رواية غوى بعصيانه قلبي الجزء الثاني للكاتبة نهال مصطفى الفصل التاسع عشر
يا من أراقبه والوصل منقطع
كيف السبيل إلى إعلان أشواقي؟
لأول مرة يحل الصقيع على أرجاء المنزل، جاءت العاصفة فأخذت جميع سُكانه ورحلت ولم يتبقى إلا الوحدة والجدران المشققة. لقد كان كل ركن هنا يزهر بالحياة، بالحياة التي تمردت عليها مرة ولعنتها أخرى وعُدت إلى أحضانها معتذرة مكتفية بحضن أبي ودفء أخوتي. تحولت أعوامي إلى سراب، فارقت البيت والأهل وبتُ انتمي لأناسٍ لم أصادفهم في سُلم العمر لمرة. ما أنا عليه الآن لم يخطر بعقلي للحظة بأن سأساق إليه!
وها هي عادة القدر الذي يأتي ليفاجئنا كل مرة بمصائر مغايرة عن الأحلام التي أفنينا فيها زهرة العمر.
تقف حياة وراء بار مطبخ منزلهم تتأمل تفاصيل الساحة الخالية من صوت أخوتها الجياع ورائحة الأسماك المتنوعة التي اعتادت أن تقدمها لهم. زاحت عبراتها المترقرقة ثم اتجهت نحو الثلاجة وأخرجت منها ما تحتاجه لتحضير وجبة الإفطار.
شرعت في تقطيع الخضراوات وكسر البيض حتى شق ثغرها ضحكة حزينة عندما تذكرت يونس وهو يؤكد عليها بكل مرة بيض عيون مش أومليت يا سيلا
تنهدت بمرارة وقالت لنفسها: -وحشتوني أوي...
دارت ناحية الموقد وأشعلت أحد أعينه ووضعت فوقها المقلاوة وبجوارها عبلة الفول المغلفة ثم اتجهت ناحية الراديو وشغلت أغنيتها الصباحية التي كانت تجمع أخوتها نسم علينا الهوى وعادت مرة أخرى لطهي الفول الحار شاردة مع كلمات الأغنية وتدندن معها بشوق عازف لماضيها.
حتى جاءت أيدي عاصي لتطوق خصرها برفق هامسًا: -ده أيه الصباح الرايق ده!
لم يعد قربه يرعبها بل أصبح مصدر أمان ومحض انتظار لها. ردت بهدوء يطوقه الشجن: -كُنت أول ما اشغلها أخواتي يعرفوا أن الفطار بيجهز. أول مرة أشغلها وعارفة أنهم مش هيجوا.
أحس بوجعها الغائر بداخلها وقال: -في أقرب وقت هتتجمعوا تاني.
ثم غير مجرى الحديث: -بتعملي أيه؟
قلبت محتوى المقلاة بخفة وقالت: -طبق فول بالزيت الحار هتأكل صوابعك وراه.
دفن أنفاسه بشعرها وقال بإعجاب: -دي كفاية ريحته.
أسكره عطرها المحبب إلى فؤاده فتعمد ملء جيوب قلبه من قربها وسألها بنبرة مدججة بالوله: -هربتي إمبارح قبل ما نخلص كلامنا.
تملصت منه بدلالٍ بعدما بد شبح الابتسامه على وجهها وركضت نحو الثلاجة وسألته: -بتحب المربى!
رفع حاجبه مُدركًا خطتها الجديدة في الفرار، فاقترب منها بخطوات اندس الخبث بها وقفل باب الثلاجة بايده وبالأخرى سجنها تحت حِصاره وقال مُتيمًا:
- يا من أراقبه والوصل منقطع.
كيف السبيل إلى إعلان أشواقي؟
تُراهُ يدري بأنَّ القلبَ مَسكنهُ
ولستُ أُبصرُ بالعينينِ إلاهُ...
القلبُ يسأل عيني حينَ أذكرهُ: يا عين قولي متى باللهِ نلقاهُ؟
تآزر عليها شوقه الذي تأملته بعيونه فسألته بخفوت: -أنت فتحت الصندوق!
أومأ بالإيجاب وهو يقترب منها أكثر فأكثر: -كان عندي فضول أعرفك أكتر...
-وعرفت أيه؟
-وقعت في حُبك من جديد.
تبسمت بدلالٍ وقالت متعمدة إثارة غضبه: -بس الكلام المكتوب في الرسايل مش ليك!
عقد حاجبيه متسائلًا: -وأمتى هتكتبي لي زيه؟
حائرة تتمايل أمامه كطفلة مدللة: -أنا هكتب للشخص اللي قلبي هيحبه وبس.
-وليه مش أنا!
تحركت عينيها بسرعة يمينًا ويسارًا ثم شرعت بمحاولة جديدة للهرب ولكنها فشلت تلك المرة وهو يحكم قبضته عليها بإصرار: -انسي.
وقفت أمامه كالقطة المتمردة وقالت: -الأكل هيتحرق!
-يتحرق.
بجزل طفولي سألته: -أنت عايز أيه!
-عايز أعرف ردك على كلامي.؟
-أي كلام؟
قرأ الاعتراف بعينيه قبل ما يكرره لسانه قلبي الذي استقر على كتفيك دونًا عن كتاف العالمين . زمجرت رياح غضبه هاتفًا: -حياة!
تلصصت من تحت يده بخفه وركضت لتقفل الموقد ثم اتبع خُطاها عاقدًا ذراعيه أمام صدره منتظرًا ردها حتى دارت إليه بتوجس: -بلاش تستنى مني ابادلك نفس المشاعر.
-ليه!
أغرورقت عينيها بماء الحزن: -أنا كُل حاجة بحبها بتروح مني. قلبي مش هيتحمل خُسارة جديدة.
رد بدون اقتناع: -أنتِ بتتلككي، فين المشكلة، أنا بحبك ومستني رد على حبي ده منك. عشان نبدأ حياة جديدة سوا!
دنت منه أكثر وقالت بيأس وهي تطالعه بأعينها الحادة: -خايفة لو سلمت لك قلبي تروح منه.
-يعني أيه؟
تنهدت بحيرة: -يعني اديني وقتي، محتاجة أقعد مع نفسي شوية.
تقبل طلبها على مضض: -تمام، مش هضغط عليكِ، بس لازم تعرفي أن صبري له حدود.
أحتل الأسف ملامحها وقالت بهدوء: -صحى البنات عشان نفطر كلنا سوا.
-طمني يا دكتور؟
أردفت شمس سؤالها بعد مرور ليلة عصيبة عليها بالمشفى تترقب حالة تميم الحرجة لساعات طويلة حتى خرج الطبيب من غرفة العناية وقال: -الحمد لله، صحته مستقرة وهننقله غرفة تانية، لان الرصاصة كانت قريبة من العمود الفقري. وكان لازم نطمن عليه الأول
-يعني هو أحسن دلوقت؟
-اطمني يا مدام، الحالة مستقرة ومفيش داعي للقلق، ساعة وهيفوق ويطمنك بنفسه.
هللت بخفوت: -الحمد لله، الحمد لله.
ثم انصرفت متجه ناحية الزجاج الفاصل بينهم تتأمله وهو نائم تحت الأجهزة المتصلة بجسده وألقت سؤالها المحمل بالعتاب:
-ليه كده يا تميم!
ثم أغمضت عيونها الذابلة وقالت لنفسها: -مش مهم أي حاجة، المهم أنك ترجع كويس.
-الساعة 7 وفي محاضرة الساعة 8 المفروض نصحى ولا أيه؟
أردف مُراد جملته بحماس وهو يهاتفها كي تستعجل وتفارق مرقدها وتكف عن التكاسل، فأجابته بصوت يملأه النوم وقالت بعتب:
-على فكرة أنت السبب!
-أنا؟ وأنا كُنت عملت أيه؟
نهضت من مرقدها بخمول وأكملت: -ولا حاجة، بقيت ترغي معايا لوش الفجر بس.
أتاها صوته ضاحكًا بصوت مرتفع ثم قال: -بحب استغل الناس الحلوة.
تأففت بإعجاب: -مراد!
-عيون مراد.
-صباح الخير.
-صباح العسل.
ثم ألقى نظرة في ساعة يده غيرت نبرة صوته: -أنتِ لسه نايمة، قومي يلا عشان تروحي الجامعة.
-جامعة أيه! مش هروح النهاردة.
احتدت نبرته: -عالية، قدامك خمس دقايق تقوليلي أنك في التاكسي ورايحة الجامعة.
-يووه! مش هينفع والله عايزة أنام.
أصر على رأيه: -فات دقيقة...
-بس بقا يا مراد، قلت مش هروح!
-مفيش الكلام ده أنا أهم حاجة عندي العلم، يلا قومي كده وأنا معاكي على التليفون. قوليلي هتلبسي أيه؟
اتسع بؤبؤ عينيها: -أيه الاسئلة الغريبة دي؟ مالكش فيه.
ارتسمت ابتسامة عريضة على محياه: -طيب دخلتي الحمام ولا لسه!
فارقت مخدعها وهي ترتدي نعالها: -هقفل على فكرة.
-الله! بفكرك عشان تغسلي سنانك.
-مالكش فيه بردو.
انصت لصوت فتح باب المرحاض فقال ممازحًا: -كده أنت وصلتِ الحمام.
طافت عينيها في المكان بسرعة كي تتأكد من عدم وجود كاميرات ثم هتفت بذهول: -أنت عرفت ازاي!
انفجر مراد ضاحكًا بهستيريا ثم قال: -بلاش تاخدي شاور عشان الجو برد.
فاض صبر عالية من سخافته الزائدة، فبدون إنذار قفلت الهاتف وانهاء المكالمة وهي توبخه سرًا:
-هو اتعلم الرخامة دي كلها أمتى!
مرت قرابة النصف ساعة حتى فرغت عالية من ارتداء ملابسها واستعدادها للذهاب إلى الجامعة، توقفت على مقدمة الدرج تشاور نفسها إذا كان من المفترض أن تمر على سوزان أم لا ولكنها حسمت حيرتها أخيرًا بالذهاب مكتفية بارسال رسالة نصية لها...
فتحت باب المنزل بعجلٍ وهي تراقب الساعة حتى علقت عينيها بسيارته التي تنتظرها بالخارج واقفًا أمامها يطالع الوقت حتى أشرقت شمسها على قلبه الذي أغرم بها. وقفت مشدوهة حتى ختمت صدمتها بابتسامة واسعة:
-يخربيت الجنان!
دنت منه بهدوء ثم هتفت: -انت بتعمل أيه هنا؟
-مستنيكي من 6 الصبح.
-ماشي هعمل نفسي مصدقة!
ارتفعت نبرة اعتراضه: -خدي هنا! انا هنا من الساعة 6 حتى اسالي مونيكا اللي كل شوية تخرج تقول لي مش ينفع كتا يا فنتم وتدخل تاني.
غاصت عالية في غيبوبة من الضحك على طريقة تقليده للخادمة: -قصدك سيليا!
-أنا عارف بقا، أهي كلهم شبه بعض. بس أيه الحلاوة أنتِ فيها دي!
أحمر وجهها خجلًا: -يووه بقا. همشي!
-تمشي فين وتسيبيني مع مونيكا. اركبي اركبي.
لم تجد حلًا له إلا الامتثال لأوامره، صعدت سيارته وشرعت في ربط حزام الأمان، وصعد هو الأخر بجوارها وبدأ في تشغيل سيارته وسألها: -هنروح فين!
-فين أيه يا مراد! الجامعة. عندي محاضرة الساعة 8.
-والساعة كام معاكي!
-8 إلا تلت.
تحرك بسيارته قائلًا: -كده أول محاضرة فاتتك، مش مهم نروح نفطر الأول وبعدين نعوض في تاني واحدة.
حدجته بدهشة: -مراد! والعلم؟
-قلت هنعوض في تاني محاضرة. متركزيش بقا.
-بابي ممكن نلعب في الجاردن؟
سألت تاليا والدها بطلبها الأخير إثر شعورهم بالملل من الجلوس أمام التلفاز. ترك عاصي هاتفه بعد ما تصفح أحوال البورصة وقال:
-الجو صعب بره، وهتبردوا.
توسلت له داليا: -هنلعب مش كتير، حبة صغيرين بس.
نهض مجبرًا وأمسك يديهم وذهب ناحية الحديقة الخاصة بالمنزل والقريبة من الشط، فما وصلوا إلى أعتابها انطلقن الفتاتان بمرح، أشار عاصي لرجلين من حراسه بحزم:
-عينكم ما تغفلش من عليهم.
ثم عاد مرة أخرى إلى المنزل يبحث عنها لاختفائها بعد تناول الإفطار. صعد لأعلى وطرق باب غُرفتها حتى سمحت له بالدخول:
-سيبانا يعني وقاعدة هنا؟
ردت بضيق وهي ترمي أحد الملابس من يدها: -مفيش.
قفل الباب وتقدم إليها يتامل ملامحها الغاضبة: -لا في! مالك.
وقفت أمام المرآة تتأمل هيئتها: -كل هدومي ضاقت عليا، ومش عارفة أية البطن اللي بدأت تظهر دي! مكنش ينفع انسى نفسي وأكل كتير.
ابتسم باستغراب: -مفيش ولا حاجة من اللي قولتيها صح! فين الوزن الزيادة ده!
-بقول لك الهدوم مش بتقفل عليا! هدومي أنتَ متخيل.
-الكلام ده مش حقيقي. أنتِ زي الفُل.
-يعني متخنتش!
وقف خلفها يراقب صورتهم المعكوسة بالمرآة: -وفيها أيه! ما تتخني براحتك.
-لا طبعا ما ينفعش.
ثم دارت إليه: -لسه زعلان!
-هزعل ليه؟
-أبدًا مودك مكنش أد كده على الفطار.
-عادي مشاكل في الشغل بس. المهم يلا عشان نلحق نرجع.
تحركت قليلًا من أمامه: -مش عايزة أسيب البيت ويرجع يتقفل تاني، أنا حياتي هنا.
قال متفهمًا: -أنا مقدر كُل ده. بس مش هينفع أسيبك لوحدك ولا هينفع اسيب شغلي.
-طيب وشغلي وشغل بابا وحياتي؟ أنا عندي اقتراح.
-اقتراح أيه.؟
فكرت قليلًا ثم قالت: -ارجع أنت القاهرة وشوف شغلك، وأنا هقعد هنا ارجع لحياتي وشغلي. وكل ويك آند أجي القاهرة أو أنت تيجي هنا.
أطلق ضحكة ساخرة: -والمفروض أنا أوافق على الهبل ده!
-ومتوافقش ليه! صدقني ده الصح.
دنى منها أكثر ممسكًا بذقنها وكأنه يُريد معاتبتها بلطف: -وهو ينفع مراتي تنام في بلد وأنا في بلد!
إعلان ملكيته لها صراحة بث وميض السعادة والحب معًا بقلبها، فتبسمت بطاعة وقالت: -معاك حق...
ثم تحمحمت هاربة من سطو نظراته القوية: -نمت كويس في أوضتي؟
أكدت ملامحه الجواب وهو شاردًا بجمال عيونها التي يغار منها غزل الشعر وقال: -كان ناقص تبقي معايا.
باغتته بقُلبة خفيفة على وجنته كرد فعل غير متوقع منها وعادت لمكانها تقف أمامه بدون خوف تُراقب دهشته من فعلها الذي دفعها قلبها لإرتكابه. مرر أنامله على وجنته وسألها: -أيه ده!
طالعته بتردد لا تعلم هل تُريد تقبيل الحياة التي منحتها رجل مثله أو تُقبله هو بالأخص! تنهدت متبسمة: -مكنش قصدي أزعلك الصُبح. بس
-كملي، سكتي ليه!
شرد قلبها على نواصي عينيه: -عاصي أنت راجل مش من السهل يتكرر ولا يتعوض، من حقي أخاف، خايفة اتعلق بيك والدنيا تفرقنا وقتها لو لفيت الأرض على كعوب رجليا مش هلاقي اللي يعوضني عنك ويساعدني أنساك.
خيمة صغيرة تحت ظل رموش عينيكَ تغنيني عن قصرٍ لم يُحاط ببساتين خطواتك.
عانقته بذراعيها وأكملت: -أنا قلبي داب من الوجع. ومش هكذب عليك عاش كتير بيتمنى يدوب من الحُب. بس حب بعده وجع مش عايزاه. توعدني لو سلمت لك نفسي متوجعهاش!
فتحت كلماتها أبواب قلبه الموصدة بحب ظن أنه زار قلبه من قبل، ولكنه ادرك أي أي مشاعر من دونها عبث لا يذكر إمراة وجودها يلغي جميع النساء بعينيه، حملها بين يديه فسندت رأسها برأسه وسألته بخفوت: -أنت هتعمل أيه؟
تحرك ببطء نحو مخدعها: -هتعرفي دلوقتي.
-أقول لك على سر؟
-قولي.
-من أول يوم شُفتك فيه وأنا كُنت خايفة قلبي يتورط فيك.
رفع حاجبه مستفسرًا: -اعتبره اعتراف صريح؟
اكتفت برسم ابتسامة واسعة دفنتها بين شدقيه مبادرة بقبلة طويلة أطاحت بعقله للسحاب، ارتخت يده من تحت ساقيها فأنزلها برفق كي يقدم مراسيم حب تليق بها، ما شرع أن يفرغ بثغرها أيام شوقه فاستردت وعيها مبتعدة عنه باعتراض:
-استنى. ماينفعش الحاجات المُخلة دي تحصل هنا في أوضتي.
-نعم ياختي وهو أنا مأجرك ده أنتِ مراتي؟ وبعدين أوضتك دي يتكتب فيها حاجات مخلة عادي!
توترت قليلًا مبتلعة ضحكتها: -ااه عادي ده خيال.
-ننفذه بقا ولا أيه!
حاول تجاهل دلالها واستكمال ما بدأه ولكنها مانعته بإصرار وهي تهرب من تحت يديه: -قولتلك أوضتي لأ!
زفر بضيق: -يعني أنتِ دلوقتِ مشكلتك في المكان ولا فين!
-ماليش فيه، كله إلا أوضتي. ممكن لما نرجع أوضتك نشوف الموضوع ده.
أعلن راية التحدي: -بس أنا هوايا جاي على هنا.
أجابته بدلالٍ: -وأنا قولت لك أوضتي لا يا عاصي بيه دويدار.
رفع حاجبه متحديًا: -وانا كمان أوضتي لا.
غمزت له: -خلاص براحتك.
مجرد ما قالت جملتها فرت هاربة من النيران الملتهبة بعينيه، حك ذقنه بغيظ: -رجعنا للجنان!
ملاذ الحب ألا تعرف في حضرته من تكون، تندفع بجنون وبأفعال لم يخلقها العقل، تحترف الدلال كطفلة لم تتجاوز السبع سنوات. في الحب نحن نتجرد من كل شيء قبل ملابسنا، فلا تلوم على محب ولا تسأل عن هوائية تصرفاته.
حل المساء
فوصلت عالية إلى القصر بعد يوم طويل قضت نصفه مع مراد حتى سرقهم الوقت ونسيت أمر الجامعة وبقيته ذهبت مع سوزان لتناول الغداء وشكرها على حسن استضافتها لها وبعد جدال طويل أصرت عالية على عودتها للبيت.
دخلت من الباب مُرحبة بسيدة وسألتها: -ماما جات يا سيدة!
لاحظت ارتباك سيدة وهي تجيبها: -نورتي يا ست عالية!
-مالك شكلك مش مريحني؟ انتِ عايزة تقولي حاجة صح!
دنت منها سيدة وأشارت بسبابتها: -ست عبلة في أوضتها فوق.
-طيب تمام، هطلع لها.
أمسك بكم سترتها و أوقفتها: -لا استنى، مش هينفع تطلعي لها.
عالية باستغراب: -في ايه يا سيدة؟
-أصلو ست عبلة مش لوحدها فوق.
-أومال مع مين؟ ااه خالتو جيهان قصدك!
هزت رأسها بالنفي: -ولا ست جيهان!
زفرت عالية بنفاذ صبر: -سيدة! مش مريحاني.
-ست عبلة فوق مع جوزها.
ألقت الجملة من شدقها باندفاع إثر إلحاح عالية التي دارت بها الأرض وكررت ما سمعته بسخرية: -فوق مع جوزها! جوز مين يا سيدة.
-جوز الست عبلة.
-ماما اتجوزت! طيب مين وأمتى وازاي!
ردت سيدة باستسلام: -أهو ده اللي حصل هنعمل أيه.؟
-انا لازم اطلعلها.
أوقفتها سيدة راجية: -دي مأكدة عليا محدش يعتب ناحية أوضتها بلاش وأستنى هي هتنزل كمان شوية!
ثارت عالية غاضبة: -هي ازاي مدخلة راجل غريب البيت وكمان على سرير بابا! ده أيه الهبل ده!
بالسيارة
-بابي، صحيح الحوت أكبر سمكة في البحر؟
أردفت تاليا سؤالها الفضولي على آذان والدها الذي يقود السيارة بنفسه، وحياة التي تجلس بجواره ف رد مؤيدا:
-أيوة يا حبيبتي...
عارضته حياة: -أيوة أيه! أنت بتقول معلومات غلط للبنت.
نظرت تاليا إليها وهي تقول: -سيبك من بابي، الحوت من أكبر الأسماك في البحر بس مش أكبرهم...
هتف عاصي ساخرًا: -بدأنا في الكلام اللي مايتفهمش.
حدجته بحدة: -ركز ف السواقة.
ثم عادت لتاليا موضحة: -أكبر الأسماك نوع اسمه القرش الحوتي. وده مش من فصيلة الحيتان. ده بيتغذى على جميع الأسماك الأصغر منه.
جاءت تاليا بسؤال أخر: -طيب لو الحوت قابل حورية البحر، هيأكلها؟
أحست حياة بعمق السؤال ففكرت قليلا قبل أن تُجيبها وقالت مقترحة: -ممكن نعرف رد بابي على السؤال ده.
ابتسم عاصي بمكرٍ وقال بمغزى لم يفهمه غيرها: -الحوت مستني بس حورية البحر تقع تحت أيده، وهيأزأزها عضمة عضمة.
تدخلت حياة هنا بعد ما ابتلعت توعده لها: -سيبك من بابي يا حبيبتي.
أطلق ضحكة ساخرة اشعلت نار الانتقام منه وقالت بخبث:
-أحنا مش اتفقنا أن القوة مش بالعضلات وبس! وأن العقل أقوى كتير. فاكرين لما قولت لكم أن الحوريات عندهم ذكاء خارق!
جاءت داليا مقترحة: -يعني ممكن حورية البحر تغلب الحوت!
-حورية البحر هتروض الحوت بذكائها، لحد ما يقع في حُبها ووقتها مش هياكلها، بالعكس ده هيحميها من كل الحيوانات المفترسة اللي ممكن تأذيها!
جاء عاصي معترضًا: -أنا مش بيتحكي لي ليه حواديت زي العيال دي!
تدخلت داليا هاتفه بحماس طفولي: -عشان حضرتك كبرت يا بابي...
قطع حديثهم صوت رنين هاتفه فنزعه من الشاحن وقال: -دي عالية، ألو!
-عاصي أنت فين؟
-انا قريب من القصر، في حاجة؟
-لو سمحت تعالى بسرعة.
-في حاجة يا عالية؟
-ااه، أمك اتجوزت.
-أيه؟
عادت شمس برفقة تميم ل غرفتهم الخاصة بعد ما أكد الطبيب عليها بتوفير جميع سُبل الرعاية. جاءت حاملة مائدة الطعام كما طلبتها من الفندق والتي تضم الأصناف الصحية من الطعام.
جلست على طرف فراشه وطلبت منه أن ينهض لتناول عشائه. عجز تميم أن يعتدل بمفرده فتركت الطعام وساعدته ثم وضعت الوسادة خلفه وسألته:
-مرتاح كده؟
-أسف يا شمس تعبتك معايا.
انغمست في تبريد الطعام وقالت بدون التطلع لوجهه: -مفيش تعب، ممكن تاكل عشان تاخد أدويتك.
-وأنتِ كمان لازم تاكلي عشان مأكلتيش من إمبارح.
تجاهلت اهتمامه بها ورفعت الملعقة المحملة بالشوربة وأطعمته برفق، تابعت في إطعامه حتى فرغت الكمية فنهضت لتضع المائدة بعيدا ثم أحضرت الأدوية. وضعت القرص بفمه ثم منحته كوب الماء:
-اتفضل.
بلع القرص ثم الأخر حتى فرغت من إعطاءه جرعة الدواء فسألته: -محتاج حاجة؟
-محتاج نتكلم يا شمس، أنا مش هرتاح طول ما أنتِ مصدرة الوش ده وزعلانه مني.
-مش وقته يا تميم.
أصر معاندًا: -أومال أمتى وقته؟ شمس لازم تعرفي أن الموضوع أكبر من إنك مفكرة أني خدعتك. أنا اخترت الكرسي ده بدل روحي، لو معملتش كده كان زمان عبلة خلصت مني من زمان.
ردت بجفاء: -أنت حُر في حياتك.
حدجها معاتبًا: -أنتِ أزاي بالقسوة دي! أزاي مش مدية نفسك فرصة تعذريني.
-حمد لله على سلامتك يا تميم.
تفهم عدم قدرتها واستعدادها على الحديث فأوما متقبلًا: -تمام يا شمس، بس كلامنا لسه مخلصش.
نهضت لترفع الوسادة من خلفه وهي تقول جملتها الأخيرة: -تصبح على خير.
دخل عاصي القصر بعواصف غضبها التي تُطيح كل ما يُقابلها، لحقت به حياة ممسكة بالفتيات ومجرد ما رأت سيدة طلبت منه: -خدي البنات أوضتهم يا سيدة.
ركضت عالية إليه: -عاصي أنت لازم تخليها تمشي الجدع ده من هنا.
-هي فين؟
-في أوضتها فوق، متعرفش أني هنا.
صاح بصوت ينافس الرعد: -سيدة قولي للهانم تنزل.
ربتت حياة على كتفه: -ممكن تهدى بلاش عصبية.
قبض على يده من شدة غضبه وجهر: -بسرعة يا سيدة...
ارتدت عبلة ملابسها بسرعة عندما وصل إلى مسامعها صوت عاصي القوي الذي اهتزت له الجدران، وأخذت تُلقن فريد فيما سيقوله أمامه. وقبل ما تصل إليها سيدة خرجت من غُرفتها هاتفه:
-أيه مالك ليه الدوشة دي كلها! مش قالولك في اتنين عرسان فوق؟
جهر عاصي باستهزاء:
-ايه مستنية نيجي نبارك ونحتفل!
وصلت عبلة لمنتصف الدرج فوقعت أنظارها على حياة فأكملت ساخرة: -الله! ده الموضوع طلع بجد!
ركضت عالية إليها وقالت بعتب: -حضرتك ازاي تدخلي راجل غريب أوضة شهاب دويدار!
اختالت فوق درجات السُلم: -شهاب دويدار الله يرحمه ويبشبش الطوب اللي تحت راسه. الحي أبقى من الميت.
تقدم فريد الذي يرتدي ملابس النوم المصنوع من الحرير باللون الأحمر وجاء هاتفًا:
-أزيك يا أبو نسب!
خرجت نوران آنذاك وهي تكتب رسالة نصية لكريم: -تعالى شاهد قبل الحذف.
اتسع بؤبؤ عيني عاصي وحياة برؤيتهم لفريد، فأتاه صوت عاصي ساخرًا: -الغُراب ده بيعمل أيه هنا؟
ألتوى شدقه ساخرًا: -عيب يا عاصي، دانا جوز أمك، يعني في مقام أبوك.
ركضت حياة نحو عاصي مغلغلة أصابعها بفراغات كفه وهمست له: -عاصي أهدى.
هتفت عالية بصدمه: -هو ده اللي أنتِ متجوزاه؟
تجاهلت عبلة سؤال ابنتها ووجهت حديثها لحياة: -أعرفكم ولا تعرفونا أنتوا؟
جهر عاصي بكل قوته: -هي حصلت تدخل بيتي برجليك!
هتف فريد بخبث: -ما أنت كنت نايم في بيت عمي وأنا متكلمتش.
تدخلت عبلة قائلة: -وأنت متعصب ليه يا عاصي، دانا حتى وافقت اتجوز فريد على السُمعة، مش مراتك تبقى بنت عمه، وأنا ابني مش هيتجوز أي حد!
عاصي بحدة: -مختصر الكلام، رجل الكنبة اللي متجوزاه ده يطلع بره بيتي وألا هجيب الرجالة يرموه بره.
وقفت عبلة أمامه متحدية: -لأ، وفريد بقا جوزي وأنا بس اللي أقول مين يقعد في بيتي ومين لا.
-بلاش تتحديني وانهي التهريج ده!
قهقهت عبلة بميوعة: -أحنا فيها، ورقة طلاقي من فريد قُصاد ورقة طلاقك من المحروسة! ونبقى خالصين. قُلت أيه؟
ضغطت حياة على كف عاصي كأنها تتوسل إليه أن يُحكم عقله، فأرسل إليها نظرة وهو تأئه فاستدل بعيونها وقال بعد ما رسم ابتسامة مزيفة على محياه:
-مبروك يا عروسة.
جملته اشعلت حقول من النيران في قلب عبلة التي كانت منتظرة حرب كُبرى معه فستغلها لمصلحتها وتبعده عن تلك التي سلبته من عالمها الذي زرعت بداخله كيان عاصي دويدار.
قفل قبضته على يد حياة وسحبها بهدوء متجهًا ناحية غرفته ولكنه توقف أمام فريد بمنتصف الدرج وقال جملته الأخيرة: -أنت اللي أخترت تقف قُدام القطر، قابل يا حلو.
ثم أكمل سيره إلى غُرفته دون الالتفات خلفه، أما عن عالية فلم تتحمل المكوث في القصر أكثر، بعد ما أرسلت عليهما أسهم الخسة أخذت حقيبتها وفرت من حجر الأفاعي الذي لا يُناسبها...
صعدت عالية سيارتها وانطلقت خارج القصر وأول شخص جاء على رأسها للستعانة به هو مراد، هاتفه قائلة: -أنت فين؟
-أنا في الشركة، مال صوتك؟
-ممكن أجي لك؟
رحب مراد قائلًا: -طبعا يا عالية تعالى...
بغُرفة عالية بالقصر.
-عايزة جنازة وتشبعي فيها لطم.
أردف كريم جملته ممازحًا مع نوران وهو يهاتفها من الحديقة بالأسفل. ضحكت بصوت مرتفع: -بصراحة عيلتك دي مسرح، وخالتك دي ست قادرة.
-بنحاول نسعد معاليكِ أد ما نقدر والله، مشاهدة ممتعة.
قفلت نوران إضاءة غُرفتها وتأهبت للنوم: -متعرفش عاليا راحت فين؟ مشيت قبل ما اكلمها.
-منا جريت وراها بس ملحقتهاش بردو، بس عرفت أنها كلمت مراد، تلاقيها عنده دلوقتي.
-أممممم، طيب. هتعمل أيه؟
تحمحم كريم بفخر: -ده أيه الاهتمام ده كُله؟
-حيلك حيلك يا بني، فوق كده دي مقدمة للانسحاب بس.
-والله كُل واحد يخليه في اللي يفهمه. عموما هجاوبك، بفكر انزل أسهر مع صحابي ونتعرف على شوية بنات جداد!
احتل الضيق ملامح نوران: -كريم أنت على طول تافه كده؟
-الله! ما كنا حلوين؟
-تستاهل، جايبه لنفسك. المفروض أن عندك امتحانات الشهر الجاي وجامعة. وأنت كل اللي هامك البنات!
جاء صوته مجاكرًا: -والله ده كتير عليا في مكالمة واحدة، يعني اهتمام وخايفة على مستقبلي كمان!
نوران بغضب: -تصدق أنا غلطانة، سلام.
-نوران نوران استنى.
-اف نعم! عايز تقول أيه.؟
حك في رأسه ورفع عيناه إلى نافذة غرفتها وقال: -بصي كده من الشباك بسرعة.
نهضت على الفور ملبية طلبه: -في أيه؟
-بصي بس.
فتحت نوران النافذة فوجدته أمامها وأكمل قائلًا: -كنت عايز أقول لك إني هسمع الكلام وهروح أنام عشان عندي جامعة الصبح، وكمان حبيت أقول للقمر تصبح على خير وأنا شايفه.
كان يتأمل وجهها المستدير المجاور للبدر الساطع بالسماء، رُبما يريد قلبه مقارنة القمر بجمالها، أو يخبر النجوم أنه نال قمرًا في أرضه مثلهم، قفلت نوران الهاتف دون النطق ببنت شفة مكتفية بإرسال ابتسامة واسعة ثم شدت الستار منفردة بقلبها الذي احتلته ضربات قوية لا تعلم مصدرها.
-تحبي نتكلم هنا ولا نروح مكان هادي.
سألها مراد بلهفة خاصة عندما رأي أثار الدموع المتساقطة على وجنتيها، فأشاحت بالنفي:
-معلش، خلينا هنا مش عايزة أشوف ناس.
-أقعدي طيب، فهميني حصل أيه؟
جففت عالية عبراتها: -مامي اتجوزت، عرفت؟
زفر بآسى: -بصراحة مش فاهمة دماغ خالتي! مش فاهم ليه تعمل كده!
-تعرف، أول مرة اتمنى بابي يكون عايش. لاول مرة أحس أني ماليش ضهر من غيره، أنا ملحقتش أشبع منه ولا مامي عوضتني عن الحب ده! حسيت بنار جوايا لمجرد التخيل أن راجل غريب نايم على فرشته...
-عالية، بلاش تعاقبي نفسك عن حاجات أنتِ مالكيش ذنب فيها. اللي حصل حصل عشان مكتوب أنه يحصل. وأحنا مش في أيدنا غير نرضى وبس.
بللت حلقها الذي جف من كثرة البكاء: -لما خرجت من البيت ملقتش حد أروح له، أنا معنديش أصحاب ولا حد أشاركه حزني ويطبطب عليا، أول حد جيه على بالي هو أنتَ.
-وأنا دايمًا معاكِ يا عالية ومش هسيبك. كفاية بقا عياط وقوليلي تحبي نتعشى أيه؟
ردت بفتور: -ماليش نفس والله يا مراد، كفاية جيت وعطلتك عن شغلك.
-ياستي عطليني أنتِ بس كل يوم، أيه رأيك أطلب بيتزا!
ابتسمت في جُب أحزانها وقالت: -ماشي. بيتزا.
ذهب مراد لطلب الطعام ثم انشغل قليلًا في بعض الايميلات التي رد عليها بعجل حتى وقعت عيناه على عالية التي انحنت مستسلمة للنوم على الأريكة. ترك كل ما بيده وذهب نحو أحد ضُلف مكتبته وأخرج لحافه المعتاد لقضائه ليالي طويلة بمكتبه. وضع الغطاء فوقها برفق بعد ما نزع حذائها بحنان بالغ وحرص ألا يوقظها ثم قضى ليلته جالسًا بجوارها يتأملها ويعاتب الزمان على قسوته على شخص مثلها...
بغُرفة عاصي
-عاصي أنت نمت!
أردفت حياة سؤالها محاولة كسر الصمت المحيط بهم، أصدر إيماءة خافتة:
-وحد يجي له نوم بعد المصيبة دي؟
دنت منه وتعمدت مداعبة جدائل شعره: -طيب أنت متعصب ليه؟
-عايزاني انزل ابارك لهم يعني!
-لا مش قصدي، بس كان لازم تعرف أن فريد مش هيسكت، بعد ما أخدت منه كل حاجة وخطيبته.
حدجها بعنف: -أيه خطيبته دي ما تتظبطي؟
-انت هتتعصب عليا أنا كمان؟
-ما أنت اللي بستهبلي...
حاولت تلطيف الجو وإخراجه من حالة الغضب الغارق بها: -قصدي أقول لك أنهم عملوا كده رد اعتبار يعني، فالمفروض تفكر في حل بدل ما تتعصب.
قفز من نومته فجأة وقال محذرًا: -رجلك لو خطت بره الأوضة دي هكسرها فاهمة! أحرج تقفلي على نفسك لحد ما اتنيل وأرجع، والزفت ده ولا تكلميه ولا تقفي معاه فاهمة!
لم تكبح ضحكاتها فتفوهت ضاحكة: -فاهمة فاهمة، متقلقش!
-أنتِ بتتضحكي ليه؟ أيه في كلامي يضحك؟
-بصراحة كده الموضوع كله يموت من الضحك، انا مش عارفة أنت أفش ليه!
رغم عنه ابتسم عدوى من خفة روحها في استقبال الكارثة التي حلت عليهم، إمَراة مثلها تصنع المزاج الجيّد مَن أسوَء المَزاجات، تأفف بضيق ثم عاد إلى نومه. انحنت إلى وجنته وطبعت قبلة طويلة وقالت ناصحة:
-متنمش وأنت مضايق، فك بقا.
أمسك كفها وطبع بداخله قبلة حارة رجت كيانها وهو يجذبها لحضنه: -نامي عشان تعب السفر.
استراحت على صدره العارٍ ووضعت كفها الناعم فوقه وهي تُراقب ملامحه وهي تغوص في النوم. مرت ساعتان ولم يمر طيف النوم إلى أهدابها. أخذت تتحسس ضربات قلبها التي ثارت فجأة ونبض رحمها الغريب بالنسبة لها برغبة جامحه في قُربه.
تململت بقلق بجواره كي تزعجه، سعلت عدة مرات كي يفيق ولكن بدون جدوى. ارتفع صوت أنفاسها وهي تقاوم حاجتها المُلحة إليه. فارقت حضنه وأخذت تتأمل ملامحه الحادة الذي شقت قلبها لنصفين. حتى تفوهت بهمس:
-عاصي!
تأففت باعتراض وابتعدت عنه وهي تجفف قطرات العرق المتصببة من جبهتها إثر تضارب هرموناتها الجنونية و تعاتب نفسها: -حياه فوقي! جرالك أيه! أنا هقوم أخد شاور أيه الحر ده!
كادت أن ترحل من جواره ولكن شيء ما بداخلها يجرها إليه ويعلن اشتائه. مددت على طرف الفراش قفلت جفونها وهي تقول: -نامي بقي.
نهض فجأة وصاحت بصوت كارثي: -عاصي عاصي. اصحى.
فزع من نومته وهو يشعل النور بجواره وسألها: -في أيه مالك.
تصلبت تعابير وجهها: -هااه! تقريبًا شوفت حلم وحش.
تناول كوب الماء من فوق الكومود ومده لها: -طيب اشربي ميه.
ارتشفت رشفة صغيرة ثم تركته بجوارها وسألته: -أنت نمت!
فرك عينيه بكلل: -ااه، من التعب محستش.
أخذت تفرك كفيها ببعضهما بضعف لم تعهده من قبل وهي تراقب تفاصيله الرجولية التي لم تزيدها ألا فتنة وهو يجذبها إليه: -متبعديش عن حضني وأنتِ مش هتحلمي كوابيس تانية.
عارضته برجفة: -أنا مش عايزة أنام.
-أومال عايزة أيه.
في الحب نحن عراء لا نرتدي الا ما يليق بقلوبنا.
نزعت سترتها الصوفية وأغمضت جفونها وهي تحضن نفسها بنفسها وترتعش قليلًا. اتسعت عيناه النائمة على تفاصيل حوريته المتمردة وهي تتجرد من ملابسها. تفقد مفاتن جمالها التي تنافس الخمر ولكنها بدون كؤوس تُسكر.
بحكم خبرته بعالم النساء قرأ لغة جسدها المتوق إليه ولكنه تمرد وتبدلت الأدوار وقرر أن يُجاكرها بنفس اسلحتها الفتاكة، فسألها بمكر: -مالك.؟
بللت حلقها حتى برزت عروق عنقها وقالت بتردد: -اااي، البيجامة جديدة، وشكلي اتحسست من الصوف، ممكن
-ممكن أيه؟
مددت على بطنها كالأطفال وقالت: -تهرشلي في ضهري...
تعوق أضلعه خروج قلبه المغرد بحب لم يتذوقه من قبل. ابتسم بخبث ومدد بجوارها وشرع في تنفيذ ما طلبته، ما أن التقت أعينها المتيمة بأعينه الفاضحة فدارت وجهها الجهة الأخرى. شد الغطاء فوق ظهرها حرصًا عليها من برودة الجو وظل يواصل مهمته المحببة لقلبه فوق خريطة أرضه حتى رست أنامله على مشبك منهدتها الداخلية قفلت جفونها بحماس منتظرة حصد نتائج خطتها ولكنه تراجع في أخر لحظة وهو يجذبها لحضنه ويهمس في أذانها:.
-تعالى عشان متبرديش...
رفعت جفونها بيأس وهي تراقب عيونه المنغلقة: -هتنام!
اكتفى بإصدار إيماءة خافتة أخمدت ثورتها المشتعلة وحولتها لرماد وهي تستسلم أخيرًا للنوم بين يديه ويده التي لم تكف عن مغازلة ظهرها حتى الصباح.
انفلق الصباح ووصلت الطائرة القادمة من دهب إلى القاهرة. استقل تميم وشمس سيارة أجرة حتى وصل الثنائي إلى القصر...
هبطت شمس من السيارة أولًا ثم ركض نحو أحد الحراس لمساعدة تميم وسألها: -فين الكرسي...
لم يمنحها تميم الفرصة للجواب بل لحق بها وذراعه المُعلق برابطة عنقه واقفًا على ساقيه تحت أعين الجميع المنفرجة، أمسكت شمس بيده وتقدمت ناحية الباب الخشبي الكبير...