قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية غوى بعصيانه قلبي الجزء الثاني للكاتبة نهال مصطفى الفصل الثلاثون

رواية غوى بعصيانه قلبي الجزء الثاني للكاتبة نهال مصطفى الفصل الثلاثون

رواية غوى بعصيانه قلبي الجزء الثاني للكاتبة نهال مصطفى الفصل الثلاثون

أتساءلُ دومًا،!
هل هذا الفيلم القصير المسمّى بالحياة يستحقُّ منّا كلّ هذا العناء؟ وكلّ تلك التّضحيات؟ وهذا الكم الهائل من البكاء؟
هل يستحق أن نخلع الحقيقة عن أنفسنا لنرتدي وهمًا قاسيًا؟
أن نكذِب؟
أن نكسر القوانين ونحرّف القواعد لنعيش. لنعيش بمشاعر مزيفة، وضحكات مزورة؟
خُلق القلب عصيًا.

بالسيارة
-عاصي، أحنا متفقناش لحد دلوقتي هنسمي البيبي أيه؟
بثغرٍ بسام هبت عاصفة حماسها بوجهه لتلقي على أذنيه سؤالها الأخير، ليرتسم على محياه ضحكة خفيفة ويجيب:
-أنا واثق في ذوقك. اختاري الاسم اللي يعجبك.
ألقت نظرة على الصورة التلفزيونية بيدها وقالت بحنو: -لو ولد ناويه اسميه ريان. لأن باباه روى قلبي بعد عطش سنين.
ثم غمغمت مع نفسها لسماع إيقاع الاسم: -ريان عاصي دويدار. حلو؟

ثم عادت إلى نبرة صوتها المفعمة بالحماس: -ولو بنوتة هسميها سلسبيل. بمعنى الماء العذب زي اسم رسيل. وعين من عيون الجنة.
ثم فزعت من مكانها بعفوية: -أيه رأيك؟
صارت النظرات تتعانق وتقبل بعضها: -قُلت لك واثق في ذوقك.
ردت بتغطرس يملأها الدلال: -طبعا لازم تثق، كفاية إني اخترتك.
ضم كفها ورفعه لمستوى ثغره ليعطره بالقُبل ثم قال: -بس أنا ليا طلب؟
-طلب أيه! قول.

دار بمقود السيارة حتى اعتدلت مرة أخرى ثم قال: -لو مش مكتوب لي أشوفه، خليه يعرف أني بحبه وو
وضعت كفها المرتجف فوق فمه ليكف عن سرد قدر لا تتحمله بصوتٍ رافض: -عاصي بس، أنت بتقول كده ليه لو سمحت متقولش كده.
ثم انبثقت من طرف عينيها دمعة حارة وأكملت: -أنت عايز تسيبني لوحدي بعد ما لقيتك؟
مد ذراعه ليضم رأسها إلى صدره وأخذ يداعب كتفها بحنان زاخر وقال: -بطلي جنان...

كادت أن تعارضه بعد ما كفكفت عبراتها ولكن صوت رنين هاتفه جعلها تبتلع كلماتها وتواصل نحيبها المكتوم، وضع السماعة بأذنه وقال باختصار:
-في أيه؟
فأخبره حارس الأمن: -عاصي باشا، عبلة هانم وجوزها هنا وكريم بيه سمح لهم بالدخول على مسئوليته.
فجر غضبه الدفين بمقود السيارة وهو يضربه بقوة ثم قال بحدة قبل أن ينهى المكالمة معه: -طيب بس أجيلك...
برر الحارس قائلًا: -والله ياباشا أنا ماليش ذنب.

نهره بعنفوان وهي يصف سيارته جنبًا ثم لف مقود السيارة لاخره وغير مسار اتجاهه مما جعلها تتفوه صارخة: -عاصي! على مهلك.
ثم تفقدت مساره: -أحنا رايحين فين؟
رد بجمود وهو يجري مكالمة أخرى: -شوية وهتعرفي.
ثم ألقى أوامره بالهاتف قائلًا: -تعالى على العنوان اللي هبعتهولك.
انتظرت حتى فرغ من مكالمته وقالت متحيرة: -عاصي، فهمني.
-حياة! قولت شوية وهتعرفي.

كان رده جافيًا خشنًا جعلها تطوى الآسى بداخلها وتنكمش بباب السيارة وتتجاهل النظر إليه قائلة بعناد: -مش عايزة أعرف...
اكتفى بإلقاء نظرة عليها ثم عاد ليفرغ غضبه بالطريق وبسباق السيارات حذاه وهو يقود بسرعة جنونية مُحكمة.

بعد مرور ساعة بمتجر الملابس الاسلامية خرجت عالية وهي تحمل العديد من الحقائب بيدها والحال لم يختلف كثيرًا بالنسبة لمراد الذي يحمل ضعفهم. خرج الاثنان في أجواء يملأها المرح والضحكات لحياة جديدة تجمعهم. فاقترح مراد قائلًا وهو يفتح السيارة: -أيه رأيك نروح نوديهم على شقتنا على طول؟
وقفت مترددة: -بس كده هتأخر على شمس.
ترك الحقائب بداخل السيارة وقال: -وهي شمس صغيرة! هنوديهم وارجعك بسرعة.

أعطته بقية الشنط المعلقة بيدها وقال بتوجس: -خليهم في عربيتك، ولما تروح حطهم في الشقة براحتك. ولا أيه؟
-على فكرة أنتِ كده بتضيعي وقت، البيت مسافة نص ساعة من هنا، هنروح نوصلهم ونرجع.
أجابته على مضض: -طيب، بس منتأخرش.
راقت له فكرة اصطيادها وقال: -طبعًا طبعًا. مسافة الطريق. اركبي...
صعد الثنائي سيارته، تأففت عالية بصوت مسموع حين مطالعة هاتفها: -مش وقتك خالص.

ثم نظرت إلى مراد متسائلة: -معاك USB هنا، موبايلي هيفصل!
فتح صندوق السيارة وأخرج منه الناقل الكهربي ووصله بهاتفها ثم سألها وهو يعيد النظر إلى الطريق أمامه: -خالتي محاولتش تطمن عليكي؟
خيم فطر الحزن على وجهها وقالت: -ممكن تكون اتصلت على رقمي التاني.
ثم احتبست العبرات بحلقها وأكملت: -بس لا. هي محاولتش حتى تطمن عليا. ومعرفش هي فين كل ده.

تكدرت صفوة أجواءهم ثم قالت بحرقة: -هي بعيدة أوي كده ليه؟ طيب ما بيخطرش على بالها اني محتاجها؟ أنت تعبت من شعور الوحدة.
انهارت فلسفة الكلمات أمام مواساتها، ضم كفها بحب وقال ملطفًا: -و أنا روحت فين! سايب شغلي ولغيت كل الميتنج اللي عندي وبلف معاك في الشارع زي المراهقين! وفي الآخر مفيش حتى شكرًا.

لمعت عينيها بنجوم الامتنان وقالت: -بجد شكرًا يا مراد، شكرًا على وجودك وعلى وقفتك جمبي وعلى كل المشاعر الجميلة اللي بحسها وأنا جمبك.
-أيوة كده، أنا كراجل بحب اسمع كلام حلو كتير. على أد ما تقدري حبي فيا عشان أحنا كرجالة بنتلكك.
قال جملته الأخيرة بكبرياء الطاووس. فاستقبلتها مترنحة: -أيه؟ تعالى هنا. أنت ممكن تخوني؟
رد بغطرسة: -جايز، كله في أيدك يا لولا.
ردت بانفعال طفولي: -يعني أيه بقا ان شاء الله؟

-يعني عاصي أخوكي مثلا لو فضل مصمم على موقفه اللي زي الزفت ده. اممم يوم رجعت بيتي ولقيتك أقل حلاوة من اليوم اللي قبله. يوم نسيتي تقوليلي كلام حلو. وكده يعني!
رفعت حاجبه معترضة: -والله، بقى كده؟ طيب أنت تعرف أني عندي وش تاني بيخوف، فخاف مني بقا؟
انفجر ضاحكًا على براءتها وقال: -سوبر حماس أني أشوفه.
حدجته بتأنٍ: -مراد، اتظبط...
أجاب بطاعة: -اتظبطت.
-أيوة كده.

ثم صمتت لحظات وأكملت بشكٍ: -هي المهندسة بتول عاملة أيه؟
شبح ابتسامة خفيفة استقر على ثغره وقال: -بتول زي القمر.
نهرته بحدة مبطنة بالغيرة: -مراد...
فصحح مغرى جملته قائلًا: -قصدي أنها كويسة، في أيه يا عالية!
-أنا اللي في أيه يا مراد؟
ألقى نظرة على ملامحها الملطخة بحمرة الغيرة، فغمز بطرف عينه قائلًا: -ملامحك تجنن وهي غيرانه.
-أف، انت جبت الرخامة دي كلها منين!
رد بتفاخر: -لا دي موهبة.
-مش هرد عليك. وبطل بقا.

-أنتِ الخسرانة.
صف سيارته جنبًا أمام البناية التي تقع بها شقته وقال: -وصلنا. يلا انزلي.
-طيب اطلع أنتَ، وأنا هستناك هنا.
شد مفتاح سيارته وقال بجدية: -عالية آكيد بتهزري، وفيها أيه؟ عشان تحطيهم بنفسك جوة الدولاب.
-يامراد عشان متأخرش على شمس.
غمغم: -يادي شمس! شمس دي مش عندها جوز!
-اي دخل دي في دي؟ يلا بقا خلينا نكسب وقت.
-هي الشقة مش وحشتك!
ابتسمت وهي تتنهد بحنين: -لا طبعًا وحشتني.
-خلاص، يلا انزلي يا عالية.

دلف من سيارته وتحرك إليها وفتح الباب من عندها موشيرًا بعينيه أن تهبط من مكانها. وأكمل هو في إخراج الحقائب من داخل السيارة حيث همت لمساعدته في حملهم. قفل سيارته بالريموت عن بعد ثم دخل الاثنان معًا لدهليز البناية.

وصلا إلى الطابق المعني لشقتهم. فتح مُراد الباب فدخلت عالية بأنفاسها المضطربة وهي تتأمل زواية الشقة بحنين ولحظات من التفاصيل التي عاشتها بداخلها. قطعها مراد معترضًا: -هتفضلي واقفة عندك كده كتير؟
-هااه، لا بس سرحت شوية!
ثم وبخته بعينيها: -مراد الشقة مكركبة كده ليه!
ترك الحقائب على السفرة ثم قال ممازحًا: -رجل أعزب وعايش لوحده، مستنية شقته يكون شكلها أيه! بس أوعدك يوم ما تنوريها هخليها حاجة تانية.

اكتفت بابتسامة خفيفة وقالت له: -طيب هدخل دول جوه.
-هعمل مكالمة واحصلك.
-براحتك.
دخلت إلى غرفته المنقلبة رأسًا على عقب، لا يوجد بها شيئًا بمكانه. ملابسه مبعثرة في كل صوب وحدب. الوسائد مُلقاه بعشوائية هنا وهناك. خزانته مفتوحة على مصرعيها. أخذت تجوب بالمكان بصدمة كبيرة:
-يانهار يا مراد؟ أيه ده! دي ما بقيتش أوضة نوم!

تركت ما بيدها وشرعت في إعادة ترتيب الغُرفة بسرعة. لملمت ملابسه المتسخة ووضعتها بالغسالة. بدلت مفارش السرير ووضعت الوسائد بمكانها. وقفت أمام الخزانة حائرة لا تعلم من أين ستبدأ، فزفرت بضيق:
-والله حرام عليك؟ هيحصل أيه لو اتعلمت النظام يعني.

نزعت سترتها الخضراء مكتفية بال تي شيرت الداخلي والبنطال الفضفاض من خامة الجينز . سكبت محتويات الخزانة على السرير وأخذت تعيد تنظيمها من جديد وهي تغمغم مع نفسها بكلمات متنوعة تدل على إعتراضها على حالته:
-هو لما كمل على الحال ده أنا هعيش معاه أزاي؟ هو في كده طيب! حقيقي هيجنني، لازم يشوف حل في العبث ده!

قطع صوت همهماتها وحنقها من عنه يداها المُلتفة حول خصرها وهو يضمها إليه بشوقٍ ليذوق طعم الشجرة المحللة متفوهًا: -بتكلمي نفسك؟
ظهرت رجفة جسدها بتبرتها المهزوزة وقالت: -أنت ازاي عايش في الأوضة بالشكل ده!
دفن أنفاسها بجدار عنقها مُقبلًا على تذوق شفافهُ من شهدها فأردف: -وحشتيني.

توقف عقلها عن ترجمة الكلمات فأكملت وهي تحت مظلة عشقة: -مراد بجد إحنا لازم نحط قوانين لحياتنا، أنا مش بعرف أعيش في مكان مش مترتب.
استولى على صوته همهمات اللهفة: -وحشتك!
ما زالت ملابسه مستقرة بين راحتي كفيها فقالت: -اوعدني تكون شخص مهندم. وتحط كل حاجة بمكانها بعد كده.
-عالية، بقولك وحشتيني.
-هااه!

تقدم درجات في سلم حبها فهوت بحفرة العشق كما هوت الملابس من يدها. فتسلطن عليهما الحب والحنين كبلبل يتنقل هنا وهناك. وهي نائمة على كتفه متكلفة الاسترخاء تستمتع بألحان العشق المعزوفة على أوتار مشاعرها بصمت لم يقطعه إلا صوت أنفاسهما الحارقة.
‏في زاوية ما بهذا العالم الواسع القاسي ستقابل شخصًا واحدًا ليكون هو أحن خطواتك المؤجلة حينها ستقف بجواره ولن تتحرك وإن فاتك العالم أنه الشخص المناسب.

‏ لا تَستطيع أيّ ضوضَاء أن تخلقَ فزعًا مُساويًا لمَا يخلقهُ الصَمت المُمتَدّ بينَ مُتحابَّين.
تجلس حياة على أريكة شقتها التي جاءت إليها بشكلٍ مُفاجيء ولسببٍ مجهولٍ، بصمت مريب بين الطرفين، هي لم تسأل وهو لم يتكفل ويجيب ليروي فضولها. بل اكتفى بالجلوس في صالون الشقة وإجراء الكثير من المكالمات.

ضاءت شاشة هاتفها برسالة نصية من جليسة الصغار وهي تُخبرها: -حياة هانم، جبت البنات من المدرسة ورايحين التمرين.
ردت حياة باهتمام: -تمام يا رشا، خلي بالك منهم. وقولي للسواق يسوق براحة عشان تاليا بتعب من السرعة.
-حاضر.
قفلت حياة شاشة هاتفها ثم تركته بجانبها ووثبت قائمة نحوه بملامح منكمشة:
-هتفضل سايبني وقاعد هنا كتير.

كتب أخر رسالة نصية لمن يراسله ثم ترك ما بيده ونهض إليها بقامته المهيبة. وضع يديه على كتفيها بهدوء: -مالك بس؟ وأيه البوز ده كمان! مش متعود منك على كده.
تخشبت معالم وجهها بضيق: -عاصي أحنا جينا هنا ليه؟
ما زال محافظًا على هدوئه: -فلنفترض حابب أقعد معاكِ لوحدنا، دي حاجة تزعلك؟
تحاشت النظر إلى عينيها وأطرقت بعيدًا: -طيب.
مسك ذقنها ورفع وجهها إليه: -حياة بصي لي.
أطرقت أرضًا بعيونها المُحملة بالدموع: -لا.

أصر أن يرفع عينيها إليه لتلتقي بعينيه ثم سألها متحيراً: -مالك؟ أنتِ معيطة؟
سؤاله كان بمثابة شرارة النار التي سقطت على حقل أحزانها، فانفجرت باكية وهي تتمرد وتعاند: -لا.
عقد حاجبيه متعجبًا: -والدموع دي؟
-مفيش يا عاصي. عادي.
شرع بمداعبة خصلات شعرها المبعثرة بأنامله وهو يسألها بطريقة أكثر حنانًا: -أيه مزعلك؟
ابتعدت عنه بانفعال غير مبرر، وهتفتت ببكاء غزير: -قلت مفيش ومش حابة اتكلم وكمان متقربش مني.

- كيف لمجرد فكرة رحيل شخصٍ واحدٍ أن يُخلِّف هذا الألم الكبير والمرهق في قلبك، وكأن الأرض خاليةٌ من كل البشر واكتفيت به عما سواه من البشر؟
جذبها عنوة إلى صدره وحاوطها بكلتا ذراعيه، ارتجفت في هدأة حضنه من فرط خوفها مثل محمومٍ بدون حمّى. أخذ يربت على ظهرها بحنية تتساقط في حديثه: -أشش. ليه ده كله؟ بس بس روقي واهدي.

عانقته بغتة متعلقة برقبته كطفلة صغيرة تخشى مغادرة أبيها وهي تضربه بقبضة يدها كعقاب يستحقه عما قاله:
-أول وأخر مرة كلامك معايا يكون في مجرد احتمال أن بكرة يجي وأحنا مش سوا.
ثم انتفضت مذعورة بين يديه بنيرة مغلفة ببحة طائر مدْبوح: -من وقت ما قولت كده وأنا عاملة زي اللي اضرب على دماغه. عاصي أنتَ مخبي عليا أيه؟
ضحك بصوت مسموع على سذاجتها وقال: -يعني ده اللي مزعلك! مكنتش متخيل أن عقلك صُغير كده.

دفنت وجهها الباكي في صدره وهي تضربه بقبضتها مرة أخرى برفق: -أنا مش هقدر أعيش يوم واحد من غيرك.
تدلى ليحملها بين يديه بحنو ويجلس على أقرب أريكة وهي متخذة من جسده مأوى. جلس وشرع بمداعب خصلات شعرها: -طيب بصي لي.
هزت رأسها نافيةً هي تندس بضلوعه وتقول بتمرد: -لا. عشان لسه زعلانة.
هَل تعلم ما معنى أن تبنيَ عالمًا زاهيًا لك داخِل عينَي؟ فلا تطفئه بغيابك. كن لي حبيبًا لآخر عُمري.

واصل مغازلة تفاصيلها الذي وقع ضحيتهم. أمرأة قوامُها لطيف حَتى أبتسامتهَا قادرة على ترميم روحك، أخذ يسرد شجن قلبه:
-منكتش متصور أن هيجي اليوم وأحب فيه واحدة زي ما حبيتك، تعرفي. اليوم ال كنتِ نايمة فيه جمب البنات، معرفتش أنام في الأوضة، حاولت كتير بس قلبي مقدرش.

في كل مرّةٍ أكون فيها بجوارك، يخجل القلب أن يفكر في الغد وما يحمِله من هموم، لقد اجتمعت فيك معاني الرفقة الحقيقيّة، وكنت أرى شعوري الخائف، يزول باطمئنانٍ وهو يتآلف مع خدشٍ سبّبته له الحياة، ‏يزول سريعًا لأنك برفقته.
محى حزنها باعترافه فطالعته بعيونها الذابلة من كثرة البكاء وأخذت تمرر كفيها على وجنته حتى أقرت منتشية لقُربه: -وقلبي وقتها كان مراهنني عليك. وكسب الرهان.

بدأ في كفكفة عبراتها بلوم: -بقا العيون الحلوة دي تعيط؟
ثم نهض وشدها خلفها ناحية المرحاض وشرع في غسل وجهها بالماء الفاتر حتى هدأت حُمرة عينيها. تناول المنشفة وجفف ملامحها المبللة وهو يقول: -نسيت أقولك أن في مفاجأة كمان خمس دقايق.
سطع وجهها ببهجة طفولية: -مفاجأة أيه؟
-قولت بعد خمس دقايق. ومتحاوليش.
وقفت على أطراف أصابعها لتُقبله سريعًا بوجنته: -طيب وكده؟

-تؤ، وبعدين أيه دي؟ دي تضحكي بيها على تاليا وداليا.
-عاصي! عشان خاطري قول بقا.
-طيب ادفعي عربون يستاهل الأول.
زامت فاهها بدلالٍ: -لو مفاجأة حلوة هعملك اللي أنت تطلبه. يلا.
في تلك اللحظة رن جرس الباب مُقاطعًا لحديثهم، فقال: -روحي افتحي.
-اشمعنا؟
-عشان تعرفي المفاجأة...

خرجت شمس من صالون التجميل وهي تكرر اتصالها بعالية التي اختفت فجأة. على مراجل من قلق أخذت تجوب حائرة وهي تهذى مع نفسها حتى يائست أن تجد حلًا فهاتفت تميم لتستغيث به. ما أن أتاها صوته قائلًا:
-خير يا شمس؟
جاءه صوتها مضطربًا: -تميم. أنت فين؟
-في الشُغل. في حاجة؟
زفرت بحيرةٍ: -ايوة.
-قولي.
ردت بصخب يملأها: -عالية، قصدي أنها راحت تزور واحدة صحبتها، ومش عارفة أوصلها.

فزع تميم من مجلسها بلهفة وهي يطرحة عريضة من الاسئلة لم تجب عليها شمس حتى ختم تساؤلاته قائلًا: -أنتِ فين؟
وصفت له العنوان بتخبط في تفاصيله حتى قطعها: -ابعتي اللوكيشن يا شمس، جايلك.
توسلت إليه: -بسرعة يا تميم.

فُتح الباب وفتح معه عينيها وفاهها، أزفت لحظة اللقاء المنتظر أخذت تَتلعثم مكذبة ما تراه. تجمدت الدماء بعروقها من هول الصدمة فخانها التعبير مكتفية بتوزيع نظرات تحمل الكثير من الدهشة. فهمهمت باسمي أخوتها:
-رشيد. يونس.
ناظر الإخوة بعضهم البعض في استفهامات متشتتة ختى تفوه يونس بحماس وهو يبادر بمعانقة أخته الكُبرى: -رسيل!
تعلقت بحضن أخيها بشوق مدججٍ وهي تهتف باسمه: -يونس! معقولة!

فأخذت تبتهل بشكر: -الحمد لله، الف حمد وشكر ليك يارب. وحشتني وحشتني أوي يا حبيبي.
أمطرت سُحب شوقها على كتفي أخيها وهي تستنشق به رائحة والدها:
-قلبي كان حاسس والله.
فارقت جسد أخيها بعناء لتطوق رشيد، توأمها وتقول ببكاء: -رشيد، تعالى تعالى في حضني. وحشتني يابن الأيه.
ضم أخته بلهفة اللقاء وهو يخبرها: -انا مش مصدق، مش مصدق أنك قدامي، انا كنت يأست خلاص وقلت البحر غدر بينا. زي ما غدر بقنديل المصري.

هتفت بنحيب دفين: -الله يرحمه. هو آكيد فرحان بلمتنا دلوقتِ، أنا حاسس ببابا.
من الخلف أشار عاصي لرجاله أن ينتظروا بالأسفل. انسحبوا بهدوء فتدخل عاصي قائلًا: -طيب ادخلوا جوة.
رمقه يونس بحيرة حول هويته: -مين ده يا رسيل؟
ابتعدت عن حضن أخيها وهي تجفف دموعها السائلة، طالعته بتفاجر وهي تُجيب أخيها: -عاصي دويدار، جوزي.
قفل رشيد الباب وعاد إليه ليفحصه بعناية: -ده أمتى وأزاي.

أجابهم عاصي: -هتعرفوا كل حاجة، بس الأول اتفضلوا ارتاحوا من السفر.
تغلغلت أصابعها بفراغ كفه لتسير بمحاذاته نحو الأريكة. اتبع اخوتها الخُطى حتى وصلوا إلى غرفة الجلوس. جلس عاصي على مقعد منفرد. وأقبلت حياة إلى يونس وأخذته بحضنها مرة أخرى وهي تُقبله بقبلات مدججة بالشوق والهفة أثارت غيرة عاصي. فقال مقترحًا:
-حبيبتي، أخواتك أكيد جعانين. شوفي ياكلوا أيه؟

طوق يونس أخته الكبرى بحب ثم قبل كفها: -أنا النهاردة أسعد واحد في الدنيا. وحشتيني ووحشتني رواياتك وكلامك يا رسيل. أنا كنت تايه من غيرك.
ردت القبلة بقُبلتين وقالت بفرحة: -عاصي معاه حق، تاكلو أيه؟ هعملكم كل الأكل اللي تحبوه، وحشكم أكلي مش كده!
تحمس يونس: -أنا وحشتني الصيادية بتاعتك.
-بس كده، حالًا أقوم أعملك أحلى صيادية.
تدخل عاصي باسمًا: -استني بس. ارتاحي هنطلب الأكل من بره.
عارضته: -عاصي...

فبرر قائلًا: -أكيد يونس مش هيوافق يتعبك وأنتِ حامل! ولا أيه يا يونس.
هتف يونس بفرحة وهي يضمها: -الله؟ ده بجد؟ يعني هابقى خالو. لا جوزك معاه حق ارتاحي خالص.
طالع عاصي رشيد بملامحه الصاخبة حيث سأله: -واضح أن رشيد مش مبسوط أنه هيبقى خال هو كمان.
تفوه بحنق واضح: -أنتَ عرفت أختي ازاي؟
عارضه يونس: -رشيد، ده وقته.
عاصي متفهمًا: -سيبه يا يونس. هاا عايز تعرف أيه يا رشيد؟

-أحنا لينا نص ساعة بنلف ولحد دلوقتى ماقولتيش معلومة واحدة مفيدة يا شمس.
بنبرة أجشة هتف تميم قائلًا جُملته الأخيرة ثم أتبع: -يعني هتكون راحت فين؟ وأنتوا أيه خرجكم أصلًا؟
انتفضت شمس من مكانها: -طيب ممكن تهدى؟
-اهدى أيه في الظروف دي؟ أنتوا عارفين الظروف ومش عارفين مين بيعادينا وكمان خرجتوا و أدي النتيجة!
ثم أمسك هاتفه بعجل فسألته: -هتكلم مين؟ بلاش عاصي، هيتخانق معايا وهتحصل مش.

فقاطعها مزمجرًا: -مش هكلم عاصي، ده مراد.
باندفاع أجابته: -هو كمان مش بيرد.
-كلمتيه؟
-ااه كلمته كتير، مابيردش.؟
زفر بضيق وهو يفكر ثم تراجع إليها: -وأنتِ كلمتي مراد ليه؟
بدأ الاضطراب يتراكم فوق معالم وجهها وهي تتراجع للوراء حتى ارتطم ظهرها بباب السيارة: -أصل، عالية.
اخفض تميم سرعة السيارة بعدما أدرك أنها تخفي شيئا: -اتكلمي على طول يا شمس.
-أصلها خرجت عشان تقابل مراد. وقالت ساعة وهترجع.

-وماقولتيش كده ليه من الصبح؟
كان سؤاله مغلف بالتوبيخ حتى بررت: -أصل ده سر.
ثم اندفعت محذرة: -بص قُدامك.
عض تميم على شفته السُفلية وهو يراقب الطريق أمامه ويهمهم مع نفسه بكلمات غير مفهومة حتى قطعتها حائرة: -تميم، أنا مش فاهمة حاجة من اللي أنت بتقوله!
جهر بجزع فاض في نبرته الغاضبة: -بكلم نفسي يا شمس، اتجننت فبقيت بكلم نفسي.
-طيب براحة، وأنا مالي بتزعق فيا ليه؟
-عشان تكذبي تاني!
-انا مكذبتش...

اكتفى بإرسال نظرة حادة إليها ثم أكمل تجوله بالطرقات متجنبًا الحوار معها وهو يتوعد في نفسه لمراد وعالية وشمس التي كذبت عليه، وصل الاثنان تحت البناية التي تقع بها شقة مُراد فهتف تميم بضيق فاض:
-اهي عربية البيه اهي.
شمس بحرج: -يعني هما فوق!
-اكيد.
هبطت شمس من سيارته وتحركت كالمخبرين حول سيارة مراد ثم عادت إلى تحت نظرات التعجب من فعلها: -أنت نزلتي ليه؟
-عالية موبايلها جوة العربية. يبقى فعلًا هي فوق.

ثم تنهدت بارتياح: -الحمد لله أنها بخير.
فتح تميم نوافذ سيارته ثم ولى تجاهها ليبدأ في فقرة استجوابها: -هااه بقا خرجتوا ليه؟
ردت بخجل مشحون بالتوتر: -شويينج يا تميم.
لم ترق عليه كذبتها: -شمس هناك مفيش ولا محل تشتري منه.
-لا طبعا في!
رد بتخابث: -طيب فين اللي جبتيه بقا؟
-هااه؟ ااه مفيش حاجة عجبتني.
شبح ابتسامة خفيفة ظهرت على وجهه وسألها بمكر: -شمس. أنتِ كُنتِ في بيوتي سنتر؟

لُطخ وجهها بحُمرة الحياء: -أيه! لا طبعًا. أنا هروح الأماكن ده ليه. لالا مفيش الكلام ده خالص.
-طيب أهدي. عادي ده مجرد سؤال. مش مستاهل التوتر ده كله.
هزت كتفيها باضطراب: -أنا مش متوترة. أنا عادي.
ثم غيرت مجرى الحوار بينهم: -طيب أيه ؛ أحنا مش هنطلع لهم ولا هنستنى هنا؟
مط شفته السفلية متحيرًا: -والله شايف نستنى...
أيدته قائلة: -كده أحسن.
ثم ترنحت بتخابث ممزوج بالفكاهة: -براو طلعت بتفهم.

رد مندفعًا: -عشان لو طلعت فوق هكسر الشقة على دماغهم.
انفرج فاهها: -أيه!
بشقة مراد
جلست عالية على المقعد لتنتعل حذائها بتوترٍ ساطع من ملامحها وهي تطلب منه: -مراد معلش كلم شمس، قولها نص ساعة ونكون عندها. أحنا اتأخرنا أوي.
-مش معايا رقمها.
-أنا أزاي سمعت كلامك بس. انت السبب يا مراد في كل ده.
رد وهو يرتدي ساعته: -يا سلام! أنا السبب دلوقتِ؟

ثم وثبت لتتهمه مُشيرة بسبابتها: -على فكرة أنت من أول ما كُنا تحت وأنت ناوي على حاجات مش تمام. هاه تنكر؟
-بصراحة أه.
ثم ضحك بصوت مسموع وهو يقترب منها: -أنت متوترة كده ليه!
جهرت باضطراب وهي تخرج راكضة من غرفتهم التي هبت بداخلها عواصف العشق فانقلبت مجددًا رأسًا على عقبٍ: -مش متوترة يا مراد وبلاش تأخير أكتر من كده.
بسيارة تميم
شمس محاولة خلق لغة حوار بينهم: -مبروك، على فك الرُباط. بقيت أحسن!
-احسن.

ثم نظر إليها بكامل وجهه: -أخبار البونية اللي في وشي أيه؟
تمدد محياها بهدوء وهي تمرر سبابتها فوق الكدمة المستقرة تحت عينه: -شايفة أنها بقيت أحسن كتير. أنت مش حاسس بتحسن؟
في روضة حُسنها وجمالها الخلاب ‏غرق بسحر تعامد أشعة الشمس على مُقلتيها، فتبلور قلب تميم عندما سطعت شمسها: -عينيكِ حلوة أوي.
لم تستطع الرد بسبب تراجعه فجأة عن قربها بعد رؤيته لعالية ومراد يتراكضان نحو السيارة: -أهو الباشا ظهر.

هبطت شمس بسرعة لتهرب من أسر مغازلته التي رجت فؤادها من مكانه واندفعت إليها معاتبة: -كده ياعالية! قلقتيني عليكي.
عالية باعتذار شديد: -بجد أسفة يا شمس، اشتريت حاجات كتير ومراد صمم نجيبها فوق، والأستاذ شقته خرابة هو ده اللي عطلني. متزعليش مني بجد.
تقدم تميم إليهم بوجهه المكفهر: -طلع عاصي عنده حق لما قال أنك بتلوي دراعنا! أنت محدش مالي عينك يعني؟
-أيه الدخلة دي يا تميم!

-كمان مش عاجبك! لما تكسر كلام أخوها الكبير وتقابله من وراها مش ده اسمه شغل حرامية؟
وقفت عالية بينهم: -أنتَ معاك حق يا تميم. وأنا غلطانة بس متزعلش مني.
شدها مراد ورائه، ووقف في مواجهة تميم: -متكبرش الموضوع يا تميم.
-لا هو كبير فعلًا.
رد ببرود: -ولا كبير ولا حاجة، مراتي وحشتني. فيها حاجة دي!
عض تميم على شفته السُفلية كاظمًا غضبه: -شكلك مش هترتاح غير لما اختم على وشك زي البونية دي.

تدخلت شمس بهدوء: -خلاص يا تميم عشان الشارع والناس بدأت تاخد بالها.
هتف بغضب مزعوم: -مفيش خلاص. لازم يعرف يحترم كلام أهل مراته، وعشان ترحم اتفضل بقا اعزمنا على الغدا في المكان اللي اختاره.
تنفس الجميع الصعداء خاصة عند تحول نبرة تميم من الجدية للمرح، فرفع مراد قبضته ليلكمه بالعين الأخرى ممازحًا: -حرام أعورك في التانية.
-اتكلم على أدك يا لاه.

خرجت من المطبخ حاملة بيدها طبقًا كبيرًا من الفواكه، فطافت عينيها باحثة عنه. حتى سألت أخوتها:
-عاصي فين.؟
وثب يونس ليحمل عنها الطبق وقال: -جاله تليفون ونزل.
لف انتباهها جلوس رشيد بعيدًا عنهم: -رشيد أنت قاعد بعيد ليه؟
دنى منها متأففًا: -مش مرتاح يا رسيل. بحاول استوعب كل اللي حصلنا ده.

ثم جلس بجوارها: -يعني في يوم واحد اتفرقنا، أبونا مات، انتِ اختفيتي، فريد استولى على حقنا وحاول يقتلنا؟ وكمان لما نتجمع تاني تطلعي متجوزة وحامل!
ثم أطال النظر بعينيها: -وبعدين الراجل ده مش مرتاحله. سر الغناء الفاحش اللي هو فيه! الحرس ورجالته. هدوئه، كلامه ؛ رسيل أنتِ واثقة أنك تعرفيه!
أجابته مشدوهة: -رشيد أنت عايز توصلي أيه؟
-أنتِ ازاي تسلمي نفسك لراجل غامض زي ده، وشه كله أسرار؟

تناولت ثمرة التفاح وشقتها لنصفين وقالت: -بردو مش هتتغير يا رشيد، زي ما بابا بيقول عنك. ما بتبصش تحت وجليك قبل ما ترمي صنارتك بعيد.
-قصدك أيه؟
-قصدي أنك ركنت اللي عمله فريد، ومحاولة أنه يخلص منكم. وياعالم عمل أي كمان، وبقيت شغال محلل نفسي لعاصي!
أيد يونس حديث أخته: -على فكرة رسيل بتتكلم صح. وبعدين ماله الراجل! هيبته ونفوذه يسدوا عين الشمس! وواضح أنه بيحب أختك وشاريها. أنت مزعل نفسك ليه؟

رشيد بسخط: -بردو أنا اللي طلعت غلط في الأخر! عمومًا خليكم فاكرين كلامي، وان الراجل ده هيطلع وراه حوار كبير.
أعطت أخيها ثمرة فاكهة: -رشيد. طلع عاصي من دماغك وخليك في ابن عمك اللي معملش حساب لصلة الدم.
تأفف رشيد بحنق: -يامين يناولني زُمارة رقبته، بس هيروح مني فين.

بسيارة عاصي
أشعل سيجارته وهي يُكرر سؤاله بصيغة مغايرة على أذان حماد الجالس أمامه يرتجف.
-تحب تحكي أنتَ. ولا أحكي أنا.
قطعت سيوف الخوف الكلمات على طرف لسانه: -اللي تشوفه معاليك. اللي أنت عايزو انا خدامك.
-يبقى احكي لي كده من الأول كُل اللي تعرفه.
طافت عينيه حول السيارة المحيطة بالرجال الذين يحرسونه فدب الرعب إلى أوصاله وسأله: -بخصوص أيه ياباشا.
كظم غيظه بصعوبة وقال
-أي علاقتك بنفادي.

-ك كانت مصلحة هاخد منها قرشين حلوين. بس هو غدر بالاتفاق.
عاصي بثبات: -وأيه هي المصلحة.
-نبعدك القصر ورجالته يأخدوا الهانم ويوديها للباشا.
زفر باختناق: -جميل. مين الباشا بتاعكم. وياريت بسرعة عشان معنديش وقت.
-اللي كان بيتواصل معايا واحد من الغردقة شغال في المينا تبع واحد اسمه فريد المصري. هو اللي كان عارض نص مليون على اللي هيجيب له بنت عمه.

احتدت نظرة عاصي فهب الرعب بصدر حماد: -خدت أنا نص ال 300 ألف ونفادي ورجالته ال 200 الباقيين. ومن وقتها ورجالة فريد بتدور عليا لأن نفادي خلف الاتفاق واداني عنوان غلط اللي استلم فيه الهانم. بس مجاش.
أغمض عينيه متحكمًا في غضبه: -فريد المصري! حفرت قبرك بأيدك يا.
ثم نزل من سيارته فجأة وهو يُشير لرجاله: -خدوه من هنا.

عاد عاصي إلى شقته محاولًا طي عبوث وجهه محافظًا على هدوئه وثباته، في اللحظة التي أحست حياة فيها بصوت مفاتيحه، أثناء جلوسها بحضن يونس، حدجت أخيها رشيد آمرة:
-افرد التكشيرة دي.
أتاهم صوت عاصي وهو يلقي مفاتيحه على الطاولة: -مش هترتاحوا شوية يا شباب ولا أيه؟
قَبل يونس رأس أخته: -ومين هيجيلوا نوم الليلة دي.
-أنا مقدر والله. بس رسيل قاعدة أهي، قوموا ارتاحوا شوية عشان عايزكم فايقين بالليل.

تحمست حياة وهي تنهض بسرعة وتُشير إلى أحد الغرف: -قوم يا رشيد، وأنت كمان يا يونس.
نهض رشيد على مضض نحو الغرفة المقصودة وأما عن يونس فهتف قائلًا: -طيب بعد اذنكم بقى.
مع صوت قفل باب غرفتهم ألتفت حياة إلى عاصٍ: -وأنت مش هترتاح شوية؟

مد ذراعه إليها ليتمسك بها مستعينًا بقوتها للوقوف ثم تحرك الاثنان نحو غرفتهم التي عند قفل بابها ارتمت بحضنه بعرفان: -عاصي أنت النهاردة رديت لي روحي. كل كلام الشُكر مش هيوفي حقك.
طوق زوجته بحب: -كفاية عليا فرحتك دي.
-حاسة إني في حلم جميل أوي. أنت وأخواتي واطمننا على صحة ابننا. حقيقي قلبي بيطير من الفرحة.
ثم ابتعدت عنه متدللة وهي تعبث بأزرار قميصه: -أطلب مني أي حاجة وأنا هنفذها فورًا.

أخذ يفكر قليلًا فاستعجلته: -يلا قبل ما أرجع في كلامي.
أمسك بذقنها مداعبًا: -متحرمنيش من ضحكتك الحلوة دي أبدًا. ممكن!
عادت مرة آخرى لحضنه وهي تطوق خصره معترفة بشوق يفيض من جسدها: -بحبگ.

علي طاولة منفردة بعيدًا عن عالية وشمس وتهامسهم، جلس مراد وتميم في الجانب الآخر من الكافيه المتخصص بالتدخين. فوبخه تميم بتهامس:
-جبتنا هنا ليه! وبعدين أنا مش بدخن؟
زفر مراد بحذر: -وأنا كمان بطلتها. بس معلش لازم نتكلم.
تميم باهتمام: -انجز قبل ما تلاقيهم فوق دماغنا.
-تميم. الكلام ده كبير وأنا بسألك عشان تساعدني ونشوف حل، وفي الأول والأخر لمصلحة عالية.

نفذ صبر تميم: -ما تنجز! مكنتش عزومة للذل ده كُله!
ألقى مراد نظرة سريعة إلى عالية ثم قال: -أنت تعرف أن عالية مش بنت خالتي عبلة!
طاحت يد تميم بالكوب الزجاجي الذي ارتطم بالأرض متهامسًا تحت سحابة الصدمة: -انت مستوعب بتقول أيه؟ مراد أيه الهبل ده؟
انكمشت ملامح مُراد إثر الضجة التي أحدثها تميم لحظة تلقيه الخبر ثم قال بحذرٍ: -اهدي يا تميم متخليش حد ياخد باله.

جاء النادل ليقطع تهامسهم وينظف الأرض من حُطام فتات الزجاج الذي لا يختلف كثيرًا عن قلب تميم المهشم. انتظر إلى أن رحل النادل ثم عاد متسائلًا: -مراد مين قالك كده؟ ولا ده استنتاج! فهمني؟
-هحكي لك يا تميم بس أهدى واسمعني.

في تمام التاسعة مساءً. تتهامس نوران في الهاتف مع كريم الذي تحجج بأمر فريد وتحكماته المبالغة بالقصر. فأردفت نوران بعتب:
-مكنش لازم تكسر كلام عاصي. اكيد عارف أن ورا الجدع ده مصيبة عشان كده منعه من دخول البيت.

خرج كريم إلى شرفة غرفته ليتنفس القليل من الهواء: -أهو اللي حصل بقى يا نوران. مش حلوة خالتي تبقى واقفة على البوابة قدام اللي رايح واللي جاي. وبعدين غيري الموضوع أحسن ما انزل اكسر صف سنان الأراجوز اللي تحت.
التوى ثغر نوران بحنق: -أهي خالتك دي علامة الاستفهام الكبيرة في البيت.؟ كريم من رأيك مادام مش هي أم عالية، يا ترى مين تبقى مامتها؟
رفع أنظاره للسماء متنهدًا بحيرة: -اجابة السؤال ده عند خالتي وبس!

-طيب تفتكر لما قالت لعاصي أنها مش أخته، معنى كده أنهم مشتركين في الجريمة؟ وياعالم أيه تاني وراهم.
زام ثغر كريم بجزع: -هو مفيش مواضيع تانية عندك تفك الواحد! كله نكد في نكد كده؟
عقدت حاجبيها بذهول: -أصلًا أنتَ بتكلمني ليه؟ ماينفعش نتكلم تاني بعد اللي حصل النهاردة!
-ليه يعني؟ وأنا كُنت عملت ايه؟
-شوف أنت بقا. وياريت متحاولش تكلمني تاني عشان عندي مذاكرة ومن غير سلام.

فوجئ كريم من قفلها للمكالمة بهذه السرعة ثم تفوه مندهشًا: -مالها بنت المجانين دي؟
بالأسفل
يجهر فريد بنبرة فظة غليظة بأحدى الخادمات الاتي تُقدم له القهوة: -دي من غير وش؟ أنتِ ازاي تجيبي القهوة بالمنظر ده؟
-سوري هعملك غيرها؟
طاحت يده بالمائدة التي تحملها الفتاة بتغطرس لتتهاوى أرضًا: -مش عايز حاجة من وشك...
فتدخلت عبلة بكبرياء: -أوامر فريد بيه تتنفذ بالحرف. فاهمة!

أخذت الخادمة تنظف مكان القهوة المسكوبة بضيق يملأها هي وبقية الخدم. انتقل فريد من مكانه ليجلس لجوار عبلة حيث جهر آمرًا وعينيه تقتنص الفتاة بوقاحة: -انجزي يا بتاعة أنتِ.
ثم مال على أذن عبلة: -مخلصناش كلامنا.
تركت الهاتف من يدها: -أي كلام؟
-عاصي...
تحولت ملامحه الهادئة إلى آخرى يملأها الانتقام: -أنا هدفعه التمن غالي أوي. هعرفه يعني أيه يلعب مع عبلة المحلاوي.
شرع فريد ببخ سمه برأسها: -بس أنا شايف غير كده.

-ازاي؟
-شايف أن كيان عاصي دويدار أنتِ اللي عملتيه، وزي ما عملتيه في أيدك تهديه.
-يعني؟
تجولت أنظاره الشريرة بالمكان ليتأكد من خلوه ثم قال بحذر: -عاصي عض الأيد اللي اتمدت له، يعني خان. والخاين جزاته رصاصة تخلصنا منه. هو اللي كتب نهايته بنفسه.
اتسعت أعين عبلة بذهول: -قصدك اقتل ابني؟
ابتسم بمكر: -مش ابنك يا عبلة، ده كان الطُعم لصيد أحلام عبلة هانم. بس غدر. والصبي اتمرد على معلمه يبقى...

في تلك اللحظة اقتحم عاصي القصر بزعابيب غضبه بخطوات سريعة ركضت حياة لتواكبها. وثب فريد والخوف يملأ عينيه خاصة عند رؤيته لأبناء عمومته وكل منهما ينوي أن يرد له الصاع صاعين.
جهر عاصي بصوته المُرعد: -أنا لما أمنع دخول حد بيتي. ويدخل يبقى يستاهل كُل اللي يجراله.

مع ختام جملته فُتحت أبواب الغرف وخرج منها سُكانها. تبادل كلًا من نوران وكريم النظرات ثم تقلصت المسافة بينهم حتى استقرا في نقطة واحدة وهي تتهامس: -عاصي مش هيعديها، اتفرج اتفرج.
حدجها بدهشة: -أيه السعادة دي يابت؟
-بس بقا.
اقتربت عبلة من عاصي وهي تحمي فريد ورائها: -وأنت لما تمنعني أدخل بيتي المفروض أقف من بعيد اسقف لك وأقول براو طردت أمك!

بغطرسة: -أنا حر. أقول مين يقعد هنا ومين لا وأنتِ مش عليكي غير تنفيذ أوامري وبس.
عارضته بحرقة: -لا يا عاصي ألا أنك تبعدني عن القصر اللي بنيته بسنين عمري. أنا مش هخرج من البيت ده غير جثة.
رد بقسوة: -وده المصير المتوقع لأي حد يكسر كلامي.

كادت حياة أن تتقدم إلى زوجها لتهدئه ولكنها توقفت إثر منع يونس لها. تدخل فريد في حوارهم قائلًا وهو يخفي صدمته بلقاء أخوة رسيل: -عين وصابتكم يا جماعة مش كده! وبعدين ده النهاردة يوم عيد. ولاد عمي بخير يا جدعان وواقفين قدامي. تعالو تعالو في حضن ابن عمكم.
تقدم رشيد ببطء وهو يحضنه ثم قال: -ولادك قنديل المصري بسبعة أرواح. مايتخافش عليهم.

كتم عاصي غضبه بصدره وهو يقاوم مشاعره الثائرة نحو فريد. اتسع بؤبؤ عيني حياة بذهول: -أيه اللي أخوك بيعمله ده! يونس ألحقني!
-استنى يا رسيل.
هبطت نوران درجتين من أعلى بحماس وهي تقول لكريم: -مش قولت لك هتولع.
-مفيش دم خالص! اللي بيجري في عروقك ده ميه ساقعة!
تركت حياة كف يونس وتقدمت ناحية عاصي وضمت ذراعه هامسة: -عاصي أنا مش فاهمة حاجة.

ارتفع صوت رشيد قائلًا: -فريد ابن عمي وأخويا الكبير اللي اتعلمت منه الصنعة، وخطيب رسيل أختى.
خرج عاصي عن صمته: -ما تفوق لنفسك يا رشيد وتعرف أنت بتقول أيه؟
فريد بشماتة: -سيبوا يا رشيد. هي كدة كلمة الحق بتزعل.
-كلمة كمان وهدفنك حي مكانك...
تقدم يونس معترضًا على موقف أخيه: -رشيد أنت بتعمل أيه؟
قهقهت عبلة وهي ترمق حياة بسخرية: -كُنتِ مخطوبة لجوزي! وأول ما شوفتي ابني بعتيه! يعني خطافة رجالة!

صرخت حياة بوجهها: -أنا مش خطيبة حد، والموت عندي أهون من جوازي من فريد.
عارضها رشيد: -والفاتحة اللي قراها قنديل المصري! اتنست!
-اه اتمسحت من دماغي. لأن عمري ما كنت هتجوزه أصلا.
تقدم فريد ليرد كرامته قائلًا بخبث: -أنتِ عمرك ما كُنتِ هتتجوزي أصلًا يا رسيل. عارفة ليه؟ عشان مين المُغفل اللي هيحاسب على مشاريب غيره.

ثم نظر لعبلة وأكمل: -بس شكل ابنك اللي طلع المغفل ده وقبل بواحدة نامت في حضن حد قبله، قاسم فاكراه؟

في تلك اللحظة انفجر بركان عاصي المدفون بوجه فريد الذي التهمه بجنون ليسدد لوجهه العديد والعديذ من اللكمات القوية والمصحوبة باللعنات الخارجة حتى رقد فريد تحت قدميه لا حول له ولا قوة، تقطرت الدماء من وجهه الذي كان ساحة لتفريغ غضب عاصي. هنا جاء تميم ومراد يركضون من الخلف على أصوات الصرخات والاستغاثات المنبعثة من الأفواه.

بصعوبة استطاع كل من مراد وتميم ورشيد أن ينقذوا فريد من قبضة يده الحديدية، أخذ يسبه بأبشع المصطلحات: -مبقاش عاصي دويدار لو خرجت من هنا على رجليك.
ركضت حياة لتثبط من نيران زوجها صارخة بحرقة: -عاصي بس خلاص كفاية. كفاية عشان خاطري.
-وديني نهايتك هتكون على أيدي.
جاءت عبلة صارخة بوجهه: -ده بدل ما تدفنها جاي تتشطر على فريد! روح شوف ماضي الهانم اللي أنت اتجوزتها.
-اللي هيقول حرف في حق مراتي هقتله بأيدي.

-وأنا مايشرفنيش واحدة شمال زيها تربي بناتك وتتكتب على اسمك.
تدخل رشيد بغضبه المنثور: -وأحنا مايشرفناش نسب ابنك. وأختي هاخدها معايا وأمشي.
حياة بذهول من موقف اخيها السلبي: -رشيد أنت بتقول أيه! بس بس بقا.
عارضها رشيد بحزم: -فاتحة قنديل المصري عهد.
ثم جهر مُعلنًا: -فريد. لسه عند كلمتك وعايز تتجوز أختى؟

وثب فريد بمعاناة تحت أنظار الجميع وهي يستند على المقعد، طالعته عبلة بفضول منتظرة رده. وضعت عالية كفيها على فمها من هول الصدمات المتدلية فوقهم. أما عن شمس فكان همها هو أمر حياة وسلامة حملها. أعلنها فريد بأنانية:
-محدش غيري يستر عار بنت عمي.
نهره رشيد بصوته القوي: -عايز تتجوزها ولا لا؟
اتسعت ابتسامة فريد وهو يلهث: -ااه. رسيل أنا لسه بحبك.

توقف مراد كالسد المنيع أمام جيوش عاصي التي تريد أن تغتال فريد في الحال. جهر تميم موبخًا: -أنت ضارب أيه يابني آدم على آخر الليل! ما تخاف على عُمرك.
بنفس النبرة القوية قال رشيد: -بس أنا ليا شرط، أختي ما تتجوزش على ضُرة، تطلق مراتك هسلمك أختى.
اقترب فريد مت عبلة بقلب يتراقص على أوتار الفرحة وهي يقول بحماس وحماقة معًا: -وأنا موافق. عبلة أنت طالق.

شهقات متتالية من الجميع اندلعت من أفواههم حتى ختمها رشيد بحزمه وهو يشد حياة من يد عاصي لتقف خلفه عنوة: -بالتلاتة.
دنى فريد من رسيل ذات الوجه الشاحب والمشدوه من هول الحدث الصادم لعقلها. تقف امام سيفين سيف تجبر أخيها وسيف الحُب حاولت التملص من قبضة يد رشيد ونظرات فريد المُرعبة حتى نطق كلمته بسعادة: -عبلة أنتِ طالق بالتلاتة...

استولى على صوتها الأسى والجوى: -رشيد أنت رجعت عشان تدمرلي حياتي؟ أنا عملت لك أيه! ليه القسوة دي! مش كفاية عمري اللي ضيعته على تربيتكم. بقيت لكم أم في الوقت اللي كانوا في سني بيلعبوا بالعرايس؟ أنت مين أداك الحق في كل ده؟
ثم دارت في اللحظة التي همّ فيها على احتضانها بين ذراعيه وهو يقبل رأسها وجسدها المرتجف: -محدش هياخدك مني يا حياة. اهدي اهدي دي لعبة! مفيش حاجة هتحصل.

كاد يونس أن ينفجر بأخيه ولكن أوقفته كلمة عاصي الأخيرة، وإقبال رشيد على ضم أخته كاعتذار على قسوته معها ولكن هذا كان اتفاقه مع عاصي. بات فريد يتضور حوله كالمجنون، فجأة خسر كل شيء، أصبح ورقة محرقة يُطاير الهواء رمادها.
وقفت عبلة أمامه وهي ترمقه بسهام الخسه: -أنتَ حقير. وأنا غلطانة إني وثقت في واحد خسيس زيك.

أخذ يتفقد الوجوه الشامتة ونظرات الحقد التي تنهال فوق رأسه. أصبح يهذى كمن فقد عقله وهو يقول: -أنتوا اتفقتوا عليا؟ لا ده أنا فريد المصري، حوت البحر الأحمر. ومش أنا اللي يتلعب بيا.
ثم أشار بسبابته نحو عاصي ورسيل التي تنتفض في حضن أخيها: -طيب اسمعوني كلكم. عشان أنا ناوي أهد البيت ده على اللي فيه.
أخرسه عاصي قائلًا: -اظبط ساعتك على دقايق عمرك، أنت خلاص في عداد الأموات...

ثم اقترب منه خطوة: -سؤال عايز أسمع اجابته منك. عايز أيه من مراتي! عايز أيه يخليك عشانه تأجر بلطجية عشان يخطفوها.
انفجر فريد بضحكات هسترية تحت تأثير الصدمة والوجع المُنصب على جسده وبلهجة المُتعربد قال: -ما بلاش فردة الصدر دي. وما دام كده ميت وكده ميت. عايزكم تسمعوا كلكم التسجيل ده. عشان تعرفوا حقيقة عاصي بيه المُزيف. وعبلة هانم المحلاوي.

توسلت عبلة إلى عاصي بخوف: -عاصي نادي رجالتك يجوا يرموا الحيوان ده بره. عاصي عشان خاطري انا اسفة. انا ماليش غيرك وو
قاطعها فريد بسخرية وهو يضغط على زر التشغيل: -باقي أخر لقطة من الفيلم.
لقد دانت المصائر وتعرت الحقائق بتسلل صوت اعتراف عبلة لفريد بحقيقة بنوتها لعاصي وعالية واعترافها الصريحة والواضح بأنها سيدة عقيم لا تُنجب...

أول من فكر فيه مراد كانت عالية التي هرول لضمها وترميم ضعفها وهي ترتعش فاقدة النطق من شدة الصدمة. ما بين الصواعق النازلة على الحشد العظيم تسللت عالية من بينهم بعد ما فارقت حضن مراد بصعوبة ووقفت أمام عبلة بثبات يعقبه جبال من الانهيار. تكلفت الهدوء بمعجزة إلهية. بصوت مشج متهدج:
-أنا كُنت حاسة على فكرة.
قوليلي مين تبقى أمي!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة