قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية غوى بعصيانه قلبي الجزء الثاني للكاتبة نهال مصطفى الفصل الثامن عشر

رواية غوى بعصيانه قلبي الجزء الثاني للكاتبة نهال مصطفى الفصل الثامن عشر

رواية غوى بعصيانه قلبي الجزء الثاني للكاتبة نهال مصطفى الفصل الثامن عشر

‏ لمرَّةٍ واحدة، يريد هذا القلب أن يفرُدَ قدمَيْه، على مكانٍ يؤمن بأنه له، بصَرحه الكامل، دون خشية الغفوة على كل شيء، واليقظة الخائبة على اللاشيء
خُلق القلب عصيًا.
31/12/2023.

أن يُلقى القلب في جوف بركان ثائر من التفاعلات الطاحنة التي لا ترحم، أن يُصارع الحياة والموت دون القدرة على نطق كلمة الاستغاثة. أن يُطالع العالم حوله فلا يشاهد إلا أبخرة ورماد مشاعره المحترقة. كان الأمر يشبه نزع شاش متصل بجرحٍ طري.

ما جاء به تميم كان أضخم صاعق كهربي حل على جسدها المُبلل بالماء. للحظة تصلبت تعابير وجهها، حتى أنفاسها باتت تحت سطوه ترتجف. بعيون متسعة مدججة ب الحيرة والدهشة تمتمت: -أنتَ!
مسح وجهها المُبلل بالماء بكلتا يديه ثم سند على جبهتها لاهثًا: -أهدي. أهدي وهفهمك كل حاجة.

شرعت أن تُحرك يديها التي تجمدت بها الدماء لتدفعه ولكن قوتها هُزمت أمام صدمتها بخيبة، اكتفت أن ترمقه بعيونها المُعاتبة والمحترقة بحرارة أنفاسه وهو يبرر: -نتكلم. هنتكلم وهفهمك كل حاجة، تمام!
‏أحياناً تملأُ الصرخات قلب المرء كما لو أنها زجاج مكسور فإن صمت تؤلمه، وإن تحدثَ تُدميه.

ما كاد أن يبتعد عنها ليفسح لها مكانًا فسقطت عينيها عليه واقفًا على قدميه وتناظره لأعلى بعيون مفعمة بالآلف الاسئلة. زحفت نحوه خطوة واحدة وشرعت أن تتفوه ببنت شفة فخرت قوتها بين يديه وسقطت مغشيًا عليها. تلقاها على رسغه ناطقًا اسمها بلهفة حارقة:
-شمس!

-بابي، أحنا هنروح فين الصبح كده!
أردفت تاليا سؤالها الطفولي على آذان والدها الجالس بجوار السائق وهي تعقبه بالأريكة الخلفية، رد برسمية من وراء نظارته السوداء:
-هنروح نفطر يا حبيبتي.

عادت تاليا إلى حضن حياة الشاردة في أرصفة ذكرياتها بالغردقة، وكُل شبر نقشت عليه طفولتها، بدون خُلق المزيد من الأحاديث معه لاضطراب الأجواء بينهم. مرت قرابة النصف ساعة حتى صفت السيارة أمام منزل أبيها ذو الطراز الخشبي الفخم، فهبت مذعورة:
-أحنا هنا بنعمل أيه،؟
نزل من سيارته ثم فتح لها الباب قائلًا بهدوء: -انزلي.
تسمرت مكانها: -طيب فهمني!

استقبل طلبها بصمت تام أرغمها على الهبوط من السيارة بتردد، سبق خُطاها وسار نحو البيت بشموخ وفتحه على مصرعيه. ركضن الفتيات إلى أبيهم أما عنها فكانت خطواتها خائفة مُلطخة بدماء الذكريات المريرة. لمست قدميها أول درجة بالسُلم وهي تمشط أهدابها على تفاصيل المكان حولها وزهورها الذابلة التي لا تجد من يعتني بها من بعدها.

اقترب منها بعد ما لاحظ شرودها والتوهان الذي حل على ملامحها، وضع كفه وراء ظهرها وسألها: -مش ناوية تدخلي؟
رمقته بعينها المشدوهة: -أحنا جينا هنا ليه!
رد باختصار: -بيتك. أنا وعدتك أني هرجع لك حقك.
ردت بخوف: -وفريد!
أجابها باستهتار: -ولا تشغلي بالك بيه، هاا يالا أنا جعان وعايز أفطر من أيديكي.

تشبثت بكفه وهي تتحرك ناحية المنزل المغلف بذكرياتها، والخالي من صخب أخوتها ونداء أبيها المتكرر عليها. كانت الجدران تنزف حزنًا على جروحها الدامية، وفراغ البيت حولها، تشبثت بيده وتوسلت له راجية: -أنا مش قادرة. عايزة أمشي.
رفض قطعًا: -مش حل، لازم تواجهي. أنا جمبك، عارف أنه صعب بس مجبرين.

اقتربت من الصور الفوتوغرافية المُعلقة على الحائط وطالعتها بعيون دامعة وشرعت بتعريف عائلتها: -ده بابا. المعلم قنديل المصري. مكنش حد بيقدر يكسرله كلمة، كلمته كانت سيف على الكل.
ثم ترقرقت العبرات من عينيها: -مش مصدقة إني مش هسمع صوته تاني.

ثم أشارت على صورة أمها وأكملت سرد الذكريات: -دي بقا يا سيدي مُهرة المصري، ماما. معشتش معاها تفاصيل كتير، كُنت صغيرة، اتوفت وهي بتولد يونس أخويا، كل اللي فاكراه هو حزن بابا عليها لحد ما راح لها.
ثم تبسمت بمرارة: -شبهي،؟ بابا كان دائما يقول لي أني نسخة منها.
ضمها إلى صدرها وطبع قُبلة خفيفة على جبينها وهمس: -معاه حق.

ثم أشارت على صورتي أخوتها الصبيان: -ده بقا رشيد تؤامي. والولد الشقي ده يونس. أنا اللي ربيته، أنا كُنت لهم أم وأخت وأنا طفلة متعرفش يعني أي المشاعر دي كُلها.
فتشبثت بيده راجية: -هما بخير وهيرجعوا! مش كده.
-مادام وعدتك يبقى هيرجعوا. يلا كمان عشان في مفأجاة جديدة.

جففت دموعها وطوت دفاتر حزنها عندما بث فيض الأمل بروحها من جديد وقالت بامتنان: -بجد مرسي، أنت رديت لي روحي، أنا كنت زي السمكة اللي فارقت المية ومش عارفة تتأقلم على أي حياة جديدة.
عقد حاجبيه متخابثًا: -مرسي من غير منكهات كدا!
حدجته بلوم: -عيب مايصحش، البنات ورانا.
غمز بطرف عينه ماكرًا: -أنتِ فهمتي أيه! أنا قصدي نفطر.
أسبلت عينيها بعدم تصديق وقالت: -اامم تفطر. وماله.

جذبها إليه على سهوة وسألها بخبث: -أنتِ دماغك راحت فين!
ردت بعفوية وهي تتملص من يده: -للمطبخ.
تحمحم مستعدًا شموخه: -هقول للسواق يدخل الحاجات جوه. عايز فطار محصلش.
قضى ليلته يجوب الطُرقات بصخب يغتال رأسه، أخذ حديث كريم يتقلب بذهنه كفقاقيع الماء المغلية. تارة يُفرغ كبته بمقود السيارة وطورًا يفجره بصرخة أعتراضية:
-آكيد في حاجة غلط؟ وأنا لازم أعرفها!

حتى أخذته الحيرة إلى بوابة منزل سوزان الذي حبذا الوقوف أمامها حتى انشق الصباح.
في ذلك الوقت كانت عالية يقظة غارقة في بحور أفكارها وعن مصير خطتها الزائفة حتى امتدت أنظارها إلى سيارة مراد المصفوفة أمام المنزل. رفعت قبعة سترتها الشتوية فوق شعرها وحسمت قرارها مفارقة غُرفتها بعجل تتساءل عن سبب وجوده في هذا التوقيت.

فتحت الباب وسارت نحوه بفضول قاتل، طرقت على نافذة سيارته برفق حتى فتح جفونه التي غفلت من شدة التفكير، أنزل الزجاج متسائلًا: -عالية!
بنفس نبرته الحائرة: -مُراد أنت بتعمل أيه هنا!
بد عليه التوتر فتمتم: -مش عارف!
رمقته بشكٍ: -يعني أيه مش عارف!
أصدر تأوهًا خافتًا كأنه تذكر شيء ما: -افتكرت، كُنت عايز اتكلم معاكِ.
-تمام اتكلم. قلقتني!
-اركبي.

سارت على مضض وهي تستقل سيارته بتعجب عن أسباب وجوده الغامض، جلست بجواره تبتلع مرارة الحنين وسألته: -هتقول أيه.؟
فكر طويلًا كي يفتعل أي حديث مُزيف بينهم وقال بتوجس: -أي موضوع وليد ده!
-طنط سوزان مش حكت لك!
-ااه قالت، بس أنا عايز أسمع منك.
اصدرت ايماءة خافتة: -عادي، عريس زي أي عريس.
سألها بفضول: -ورفضتيه ليه!
ابتلعت مرارة إخفاء مشاعرها وقالت بزيف: -مكنتش جاهزة لخطوة جديدة زي دي.؟

فرك كفيه بارتباك محاولًا استجماع مقدمات الكلام الذي لم يضعه بحسبانه. حتى سبقته بفضولها: -مراد أنت قلقتني. في أيه!
تنهد بحيرة: -بصراحة كده يا عالية. بصي أحنا الاتنين جرحنا بعض من غير ما نقصد. يعني في البداية كان في سوء تفاهم، سببت لك أذى نفسي، حكمت عليكِ من قبل مااعرفك، أممم ثم...
-كمل سكت ليه!

كان أحدنا أجبن من أن يقول للآخر انتهينا وهذا فراقٌ بيننا، هكذا كنا في مد وجزر نغيب ونعود. أخشى أن ينطفئ كل شيء وما يبقى بيننا سوى الاعتياد، الاعتياد الذي يخيفني فقدانه أكثر مما يفعل الحب.
واصل حديثه المضطرب وهو يطالع وجهها بحرية: -سوء الفهم اللي حصل في اسكندرية، واللي عملتيه مش هلومك عليه، يعني رد اعتبار ليك. مختصر الكلام يعني، عايز أقول لك أن فترة العُمرة خلتني أعيد حساباتي وأفكر، وأقول ليه لا.

تخبطت رأسها في مغزى كلماته المغلفة بالتردد، لأول مرة تستشعر حيرته وتلتمس الغموض بكلامه عكس طبعه الحاد الواضح. بللت حلقها الذي جف من تشتتها وسألته:
-هو أيه اللي لا.؟
عقد حاجبيه مجيبًا بعفوية: -يعني أيه ذنبه الطفل اللي في بطنك يتربى من غير أب!
حلت نازلة جديدة فوق رأسها مابين الصدمة والضحك وهي توبخه بعد استيعاب:
-مراد أنت بتقول أيه؟

ثم غاصت في غيبوبة من الضحك التي أجبرته أن يتناسى حيرته ويثبت أقدامه على الطريق الصائب نحوها، كادت أن تجادله ولكنها انفجرت ضاحكة بصوت أعلى حتى ختمتت وتيرة ضحكاتها:
-أنتَ بتهزر مش كده!
-يعني بدل الكذب والتمثيل وأهو سبب مقنع لرجوعنا، قصدي أقول لو نبدأ صفحة جديدة بفرصة جديدة، عالية أنا لو لفيت الدنيا كلها مش هلاقي زيك.
ذابت في سحر كلماته وقالت بارتباك: -مش عارفة...

-لا لازم تعرفي أنا أول مرة اتحط في الوضع ده، وحاسس إني رجعت عيل 16 سنة.
لم تنكر طريقته الطريفة التي تسلل بها إلى قلبها من جديد وبث بقلبها الأمل والحياه، تحمحمت هاربة من تعري ستر قلبها وقالت بدلالٍ: -تمام، سيبني أسبوع أفكر.
-كتير!
فتحت باب سيارته وقفزت كالقطة المتدللة وهي تدس كفوفها بداخل جيوبها وتقول بحزم: -قلت هفكر...

تحركت أمامه كالغزالة المتراقصة التي يمازحها الهوى، عانقتها كلماته الحنونة حتى أحست أنها باتساع اجنحتها قادرة على احتضان جميع مشاتل الورد الذي نبتت للتو من بين ثنايا ملامحها، ألقت عليه نظرة آخيرة قبل أن تحتمي بالباب الساتر لبهيج قلبها المتطاير الذي أوشك أن يفارق أضلعها. قفلت الباب بهدوء وهي تتمتع بمشاعر الصبى التي تسللت لروحها على سهوة، توسلت إلى قلبها المتراقص أن يهدأ كي يمكنها اتخاذ قرارها الصائب...

جاءت سوزان من أعلى ترمقها بأعين زاهيه إثر رؤيتها لملامحها البريئة التي تنفجر بالضحكات وسألتها بتخابث: -ياسيدي يا سيدي، ده أيه الانبساط ده كله!
اقتربت عالية منها متحمسة: -أنا فعلًا هطير من الفرحة، بجد مش مصدقة.
-احكي لي بسرعة...

شمس، شمس فوقي.
كان يسكب زُجاجة العطر على يده ويمررها على أنفها بلهفة بعد ما حاول معها بكافة السبُل لتفيق، تأرجحت عينيها ببطء وهي ترى صورته المشوشة عن قُربة ليهلث باسمها مرارًا وتكرارًا. حتى تفوهت بتعبٍ:
-هو حصل أيه!
تنهد تميم بارتياح عندما سمع صوتها الخافت وسألها: -أنت كويسة!
رمقته بتيهٍ حتى فزعت من مرقدها كالملدوغة وهي تفحصه مكذبة أعينها، حاول لمس كتفها قائلًا: -هفهمك كل حاجة. بس تبقى كويسة!

سألته بانهيار: -أنت بتمشي! أنت كل الفترة دي كُنت بتكذب عليا!
حاول تبرير كذبته ولكنه لما يجد عذرًا شفيعًا له، فقال: -شمس متعمليش في نفسك كده، الموضوع له جوانب تانية!
صرخت بوجهه رافضة سماع المزيد: -متتكلمش. أنت فاهم! هو أنا مصعبتش عليك وأنا هتجنن عشان تخف وترجع تقف على رجليك وأنت بتتفرج عليا! ليه، أنت أزاي تعمل فيا كده. أنا عملت لك أيه،؟

تنهد بتعب وقال معتذرًا: -أنتِ معملتيش أي حاجة، بس أحيانا الحياة بتجبرنا نسكت عن حقايق كده!
ردت ساخرة على نظريته الغير مقنعة بالنسبة لها:
-اااه هي نفسها الحياة اللي أجبرتني إن لما تكون حاجة بتلمع أوي أستني لما النور يروح، وبيطلع الى تحتيها جوهرة حقيقية يا خدعة كبيرة.
ثم رمقته باستهزاء: -ياخسارة يا تميم، أنت خليتني أفقد ثقتي فيك، طلعت زيهم...

حاول أن يمسك معصمها ليمنعها من المغادرة فحدجته بقوة: -متلمسنيش. متقربش مني، أنت خلاص جبت النهاية.
ثم فارقت فراشها راكضًا وهي تبحث بعشوائية عن أي ملابس تستر روحها المتعرية أمام أكاذيبه ثم ذهبت إلى المرحاض مستغرقة وقتًا لا بأس بيه حتى خرجت إليه فاندفع نحوها: -استنى هنا، هتروحي فين!
صرخت بوجهه بحدة: -متقربش مني قولت لك، أنا مش طايقة أبص في وشك، أبعد عني يا تميم.

ثم فتحت شُرفة الشاليه الذي يجمعهم وركضت إلى الحديقة لتنفجر باكية بمرارة، محاولة استيعاب صدمتها ووقوعها في فخ أكاذيبه، جاء خلفها راكضًا حاملًا بيده وشاحًا ثقيلًا وكاد أن يضعه على كتفيها فأبت بإصرارٍ: -مش عايزة منك حاجة. قُلت لك أبعد عني.

ما كادت أن تخطو خطوتين حتى جاء معترضًا طريقها بإلحاح وما شرع بنطق اسمها بين شفتيه فخُتمه صارخًا بصوت انطلاق الرصاصة التي استقرت في كتفه من عيني قناصهم المجهول. في تلك اللحظة باغتتها صارخة بذهول: -تميم!

مساءً
-كريم مش عايز مخلوق يعرف بموضوع عالية، لحد ما نشوف خالتك وراها أيه تاني.
جاء صوت مُراد حادًا وصارمًا في إعطاء الأوامر لأخيه الذي دلف من سيارته للتو وأومأ بطاعة:
-فهمت والله يا عمنا، مش هجيب سيرة لحد، المهم أنت نويت على أيه.
وقف مراد حائرًا أمام الخزانة يختار ملابسه: -مش هعرف أسيب عالية لوحدها، يا عالم الأيام مخبية لها أيه؟

مازحه كريم بخبث: -ااامم يا حنين أنت، وماله يا سيدي اصطاد في المية العكرة براحتك.
تأفف مراد بضيق من سخافته وقال: -طيب بالسلامة أنت قبل ما أزعلك.
أنهى المكالمة سريعًا مع أخيه ثم بدل ملابسه بعجل وعاد إلى هاتفه يتفقد رقمها الذي لم يفارق عينيه منذ الصباح، بعد تردد شديد ضغط على زر اتصال فاستقبلت اسمه على هاتفها بفوضى عارمة جعلتها ترمى الهاتف من يدها وهي تتمتم باسمه.

ظلت تأخذ زفيرًا وشهيقًا متتابعًا حتى هدأت قلبلا فعاودت الإمساك بهاتفها الذي يتراقص بيدها وردت بثبات مصطنع:
-ألو.
-صحيتك!
-هااه! لا خالص، كُنت صاحية.
تعمد التطرق إلى تفاصيل يومها وسألها بفضول محب: -صاحية بتعملي أيه!
ردت بتوتر: -كُنت بقلب في الموبايل. وبفكر أرجع البيت بس طنط سوزان رفضت.
-وايه كمان؟
طافت عينيها بحيرة: -بس، مش بعمل حاجة تاني!
-غريبة ما سمعتش اسمي يعني!
-نعم، مش فاهمة!

اتسعت ابتسامته ونهض متجهًا إلى مخدعه: -يعني كان في موضوع وكلام بينا الصبح، والمفروض أنك بتفكري فيه. ده أيه نظامه!
ضمت الوسادة إلى صدرها وتراجعت للخلف وهي تهاتفه بوجهها الضاحك وتتدلل: -موضوع أيه بالظبط!
رفع الغطاء من فوق مخدعه ليتهيأ للنوم وقال معاتبًا: -كمان! طيب أقفل بدل الإحراج ده.
كتمت صوت ضحكتها ودموع الفرحة اللامعة بعيونها: -ااه منا قُلت لك لسه بفكر.
-وفكرتي!
ردت بعجلٍ: -ااه، لا لسه،!

-أممم، طيب ما ندردش يمكن نساعد بعض من الحيرة دي. أيه رأيك!
أتاه صوتها المتراقص على اوتار الحب وقالت: -موافقة.

جاءت حياة حاملة مائدة المشروب الدافئ بين يديها ووضعته على الطاولة بهدوء في الساحة الواسعة الخاصة بمنزلهم. ثم جلست على نفس الأرجوحة التي يجلس عليها عاصي الذي تطرقت أعينه المطله على السماء إليها. مدت له مج الهوت شوكليت وشرعت بارتشاف مشروبها بصمت يزف طبول من الاسئلة المحشوة بعيونها، غمز لها بطرف عينه:
-بتبصي لي كده ليه؟

ردت بانبهار: -أنت عملت كل ده أمتى؟ يعني ورق البيت والمراكب والإدارة. أزاي قدرتك ترجع كل ده بالسرعة دي!
ارتشف رشفة صغيرة من الكوب الدافئ بيده وقال: -مش مهم، المهم أني شوفت ضحكتك دي رجعت لك.
تنهدت بشرود: -ليه! معقولة كل ده عشاني؟
ود ممازحًا: -لا عشان كان عندي فضول اتعرف على شكل البيت اللي طلعت منه أحلى فراشة.
أحمرت وجنتها بخجل وهي تستمد الدفء من الكوب الساخن وسألته: -بيتنا عجبك،!

-البيت فيه تفاصيل كتير تشبه روحك.
أغرورقت عينيها بحزن: -كنا نتجمع هنا كل ليلة، وأعمل لبابا الكيك اللي بيحبه ونسهر سوا نضحك ونهزر. كل ركن هنا فيه ذكريات مستحيل تتنسي.
-كان في سؤال هربت قبل كده من إجابته، أظن جيه وقته.
اخذت رشفة خفيفة من الكوب وسألته باهتمام: -سؤال ايه!
امتدت أنامله لمغازلة أوتار شعرها وقال بحب: -ليه حياة؟
كررت سؤاله بصيغة أوضح: -ليه سمّتني بالاسم ده.

أقرت عيناه معترفة ما كان حُباً من النظرة الأولى بقدر ما كانت طمأنينة من الدرجة الأولى، مثل أن ينظر المرء إلى شيء ويستريح بهِ
ثم تفوهت شفتيه: -شوفت في عيونك حياة جديدة لعاصي دويدار، فضل يدور عليها 39 سنة. أنا حياتي ابتدت من أول ما شفتك، حسيت أنك مني، وليا.

ثم سخر من نفسه مكملًا: -مش هنكر أني قاوحت كتير، وطلعت روح الصعلوك اللي جوايا عليكي، بس أنا كنت عارف أن على شط عيونك مفيش مرسى، والخطوة ليك بعدها غرق.
تدلت أصابعه إلى وجنتها وأكمل: -كنتِ شعاع النور اللي اتسلل لأوضة عتمة عشان تفتحي عيونه على الدنيا من جديد، من غير قصد رجعتي لي حياة عاصي اللي ادفنت.

هامت بسحر قُربه ولمساته وكلماته الدافئة التي فاقت دفء المشروب بيدها وسألته: -عندي فضول أعرف أنت مين. عندك أسرار كتير حابة أعرفها. مش عايزه أبقي تايهه فيك طول الوقت.
-هتصدقيني لو قولت لك مش عايز افتكر أنا مين، ولا عايز أرجع بذاكرتي لأيام كنت ميت فيها. بس ممكن أحكي لك من وقت ما قابلتك.
سألته بنبرة خافتة: -هتقول أيه...

تنهد بارتياح: -هقول أنا اللي سبت الدنيا كلها واخترتك أنت وبناتي. وعايز أكمل حياتي معاكم، كفاية العُمر اللي ضاع في الفاضي.
أطالت النظر بعيونه المدججة بالشوق وسألته برتابة: -عايزني أخد قرار صعب زي ده مع حد كله أسرار زيك.
تسلل ببطء وتأني إلى ثغرها المنتفخ قليلًا والذي وقع بغرامه حتى جرى صدى كلماته الأخيرة يُعلن اشتهائه في قربها: -مش مهم تعرفي، المهم أحساسك بيقول لك أيه...

ارتعشت من مكانها ونهضت مبتعدة عنه وتركت الكُوب من يدها وقالت برجفة مباغتة: -أيه رأيك تشوف أوضتي.
أحس بصقيع الخذلان يجري بدمه فاستغرق بضعة دقائق يستوعب فيهما إثر ما حل على مشاعره المُلتهبة والمتلهفة لملامسة روحها وحفر معالم الأمان على قلبه الذي ناله صدى الزمن، تحمحم بخفوت ووثب مُلبيًا لطلبها، وسار خلفها يُراقب حماسها الطفولي حتى وصل الثنائي إلى غرفتها المميزة.

فتحت الباب بشغف ولفت لفة سريعة بالغرفة وألقت نظرة على خزانة ملابسها ثم عادت إليه راكضة وسحبته إلى داخل الغرفة وشرعت في سرد حياتها وتفاصيلها أمامه:
-ده مكتبي، وده اللابتوب بتاعي. عليه كتابات كتير أوي، لما تحب أبقى نقرأهم.
ثم اقتربت من النافذة المطلة على البحر: -كنت بحب أشرب قهوتي كل صبح هنا وأنا بسمع فيروز وبسرح معاها.

ثم قفزت بفرحة وركضت نحو خزانتها وأخرجت منه صندوقًا خشبيًا ووضعته على المكتب، دنى منها عاصي بفضول: -أيه ده؟
مررت أناملها على صندوق ذكرياتها ولمعت عينيها بدموع الحسرة: -بعد الحادثة اللي حصلت لي، قلت مستحيل أحب تاني. بس كانت جوايا مشاعر كتيرة، معرفتش أخرجها غير في صورة جوابات كنت اكتبها وأحطها جوه الصندوق، وأفضل مستنية الرد عليها، بس مكنش بيوصلني رد طول السنين دي كلها!

أحس بلهب الحزن يتأكل بقلبه عندما لمس سنوات عناءها وهو بعيدًا عنها. ضم كفها بدفء وسألها: -والصندوق ده هيكون من نصيب مين!
وقفت مقابله بتحدٍ: -من نصيب الشخص اللي هحبه.
ثم سحبته من يده بعجل ناحية الباب المفتوح: -تعالى هوريك حاجة كمان.
أوقفها عنوة حتى ارتطم ظهرها بالضلف الموصدة وقفل الأخرى بيده وأخذ يدنو منها تدريجيًا فتسرب الخوف إلى قلبها المنتشي لقربه وهو يخبرها: -أنا عايز أقول حاجة.

أصدرت تنهيدة طويلة ملأت فيها جيوب رئتيها من رائحة: -هتقول أيه!
ألتف ذراعه حول خصرها واقترب منها يتضور لهفة: -حياة.
ردت بنبرة مبحوحة: -بحبك.
اتسع بؤبؤ عينيها وغمغمت بذهول: -يعني أيه،!
‏مجرد الشعور بالحرقة المندلع من بين كلماته المدججة جعل لأحلامها معه أجنحة. شرع بنثر حبه بتأنٍ على ثغرها المنفرج إثر ما وقع عليها وهمس يتتوق إليها شوقًا:
-أنتِ ليا وبس فاهمة.

قفلت جفونها مستسلمة لبركانه الثائر الذي غمرها بدفء المشاعر العاصفة بكيانها حتى كرر جملته بإثارة: -سمعتِ! أنتِ ملكي.
ثم ابتعد عنها ليقرأ تفاصيلها قبل تهوره فهام مستائلًا: -مالك!
ردت بتوتر: -خايفة!
لصق جبهته بجبهتها وقال: -مني؟
ردت بانتفاضة: -مش عارفة.
-تحبي أبعد!
أجابته بخفوت: -لأ.
داعبت شدقه ابتسامة العشق وسألها بانجذاب: -طيب أقرب!
-تؤ.

في اللحظة التي فجرت فيها لفظ الإعتراض وفتحت بوابة قلبها لاستقباله، أتاهم صوت طرق خافت على الباب ممزوجًا بنداء داليا الباكي: -بابي...
فتح الباب على الفور بلهفة: -مالك يا داليا. بتعيطي ليه.
استجمعت حياة بقايا قوتها الممزقة وانحنت لمستواها وأخذتها بين ذراعيها بحب: -مالك ياحبيبتي.
تمتمت الصغيرة بذعر: -شفت حلم وحش، أنا خايفة أوي.

ربتت حياة على ظهرها وحملتها بحب وقالت محتجة لتهرب مما كانت ستقع ضحيته قبل لحظات: -تعالى هنام جمبك، متخافيش. اهدي ده مجرد حلم. أنا معاكي أهو...

علي حدة، فتحت سيدة الباب لاستقبال عبلة ففوجئت بوقوف شخص غريب بجوارها. رمقته سيدة بفضول وهي تقول:
-نورتي يا ست هنام! هو مين البيه!
تعلقت عبلة بيده وسحبته للداخل وقالت بنبرة عالية: -فريد المصري
جوزي.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة