رواية غوى بعصيانه قلبي الجزء الثاني للكاتبة نهال مصطفى الفصل التاسع والعشرون
أحذر عزيزي الرجل قبل أن تسقط في بئر غرام إمراة مثلي: -بأنّي امرأة لم تُخلق للنسيّان. ستجدني أنتشي في ضِحكاتِك، أُزهرُ في عروقك وأنبتُ من مسام جلدك. واسكن بمعصمك وتطوينّي بينَ ذراعيك طيّ الكتابِ للورق! أرافقك كظلك في كل زمان ومكان تقصده سأكون معك.
الحب في قاموسي حياة.
ليست مجرد كلمات تزاحم الصُحف.
خُلق القلب عصيًا.
رياح الماضي مهما مرت عليها الفصول لابد من مصادفتها لشتاء ينفض كل الأتربة المتراكمة فوق صناديق أسرارنا المدفونة ليظهر الحق الذي حاولنا قتله بجميع الطُرق.
#فلاش باگ
في الصباح الباكر دلفت سوزان غرفتها وهي تربط حزام منامتها الطويلة عندما أخبرتها الخادمة بمجيء مراد لعندها. انقلبت ملهوفة إليه وهي تسأله:
-عرفت حاجة عن عالية يا مراد!
ثم اقتربت منه ومسكت كفيه برفق وهي تشير نحو الصالون: -تعالى أقعد واقف عندك ليه. طمني، وصلت لعالية؟
-عالية بخير، ورجعت بيتها كمان. قلت أجي أطمنك بنفسي.
تنفست سوزان الصعداء وقالت: -الف الحمد لله على سلامتها. فرحتني يا مُراد.
ثم أكملت بنفس ذات اللهفة: -طيب هي فين، أنا عايزة اكلمها اطمن عليها.
رد بتريث: -هتكون في القصر، ممكن بالليل تروحي تزوريها.
عقدت حاجبيها بتسائل: -مراد، أنت عايز تقول حاجة! مش عارفة حاسة مجيتك وراها سبب تاني.
-بصراحة أيوة.
-خير يا مراد، أحكي.
شرع مُراد في تعرية القصة المخفية بينه وبين أخيه وسرد ما حدث أجبر كريم في إجراء تحليل كهذا. حتى ختم مراد حديثه الطويل الذي تلقته سوزان كقطرات من الغيث على تُربة قلبها الدال لها دومًا:
-حسيت أنك لازم تعرفي حاجة زي دي، خالتي عبلة بير أسرار. وبصراحة مش عارفة وراها أيه تاني.
فاقت سوزان من شرودها أثناء مواجهتها للأفعى التي تتلوى باعتراضات ساخرة: -أنتِ آكيد اتجننتِ يا سوزان! مين طلع في دماغك الهبل ده! أنتِ فكراني هسكت وأعديها...
خيم على ذاكرتها عطر ذكرى صغيرتها التي رضعت منها عند مجيئها وبعدها فقدت رائحتها للأبد. فباغتت عبلة بصفعة قوية هبطت على وجنتها بكل قوتها حيث انفجرت صارخة: -أنتِ فكراني هخاف من الشويتين بتوعك. أنت خلاص يا عبلة أيامك بقيت محدودة أوي.
ثم اقتربت منها بشموخ: -عالية وهعرف أرجعها لحضني وأقولك إني مش هسيبك يا عبلة. وهدفعك تمن كل دقيقة حرمتيني فيها من بنتي.
برزت هزيمتها في صوتها المرتفع المبحوح: -وأنتِ بقا جاية لحد هنا عشان تقوليلي الكلمتين الفاضيين دول. أنت واحدة تعبانة في دماغها يا سوزان، عايزة تاخد كُل حاجة.
-أنا ياستي زي ما بتقولي، بس اللي عايزه أفهمه بجد. ليه كنتِ مكبرة في دماغك جوازي من عاصي ابنك! كنتِ هتستفادي أيه. أنا بجد نفسي افهم دماغك وتفكيرك المريض.
خرجت عبلة عن صدمتها فأخذت تدفعها للوراء بجنون: -امشي، امشي من هنا مش عايزة أشوفك، أنتِ واحدة طماعة عايزة تاخد ولادي مني، بس مش هسمح لك يا سوزان.
-مش هرحمك يا عبلة، اتأكد بس وأنا هقتلك بأيدي.
جاء فريد راكضًا عندما كان يراقب حديثهم من بعيدٍ عندما اشتدت نبرة الصوت بينهم، فانصرفت سوزان على الفور واقترب فريد من عبلة: -حصل ايه مالك.
ردت بصوت هستيري: -طماعة. واحدة أنانية عايزة تاخد ولادي مني!
-طيب أهدي أهدي. تعالى تعالى نشرب حاجة وأحكي لي.
أسيرُ القلب سجينًا ولو ضم براح الكونِ بين يديه. سيظل تائهًا فلا يعلم إلى أين يذهبُ! يشعر بغَربة الديار إن خلت من روح يألفها. و عش عصفور يبهجه مادام ساكن قلبه برفقته ينعمُ.
كانت الساعاتُ تمر بِصعوبة جبال الأرض فوق قلبها. دقائق بليدة وفارغةَ لا تعرف ما يمكن أن تفعله فيها لطالما كانت خالية من نور عينيه. فكيف ستصرف شحوب ليلتها هذه الذي يجتاحُ روحها.
-منمتيش ليه؟
أحست شمس بحركة حياة المُفرطة بجوارها، فإن حل الليل جنح العناد للسلم. ويبدو أن حالة من حالات الندم خيمت على قلبها. اعتدلت شمس على ظهرها وألقت سؤالها السابق بنبرة خفيضة بحيث لا تزعج أحد، فتنهدت حياة بحيرة واضحة: -دي أول مرة أبات فيها بعيد عنه. قلبي نفسه يطير ونروحله.
ثم نظرت للسقف بتمني: -عايز يكسر السقف الفاصل ما بينا.
انقلبت شمس للجهة المُطلة عليها: -للدرجة دي بتحبيه،!
ابتسمت حياة بدهشة: -ليكِ حق تستغربي، أنا كمان مستغربة. عمري ما اتخيلت إني أحبه، تعرفي ؛ عاصي من بعيد عامل زي البيت الفخم اللي كله أزاز. بس لما تقربي منه هتعرفي أد أيه هو حنين لدرجة أن طوبة صغيرة قادرة تكسره.
بللت شمس حلقها الذي جف متأثرًا بلوعة العشق المدجج بكلمات حياة: -ازاي عرفتِ أنك بتحبيه!
سبقت ضربات القلب كلمات اللسان. فأمسكت حياة قلبها المتراقص تحت عظامها وقالت شاردة:.
-معنديش فكرة أمتى قلبي دق له أول مرة. أنا فجأة لقيتني مش قادرة استغنى عنه، روحي متعلقة بروحه، ببقى معاه طفلة مدلعة بتعرف عليها وأنا معاه وبس.
ابتسمت شمس باستغراب: -عمري ما اتخيلت أن شخص زي عاصي تطلع منه المشاعر دي كلها،!
-الحب بيخلق مننا أشخاص تانية مابنتعرفش عليهم غير مع الشخص المناسب.
شرعت شمس في البدء بحوارٍ جديد ولكنها ابتلعت الكلمات بحلقها إثر صوت دق الباب. نهضت حياة بتعجب لتفتح وانشغلت شمس في إلقاء الوشاح على رأسها، تحت مظلة الاسئلة الحائرة الدائرة بينهم حول هوية الطارق. فوجئت حياة بعاصٍ يقف أمام الباب بملامحه الجافة الخالية من أي تعبيرات يمكن أن ترضي حيرتها، فاندفعت حاسمة قرارها:
-عاصي، انسى أني اطلع معاك. أنا هنام هنا.
رد بجمود: -اللي يريحك، بس كنت عايز اسألك فين الساعة الجولد بتاعتي؟
اتسع بؤبؤ عينيها بدهشة: -والله! حبكت دلوقت؟
-عندي ميتنج مهم الصبح، ولازم أحضرله من بالليل.
ردت بغرابة: -كان ممكن تختار أي واحدة غيرها.
رد ببراءة مفتعلة: -مينفعش، أصلي بتفائل بالساعة دي أوي.
رفعت حاجبها بعدم تصديق ثم قالت متأففة بعد ما خيب ظنها في مجيئه لأجلها وهي تتأهب لقفل الباب: -معرفش. شوف أنت حطيتها فين!
اتكئ تميم على السور الحديدي خلفه يراقب من بعيد خطة أخيه. وعلى المقابل منعت يد عاصي حياة من قفل الباب وقال بجدية:
-حياة الساعة دي مهمة أوي بالنسبة لي، لو سمحتي تعالي دوري عليها وبعدين انزلي تاني براحتك.
همست بنبرة خفيضة بحيث لا تصل لآذان صغاره: -عاصي أنت بتهرج صح! ماتشوف حطيتها فين، من أمتى أنا بقرب من حاجتك.
-حياة مش وقت عناد، تعالى شوفي لي الساعة فين وانزلي كملي نومك.
أغمضت جفونها متأففة وهي تنظر لشمس خلفها فقالت بخفوت: -هروح أدورله عليها وراجعة.
ثم تركت الباب مواربًا خلفها وسبقته الخُطى وهي تضرب الأرض بقدميها كالأطفال. سار عاصي ورائها وهو يغمز لأخيه ثم همس له بتفاخر:
-هفضل أعلم فيك لأمتى!
أشاد تميم انبهار بخدعة أخيه قائلًا: -مدرسة مدرسة مفيش كلام!
شمر عاصي أكمامه بحماس ثم اكمل طريقه لغُرفته. وتحرك تميم هو الآخر لزوجته كي يُطبق خطة أخيه. طرق الباب بخفوت ثم فتحه ببطء فوثبت شمس متقدمة نحوه عاقدة ذراعيها أمام صدرها وقالت متأففة:
-نعم! أنت كمان في ساعة ضايعة منك مش لاقيها؟
حك رأسه قائلًا: -كان عندي شراب رمادي بخطين سود، فينه؟
حدجته ساخرة: -تميم. أنت فاكرني هبلة زي حياة وهيدخل دماغها الكلام الفارغ ده؟
رد باندفاع: -ومتبقيش هبلة ليه؟ قصدي ما هي دخلت على حياة، مش أنتوا كبنات كل أفكاركم واحدة.
هتفت بتمرد: -تميم عايز أيه!
تقدم خطوة إليها وقال: -ممكن نتكلم شوية!
-هنتكلم في أيه؟
تميم متعمدًا إثارة غيرتها: -يعني مش عايزة تعرفي سُهير كانت عايزة أيه!
-والله!
ختمت كلمتها بصوت قفل الباب بقوة بوجهه بدون سابق إنذار مما جعله يتلفت حوله يتأكد من رحيل عاصي كألا يكون محلًا لابتزازه. وقفت شمس وراء الباب تكتم ضحكتها التي نجحت في إخفاءها عنه ثم قالت بنصر: -خلي ست سهير تنفعه.
بالطابق الأعلى.
فتحت حياة الدرج المخصص للساعات فوجدت ما يتسائل عنه أمامها، فأغمضت جفونها معترفة بحماقتها وهضمها لأكذوبته. قفلت الدرج بهدوء ودارت إليه بنيران غضبها الملتهبة فوجدته يحكم غلق الباب بالمفتاح. اندفعت إليه باعتراض:
-فاكر أنك لما تقفل عليا بالمفتاح مش هعرف اخرج.
تجاهل جمر غضبها المتناثر وتقدم بهدوء ناحية الشرفة والقى منها المفتاح: -وريني هتخرجي أزاي؟
وضعت يديها في خصرها وهي تُراقب هدوئه وبروده. وتجاهله المفتعل لوجودها خاصة بعد فتحه لجهاز الحاسوب مواصلًا عمله. أخذت تفرغ غيظها المتوقد بساقها المهتزة بسرعة. أطلقت ثاني أكسيد كمدها ولجأت لاستنشاق أوكسجين كيدها الأنثوي. استقبلت هدوءه برجاحه. وتغافلت عن تجاهله المصطنع. ونوت أن ترد له الصاع صاعين.
فتحت خزانة ملابسها وأخرجت منها منامة من الستان متكونة من سروال قصير للغاية، وسترة من نفس اللون بدون أكمام. ثم استكملت جمع مستلزمات زينها وهي تدندن ببعض الأغانٍ الغير مفهومة بالنسبة له، فانقلبت نظرات الشماتة لأسهام من الفضول عما ستنتويه. فتململ في جلسته قائلًا في نفسه:
-أنا اللي جبته لنفسي.
حملت حياة أغراضها وتوجهت نحو المرحاض بصمت مريب بثّ التساؤل بقلبه وهو يشجع نفسه:.
-أجمد كده عشان شكلها أعلنت عليك الحرب.
بالطابق السُفلي
دقت شمس باب غُرفة تميم بعد حيرة طويلة وتفكير متقلب، استقر طقسها أخيرًا على فصل الإنصات. ومنحه فرصة جديدة. لا تغرسوا الإهمال المتزايد في القلوب، فتحصدوا الرحيل، ولا تراهن على شديد التعلق بدوامه، فحين يُجرح يصبح شديد التخلي بنفس القوة ذاتها في تمسكه.
كان جالسًا على الأريكة غارقًا في تفكيره حولها حتى أشرقت شمسها على غرفته مرة ثانية، تقدمت بخطوات مترددة بعد قفلها للباب بهدوء حتى جلست بجواره بتشتت ينبعث من ملامحها المهزوزة:
-كانت عايزة أيه سهير؟
تحجرت ملامح تميم تحت تراب الصدمة محاولًا استيعاب حقيقة مجيئها، ما بين مد وجزر شفتيه قال:
-كانت بتأكد على حضور ميتنج بكرة.
رفعت حاجبها بعدم تصديق: -وبس؟
رد بتلقائية: -اه والله العظيم.
ضحكت بهدوء على طريقته: -من غير ما تحلف. هصدقك.
ثم أخذت تفرك في كفيها منتظرة إقباله على فتح المزيد من الحديث ولكن دون جدوى، فبادرت قائلة: -لقيت الشراب؟
-ااه كان مستخبي في الدرج.
ثم تنهد متحمسًا وهو يميل ناحيتها:
-أسف يا شمس لو بستعجل حاجة أنتِ مش مستعدة ليها. بس مش عارف أزاي ممكن أهدم السور اللي مابينا وأنا مش عارف أنتِ عايزة أيه!
ثم مسح على رأسها معتذرًا: -مش هعمل حاجة ممكن تضايقك تاني. تصبحي على خير.
طوى جرائد اشتياقه لها في صدره ولجأ للنوم كي يحميه من نفسه. وثب قائمًا نحو فراشه بعد ما رمى الكرة في ملعبها وتركها فريسة بين فكي الندم وجلد الذات. مرت دقائق طويلة حتى نزعت حجابها وتخلصت من سترتها الطويلة التي تخفي منامتها القطنية. اقتربت منه ثم قفلت باقي الأنوار ومددت على ظهرها بجواره بهدوء لا يتناسب مع صخبها.
أخذت تطالع السقف بدمعة منثقة من طرف ماضيها وقالت: -أنا اتربيت في بيت بيتعامل مع الحُب كأنه وصمة عار هتفضل ملازمانا طول العمر. بابا طول الوقت كان عنده هواجس أننا لما نكبر ممكن نكرر خطأ عمتي اللي لما كانت سيرتها تيجي الكل بيتكهرب، يعني أيه تحب وتهرب مع حبيبها! لكن تتجوز راجل أكبر منها بعشرين سنة هو اللي عادي!
اعتدل تميم على جنبه المطل عليها مستمعًا إليها باهتمام يلمع بعينيه، فأكملت:.
-أنا معرفش يعني أيه حب ومشاعر، حتى ماما كانت طول الوقت بتتعامل معانا على أن بابا ده الرجل المخيف اللي لازم نعمله حساب في كل كلمة، الصوت، الكلام، اللبس لازم يكون واسع، ولما كبرت شوية وبدأت تظهر عليا التغيرات الطبيعية بتاعت البنات بقيت تتعامل معايا على أن ده جريمة لازم أخجل منها.
كسا البكاء نبرتها وأكملت: -ماما كانت من الستات اللي لازم طرحة وعباية في البيت، وبقيت تدخل في دماغي أني كمان لازم أبقى زيها. كانت بتربينا على خوفنا من بابا مش احترامه. طفلة زيي مكملتش 12 سنة كانت بتتحجب برة وجوة البيت، متخيل! كنت دايما بدفع تمن حُب عمتي وأنا معملتش حاجة.
جاءت لتكفكف عبراتها فسبقتها أنامل تميم الدافئة، تنهدت بحرقة وأتبعت: -لما اتوفوا بقيت نسخة مصغرة من ماما، بقيت بعمل مع نوران كل اللي اتعمل فيا بس تيتا الله يرحمها كانت تعارضني دايما وكويس أنها عملت كده. نظرتي لكل الرجالة كأنهم أعدائي يا تميم، أنت جوزي بس أنا غصب عني جوايا مخاوف كتير مش عارفة اتخلص منها. أنا واحدة معرفتش الحب غير من الكُتب واستكفيت بيه كده.
ضم كفها بحنو: -ليه ما قولتيش كده يا شمس! ليه مفتحتيش قلبگ واتكلمنا وحاولنا ننسى الموضوع ده مع بعض.
ردت بشفاه مرتعشة وهي تنقلب على جانبها تجاهه: -حالتي ملهاش علاج يا تميم. أنا بقيت خايفة، وكل الرجالة في نظري هما بابا وجوز عمتي.
فسألها: -بس وأنتِ معايا أنا محستش إنك خايفة مني، بالعكس.
اتسع بؤبؤ عينيها بدهشة: -أزاي!
أخذ يداعب وجنتها بحب حتى جذبها إلى حضنه كي تتخذ منه متكئًا لوجعها: -مش مهم، المهم دلوقتِ أنك تبقي أحسن. وأنا معاكي لحد ما توصلي لبر الأمان.
ما أصعب أن يكون المرء مُرتابًا، يمضي حياته لا يُصدِق شيء
تمُره الابتسامات يظُنها إهانة. تعبُره الوجوه كأنها اطاراتٌ تدهسُه. تُحدِق به الأعين كأنها سهامٌ تخترِقُه، ما أصعب أن يكون المرء خائِفًا. يمضي حياتُه محاولًا أن يستجدي بشخصٍ ما يأمنه.
عودة إلى غُرفة عاصي بالطابق الثالث.
خرجت حياة في كامل أناقتها وزينتها من المرحاض متجهة ناحية المرآة لتدلل خيوط شعرها أمامه وترفعه على هيئة كعكة بحجم رأسها. تسللت أنظاره إليها من وراء شاشة الحاسوب فتحمحم مرتابًا مندهشًا من جمالها الساحر:
-شكل ليلتنا صباحي.
قفل الحاسوب مزفرًا بحماس ووثب يتجول حولها كدبور يدور حولة زهرة الزعفران. نظرات متأرجحة كانت من نصيبها فاستقبلتها بتجاهل تام وهي تمسك بطلاء الشفاة الأحمر القاتم وتمرره فوق ثغرها ليصبح عبارة عن ثمرة كزر تزيدها فتنة.
وقف بجوارها محافظًا على ثباته بصعوبة. سحب جرار معطفه القُطني فبرزت عضلات صدره المنحوتة فوق عظامه. نزع سترته ووضعها على المقعد الذي تجلس عليه. أمسك بزجاجة عطره ونثر القليل منها على جسده ثم بين راحتي يده وحكهم ببعض ثم مسح على وجهه.
ألقى عليها نظرة خبيثة فلم يجد منها أي اهتمام. نهضت من مقعدها متأففة متجهة صوب السرير. وقفت حائرة للحظات ثم غيرت اتجاهها وهي تسير متدللة تحت عينيه وأخرجت من الخزانة لحافًا ووسادة إضافية. وقامت بافتراشهم بالأرض بجوار مخدعه. ثم مددت فوق ما فرشته فبرزت صحن بطنها المنتفخ قليلًا بصورة مغرية تتناسب مع قوامها الفاتن. وضعت كفيها فوق بطنها وقفلت جفونها بدون إلقاء نظرة واحدة عليه.
عقد حاجبيه متحسرًا وهو يقتنصها بعدسته الملتهبة: -يعني الحلاوة دي كلها للأرض في الأخر.
تململت في فراشها قليلًا متأففة بضيق ولم تجيبه، اكتفى بابتسامة خبيثة وهو يرقد في مخدعه متعمدًا إثارة غضبها:
-تعرفي أن نوم الأرض مفيد للحوامل اللي زيك.
انفلقت عينيها بنظرة مطولة حادة تعمد تجاهلها مطلقًا صفيرًا قويًا وهو يتفقد هاتفه، أخذت تنتظر قدومه لإرضائها ولكنه خيب ظنها. نهضت فجأة وأمسكت وسادتها وعادت إلى مكانها الخاص بجواره. وضعت الوسادة كالحد الفاصل بينهم ونامت على طرف السرير بجانبه. أطلق ضحكة مسموعة:
-يعني المخدة دي اللي هتحميكي مني!
ردت بضيق: -مش بكلمك.
ترك الهاتف من يده ووضعه بجواره على الكمود وقال: -مش مهم، المهم إنك تحت عيني.
زفرت بضيق ثم وثبت مقتربة منه حد تلامس أنفاسه لعظام ترقوتها قاصدة أخذ هاتفه بدون إذنه ثم عادت لمرقدها مرة أخرى. رمى الوسادة الفاصلة بينهم أرضًا ثم قال هامسًا:
-وبعدين في فرك القُطط ده! عايز أنام.
-براحتي.
-يعني مش تحرش!
-قُلت مش بكلمك!
ردت بتجاهل وهي تُقلب في هاتفه باحثة عن شيءٍ ما حتى عثرت عليه، فعلت ما أخذت الهاتف لأجله ثم أرجعت الهاتف كما كان بنفسه الطريقة التي أشعلت حممه البركانية أكثر. أخذت تتقلب بجواره حتى نفذ صبره فلم يعد يتحمل المزيد من كبت حبها، ولكن لكبريائه رأي آخر.
ألقت عليه نظرة فوجدته مغلق العينين. انثنت أصابع قدميها وهي تتحسس بطنها ثم سألته:
-مش متعود تنام بدري كده!
رد بجمود: -مفيش حاجة أسهر عشانها. وأنتِ مش بتكلميني، هسهر أعد نجوم الليل لوحدي؟
تقلبت كأن ما تنام فوقه لهبًا ولست قطنًا: -متأكد!
أصدر إيماءة خافتة جعلت تزفر باختناق، رفعت ثوبها قليلًا وشرعت في مداعبة بطنها التي تتوق شوقًا لقُربه حتى نفذ صبرها فلكزته بعتب:
-طيب مش هتصالحني؟
اتسعت ابتسامته وهو يفتح عينيه بلهفة: -لو صالحتك هتزعلي. فخليني ساكت أحسن.
مالت عينيها نحوه باستغراب: -ده اللي هو أزاي!
اقترب منها أكثر: -طالعة تجنني الليلة دي.
-الليلة دي وبس؟ وبعدين وسع كده أنت فهمت غلط.
عاصي بجفون متدلية وهو يداعب أرنبة أنفها: -وأيه الصح؟
-قصدي تتكلم معايا وتعتذرلي وتعترف بخطأك. وأنا هحاول انسى واسامحك.
-لا أنا مابفهمش في الكلام ده، أنا راجل دوغري.
مد يده لشعرى المطوي وحرره كحريتها في بين ذراعيه، أخذ يدنو منها تدريجيًا صارخة بدلالٍ: -لا. لسه زعلانة منك.
-سيبيني أشوف شغلي واصالحك بقا!
استقبلته بأنفاس محرقة فسألته وهي تندس تحت خيمته بصوتها الطفولي بنظرات تستقبله برجاءٍ ل يأخذها في نزهة لدهاليز خيالهما اللذيذ:
-ليك كذا يوم بعيد عني، أنت بطلت تحبي؟
رد متيمًا بمخدر قُربها: -خوف عليكي مني مش أكتر. بس واضح كده مفيش مفر منك.
اندست أناملها بين جدائل شعره بهيام: -عاصي أنت وحشتني بجد.
-وأنتِ كمان.
انحنى فوق رائحة عطرها الذي يعد بالنسبة له نبيذٌ يُسْكِر رئتيه.
ليحتسيه شهيقًا شهيق. أغمِضا الثنائي عيونهما، شرع بمسك خصرها لتراقصه يداه. مع ألقِاه بكلماتٍ على مسامعها لا يعيش سحرها غيرهم. ظلت تسقط بين يديه شيئًا فشيئًا، لم يكف عن شدها إليه. عن الاندساس بين تفاصيلها التي تسحره. جعلها تتوه بين يديه، تسافر بعيدًا إلى عالمها بصرخة مكتومة بين شطي حبه كأنها تريد تدوين هذه الليلة التي ستطلق عليها اسم ليلة التعافي وهي تروي روحها منه، وكأنها تخبره بلغة جسدها المتحرر في مجرى عشقه: أريد جُرعتيّ مِن حُبگ وعينيك الآن.
كأس من الخمر وراء الآخر كانت تتجرعه عبلة بجنون مغيبة عن الوعى تهذى بكلمات غير مفهومة فاستغل فريد سُكرها وقال:
-هي ازاي المجنونة دي تكلمك كده، أنا هوديها في داهيه الست دي.
تمايلت عبلة بسُكر: -أنا لازم أرجع القصر، مش هسيبه لشوية عيال يمرحوا فيه.
شجعها فريد: -طبعا ده بيتك ومحدش يقدر يخرجك منه. بس قوليلي قصدك أيه بتخطف عيالك!
تجرعت عبلة كأس آخر من النبيذ وقالت ضاحكة: -فاكرة بعد ما ربيت عالية وكبرتها هتيجي هي وتاخدها على الجاهز.
-وتاخد عالية منك ليه.
ردت عبلة بدون وعى: -عشان بنتها. عالية بنت سوزان وانا أخدتها وكبرتها وبقيت بنتي أنا مش بنتها هي.
شد فريد مقعده واقترب من عبلة ليكمل فقرة استدراجها: -يعني عالية مش بنتك؟
خرت عبلة ضاحكة بتغيب عن الواقع: -وعاصي كمان مش ابني. بس أنا ربيتهم وكبرتهم يافريد عشان يبقوا الورقة الرابحة اللي أخد بيها كل حاجة في الأخر. سوزان بقا جاية تهد كل ده على دماغي.
تحمس فريد بمكر وهو يفتح تسجيل هاتفه: -قولي كده من الأول أيه حكاية عاصي وعالية.
في كل مرّةٍ أكون فيها بجوارك، يخجل القلب أن يفكر في الغد وما يحمِله من هموم، لقد اجتمعت فيك معاني الرفقة الحقيقيّة، وكنت أرى شعوري الخائف، يزول باطمئنانٍ وهو يتآلف مع خدشٍ سبّبته له الحياة، يزول سريعًا لأنك برفقته.
بَيننا وَرد وَ أغصان وَ شوارِع وَ حُبّ.
خرج عاصي من الحمام برفقتها بعد ما أخذوا حمامهم الدافئ سويًا. وشرعت في ارتداء ثياب جديدة وكان هو الأخر مرتديا برنصًا باللون الأزرق ويقف امام المدفأة يدخن سيجارته.
اقتربت منه ودفنت أنفاسها بجدار عنقه معبرة عن حالة العشق التي عاشتها تحت ظله. فشد يدها لمستوى ثغره وقبلها بحب، فهمست إليه:
-قوم ألبس حاجة تقيلة عشان متاخدش برد.
ثنى لفافة تبغه بمنتصف المطفأة وجذبها لعنده كي تجلس بجواره وأخبرها: -أعملي حسابك بكرة في ميعاد عند الدكتورة عشان نطمن عليكي أنتِ والبيبي.
اقتربت منه وسألته: -عاصي أنت بجد متحمس للبيبي ده ونفسك تشوفه وتحضنه زيي بالظبط.
-وأكتر كمان، كفاية إنه منك.
-طيب سؤال تاني ومعلش استحملني.
طبع قبلة بنتصف جبينها وقال: -أنا كلي ليكِ.
طالعته بامتنان: -مفيش أخبار تطمني على أخواتي؟ يعني...
أمسك بذقنها بحب لتلتقي أعينهم: -أخواتك بخير وأعملي حسابك قُريب أوي هتشوفيهم.
-أوعي تكون بتقول كدة يا عاصي عشان اطمن وخلاص.
-عاصي دويدار كلمته سيف يا سيلا.
عقدت حاجبيها باستغراب: -أول مرة تقولي سيلا!
-لأنك النهاردة شبه البحر، وأنا غرقان في كل تفاصيلك. ده غير التقلبات المزاجية اللي أنت فيها، ف أنا حاسس أن رسيل هي اللي قُدامي.
داهمته بتغنج: -ياسلام. وأنت بتحب رسيل أكتر ولا حياة.
شرد بعيونها غارقًا: -رسيل البنت الشقية المجنونة اللي قادرة تبهرني كل مرة. وحياة هي الحضن الدافيء اللي بهرب له من دوشة العالم بره. يعني نقدر نقول إني واقع في غرام الاتنين.
مُجرد حديث بسيط منك أشعُر و كأنما نجمة تُضيء بداخلي
بادرت بتقبيله كرد على مدحه فقطعهم صوت رنين هاتفه الذي كان من أمن القصر:
-في أيه؟
-عاصي باشا، في أوردر أكل هنا باسم معاليك؟
يبدو عليه الاندهاش: -أنا مطلبتش أكل.
فتدخلت في حواره بهمس: -انا طلبت سمك من شوية.
طالعها باستغراب فبررت بهدوء: -نفسي فيه، الله!
رد على الحارس: -حاسبه وخده منه.
-بس يا فندم ده ب9000 جنيه.
رد متعجبًا: -ليه؟
ثم سألها: -أنتِ طلبتي أيه؟ يعني ده بجد؟
حياة بدلالٍ: -مش كتير، هي صنية كان عليها أوفر.
قفل عاصي مع حارسه باختصار: -نازلك. خليه يدخل لجوه.
أخرج المفتاح البديل من خزانته ثم هبط لأسفل ليتسلم طلبها الغامض والمفاجئ. ظلت تستعد لاستقبال وجبة الأسماك البحرية بفرحة عارمة حتى عاد عاصي حاملًا بيده العديد من الحقائب. وضعهم فوق الطاولة مذهولًا: -حياة أنتِ مقتنعة أنك هتاكلي كله ده؟
أخذت تفتح في الحقائب وتتلهف الأكل بحماس: -ااه أنا والبيبي. أصلي جعانة أوي.
-هنا وشفا يا حبيبتي، بس ده أكل يكفي 16 فرد. وأنتوا اتنين؟
تجاهلت تعليقه وجلست على الطاولة لتلتهم الأسماك بانتشاء رهيب جعله يجلس في الزاوية يُراقبها. طريقة تناولها للجمبري الذي تعشقه. والاستاكوزا والأسماك المختلفة التي تعشقها. ظل يتابعها بصمت حتى تجاوزت الحد الطبيعي للطعام فاقترب منها:
-حياتي الأكل موجود بس كفاية عشان متتعبيش.
-جعانة يا عاصي. بص دوق الجمبري هيعجبك أوي.
-حياة كلتي زيادة، بكرة هجيب لك تاني بس عشان كده أور.
تجاهلت أوامره ثم عادت لالتهام شوربة السي فود بجنون: -دي أحلى شوربة أكلتها بجد.
ظهرًا
دخلت شمس الغُرفة الخاصة بعالية وأختها وظلت تفتعل العديد من الأحاديث الغير منمقة حتى غادرت نوران، فانفردت بعالية جنبًا وقالت لها:
-عالية، أنا محتاجة مساعدتك!
-خير يا شمس، مالك؟
لُطخت وجنتها بحمرة الخجل: -كنت عايزة أروح أي بيوتي سنتر، ومفيش غيرك ممكن يساعدني في ده.
اتسعت ابتسامة عالية بحماس: -بس كده من عينيا، حابة نروح أمتى.
-بصي عاصي أخد مراته وخرجوا وتميم كمان خرج، تيجي نروح دلوقت.
فكرت عالية طويلًا: -مش عارفة، عاصي هيوافق طيب؟ بصراحة خايفة يعمل مشكلة ماصدقت أقنع مراد يهدا لحد عاصي ما يغير رأيه. مش عايزاه يعند معايا أكتر.
-أنا هكلمه ونشوف رأيه.
رمقتها عالية بنظرة خبيثة: -طيب لو وافق يعني. فلنفترض مثلا يعني، اكلم مراد أقضي معاه وقت لحد ما تخلصي.
تمايل الفتيات بمرحٍ: -ماشي ياستي، هداري عليكِ أهو.
-طيب يلا يلا كلمي عاصي بسرعة نشوف رأيه.
بالمطبخ
- كوباية قهوة يا سيدة
دارت نوران إليه بغضب لخلو المطبخ من الخدم ولن يوجد غيرها: -للدرجة دي مفيش نظر!
جلس كريم على طرف المقعد الخشبي: -نوران. عاش من شافك.
ردت بثقة: -طبعًا. ده يعيش ويرقص كمان، هو أنا شوية.
-لا شويتين تلاتة. المهم هشرب قهوة مظبوطة من أيدك ولا واقعة في ده كمان؟
ردت بحزم: -قوم أعمل لنفسك، ولا اتشليت؟
تمتم متعجبًا: -اتشليت؟
-ااه لما تتشل هابقى اكسب فيك ثواب وأعمل لك.
نهض كريم واقترب منها بخفة وهو يبحث عن القهوة ولكنه باغتها بهجومه المفاجئ وهو يدنو منها لتصبح تحت أنفاسه ظهرها للحائط قائلًا بتلقائية:
-من غير لف ودوران وكلام كتير، أنا شكلي وقعت على عيني وأعجبت بيكي، لو موافقة قوليلي وهكلم تميم واطلب أيدك منه.
قيل قديمًا عن تمرد الفتيات في الحب: لا تأتي إليّ دعيني أحب العالم، في السير باتجاهك.
ربما تعجل كريم في عرض طلبه. ما زالت تحت سطو صدمتها لا تعي ما يقصده: -هاا. لا مش موافقة.
-يبقى هكسر دماغك دي لحد ما توافقي.
هاجمته قائلًا: -أنت قليل الأدب. وابعد كده أنت ازاي تقرب مني كده، لما تميم يرجع أنا هقوله على فكرة. أنت فاكرني أيه واحدة من البنات اللي تعرفهم!
وضع كفه على ثغرها لتكف عن الثرثرة: -ايه بوتجاز؟ نوران افهميني انا الدنيا ملخبطة معايا وعايز أعرف راسي من رجليا، فلو سمحتي نتكلم كلام ناس كبيرة وعاقلة. ها قولتي أيه؟
ثم رفع يده من فوق فمها منتظرًا ردها: -عايز تقول أيه؟
-في مشاعر جواكِ ناحيتي ولا لا؟
ارتبكت قائلة متجاهلة قلبها الذي يصدح: -كريم أنا لسه صغيرة ومش بفكر في المواضيع دي.
-نعم ياختي؟ أنت لسان بس يعني؟ نوران اتظبطي بدل ما اظبطك.
انفجرت بوجهه مستلذة بتمرد الأنثى المراهقة بداخلها: -واضح أنك مش جاي تاخد رأيي، أنت جاي تسمع اللي على هواك وبس.
رد بخزى: -افهم من كده أنك رافضة يكون ما بينا حاجة رسمي بعد امتحاناتك!
ردت مشدوهة: -هااه؟
مسح على وجهه بنفاذ صبر: -هي بتطلب معاكِ غباء في أهم سؤال؟
بللت حلقها الذي جف وأخذت تلوح بيدها لتطفيء لوعة وجهها الذي يشع نارًا ونورًا. فكان ينتظر ردها على أحر من الجمر ففرقت جمعهم سيدة وهي تهتف بصوت مرتفع: -تأمر بحاجة يا سي كريم!
وصلت عالية وشمس إلى صالون التجميل النسائي، حيث استأذنت عالية منها بذهابها مع مراد إلى أن ينقضي عملها. تقدمت شمس إلى الداخل بخطوات خائفة مهزوزة فأول مرة تأتي لمكان مثل هذا حتى جاءت الموظفة وأشارت لها على الغرفة، فأوقفتها شمس بخوف وهي تراقب حرية السيدات بالداخل:
-استنى، أنا مش هقدر ألبس كده زي الستات دي، لو سمحتِ عايزة أوضة خاصة بيا.
ابتسمت لها الفتاة بهدوء: -متقلقيش. المحجبات بيكونوا لوحدهم في مكان مقفول. اتفضلي.
خرجت عالية لمراد الذي ينتظرها بالخارج وقفزت بداخل سيارته معبرة عن فرحتها: -مبسوطة أنك جيت!
حرك مراد السيارة ولف مقود السيارة متأهبًا للذهاب: -لغيت ميتنج مهم عندي عشان عيونك. تحبي نروح فين؟
-ممكن نلف حبة كده بالعربية، أيه رأيك؟
-يا سلام بس كده! أنتِ تؤمري أمر.
مسكت يده بامتنان ثم أخبرته بحياء يتقاذف بحمرته من وجنتيها: -وحشتني على فكرة.
أجابها ممازحًا: -ما بلاش الكلام اللي يخلي الواحد يروح يدغدغ راس عاصي أخوكي. أنا محترمه بس عشانك.
اكفهر وجهها بعتب: -اتكلم على أخويا كويس.
-سكتنا خالص، وغيري السيرة دي بقا. ااه بالمناسبة هقابل تميم النهاردة عشان نحكي في موضوعنا!
زفرت بتمنى: -يارب بقا يعرف يقنعه. مراد عايزة اسالك سؤال.
-قولي؟
-أنت وتميم كنتوا صُحاب أوي. وافتكر عاصي كمان كان الكبير وكنتوا عاملين عصابة في النادي، أنتوا اتفرقتوا ليه؟
تنهد مراد متذكرًا مرارة خسارته لرفاق عُمره ثم قال بوجع: -في بيتنا هابقى أحكي لك.
-وليه مش دلوقتِ؟
-عشان مش حابب افتكر حاجة تضايقني. ممكن.
-لا خلاص براحتك.
ثم غيرت مجرى الحديث متدللة: -هتعزمني على أيه بقا؟
-كل اللي نفسك فيه. شاوري بس.
ختمت جملته بصرخة حماس منها وهي تهتف بسرعة: -مراد اقف اقف هنا.
صف سيارته جنبًا: -اي الجنان ده؟ في ايه.
-تعالى انزل.
-هنروح فين؟
-انزل بس.
سبقته الخُطى لتدخل إلى أحد المتجرات الخاصة ببيع ملابس للمحجبات. دخل خلفها متسائلًا:
-أحنا هنا ليه؟
طافت عينيها اللامعة بالمكان بحماس رهيب ثم دنت منه قائلة: -في خطوة أجلتها كتير في حياتي، تسمح تشجعني وناخدها سوا؟
-خطوة أيه دي؟
دنت منه خطوك إضافية وهي تمسك كفيه: -مراد، أنا عايزة اتحجب.
عندما يشعر الإنسان بالمحبّة تتغير جودة الأيام في عينيه للأفضل، تزهو اللحظات، وتتمدد الراحة في كل لحظة، لا يطلبُ المرء أكثر من هذا. محبّة صادقة دون حاجة أو دافع.
لم يصدق مراد مسامعه حتى كررت حديثها مرة ثانية فضمها إلى صدره ودفن أنفاسه بشعرها معبرًا عن فرحته: -حقيقي ده هيبقى أحلى خبر؟
-يعني موافق؟
-وأنا بردو ينفع أرفض حاجة زي دي! أنا الود ودي اخبيكي جوه قلبي والله عشان محدش يشوفك غيري.
-طيب يالا بقا تعالى ساعدني نختار سوا.
يقود عاصي سيارته عائدًا من عند الطبيبة وتجلس حياة بجواره تحمل صورة جنينها بسعادة لا توصف، فسألتها بشغف:
-سمعت صوته النهاردة. أنا كنت فرحانة أوي وهو بينبض كده جوه بطني.
ثم أمسك بكفه وأكملت: -عاصي أنا النهاردة شوفت لمعة في عيونك حلوة أوي أول مرة أشوفها. ده بجد ولا متهيألي؟
ابتسامة خفيفة شقت ثغره وقال متأثرًا: -أنا بعيش معاكِ كل حاجة وكأنها أول مرة يا حياة. أول مرة أعيش لحظة إني هبقى أب من غير خوف، أن يكون لي ابن من البنت اللي هربت من خيالي واستخبت في حضني. أنا حاسس إني ملكت الدنيا بيكي.
-لا استنى كده، عاصي أيه الكلام الحلو ده؟ أنا مش مصدقة.
رفع كفها لمستوى ثغره وقبلها ثم قال: -الكلام كله طالع من جوايا، حتى لو مش مترتب بس أنتِ حساه.
-طيب بالنسبة أنك فرحان وكده ينفع استغلك ومتأكد أنك مش هتزعلني وترفض.
-طلب أيه ده؟ سمك تاني؟
عاتبته: -بس بقا متفكرنيش عشان انت وزعته على رجالتك وأنا كان نفسي فيه.
-هجيب لك تاني.
-بس بصراحة مش هو ده طلبي.
-اومال؟
غمغمت بصوت خفيض: -عالية.
احتدت نبرته: -حياة؟
-عاصي، اسمعها واسمعه واديهم فرصه أخيرة، متقفش في طريق سعادة انسان بيحب. الحب رزق ربنا لقلوبنا على الأرض. هتيجي أنت وتمنع ده!
رد مسايسًا: -ااه هشوف ان شاء الله.
-عاصي.
رد بحدة: -قلت هابقى أشوف يا حياة.
-بحبك.
ثم عادت لتحضن الصورة الضوئية التي بيده وهي ترمقه بأعين متوهجة كالنجوم بصحبة رجل مثير مثله. جاءه اتصال هاتفي من رجاله، فأجاب بحرص: -فينكم؟
-أخوات الهانم كلها نص ساعة ويكونوا في القصر.
-عظيم. وأنا في انتظاركم.
أمام بوابة القصر تقف عبلة مثرثرة على رأس موظف الأمن: -أنت لو مفتحتش الباب ده دلوقتِ أن هقتلك.
-ياهانم دي تعليمات.
جاء كريم من الداخل على صدى صوتهم بالخارج، فتسللت عبلة لقلبه:
-يرضيك وقفتي دي يا كريم؟
اشار كريم للموظف: -انت مش بتفتح الباب ليه؟
-دي أوامر عاصي بيه.
فتحيرت نظرات كريم حتى استقر على رأيه قائلًا: -افتح الباب ده.
حاول الحارس أن يجادله ولكنه أصر: -متشلش هم على مسئوليتي. افتح الباب.
صعدت عبلة السيارة بجوار فريد وهي تنتوي شرًا: -أنا هعرفكم مين هي عبلة المحلاوي. اتلقوا اللي جاي مني...
عادت عبلة برفقة فريد الذي أحكم خطته معها. وعلى جهتين متقابلتين يتقترب عاصٍ من القصر، وتقترب السيارة التي يجلس بداخلها رشيد ويونس. أخوة حياة.