد يقال ليصبرني على غيبتك ولكن كل شيء عندي أفتديهِ لأُرجعك
خذني إليكِ.
وأن نويتِ فراقي خذني
ولو ذكرى جِوارك تصطلي،
وإذا نويتَ فراقنا خذني معك.
أنا الذي بدونك لا شيء يُذكرُ، ).
انفلق الصباح بعد ليلة من كثرة الأتربة التي نُفضت من فوق صناديق الحقائق ظنوا أنها ستحجب عنهم أشعة الشمس لسنوات. خرجت شمس عن صمتها الطويل منذ رحيلهم من المشفى فسألته:
-تميم! هنفضل نلف كتير كده بالعربية؟
رد بفتور: -مش عايز أروح.
أطرقت بحنو مقدرة الحالة التي يُعاني منها: -عايز تروح فين طيب.
زفر باختناق: -مش عارف. مش عارف يا شمس.
وضعت يدها على كتفه لتُحسسه بوجودها معه: -تحب نروح مكان هادي نفطر فيه. ومنه تفضفض براحتك.
رد بملل يقتل رغبته بالحياة: -ماليش نفس لأي حاجة.
تأملته بحيرة مفكرة كيف يمكنها أن تساعده على تجاوز تلك الفترة القاسية. فاقترحت قائلة مشيرة على مكانٍ هادئ: -ممكن تقف هنا؟
تنهد بتعب: -شمس.
بررت طلبها: -مش لازم تتكلم على فكرة، ممكن ننزل وتفضل ساكت وتبص للنيل، وأنا مش هضايقك. ها ننزل!
لبى طلبها وصف سيارته جنبًا ثم هبط منها ووقفت بانتظاره حتى احكم اغلاقها. اقترب منها وهو يرتدي نظارته السوداء فتلقت قُربه بابتسامة خفيفة استقبلها بهزة امتنان من رأسه. تقدم عنها خطوة أثناء سيره ف طوت المسافة الفاصلة بينهم وهي تسد فراغات يده بحركة غير متوقعة اشعلت نيران الاستفهام في رأسه. دخل الثنائي معا للمكان ثم أشارت له على الطاولة: -نقعد هناك. على النيل.
وافقها الرأي بصمت تمام. جلس بتراخٍ وهو يلقى المفاتيح من يده بدون اهتمام. جاء النادل ووضع الدفتر أمامهم ثم انصرف بهدوء. ألتزمت شمس الصمت وأخذت تطلع على قائمة الطلبات لتفسح له مجالًا من الاختلاء بأفكاره.
مرت دقائق عديدة حتى قطعت حبل الصمت المتصل بينهم بجملتها: -هطلبكرفطار على ذوقي!
-افطري أنتِ.
ردت بعناد: -لو مش هتاكل أنا كمان مش هاكل. هااه؟ ولعلمك أنا هموت من الجوع، بس براحتك!
رد بإبطاء وبنبرة يكسوها الإجبار: -تمام. اللي عايزاه.
أشارت للنادل وألقت عليه قائمة طلباتها مؤكدة على القهوة بالمذاق الذي يحبذه تميم. انسحب الرجل بهدوء، وغيرت هي مقعدها لتنتقل للمقعد المجاور له. طالعها بنظرة سريعة ولكنها تعمدت أن تطيل الوقت لرؤيته. فسألته بصوت خافت:
-تتكلم!
هوى في حفرة الماضي بشرود: -تعرفي كُنت حساب كُل حاجة، ومستعد أواجه أي حاجة وكنت حاسس بسر كبير مداري ورا حيطان القصر ده ؛ بس اللي مكنتش عامل حسابه بجد أن عاصي وعالية مايبقوش أخواتي. فجأة لقيت نفسي وحيد. مش متخيل القصر من غيرهم يا شمس.
بللت حلقها وهي تُطلعه بعيون يلمع بداخلها الدمع كالنجوم: -عارفة أنها صعبة. بس أنت ليه افترضت بُعدهم؟
-عاصي مش هيقبل يقعد في مكان مش بتاعه بعد ما كُل الورق اتكشف.
فقاطعته: -أنت بتحب عاصي يا تميم؟ يعني أقصد...
رد متفهمًا: -أنا فاهم تقصدي أيه. للأسف عبلة بفكرها المريض نجحت تبني جسر طويل ما بينا، طلعتني ابن زنا عشان تكسرني، وفهمت عاصي إني عدوه اللي لازم يحطه تحت المراقبة طول الوقت. ربنا جوانا عداوة وللأسف أحنا عشنا الوهم معاها.
غمغمت شمس بصوت خفيض: -دي مستحيل تكون بشر زينا. طيب أنت ناوي على أيه؟
-دماغي واقفة مش عارف أفكر يا شمس. واللي هيجنني عاصي كان عارف، وهما الاتنين لعبوها علينا.
ثم تنهد بحرقة: -طيب عالية؟ أنا مش مصدق إني مش هعرف احضنها تاني! طيب هي فين أهلها وهتعمل أيه وهيعيشوا أزاي؟
ساد الصمت بين أفواههم للحظات ولكن عينيهم لم تتوقف بعد. أخذت تُفكر بتردد حتى حسمت قرارها لتخبره: -تميم. في حاجة جيه الآوان تعرفها.
-حاجة أيه يا شمس.
-عاصي،!
-ماله عاصي يا شمس؟
تكلفت الهدوء وهي تخبره: -عاصي هو محمد عبدالعظيم. ابن تحية، تحية عمتي...
تدفقت الكلمات من عينيه باسئله جمة حتى راضت فضوله وقالت: -هحكي لك كل حاجة...
عودة إلى القصر
يقف كريم في شُرفة غُرفته يتحدث بالهاتف مع أمه وأخته هدير التي أخبرته بنبرة تعني انقضاء الأمر دون نقاش:
-مصاريف جامعتك دفعتها. والمفروض الميل يكون وصل على موبايلك. سافر يا كريم وشوف مستقبلك، وأبعد عن فلوس دويدار، أنا كُنت غلط من الأول لما شغلتك عندهم. بس أهو بصلح غلطي وأقولك سافر.
وقعت عينه على نوران التي تجوب ساحة الحديقة حائرة بنظرة محبطة توضح ما معنى أن ينظر المرء بخيبةٍ لذات الأمور التي حدّق فيها بأمل. فقال بتوجس: -أنتِ معاكِ حق، بعد اللي عملته خالتك أنا ماليش حق أقعد هنا. كُل ده بقا من حق تميم.
أطرقت هدير بأسفٍ: -عاصي عامل أيه؟
-عاصي مع مراته في المستشفى. هلبس وأروحلهم، وهجهز نفسي للسفر.
علقت غصة حُبها لعاصي بحلقها ولكنها تجاهلت صدح قلبها الدامي باسمه وقالت: -ده أنسب حل. وأنا وماما هنحصلك على هناك.
كادت أن تنهي مكالمتها مع أخيها ولكنها توقفت فجأة: -كريم. استنى، أنت شوفت الأخبار الصبح؟
-لا ماشوفتش حاجة؟ في أيه!
فتحت هدير الحاسوب أمامها وأخذت تقرأ عليه الأخبار المنتشرة صباح اليوم: -مزرعة الطريق الصحراوي التابعة لهاشم مدكور ولعت وبيقولوا أنها اتحولت لخرابة ومحدش عرف يلحقها. وكمان ده نفس اللي حصل في مصنع ممدوح علم، والخسارة بالملايين. معقولة عاصي يكون وراها؟
فكر كريم للحظة ثم قال: -هو فاضي لكل ده؟ بس تصدقي ممكن، مش دول اللي ورا خطف عالية!
أشادت هدير بإعجاب: -لو كان عاصي عملها تبقى ضربة معلم بصحيح. ومتطلعش غير منه...
-لو هو آكيد هنعرف.
ثم قفل معها المكالمة ليهرول مسرعًا إلى تلك الفراشة التي تتنقل بعشوائية فوق بساتين قلبه الذي اتبعه ليعرف ما بها. ارتدى معطفه الأسود وهبط لعندها، فأول سؤال أردفه: -أنتِ بتعملي أيه هنا الساعة دي!
ردت بقلقٍ وهي ترمي الهاتف من يدها فوق الطاولة: -شمس وتميم من إمبارح مختفيين مش بيردوا. وأنا قلقانة عليها.
رد بهدوء: -تميم مش معاها! قلقانة ليه. سيبيهم الصدمة على تميم مش سهلة.
-الله يكون في عونه الصراحة.
اقترب منها خطوتين وهو يضع يديه في جيوبه: -أنتِ نمتي فين النهاردة؟ قصدي أن مراد لسه فوق؟
-ااه، لسه مع عالية. وأنا نمت مع البنات لقيتهم خايفين حرام وقاعدين تحت المكتب من الخوف لما سمعوا ضرب النار، حضنتهم ونمنا.
تنهد كريم بحزنٍ: -مظلومين البنات دول.
-أوي.
ساد الصمت بينهم طويلًا، كل منهما يلقى نظرة سريعة على الآخر ثم يلجأ إلى السماء ليُعلق أعينه بها. حتى تلاقت عيونهم أخيرًا، فسألته نوران بارتباكٍ: -بتبص لي كده ليه؟
-نوران أنتِ عارفة أنا ماينفعش أقعد هنا بعد اللي حصل، ووجودي مش لطيف.
تفوهت بلهفت: -ليه! قصدي يعني أنت مالك بكل اللي حصل؟
-ده الصح يا نوران، كفاية أوي لحد كده، حتى شغلي في الشركة هسيبه.
خفق قلبها بفزعٍ وهي يلقي عليه شظايا الوداع: -هتروح فين طيب؟
-هسافر. ساعات الحياة بتجبرنا على حاجات مش عايزينها، بس مفيش حل.
احتبست العبرات في عينيها وهي توبخه بحرقة: -والحل أنك تهرب وتسافر! أنتَ كده ناجح؟ على فكرة بقا الانسان اللي مايعرفش يبني نفسه في البلد دي هيفضل طول عمره فاشل. سافر يا كريم عشان أنت بتلجأ للسهل مش عايز تحاول وتنجح.
ثم وقفت أمامه باعتراض: -مراد ده مش أخوك؟ مسافرش ليه! بالعكس أهو قدر ينجح ويثبت نفسه في البلد دي.
رد بيأسٍ: -الموضوع بالنسبة لي انتهى خلاص يا نوران. عشان كده جيت معاكي دوغري، وقلت لك أنا عايز أبقى معاكِ ولولا الظروف دي أنا كنت طلبت أيدك من تميم بس أنت مش مريحة قلبي.
ثم اقترب منها بعيون يملأها الرجاء: -أنا قلت اللي جوايا وأنت بتكابري، أو يمكن حبي ليكِ من طرف واحد. أنتِ مخلياني تايه ومتكتف مش عارف أعمل أيه.
خبر رحيله من البيت والبلد كان بمثابة حد السيف الذي بتر تفكيرها وجعلها تهذي بدون وعي: -أعمل اللي يريحك يا كريم. أنا هنجح في البلد دي وهبني نفسي هنا، مش ههرب زيك.
ثم اعتصرت قلبها المضطرب: -وأنت صح، حُبك من طرف واحد. أنت كُنت بالنسبة لي صديق بيساعدني، أنت فهمت كل ده غلط دي مشكلتك.
أوشك دمع عينيها أن يفضح كذبها، فألقت على مسامعه أخر جملة ثم فرت هاربة كالأرنب من أمامه: -سافر يا كريم...
قيل على لسان سيدة انعش الحُب قلبها...
أدفعُ عُمري بأكمله لشخصٍ أُطلعُه على مخاوفي،
فيأمِّنُها، أُظهرُ له مساوئي، ف يُجمِّلُها، أبوحُ له بهزائمي، ف أراني في عينيه مقبولة. لكُلٍّ مكانٌ في قلبي إلا من يجعلُني أقعُ في حُبِّ نَفْسِي،
ف له كُلُّ الفؤادِ و نَفْسِي.
رفعت عالية جفونها المُحملة بصخور من الحزن بعد ليلة طويلة قضتها بنومٍ متقطع بصرخات مدفون بصدر مُراد الذي آنس وحشة ليلتها. أحست بصقيع جسدها لغيابه عنها. تحسست وجوده بجوارها ولكن بدون جدوى، ففزعت من نومه تتفوه باسمه، فوجدته يهل عليها من الباب حاملًا إفطارها. هدأ هياج قلبها تدريجيًا عند رؤيته فسألته: -أنت كُنت فين؟
ترك المائدة التي بيده على الطاولة: -جبت لك تفطري. يالا.
ردت بثقل: -اجيب نفس منين بس يا مراد.
جلس بجوارها: -عالية مش هنوقف حياتنا على أخطاء الماضي، اللي حصل حصل، زعلك هيصلحه!
أجابته بخفوت: -لا.
-يبقى اتعلمي تتعاملي مع الصدمات كأنها أمر واقع، نتقبله بس ميأثرش فينا بالسلب.
ثم غير مجرى الحوار قائلًا: -هتقومي تفطري ولا اجيب الأكل هنا وأكلك بالإجبار؟
-خلاص هفطر.
ثم تراجعت متسائلة: -حياة عاملة أيه. وفين عاصي وتميم؟
-للأسف حياة خسرت الجنين، بس آكيد ربنا هيعوضهم خير المهم أنها كويسة. لسه مكلم عاصي ورد عليا أخوها.
تفوهت بتأثر يحمل الحزن: -يا حبيبتي يا حياة، طيب وديني عندهم يا مراد. أنا مش عايزة أقعد هنا تاني. البيت ده بقا بيخنقني.
-هوديكي مكان ما أنتِ تحبي. بس قومي فوقي وخدي شاور وكله هيتحل. سهليها عشان تسهل.
رمقته بأمل: -هلاقي أمي! أنا حاسة أنها موجودة وهلاقيها قُريب.
-هنلاقيها اطمني أنا جمبك. يلا بقا قومي...
عودة إلى المشفى
بصوت خفيض تحت تأثير المخدر الطبي غمغمت حياة بضعف: -عاصي! عاصي أنا فين.
فزع من الأريكة التي يجلس فوقها باندفاعٍ وفرحة تملأ وجهه وهو يمسح على شعرها بحنان: -أنا جمبك أهو. متقلقيش.
رفعت عينيها لمستواه وسألته: -أحنا فين وبنعمل أيه هنا؟
ثم طافت عينيها محاولة استعياب المكان: -دي مستشفى!
جملتها جعلتها تفزع بلهفة وهي تتحسس بطنها: -عاصي ابني حصله حاجة.
ثم مررت يدها على بطنها تبحث عن نبضه بقلق: -عاصي هو مابيتحركش ليه؟ أنا مش حاسة بوجوده.
ثم سحبت كفه فوق بطنها طاردة جميع الأفكار السوداوية التي هجمت على رأسها: -شوف أنتَ كده! نبض البيبي فين، حاسس بحاجة؟
جلس على طرف مخدعها بعجزٍ يمنعه من تفجير قنبلة مثل هذه على رأس إمراة جنت ثمار العشق بأحشائها. هربت الكلمات من شدقها وهي تتأمله بعينيها الذابلة وبخوف بدأ يبث وميضه بقلبها:.
-حبيبي. أنتَ مخبي عني حاجة؟ ابننا بخير مش كده؟ هو كويس طيب. عاصي اتكلم.
فتح كفوفها وطبع بداخل كُل واحد منهم قبلة إعتذار ثم رفع عينيه إليها وقال بحزن وندم:
-شكله مش عايزني أبقى باباه.
بفاهٍ مزمومٍ وأعين دامعة، عارضته مستفهمة: -ماتقولش كده! هو بيحبك وكان طول الوقت عايزني أبقى معاك. أنا واثقة لما يجي وتشوفه ه...
ثم ابتلعت غصة وجعها بسيل منهمر من الدموع الذي صنع من وجنتيها مجرى: -البيبي نزل، يعني هو مش موجود في بطني دلوقتٍ! قول لا. قولي فهمت غلط، قولي هو تعب شوية بس لحقناه. قول أي حاجة تانية غير أنه مبقاش موجود.
ثم مررت كفها المرتعش على وجنته بترجى: -عاصي عشان خاطري ما تقولش كده، أنا كُنت بعد الأيام عشان أحضنه ويكون معايا. أنا كنت بختار اسمه معاك امبارح!
دخلت في حالة اضطراب نفسي وهي تهذي بجنون غير مستوعبة الحدث: -بس دي غلطتي أنا؟ أنا اللي ماينفعش احب ولا اتعلق بحاجة زيادة عن اللزوم. أنا مش قولت لك قبل كده، كل حاجة بحبها بتروح مني؟ أنا ليه بيحصل معايا كده! يعني خلاص كده! مش هحس بنبضه ولا شقاوته تاني! انا ملحقتش أفرح والله. صورته لسه كانت معايا. خليتهم ليه ينزلوا يا عاصي، ليه معملوش المستحيل عشان ابني.
-حياة اهدي اهدي مش كده. حياتك عندي أهم من كل ده، وأنا مش عايز اطفال ولا عايز غيرك.
ف ضمها لصدره عنوة كأنها بالنسبة له زمنًا كاملاً
، وأي شيءٌ أخر مجرد أوقات مستقطعة من العمر. أخبرها بصوت متهدج:
-أنتِ عندي أهم. اهدي عشان خاطري.
صرحت باكية بحرقة تأكلها بأحشائها: -أنا كنت مستنية أخلد بداية حبنا معاه. كنت عايزه أشوف في عيونه أحلى أيام عشتها جمبك. كله راح خلاص.
-بس أنا موجود وجمبك ومش هسيبك. أهدي عشان خاطري، أهدي. اهدي يا حياة مفيش في أيدينا حاجة نعملها.
جاءت الدكتورة ركضًا إليهم عند رنين جرس الإنذار وهي تفحصها بلهفه خاصة عندما أحس ببرودة جسدها بين يديه. وتراجعها للخلف فاقدة الوعي. وثبت مفزوعًا وهي يسأل الطبيبة: -هي مالها!
ردت الطبيبه بسرعة: -محتاجة حنقة مهدئة حالًا.
ثم صرخت بالممرضة: -كلمي دكتور جمال بسرعة.
ثم نظرت لعاصي: -لو سمحت استنى بره.
بهدوء بدون أي جهد، او مقاومة، وبشكل مفاجىء ولكنه مريب ومثير لخلق الكثير من المخاوف، خرج من الغرفة وهو يراقبها من وراء الزجاج وكأن أحدهم قد سكب الماء على البارود فتوقف تمامًا عن الاشتعال. جاء أخوتها إليه بلهفه فساله رشيد:
-فاقت؟
لم يجب إلا بايماءة خفيفة وهو يطالع قلة حيلتها وضعفها وارتعاش شفتيها بكلمات مزقت قلبه. خرج الطبيب من عندها فذهب إليه بذعرٍ: -هي حصلها أيه يا دكتور.
-هي عرفت أن الجنين نزل؟
-للاسف. معرفتش اخبي عليها.
-متوقع. كتير من الستات بتدخل في الحالة دي، مش بتستحمل، هي نايمة دلوقتِ، ولما تصحى خليك جمبها هي محتاجة لك أكتر من أي حد. بعد اذنكم.
رافق عاصي خُطاه مبتعدًا عن أخوتها وأخذ يطرح عليه العديد من الأسئلة حتى ختمهم بطلبٍ: -لو سمحت ليا طلب.
-طبعا اتفضل يا عاصي بيه.
تذكر معاناته مع مها قبل ان يخسرها. مخاوفه من خِسارته وتعلقها الشديد بذلك الطفل. قسوة الليلة الماضية التي قضاها متقلبًا في لهب هواجسه. فاق على نداء الطبيب: -عاصي بيه اتفضل.
رد بثبات: -كنت عايز حضرتك تعلق لها pills.
عقد الطبيب حاجبيه باستغراب: -ليه؟ بالعكس دي فرصة كويسه أنكم تعوضوا الطفل ده عشان تنسى وتطلع من الحالة اللي هي فيها.
رد بإصرارٍ: -معلش يا دكتور. مش حابب نعيش نفس الوجع تاني، ولا حابب أطفال الوقت الحال، فوسيلة منع الحمل أنسب حل.
-تمام. مفيش مشكلة.
اندفع عاصي طالبًا: -بس ليا طلب كمان! مش عايزها تعرف.
ثم برر موقفه للطبيب: -لحد ما امهد لها الفكرة وزي ما أنت شايف حالتها، محتاجة ترتاح شوية. ممكن!
-اللي تشوفه...
-هو أزاي الإنسان المفروض يمسح كل سنين عمره وذكرياته من المكان؟ أزاي ينسى عُمر كامل مش شخص ولا ذكرى سيئة!
أردفت عالية جملتها وهي تجمع ما تحتاجه من خزانة ملابسها خاصة بعد ما أخبرت مراد بعدم تحملها لهذا المكان وهذه الجدران تضغط على قلبها. اقترب مراد منها وطبع قُبلة خفيفة على كتفها وقال:
-اللي هيقف في شارع الماضي، هيفوته جمال العالم بره يا غالية.
دارت إليه باستغراب: -غالية! أول مرة تقولي كده؟
-لأنك كده فعلًا بالنسبة لي! غالية. وأغلى حاجة في الدنيا.
ثم تعمدت ملاطفة الأجواء كي تتغاضى قليلًا عن حزنها الذي أذبل ملامحها: -بصرف النظر عن كُل المصايب اللي حصلت دي، بس أنا مبسوط. هاخدك في حضني كده ولا عاصي ولا غيره هيفتحوا بؤهم.
ثم تبسم مجاملة: -النهاردة بس عرفت معنى مصائب قوم عند قوم فوائد.
خيم فطر الحزن مرة ثانية على ملامحها، فانبثقت دمعة واحدة من طرف عينيها وباتت تسرد همها: -يعني خلاص كده؟ عاصي وتميم مش هعرف أشوفهم تاني؟ منكرش إني شفت قسوة من عاصي بس عمري ما كرهته ولا عرفت. كنت دايما بشوف فيه الأب اللي لازم يقسى عشان نتربى.
كفكفت عِبراتها بحزن وخيم: -ولا في سهر مع تميم ودردشة طول الليل! أنا كنت مستنة الوضع بيننا يتحسن، مش يسوء بالطريقة دي.
ثم رفعت عينيها الباكية إليه وسألته: -طيب أنتَ لما تزعلني، أنا هتحامى في مين، وهشتكيك لمين...
-بس أنا عمري ما هزعلك يا ستي. وده وعدي ليكي.
-مفيش راجل وست مفيش بينهم مشاكل. واللي يقول غير كده يبقى بيكذب.
مسك كفوفها بحبٍ: -وأنا متفق معاكِ. بس اتأكدي إني عمري ما هزعلك.
ثم قبل رأسها بحنان وقال: -هشوف كريم وأرجعلك تكوني خلصتِ.
غادر الغرفة باحثًا عن كريم حتى وجده بالحديقة يفتش بالهاتف، جلس على المقعد المجاور له وأخبره: -أنتَ عارف أن وجودك هنا مابقاش ينفع. تعالى اقعد في شقتي لحد ما تشوف هتعمل أيه.
رد كريم بضيق: -عارف يا مراد. وجهزت حاجاتي وماشي، مسافر.
-مسافر فين؟ من أمتى ده؟
ترك كريم هاتفه وانتبه لحواره مع أخيه وأجابه بملل: -مفيش حاجة اقعد عشانها. هسافر أمريكا أكمل دراستي واشتغل. ومش هرجع هنا غير وأنا واقف على رجليا.
-ليه يا كريم؟ ما تيجي وتشتغل معايا ونكبر سوا؟
جاكر أخيه ممازحًا: -أنتَ خايف أنافسك ولا أيه؟ أطمن كده كده هيحصل.
ضحك الأخوة معًا ثم سأله مراد باهتمام: -أنت مقتنع أنك عايز تعمل كده؟
تجاهل لصدح مشاعره الرافضه لذلك وقال: -كده أحسن...
-آللي يريحك، المهم خالتك مختفية من القصر وسألت الحرس قالوا انها مشيت بالليل ومن غير عربية ولا حاجة.
رد كريم بامتعاض: -أعمل أيه يعني؟ وبعدين هي عيلة صغيرة يا مراد؟ دي عليها جبروت عدى جبروت هتلر...
-يالا خلي عندك دم. وانزل دور على خالتك. وانا هوصل عالية عند عاصي في المستشفى وهنزل ادور عليها...
ثم أخفض نبرته قائلًا: -كريم دي خالتك ومن دمنا، محدش هنا من دمها عشان يهتم بيها. لو سمحت قوم شوفها راحت فين. على الاقل نطمن عليها ياخي...
لبى طلبه على مضض: -طيب هدور عليها. حاجة تاني!
جاءت سيدة بتردد وبعينيها أسرارًا تفيض، فسألته باضطراب: -سي مراد، هو عاصي بيه مش هيجي هنا تاني؟
-معرفش والله يا سيدة. خلي بس بالك من القصر الفترة دي.
حكت كفوفها ببعض ويبدو عليها القلق: -طيب أنا كنت عايزه أشوف عاصي بيه ضروري.
-خير يا سيدة؟ في حاجة أقدر أساعدك فيها؟
بللت سيدة حلقها الجاف من كثرة التفكير ليلًا: -تعيش يا سي مراد. دي حاجة تخص عاصي بيه ولازم يعرفها بنفسه...