قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية غوثهم يا صبر أيوب ج2 للكاتبة شمس محمد الفصل السادس عشر

رواية غوثهم يا صبر أيوب ج2 للكاتبة شمس محمد الفصل السادس عشر

رواية غوثهم يا صبر أيوب ج2 للكاتبة شمس محمد الفصل السادس عشر

أنتبه يوسف لقدوم أيوب وتلقائيًا ابتسم له حتى أتى وألقى عليهما التحية ووقف بقربهما يطمئن عليهما وعلى إسماعيل وبعد مرور دقائق قليلة أتى صوت صرخات عالية وضربات مُفاجئة لم يتوقعها أيًا منهم ثم ركض العديد من الرجال بالأسلحةِ نحو الثلاثة الذين وقفوا مع بعضهم وتمت محاصرتهم في المنتصف، ثلاثة يختلفون عن بعضهم مثل إختلاف الحضارات بمختلف طباقاتها ومجتمعها، أو ربما حصار يشبه حصار الروم للدول العربية، وقد وقفوا في ظهر بعضهم والبقية ينظرون لهم حتى سألهما أيوب ساخرًا:.

جاهزين ولا نخليها وقت تاني؟
أتاه الرد من يوسف الذي راقبهم بعينيهِ فجاوب ساخرًا:
حد يقول للرزق لأ؟ دا الكيف بيذل.

إذا كان إنفعالهم كارثة، فهدوئهم أم الكوارث بذاتها، فالخوف دومًا من البحر في هدوئه أكبر من المخاوف في اهتياجه، والآن نحن على مشارف رؤية مجزرةٍ، ستكتب وتخلد في صفحات التاريخ باسم مجزرة حارة العطار، وقد ركض الآخرون نحوهم بأسلحتهم وسط صرخات المارين والنساء وقد تشكلت حولهم حلقة بشرية من مجموعة رجالٍ أقوياء البِنية كحوائط السد، والبقية حولهم يحاصرون الشباب الثلاث لتبدأ المعركة لتوها، وقد وقفوا في ظهر بعضهم وكلٌ منهم له طريقته الخاصة في القتال.

كان لكلٍ منهم رجلين يتوليا مُهمته ومعهما مُنذر أيضًا، لكنه أكثرهم عُنفًا في القتال حيث يضرب بلا شفقةٍ أو رحمة كما أعتاد وتدرب، وكذلك يوسف الذي قام أحدهما بخنقهِ والآخر يحاول ضربهِ لكنه كما هو يحاول دومًا أن يحارب ويتنفس وهو يرفع رأسه للأعلى يستنشق الهواء، وحينما أقترب منه الآخر ضربه بقدمه في بطنهِ وما أسفلها، بينما مُنذر فتخلص ممن معه ثم أقترب يُخلص أيوب الذي ضربه أحدهما فوق رأسهِ وقد أمسك مُنذر رقبة الرجل وقام بثنيها للخلف.

أما يوسف فقد تمالك نفسه وضرب من يقف في وجهه حتى أسقطه أرضًا ثم ألتفت للآخر وقام بلكمهِ في وجههِ وفي الخلف قام أحدهم بإخراج السكين الحاد وقبل أن يقترب من يوسف أتت صرخة من عهد التي عادت لتوها من العمل ورآت محاولة الإغتيال الغادرة له وقد التفت هو مدهوشًا على صوتها صارخةً:
يوسف!

ما إن حرك جسده للخلف مُلتفتًا وجد الآخر يحاول الإقتراب منه لكن أيوب أتى مُغيثًا له وقام بمسك كف الآخر ثم هتف من بين أسنانه بشراسةٍ:
طالما ناويتها غدر يبقى آسف مالكش عندي عُذر.
أنهى جملته ثم ضرب الرجل برأسهِ يبعده عن رفيقه لكن الوضع كان كما النيران كلما أنطفأت اشتعلت من جديد وقد بدأ العراك من جديد حيث تكالب عليهم البقية لكي يؤدون هدفهم المطلوب.

في مقر عمل بيشوي الذي جلس يتحدث في الهاتف مع أحد التجار بتأففٍ وضجرٍ وهو ينفخ خديهِ من الملل مع المتحدث حتى وصله أحد الصبية العاملين عندهم يهتف بلوعةٍ وارتيابية:
ألحق يا أستاذ بيشوي فيه ناس متهجمة على الأستاذ أيوب ومعاه الأستاذ يوسف وعاملين عليهم حصار ومحدش أتدخل بينهم.

توسعت عيناه وأغلق الهاتف مُسرعًا ثم فتح أحد الأدراج وسحب منه سلاحه ثم ركض نحو الخارج بعدما أمر الصبي بجمع الرجال ويقومون باللحاق به، فيما قطع هو المسافة في نصف الوقت ركضًا وحينما وصل لمقدمة الشارع رأى الشباب الثلاثة يقومون بضرب الآخرين في وضعٍ متبادل وحينها رفع سلاحه للأعلى يطلق عيارًا ناريًا عقبه الصمت التام من الجميع وقد تحدث هو بنبرةٍ جهورية عالية:.

إيه هنخيب ولا إيه؟ هي وكالة من غير بواب؟ حارة ملهاش كبير؟ ديشا! هاتلي الرجالة وجمع الحبايب في محجر الرخام واللي يعارض سيبهولي، يلا.

ألقى أوامره ووقف ينتظر تنفيذ ما أمر به بعدما اجتمع صبية عملهم بالأسلحةِ بمختلف أنواعها وقد أجتمعوا حول المسلحين الآخرين يقومون بفرض الحصار عليهم وسط الهمهمات الغاضبة والسُباب اللاذع وقد أقترب منهم بيشوي يتفحصهم بعينيهِ فوجد ذراع أيوب ينزف الدماء فيما وقف يوسف الذي تلقى ضربة فوق رأسه يتابع عهد التي ركضت له وسط الحشد المتجمهر دون خوفٍ أو خجلٍ وتعلقت به باكيةً حتى عانقها هو الآخر وأغمض عينيهِ يهرب من ألم رأسهِ، كانا سويًا يعانق كلاهما الآخر ويضمه بكلا ذراعيه وكأنهما وجدا بر الأمان من بعد. إبحارٍ قاتلٍ.

وقد أصيب مُنذر في ظهرهِ بجُرحٍ كبيرٍ لكنه لم يتحدث ولم يتألم بل من الأساس لم يكترث بما فيه ولم يجذبه سوى صوت غالية وهي تصرخ باسم ابنها الذي ركض لها لتضمه بين ذراعيها وكذلك ركض أيوب لزوجته وحينها وزع نظراته بين الجميع وهو الغريب وسطهم هنا لم يعلم حتى نفسه بل صوت قلبه أخبره بحسرةٍ عن حاله ونفسه:
غريبٌ أنا حتى عَّني،
ضائعٌ أنا في السُبلِ مني.

أدى عبدالقادر مهمته في رعاية نادر من بعد رحيل أمه و نَعيم وقد عاون معه ابنه البِكري الذي تولى المسئولية في الإطمئنان عليه وعلى أحواله وصحته وقد أتت المُمرضة الشابة لكي تقوم بعملها وترعاه لكن أيهم وجه الإعتراض لها قائلًا:
بس أنتِ مش هينفع تفضلي معاه لوحدك هنا؟
حينها هتفت هي بتوترٍ منه توضح له الأمر الذي أتفق عليه عبدالقادر معها وتم التصديق عليه:.

أنا عارفة يا أستاذ، الحج كلمني وقالي إن أنا هخلي بالي منه، وأنا في الحاجات اللي زي دي أبويا بيكون معايا هو ممرض برضه، وهييجي هو يخلي باله منه وأنا هساعده مش أكتر، دا لحد ما الست والدته تيجي زي ما اتفقنا يعني.
أومأ لها بتفهمٍ وقد أتى والده بصحبة والد الفتاة وأشار لابنه على الآخر يتولى مهمة التعريف بقولهِ:.

دا عمك عاشور يا أيهم كان ممرض في العيادات بتاعة الحارة الفترة دي هيخلي باله من نادر الفترة دي ومعاه حنين بنته، أظن كدا أفضل يعني، بس المهم يا عم عاشور تخلي بالك منه ومن الحركة هو محتاج علاج طبيعي ولسه رجله فيها مشكلة، وزي ما قولتلك أي حاجة كلمني أو كلم أيهم.

أومأ له الرجل موافقًا ثم أكد عليه ما يتوجب فعله وأخبره أن هذه لم تكن مرته الأولى في تولي مثل هذا العمل، ومن ثم رحل عبدالقادر بابنه من البيت حتى يعود لمقره المُحبب وبعد مرور دقائق ولجا السيارة سويًا وحينما بدأ في قيادة السيارة هتف يستفسر من والده بقولهِ:.

ماكنتش أعرف إنك يهمك أمرهم كدا، يعني قولت هترميه هنا وهو وأمه أحرار مع بعض، بس واضح كدا إن أصلك الطيب غلب عليك حتى مع قلالاة الأصل، بس برضه بلاش نورط نفسنا أكتر، أبوه سِماوي، وأنا اللي يهمني في الليلة دي كلها أخويا، معرفش حطينه في دماغهم ليه.
تنهد عبدالقادر وأضاف بثقلٍ يخبره عما ينتوي فعله:.

هو مش هاممني بس أنا مش قليل الأصل، أنا طول عمري بدي الخير للغريب وبتمنى من ربنا يكرمني ويجعلني سبب مساعدة الناس، إنما دي للأسف بقى قريبتي وفيه بيني وبينها صلة رحم، وملهاش حد يقف في ضهرها، أنا علشان أكسر سامي لازم أتوهه، أحسسه إنه مفيش حد في ضهره، ابنه دلوقتي تايه وأنا هاخد بيده، بس أبوه لازم شوكته تتكسر ويبقى ملوش ضهر يحميه، علشان كدا أنا بعمل كل اللي عليا، علشان آخد حقي منه، وحق الغالي اللي ياما تعب بسببه.

أومأ أيهم موافقًا ثم بدل نبرته وملامحه ليتشدق بتهكمٍ عند استفساره سائلًا:
ولما هو الحوار كدا، أنا مال أمي بقى؟ مخليني أعمل خطط وحوارات وأدخل مستشفيات وأسرق راجل زي الشحط ليه، وسايب مراتي وابني، إيه الجوازة النحس دي؟ هي عين أماني المدورة منها لله، الجوازة ناشفة زي المستشفى، متزعلش بقى لما أحجر عليك.
ضحك عبدالقادر بملء شدقيه ثم هتف بنبرةٍ ضاحكة خالطها الصدق منه في نبرته وملامحه:.

علشان أنا ماليش غيرك يا عِز أبوك، واقف صالب طولي كدا علشان أنتَ معايا، معرفش مين فينا الكبير هنا بس أنا بحتاجلك علطول، وبفكر في أي حاجة وبعملها وواثق إنك الكبير اللي في ضهري، أديت لأخواتك حنية وحب العالم كله بعد أمك، بقيت بحسدهم، أنا يمكن متقل عليك بس عارف إني متقل على اللي مني و هيستحملني.

أقشعر جسد أيهم وتحرك فؤاده من موضعهِ قافزًا ومُهللًا بين أضلعه وكأنه طفلٌ أحسن صُنعًا ونالت أفعاله إعجاب والده، وحينها سحب كف الآخر ثم لثمه وهتف بصدقٍ مُحببٍ نبع من قلبه:
وأنا تحت أمرك إن شاء الله حتى تخليني أهدلك الدنيا وأبنيها تاني علشان تكون مبسوط، أنا بهزر معاك وأنتَ عارف بس أنا فرحان إنك مكبرني ومعتمد عليا، وعلشان الكلمتين الحلوين دول مش هحجر عليك خلاص.

هتف جملته الأخيرة يمازحه بها لتعود الضحكات لهما من جديد وقد أغمض عبدالقادر عينيهِ ووضع رأسه على مسند السيارة وهو يفكر في ابنه الآخر، لا يعلم لما يشعر أنه اشتاق له لتلك الدرجة، وكأنه تغيب عنه لمدة أسبوعٍ كاملٍ وليس مجرد يومٍ كاملٍ منذ صبيحته، لذا تنهد مُطولًا ونبس بنبرةٍ أقرب للهمسِ:
ربنا يديم ستره وحفظه عليك.

في حارة العطار كانت الأمور وصلت لحد الاستقرار كثيرًا وتم السيطرة على كافة الأوضاع بواسطة بيشوي الذي نشر الأمن في المنطقة وأفترشت سيطرته بمنتهى القوة والإقدام كما أمر بجلب طاقم رعاية طبية لأجل إصابات الشباب الثلاث لكن مُنذر رفض رفضًا قاطعًا وكانت جملته واحدة بنبرةٍ جامدة صدرها للحشد الواقف:
أنا كويس، مفيش أي حاجة فيا.

في هذه اللحظة توقفت سيارة أيهم الذي وجد معظم ساكني الحارة يقفون مُلتفين في دائرةٍ حول بعضهم وفي المنتصف شقيقه الذي علقَّ ذراعه الأيسر في الحامل القماشي الأزرق وقد ضمد يوسف كفه وقام بتغطئته باللاصق الطبي فاقترب يسأل بنبرةٍ عالية جهورية أفزعت حتى حوائط المباني:
فيه إيه؟ ماله أيوب ومالهم الباقي؟ مين اللي أمه داعية عليه وفكر يقرب من أخويا؟ إيه يا بيشوي؟

هرول عبدالقادر للشباب ثم خطف ابنه الذي وقف أمامه في عناقهِ وقد استسلم له ابنه ولقوة عناقه فيما أنبَّ هو نفسهِ بقولهِ:
ياريتني ما كنت مشيت وسيبتك، حقك عليا يا حبيبي مالك؟ ومين عمل فيك كدا؟ مين قرب منكم كلكم واستجرى يعمل كدا في عيالي، حصل إيه يا يوسف؟ أنتوا كويسين؟
أومأ له موافقًا فيما أقترب هو من مُنذر يسأله بلهفةٍ كونه أمينًا عليه هنا ويعد في رعايته:
طمني عليك يابني، أنتَ بخير فيك حاجة؟

طالعه مُنذر بعينين تائهتين وقد تعجب من كلمة ابني التي خاطبه الآخر بها كما أن اهتمام الآخر وقلقه أثارا تعجبه ورُبما شيءٍ آخرٍ بداخلهِ استفزه مما جعله يهتف بنبرةٍ آلية مُبرمجة:
أنا كويس أوي، متقلقوش عليا، عن إذنكم علشان ورايا شغل بدري وللآسف محتاج أرتاح شوية، عن إذنكم.

هتف حديثه ثم انسحب من أمامهم لكن كلًا من أيوب و يوسف طالعا أثره بتعجبٍ خاصة أن هناك بقعة داكنة ظهرت في قميصه الأسود من الخلف في منتصف ظهره وتبدو أنها من الضربة التي تلقاها غدرًا، وقد جذب انتباههما صوت أيهم المنفعل مستفسرًا عما حدث لكن رفيقه هدئه بقوله:.

دخلوا الحارة بعربيات وشافوا نفسهم، وعملوا حصار على التلاتة بس أنا أول ما عرفت جمعت الرجالة على هنا وسحبوهم على محجر الرخام، وأمرت محدش يبلغ أو النقطة تعرف لحد ما تيجي وتشوف هتتصرف إزاي، نتطمن بس عليهم وتيجي معايا على هناك، تَيام سبقني وراح على المخزن مع الرجالة، بس هي مقصودة، ومقصودة للاتنين مع بعض.

اصطكت أسنانه ببعضها وهو يحاول تمالك نفسه وقد التفت لوالده يهتف بصرامةٍ وكذلك للبقية مُنهيًا ذلك التجمهر الغير مرغوب فيه:
متشكرين يا جماعة، كتر خيركم، يلا يا حج خد أيوب على البيت وأنا هشوف الليلة دي هترسى على إيه، ومتقلقش هاجي وراك علطول، يلا يا يوسف أطلع أرتاح فوق ولو حد فيكم عاوز يروح المستشفى يعرفني، يلا يا جماعة فضوها سيرة خلاص.

تفكك الحشد وبدأت الأرض تظهر من بعد رحيل الناس عنها وقد تحرك أيوب مع والده عدة خطوات لكن قمر ركضت خلفه حتى عاد هو لها فوقفت في مواجهته تهتف بلوعةٍ وهي تبكي:
خلي بالك من نفسك، وعلشان خاطري متتعبهاش على الفاضي، وأنا هتطمن على يوسف وهاجي أشوفك، ربنا يحفظكم ليا، بس بالله عليك أنتَ كويس؟ مفيش حاجة فيك صح؟

ابتسم لها ثم رفع كفه الحُر يقرب رأسها منه ثم لثم جبهتها بقبلةٍ حنونة وممتنة وهتف بصوتٍ مُحشرجٍ وبحته مُتعبة:
أنا كويس الحمدلله، ومش عاوزك تقلقي خلاص عدت على خير وبقيت كويس وأهو قدامك هو بس خدش في الدراع وكدمة في الكتف، متتعبيش نفسك وتيجي، أنا هروح المسجد كمان شوية عادي وهناك هرتاح، خلي بالك من نفسك أنتِ ومن أخوكِ، يلا روحي.

أومأت له موافقةً وكادت أن ترحل لكنها عادت له وتعلقت به تعانقه وهي تتشبث به وسحبت نفسًا عميقًا توغله الأمان المنبثق من تواجده وكأنها تائهة في الطرق العامة واسترشدت لمدائن الطمأنينةِ به هو، وهتفت بصوتٍ مُحشرجٍ باكٍ:
أنا كنت خايفة أخسرك وأخسره، مش سهل عليا أشوفكم أنتوا الاتنين في موقف زي دا، ربنا ميحرمنيش من حد فيكم ويبارك في عمركم وينصركم على كل ظالم، ربنا يحفظك برعايته وأمانه.

مسح على ظهرها وتنهد بعمقٍ وهو يبتسم تدريجيًا ثم شكرها بقولهِ هاتفًا بصوتٍ مُتأثرٍ نتيجةً لحديثها:
وربنا يبارك فيكِ ويجعلني زوج صالح ليكِ ويجعلك زوجة صالحة ليا، روحي يلا أرتاحي وأنا كويس متشغليش بالك، ومش ناسي الفُسحة بتاعتك، بعد العلقة دي هيبقوا اتنين كمان، يلا بقى قبل ما آخدك معايا البيت وساعتها مش هتخرجي من حضني أصلًا.

ابتسمت بخجلٍ وابتعدت عنه فيما نظر هو في أثرها مُبتسمًا بهيامٍ ثم هتف بولهٍ وهي يرى تحركها نصب عينيها بعدما ظنها قمرًا يُصعب مناله ثم تفاجأ أنه خُلقَ لأجله:
يا صبر أيوب.
هتفها وعاد لوالده يسير معه جنبًا إلى جنبٍ والآخر يسانده وكأن الأدوار تبدلت ليغدو والده هو العكاز له حتى وصلا إلى البيتِ لكنهما تفاجئا بمجموعة من الصبية الخاصين بعملهم يحاوطون البيت وقد سألهم عبدالقادر بتعجبٍ أغدقته الحيرة:.

بتعملوا هنا إيه يا زيكو؟ وواقفين كدا ليه؟
انتبه له الشاب وحرك رأسه يطالعه وهو يفسر وقوفهم بقولهِ:
لامؤاخذة يا حج، الأستاذ تَيام أمرنا نقف هنا نحاوط البيت علشان لو حصل حاجة والأستاذ بيشوي قالنا محدش يتحرك غير بأمر منه أو من تَيام، وآسفين على اللي حصل والله كنا في الوكالة بنحمل الرخام بتاع اسكندرية اللي هيتحرك بكرة، محدش يقدر يقصر معاكم.

أومأ له عبدالقادر بتفهمٍ ثم أعطاهم إشارة بالتحرك وولج البيت مع ابنه ليجد ابنته تركض نحوهما تحتضن شقيقها باكيةً وخلفها نِهال وابنها معها وهي تسأل بلهفةٍ أعربت عن قلقها:
طمني يا عمو إيه اللي حصل؟ أنتوا بخير؟ وفين أيهم مجاش معاكم ليه؟ هو كويس صح؟ مش كان معاك طيب؟
أومأ لها موافقًا وهتف يُطمئنها بحديثه الهاديء الرزين:.

كويسين يا بنتي متقلقيش، هو في المخزن مع الرجالة وهييجي على هنا علطول، أتطمني هو بخير وكان معايا كويس محصلهوش حاجة، وأنتِ يا آيات حاسبي عن أخوكِ علشان يرتاح شوية جسمه أكيد بيوجعه، يلا يا حبيبتي هو كويس أهو.
أومأت عدة مرات وهي تبكي ثم هتفت بصوتٍ مختنقٍ من البكاء حينما تذكرت مكالمة رفيقتها لها:.

أنا لما مهرائيل قالتلي كنت هتجنن وأخرج علشانه، بس لقيت البيت متحاوط بالرجالة ومقدرتش أخرج، مين دول وعملوا كدا ليه؟ هو عمره زعل حد؟
حرك رأسه نفيًا بأسفٍ فيما شعر أيوب بالدوار يداهمه وكأن المكان ينقلب ويدور به فاستأذن منهم وتحرك نحو غرفته وقد لحقه إياد الذي تشبث بكفه ثم دلف مع الغرفة ورقدا على الفراش سويًا وهذا الكوكب الصغير يضمه بذراعيه الصغيرين وهتف بحزنٍ لأجل عمه:.

سلامتك يا أيوب والله كنت هاجيلك أول ما عرفت بس مكانش ينفع أسيب ماما و آيات لوحدهم، جدو قالي طول ما البيت فاضي أنا الراجل بتاعهم، وكويس إني ماجيتش علشان غضبي صعب برضه.
رمقه أيوب بطرف عينه وهو يسأله بسخريةٍ:
وكنت هتعمل إيه بقى يا أبو غضب صعب أنتَ؟
رفع إياد رأسه يواجه عمه ناظرًا إليه بقولهِ مُفسرًا ومُقلدًا لما كان سيفعله:
كنت هقف في الشارع وأصرخ وأقول كدا عيب ميصحش، وأشوح بأيدي الاتنين كدا.

هتف حديثه الذي تصنع الغضب فيه فيما سأله أيوب ساخرًا بقولهِ وهو يُحاكِ طريقته:
تشوح بايديك الأتنين كدا؟ ليه يا عم أنتَ فتوة ولا إيه؟ مش للدرجة دي أنتَ كدا زي الفُل، والحمدلله أحتوينا نوبة الغضب دي، نام يا موكوس نام.
ضحك الصغير له وضمه أكثر وهو يخبره عن حبه له وخوفه عليه وقد تنهد أيوب وشدد ضمته له بذراعه الصغير ومسح على رأسهِ وتنهد وهتف بنبرةٍ خافتة أقرب للهمسِ حيث أقر بما في نفسهِ:.

اللهم إني أشكو لك ضعفي وقلة حيلتي، وهواني على الناس، اللهم أني أسألك القوة وأنا العبد الضعيف، وأرزقني الثبات أمام حملي الثقيل، اللهم أني ظلمتُ نفسي ظُلمًا كثيرًا فأغفرلي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنتْ، ولا تكلني إلى نفسي طَرفة عينٍ، اللهم إني وكلتك نفسي وكفي بالله وكيلًا.

صعد يوسف للأعلى مع أفراد أسرته وولج غرفته يتمدد الفراش وهو يشعر بألم رأسهِ يسقط على عينيهِ وكأن الألم خشى أن يُصبح ندلًا في عينيه إذا فارقه لذا قرر أن يرافقه، وقد أغمض جفونه وأرجع ظهره يستند على الفراش يتجاهل عن عمدٍ الأصوات حوله وداخله حتى أتت قمر تجلس بقربهِ ثم مسحت على كفه المضمد وهي تقول بحبٍ وخوفٍ:
أنتَ كويس؟ تحب نروح لدكتور طيب؟

فتح عينيه يُطالعها ثم ضمها له تستند برأسها على صدرهِ ومسح على خصلاتها وهو يقول بصوتٍ مُحشرجٍ ذي بحة خشنة بعض الشيء:
مش محتاج دكتور، خليكِ جنبي بس وفي حضني وأنا هبقى كويس أوي، بعدين دول شوية صداع وهنام وخلصنا، أنتِ بقى بلاش نظرة الزعل دي في عيونك، أنا بخير أوي.

رفعت كفها تمسح على كتفهِ بحنوٍ ولُطفٍ كما الهرة الصغيرة التي ترافق صاحبها الوفي عند ألمه، وقد ولجت لهما غالية وهي تقول بتوترٍ طفيفٍ وهي تشير بإبهامها نحو الخارج:
بقولك إيه، حماتك ومراتك برة، عاوزين يدخلوا.

أعتدل هو وكذلك شقيقته التي تركت موضعها وهي تُنادي على زوجته وأمها وقد ولجت الأولى والثانية تتبعها وسرعان ما تعلقت عيناه بعينيها ليقرأ الخوف في نظراتها وكأنها على مشارف البكاء وقد تحدثت أمها بثباتٍ وهي تقول:
ألف سلامة عليك يابني، ربنا يطمنا عليك ويبعد عنك كل شر ومكروه، أنتَ أحسن دلوقتي؟

حرك رأسه نحوها بتعجبٍ من موقفها وكذلك أمه هي الأخرى لكنها قررت أن تنسحب وسحبت معها ابنتها لتترك لهم المحيط بحريةٍ وقد تحدث هو بثباتٍ يشير إلى موضع الجلوس لهما:
الله يسلمك، اتفضلي أقعدي.
جلست بقربه مَي وتنهدت بثقلٍ ثم هتفت بصوتٍ طغى عليه التوتر والخجل وكأنها تصارع لأجل التحدث أمامه:
أنا جاية أقولك على حاجة مهم.

كادت أن تُكمل حديثها لكنه أوقفها بنبرةٍ شبه متوسلةٍ لكي تتوقف عما يظنه هو بل ويخبره به قلبه خاصةً بعد اصطدامهما الأخير قبل فراره من الجميع:
أبوس إيدك يا شيخة، لو جاية تحرقي دمي وتقوليلي كلام زي آخر مرة أنا في غِنا عنه، أنا المرة دي بالذات معملتش أي حاجة وعلى يدك كافي الدنيا كلها شري ومنيم شياطيني، أنا مش عاوز أسمع حاجة أنا مش عاوز أسمعها.

راقبتها عهد وخشيت من انفعالها لكن الأخرى سحبت نفسًا عميقًا تُهديء به نفسها قبل أن ترد عليه بقولها:.

وأنا يابني مش جاية علشان أزعلك بكلامي، ولا جاية أقولك حاجة تضايقك، أنا بس هقولك إن إحنا من بعدك تعبنا، وبنتي رجعت تاني زي الأول تلوش في وش الدنيا كُلها، صدقني أنا آخر مرة لما قولت اللي قولته كان من خوفي على بنتي، لكن يعلم ربنا، وكلمة هتخرج مني أتحاسب عليها إن من يوم ما دخلت حياتنا وإحنا أتطمنا وبقينا متأكدين إن فيه حد في ضهرنا، ربنا يقويك وشد حيلك بقى علشان نفرح بيكم.

يبدو أن اليوم هو يوم الصدمات والمفاجآت معًا وقد ظهر الذهول تلقائيًا على ملامحه وفرغ فاههُ مدهوشًا برد فعلها الغير متوقعٍ منها وقد ابتسمت عهد له فاقترب منها يسألها بسخريةٍ أقرب للهمسِ:
أنتِ ماسكة عليها شيكات ولا إيه؟
لكزته بمرفقها في ذراعهِ حتى عاد هو لسيرته الأولى في جلسته وهتف بثباتٍ أمامها يُصفي نيته لها وكذلك وقلبه:.

وأنا مش زعلان منك والله وشايف إن دا حقك، علشان أنا خوفت على أختي وكنت هرفض أيوب لمجرد إني خوفت عليها، بس أيوب كان راجل وجه قبل كتب الكتاب وعرفني كل حاجة عنه وعن حياته وسابلي فرصة الاختيار وأنا أختارته هو ومن ساعتها أنا بقول كسبت أخ وأغلى من الأخ كمان، عارف إن مصايبي كتير وبلاويا أكتر بس أنا والله العظيم ما عاوز حاجة غير بنتك معايا، وبقولها قدامك أهو، أنا مش بحب عهد أنا بحب حتى أي حاجة ليها علاقة بيها، حتى لو كوباية هي بتحبها أنا عندي استعداد أشيلها في عيني العمر كله، طالما هي بتحبها.

سكت هُنيهة يلتقط أنفاسه ويُراقب نظرتها له وقد تعلقت نظراته بنظراتها من جديد يحتويها هو بعينيهِ وتضمه هي بين الجفنين وقد هتف من جديد مُكملًا بصدقٍ أكدته عيناه التي التمعت بوميضٍ خاصٍ لأجلها هي:.

أنا مش عاوز آذيها والله أنا نفسي أشيل الخوف من سكتها، ونفسي أشوفها بتاخد حقها من الدنيا من غير ما أشوف في عينيها الحلوين دول ضعف، ونفسي ألاقيها قوية ونفسي ألاقيها فرحانة، لو كتاب حياتها معايا وأنا المسئول عنه فأنا لو هملاه ليها أكيد هملاه بالقوة والفرحة علشان عهد محتاجة الاتنين دول، يمكن تكون مش عاوزاني أنا بس عاوزة تفرح وفي اللحظة اللي هتأكد فيها إني مش قادر على المسئولية دي هسيبها، علشان لو مش هكون نقطة قوة لصالحها يعزعليا إني أكون نقطة تضعفها، علشان أنا لما كنت ضعيف وتايه كنت بلاقيها هي.

خجلت عهد من حديثه وكلماته وطالعت أمها التي ابتسمت لهما ولاحظت أنها كما الجدار العازل بينهما لذا وقفت وهي ترد عليه في محاولةٍ منها لإخفاء ضحكتها:
طب أنا هتحرك بقى علشان سايبين وعد في الشقة لوحدها، وأنتِ متتأخريش، مش لازم تاخدي القوة والفرح كلهم الليلة دي، سيبوا شوية لبكرة، عن إذنكم.

تحركت من الغرفة وقد تتبعها هو ضاحكًا وكأنها أتت تزيل عن كاهله همًا كان يجثم فوق صدره حتى شعر بالأخرى تجاوره فالتفت لها لتأسره هي بعينيها اللامعتين ثم حركت كفها تُمسد فوق جرح يده ولأول مرة منذ عودته يحتل الصفاء مكانهما قبل نظراتهما وحينها ابتسم هو براحةٍ وأضاف:.

تعرفي إن دي أول مرة من ساعة ما جيت أشوف عينك من غير عتاب ولوم؟ حلوين وهما رايقين كدا، العتاب واللوم كانوا زاحمينهم ومخلييني غريب فيهم، وأنا أكره ما على قلبي الغربة في عيون الحبايب، عارف إنك زعلتي وعارف إن مكانش ينفع أمشي وأسيبك، بس مكانش بأيدي، دماغي كركبت ساعتها وخدت في وشي ومشيت، خلينا زي فؤاد حداد لما قال: ‏خلينا خُفاف، قلوبنا لبعض ورق شفاف شمس وضِلّة.

رفعت كفها تمسح عينيها ثم هتفت بصوتٍ مختنقٍ من البكاء:
أنا كنت ناوية ليك على أيام صعبة أوي، كنت هلففك حوالين نفسك، بس لما حسيت إني ممكن أخسرك يا يوسف قولت بلاش، بلاش نضيع أيامنا الحلوة مننا، أنا كل كوابيسي بقت ليك أنتَ، مبقيتش أخاف على نفسي زي ما بخاف عليك أنتَ، بس برضه لسه عند كلامي، هعمل بأصلي معاك لحد ما تفوق بعدها نرجع تاني، أنا مبرجعش في كلامي، شد حيلك بسرعة بس.

هز رأسه مومئًا لها وهو يبتسم بهدوءٍ ثم قام برمي رأسه فوق كتفها وأغمض عينيه كعادته المُفضلة له ولها، تلك القُنبلة الموقوتة التي يحملها بداخلهِ لا تهدأ إلا بجوارها هي، تلك التي يُحبها ويكره العالم بأكملهِ إن كان يُحبها، والآن هو يحظى بحب من حظيت بحب العالم بأكمله ويشعر أن قلبها يمد كفيه داخل رأسه يقوما بترتيب البعثرة المُفترشة بداخلهِ، وكأن الرابط بينهما نتج عن قلبٍ أصيلٍ مثل قلبها ورأسٍ يسكنها الضجيج مثل رأسهِ.

سألها بنبرةٍ مخملية ناعمة يغلبها النوم والنُعاس:
متضايقة أرفع راسي؟
أصدرت صوتًا من حنجرتها ينفي ذلك ثم رفعت كفها تمسح على رأسهِ فوق كتفها وهتفت بنبرةٍ هادئة تمامًا بها لمحة طفيفة من المزاح:
هو أنتَ لوحدك اللي حافظ شِعر يعني؟ خليها وأنا هعمل زي ما الأبنودي قال قبل كدا كتفي الحنون أتخلق تِسند عليه راسك عندك شك إني كتفي حنين وممكن يسندك؟

ضحك هو ضحكة طفيفة ثم سكت وترك لنفسه الفرصة ينعم بهذا الهدوء وهذه السكينة وهي بقربه وهو معها وبجوارها، هذه المُذهلة التي أحبها منذ اللقاء الأول وإلى الأبد وحتى نهاية العمر.

في محجر الرُخام حيث تواجد الرجال المُسلحين، وصل لهم أيهم الذي أفرغ طاقته السلبية وغضبه المشحون فيهم جميعًا بالعصا حتى ارتفع صوت صرخاتهم وتوسلهم له أن يَكُف عما يفعل وقد جلس على عاقبيهِ أمامهم وأمسك خصلات أحدهم يهتف من بين أسنانه بغيظٍ منهم:.

أسمع يا روح أمك منك ليه، أنا معنديش صبر ولا أخلاق والاتنين عندي تحت الصفر، حواركم الخايب إن واحد كلمكم من بعيد دا ميدخلش على عيل صغير في حضانة، بس أقسم بالله أنا عندي استعداد أعملكم زفة معتبرة هنا تسمع في كل حتة، يبقى نحترم نفسنا بالأدب كدا وواحد فيكم يقول اسمه إيه بدل ما أعرف أنا بطريقتي، ووعد لو عرفت محدش فيكم هيروح القسم، هتخرجوا أحرار بس حد فيكم يقول هو مين.

تدخل أحدهم يهتف بصورةٍ مُباشرةٍ دون الأخذ في الإعتبار برأي البقية أو حتى رفضهم لكنه قرر أن ينجو بهم:
اسمه سامي يا باشا جايبنا من عين الصيرة مخصوص علشان الطلعة دي، وقالنا عاوزها مجزرة في حارة العطار والاتنين متقومش ليهم قومة تاني، وربنا ما بكدب، بس علشان شكلك رجولة وليك هيبة وجيت معانا دُغري، أنا ركبت معاك نفس الخط، بس عدم المؤاخذة الراجل معروف بكلمته، وأنتَ أديت كلمة أهو، الحكومة متعرفش طريقنا.

طالعه أيهم بإعجابٍ من بسالته وموقفه الشُجاع ثم هتف بثباتٍ بعدما أعتدل واقفًا يطالعهم من علياءه بشموخٍ:
وأنا عند وعدي مبخلفش بكلمتي، بس أسمعني أنتَ بقى، هتخرجوا من هنا بس الأول واحد فيكم ياخد نفسه ويتصل بيه يقوله إنكم عملتوا اللي هو عاوزه، بالظبط وإنكم لولا الحكومة طبت فجأة وحد بلغ النقطة كان زمانكم مخلصين عليهم، أتفقنا؟ المكالمة دي تتم ومش هتفضلوا هنا ساعة واحدة كمان، يلا وروني بقى؟

مرت دقائق عِدة حدث فيها مُراده ثم أمر بإطلاق سراحهم بعدما آخذ منهم الضمانات العينية والمادية وتصوير البطاقات الشخصية بهم ليكونوا تحت موضع رحمته، فيما شرد هو لوهلةٍ يُفكر فيما حدث إذا كانت هذه هي الليلة الأولى؟ فماذا إذًا بما هم مُقبلون عليه؟ غاص في بحور أفكاره عائمًا بين تقديم الشروإنكار الخير حتى تحدث بيشوي يستفسر منه بتعجبٍ:
ناوي على إيه؟ أنتَ بتعمل حاجة صح؟

أنتبه له أيهم الذي بلغ التعب مبلغه عليه وهتف بضياعٍ:
معملتش حاجة لسه ومش ناوي أعمل، المهم أنا هروح دلوقتي وأنتَ يلا روح أنتَ كمان الله أعلم إيه اللي جاي علينا، الدنيا بقالها فترة ماسكة فينا، وبكرة هقولك ناوي على إيه، فين تَيام بصحيح؟ مشي؟

أومأ له بيشوي فيما استحسن هو ذلك ثم تحركا سويًا نحو الخارج يعود كلاهما إلى بيتهِ من بعد ليلةٍ عصيبة مرت عليهم وأنتهت بفضل الخالق ورحمته، وقد وصل أيهم إلى البيت الساكن وتوجه إلى شقته فوجد زوجته تهرول له بعدما خرجت من الشُرفة وهتفت بقلقٍ حاد:
حرام عليك يا أخي، أنتَ فين كل دا؟ طب عبر الكلبة اللي هنا قلبها وقف من خوفها عليك طول اليوم، وإيه الدم اللي على قميصك دا؟ أنتَ حصلك حاجة؟ أتعورت؟

هز رأسه نفيًا بالسلبِ ثم هتف بثباتٍ يُطمئنها بعدما أمسك كتفيها بكلا كفيهِ:
أهدي خالص، أنا كويس ودا مش دمي، دا دم العيال الصيع اللي أتهجموا على أيوب وللأسف مكانش في فرصة أعرف أكلمك أطمنك، أنتِ كويسة؟ دا المهم؟ وفين إياد؟
ازدردت لُعابها وحاولت التحدث هاتفةً بنفس القلق:.

كويسة، وهو كويس بس بايت مع عمه لما شافه تعبان كدا، أنا خوفت عليك أوي، بقيت تايهة وأنا مش عارفة أوصلك ومحدش بيقولي أنتَ فين، بعدين طول اليوم مش بترد عليا ودي مش عوايدك، أنتَ مخبي حاجة؟
لا يعلم إن كانت تُقر أو تسأل لكنه هرب من جوابها حينما صدح صوت هاتفه وأخرجه يجاوب على المكالمة دون إظهار معظم الكلمات كأنه تعمد أن يخفي عنها:.

ألو! لأ عادي ولا يهمك، متقلقيش الدكتور راح وظبط الدنيا والممرضة عارفة شغلها ومعاها حد كبير هيساعده، أتطمني وبكرة هيروح ياخد جلسة علاج طبيعي وأنا بنفسي هكون معاه، والعلاج زي المستشفى ما كانت بتديله بالظبط.
تابعته نِهال بتعجبٍ وراقبته حتى أغلق الهاتف ووضعه في جيبهِ وقد تبدل حالها تمامًا وهي تسأله بجمودٍ بعض الشيء:
بتكلم مين؟ وتطمن ليه وإيه كلامك دا؟ هو فيه إيه؟

لاحظ إنفعالها فهتف بلامبالاةٍ في غير موضعها بتاتًا يمازحها بقولهِ:
أنتِ ذكية حتى، معقولة ماخدتيش بالك؟ بكلم واحدة وبقولها دكتور وممرضة وهديله علاج طبيعي، يبقى إيه؟ متجوز عليكِ طبعًا وبخونك، مش محتاجة يعني.

دفعته بكلا كفيها في صدرهِ بغيظٍ منه ومن برود أعصابه في حين أنها تموت من خوفها وقلقها عليه ثم أولته ظهرها وظلت تُغمغم بحديثٍ لم يلتقطه هو وقد تحركت صوب الفراش ترتمي عليه بضجرٍ منه حتى سقطت في بئر النوم وبعد مرور ساعة تقريبًا كان تحمم هو وبدل ثيابه ثم أقترب يتمدد بجوارها وسحبها لداخل عناقهِ يتمسك بها لعله يهدأ من الزوبعات التي أصابته اليوم.

في صبيحة اليوم الموالي.

في منطقة الزمالك تحديدًا بدأت رهف تتجهز للذهاب إلى عملها وكعادتها التي تحاول التخلص منها مؤخرًا لا تفعل أي شيءٍ إلا والموسيقى تجاورها وقد بدأت ترتدي الحلة النسائية ذات الطابع الرسمي بلونها البترولي وأختارت حجاب رأسها باللون البيچ وكعادتها تبدو في قمة أناقتها رغم رسمية مظهرها وقد سرقت الكلمات التي خرجت من حاسوبها على موقع اليوتيوب انتباهها والتفتت تطالع الحاسوب بتعجبٍ تزامنًا مع انتفاضة قلبها:.

خوفي قلك شو بحسلك ونبطل أصحاب.
وتبرم فينا الدنيا فجأة ونصفي أغراب،
إحساس خايفة منه، وسنين عم ببعد عنه
واليوم قلبي حاسس بده يقول بحبك بس.
معقول قلبي اتأخر، واللي بيني وبينك نخسر
والصُحبة ياللي كانت حلوة تخلص بلا ما نحس.
بلا ما نحس، بلا ما نحس، بلا ما نحس.

الغريب أن أول من طرأ في ذهنها وطرق أبوابها كان عُدي والأغرب هو تصديق القلب على خيارهِ وكأنه يخبرها بالحقيقة التي تسعى هي للهرب منها، أصبحت تستمد منه الأمان وتطمئن في العمل لتواجده، بل أصبحت تفضل العمل في صحبته وقد أردكت لتوها أنها أجرمت في حق قلبها المُتعلق بحب حمزة وأصبح هناك من يُزاحم على مكانته في قلبها! جلست على طرف الفراش بصدمةٍ ولم تخرج منها سوى بدخول شقيقتها الغرفة وهي تقول بمزاحٍ:.

صباح الخير، أنا قولت آجي أقولك على الفطار علشان ميبردش وعملتلك اللانش بوكس بتاعك وعملت حساب عُدي زميلك، ماما قالت إنكم بتاكلوا مع بعض.
طالعتها بعينين ترقرق فيهما الدمع وهتفت بصوتٍ مختنقٍ وهي على مشارف البكاء بما شعرت به وأنتفض قلبها لأجله:.

أنا بعك الدنيا يا إيناس أنا سيبت حب حمزة يتسرسب من قلبي وبقيت بضيع ودا مينفعش، أكيد مش هينفع أخونه صح؟ مينفعش أصلًا أفكر في حد غيره، إزاي أصلًا بقيت بفكر في حد تاني؟ إزاي بقيت وحشة كدا؟
أقتربت منها شقيقتها تجلس بقربها عند طرف الفراش وأمسكت كلا كفيها تعانقهما وهي تقول بثباتٍ تقويها به:.

مش خيانة يا رهف خيانة لو هو عايش وأنتِ قلبك بيميل لحد تاني، هو الله يرحمه راح مكان تاني أحسن، ويدوبك كان خطيبك، كلهم عاشوا وأنتِ اللي قفلتي على نفسك، حتى مامته اللي هي حماتي جوزت بنتها وعملت ليها فرح كبير، و حازم أخوه اللي هو جوزي عاش حياته وعملنا سبوع لابننا، كلنا شوفنا حياتنا، وأنا حسيت من كتر كلامك عن عُدي إنك مبهورة بيه، بشجاعته وطموحه وأمانته وشهامته معاكِ يوم ما وصلك هنا، العلاقات اللي من النوع دا لازم فيها طرف ينجذب للطرف التاني، علشان كدا الإختلاط في دينَّا ليه حدود، بس هقولك حاجة أخيرة، لو قلبك مال ل عُدي بجد متخونيهوش بتفكيرك في حمزة الله يرحمه.

ألقت شقيقتها حديثها الذي أربك ثباتها وبعثر قوتها الواهنة لتزداد تيهًا فوق تيهها وهي ترى إنسحابها من تحت نظراتها وقد أغمضت هي عينيها تحاول صرفه عن فكرها وكأنه نجح في إختراق دفاعاتها وتسلل من فوق أسوار حصونها، ومد كفه يمسك كفها لتقترف الإثم وتقع في الذنب، لكن أين الجُرم إن كان القلب هوى وأحب؟

في مشفى الأمراض النفسية والإضطرابات العقلية.
وصل مُنذر صباحًا إلى هناك وأوقف دراجته البخارية في نفس لحظة وصول فُلة وخروجها من السيارة برفقة ابنة شقيقها التي تركت كفها وركضت نحوه وهي تقول بلهفةٍ مرحة:
إزيك يا مُنذر عارفني؟
أنتبه لها وطالعها بتعجبٍ لكنها مدت كفها الصغير وهي تقول بنبرةٍ طفولية ضاحكة:.

بابا إمبارح قال إنك شطور خالص، وأنا قولتله يديك حاجة حلوة وهخليه يجيبلك chocolate شيكولاتة زي ما بيجيبلي، مش هتسلم عليا بقى؟
وجد نفسه يبتسم رويدًا رويدًا أمام تلك الكتلة المُتحركة من خفة الظل والمرح والجمال البريء وقد جلس على عاقبيهِ أمامها يهتف بنبرةٍ رخيمة ودافئة بعدما أحتوى كفها الصغير داخل كفه الكبير:.

هسلم طبعًا، أنا أتشرفت بيكِ جدًا، وعلى العموم أنا بشكرك وبشكر بابا بس أنا مش عاوز chocolate، ممكن تاخديها أنتِ وكأني أنا خدتها بالظبط، تمام؟
حركت رأسها موافقةً ثم أقترحت عليه بنبرةٍ حماسية:
طب ينفع أديها ل فُلة؟
رفع عينيه يطالع الأخرى التي وقفت تستمع لحديثهما ثم هتف بنبرةٍ رخيمة رسم فيها بسمة ساحرة قلما ترتسم على وجههِ:
أديها ل فُلة ألف هنا ليكم.

أنهى جملته ثم أعتدل واقفًا فوجد الطبيبة تقترب منه تسأله بثباتٍ عن سبب غيابه أمسًا:
حضرتك مجيتش إمبارح ليه؟ لعل المانع خير.
تنهد هو بثقلٍ ثم هتف بنبرةٍ ثابتة هو الآخر:
ابن عمي كان عامل حادثة ومكانش ينفع أسيبه، ولو حصل عطلة أو حاجة بسببي دي عندي أنا، عمومًا أنا كلمت أخوكِ الدكتور جواد وهو تفهم، فيه حاجة تاني؟

حركت رأسها نفيًا فتحرك هو نحو الداخل بينما نظرت هي في أثره بغيظٍ منه، لقد عملت معه لمدة شارفت على الثلاثة أسابيع ولازالت تخشاه وتخشى غموضه، لا تعلم لما تشعر طوال غيابه أنها في راحةٍ وبمجرد ظهوره تصبح في توترٍ وقلقٍ، لذا أمسكت الصغيرة التي تلقبها هي البغبغان الناطق ودلفت بها نحو الداخل خلفه تأخذ من مكتب شقيقها مقرًا لها حتى يأتي هو بعدما ينهي عمله في العيادة الخاصة به، أما مُنذر فقد ولج غرفته مُباشرةً يهرب فيها من الجميع لكنه في كل مرةٍ يفشل في الهرب من نفسهِ، أصبح مثل الرجل المُقيد من جميع أطرافه وكل طرفٍ منه يصرخ مستغيثًا ومطالبًا بالحُريةٌْ، لكنه أعتاد على السجن حتى أن مجرد التفكير في حريته يُصنف جريمة أرتكبها.

وقفت تلك الجميلة التي بدأت من جديد خطواتها الصحيحة وتلك المرة بنفسٍ راضية بعدما جلست في خلوةٍ مع النفس تشكو لخالقها وتعتذر منه، تخبره عن إثم ابتعادها وتُقر بما خرج منها، ثم قطعت عهدًا جديدًا على نفسها أن تلك المرة تلتزم وتزداد خُطاها قُربًا وتقربًا من الخالق، ستبدأ من جديد وكأن الفشل هو المجهول الذي لم تعرفه.

أرتدت جنة خمارها فوق الزي الشرعي الذي عادت تلبسه وتلتزم به من جديد وقد أرتدت فستانًا باللون الأبيض العاج من خامة الكِتان، وقد كان واسعًا وفضفاضًا وفوق أرتدت الخمار الزيتوني الذي لائم بشرتها البيضاء وعينيها الخضراوتين وقد رضت هي عن نفسها ثم أمسكت القلم تكتب به فوق اللوحة التحفيزية المُعلقة فوق الحائط:
التوفيق لا يعني النجاح الدائم،
التوفيق أن تقف على قدميك مهما تعثرت،.

وأن تتنفس اليقين مهما بدت لا مخرجٍ لها
وقفت تُكررها لنفسها ثم حملت حقيبة ظهرها ونزلت من الشقة تتوجه إلى بيت عبدالقادر لكي تفي بعهدها مع آيات أنها أول من ستشهد على عودتها، لكن أولًا ستمر على والدها لكي تأخذ منه مفاتيح الشقة وقد مرت أمام الوكالة الخاصة بوالد الأخرى ووجدت تَيام فيها فمرت تُلقي عليه التحية الإسلامية كاملةً:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هو بابا مجاش قعد هنا؟

رفع رأسه عن الأوراق الموضوعة أمامه وجاوبها بثباتٍ:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، لأ والله يا آنسة جنة هو جه سأل على الحج من برة برة ومشي علطول، ممكن يكون راح يتطمن على أيوب والحج.
حركت رأسها موافقةً وهتفت بنبرةٍ هادئة وثابتة:
متشكرة لحضرتك، أنا كدا كدا هروح عند آيات دلوقتي ويا رب ألاقيه هناك، عن إذنك وآسفة لو عطلتك.

أنهت حديثها وكادت أن تتحرك لكن دخول مُحي من خلفها أفزعها حتى كادت أن تسقط متعركلةً في القطع الرُخامية خلفها لكنها تمسكت جيدًا وأعتدلت سريعًا وهي ترفع رأسها وقد ظنها هو في باديء الأمر زوجة شقيقه لكنه أندهش حينما رآها هي نفسها صاحبة العينين الخضراوتين وقد سألها بتعجبٍ:
أنتِ كويسة؟ خلي بالك.

حركت رأسها موافقةً ثم تحركت من المكان بعدما خجلت من موقفها أمامهما فيما تتبعها هو بعينيهِ يتأكد مما تراه عيناه، هل من الطبيعي أن تكون هي ذاتها التي رآها في المرة السابقة بملابس عادية كما غيرها من الفتيات، واليوم ترتدي هذه الملابس المُحتشمة؟ غرق في تفكيره فيها حتى جذبه شقيقه من رحلته وهو يسأله بتعجبٍ:
إيه يابني روحت فين؟ أنتَ معايا طيب؟
أنتبه له أخيرًا وداهمه بسؤالٍ غير متوقعٍ يخصها هي:.

هي دي نفس البنت صح؟ عملت كدا ليه في نفسها؟ ولا دي واحدة شبيهتها؟ هي صح أنا فاكرها باين بس مش مجمع.
ابتسم تَيام بقلة حيلة ثم أضاف يؤكد له ظنونه ويُصدق على حديثه:
هي نفسها، جنة على فكرة هي أصلًا كانت لابسة كدا من زمان أوي، بس تقريبًا جت فترة فتور أو انتكاسة وشكلها رجعت تاني، وواضح كدا إن آيات مراتي ليها علاقة، ربنا يجعله في ميزان حسناتهم، المهم فيه حاجة؟ جاي بدري ودي مش عوايدك.

أومأ له موافقًا ثم أضاف بقلة حيلة بعدما نحى تفكيره فيها بعيدًا عن عقله وصورتها التي تقفز أمام عينيه هاتفًا:
كنت رايح الكُلية بس أول محاضرتين أتلغوا قولت آجي أفطر معاك بدل ما أروح أقعد هناك في الزحمة، بس الفطار عليا، قولت إيه؟ موافق صح؟
رفع تَيام ذراعه يطوق رقبة شقيقه ودلف به للداخل وهو يقترح عليه بنبرةٍ ضاحكة:
أختيار الفطار عليك والحساب عليا، عيب أنا الكبير.

في الحقيقة هو لن يجادله بل هو من الأساس يريد قضاء الوقت معه فقط وليس أكثر من ذلك، يريد كسر الحواجز بينهما ويريد تعميق وتوطيد العلاقة وأواصل المحبةِ، وعليه أن يبادر هو لعل الآخر يخشى البدء، وقد جلسا سويًا برفقة بعضهما يتحدثان سويًا ويضحكان مع بعضهما وهاهي الخطوات الكبيرة تبدأ فقط بتلك الخُطى الصغيرة.

في شقة يوسف استيقظ صباحًا وظل جالسًا فوق فراشهِ حتى صدح هاتفه برقم أيوب الذي أطمئن عليه وعلى أحواله الصحية جديًا والنفسية ساخرًا، وقد جاوبه الآخر بصوتٍ معاتبٍ وكأنه أجرم في حقهِ:
أنا بخير، بس لو عملتلي لمون بالنعناع من إيدك نفسيتي اللي بتتريق عليها دي هتبقى زي الفل، بعدين أنا عاوز أفرحك، شوف هنتقابل إمتى جهز لمونك وأنا هجهز أخباري، تمام يا شيخنا؟

تمام يا غالي، بس خليك فاكر ليا هدية عندك، وأنا بقى شباط من الآخر تسلمني الهدية هسلمك اللمون، هات بعضك بقى وتعالى شوفني علشان إصابتي خطيرة وهات معاك حاجة حلوة، بلاش تيجي بإيدك فاضية، هات قمر معاك.
ابتسم يوسف رغمًا عنه وقبل أن يشاكسه تهادى إلى أذنيه صوت طرقات على باب غرفته فاستأذن منه ثم أغلق المكالمة وسمح للطارق الذي كان عُدي بالدخول، فولج الآخر مُبتسمًا وهتف بثباتٍ:.

أنا نازل رايح الشركة، بس عاوز أقولك حاجة مهمة، الشركة هتحضر مؤتمر دولي في شرم الشيخ، وفيه إيفينت كبير أوي هناك معمول للصناعات اليدوية وشغل الهاند ميد، وبما إن الشركة متعاقدة مع شباب كتار ومشاريع شغل يدوي ومساهمة في شغل الشباب فهنحضر، بس ساعتها أنتَ لازم تكون موجود وهنقعد هناك تقريبًا أسبوع طول فترة المعرض، هتيجي صح؟

ظهر التخبط على وجه يوسف وتشتت أمامه فأقترب منه عُدي وهتف بلهفةٍ مستخدمًا سياسة الطرق فوق الحديد الساخن:
لازم تيجي وتشوف اسم عمو مصطفى وهو بيتقال هناك وحلمه بيتحقق، تعالى وأقف وأتكلم بما إنك ابنه، الغريب في الموضوع بقى إن عاصم الراوي عمك مقدم كل حاجة على أساس إن مؤسس الشركة هو مصطفى الراوي أبوك وساب اسمك يتحط عادي، تفتكر ليه؟

ارتسمت السخرية على وجه رفيقه الذي أرجع ظهره للخلف وهتف بقهرٍ لم تُخفيه عيناه بل نطقت وصرخت به:.

علشان ياخد لقطة، يتقال إن أخوه أسس الشركة ومات وهو كمل بعدها وعدى ووصل بيها بر الأمان، وابنه التلفان الصايع كان هيضيع كل حاجة لولا جهده وشغله وتفكيره، والناس تبقى مبهورة بالأخ المخلص والابن المهمل، رغم إني لو كنت دخلت الشركة دي كان زماني حققت كل أحلام مصطفى بس حتى دي استكتروها عليا، بس وماله، طالما عاوز يلعب خليني أرميله الكورة، جاي شرم الشيخ.

لقد بدأ يقوم بدراسة خطواته بشكلٍ عقلاني بعض الشيء بدلًا عن العشوائية التي كان يتعامل بها، لذا سيقوم باستغلال كافة الظروف السيئة قبل الجيدة لصالحه هو، ليغدو هو اللاعب الأمهر، والمدرب القوي لخيولٍ غير أصيلة ينتهي أمرها بالعجز أو بالموت، أما هو، فهو أصيلٌ لا يقبل الرضوخ ولن يرضى بغير الشموخ.

في منتصف النهار بمنطقة نزلة السمان.
في بيت نَعيم تحديدًا كانت الأوضاع هادئةً إلى حدٍ ما، حيث جلس هو برفقة إيهاب يُتممان الحسابات الخاصة بهم وبكل فردٍ من الشباب في الأعمال المشتركة بينهم، وقد أندمجا فيما يقوما به حتى ركضت لهما تحية تهتف في جزعٍ وضجرٍ:
الجدع أبو وش يقطع الخميرة من البيت دا برة وعمال يهلل وعاوزك يا حج و إسماعيل خرجله بس هو عمال يعلي صوته.

خرج نَعيم من مكتبه ويكاتفه في السير إيهاب حتى وقفا أمام سامي غريمهم الوقح الذي وقف في عقر دارهم ليباغته نَعيم بسؤاله مستهزئًا به:
خير يا ابن العالمة، داخل بقلة أدبك علينا ليه؟ يكونش سارقين منك سريقة مثلًا؟ عاوز إيه؟
أقترب منه يهتف بصوتٍ عالٍ أعرب عن إنفعالهِ قائلًا:.

ابني فين يا نَعيم؟ بلاش ترد اللي عملته فيك زمان في ابني وهو عاجز دلوقتي، خليه برة الليلة دي وأتعامل معايا أنا، قولي هو فين وأنا معاك في اللي تعوزه، بس لآخر مرة هتعامل كدا، بعد كدا هقلبها عليكم جحيم فوق دماغكم.
من جديد يتواقح ويتخطى حدوده، لكن من يقف أمامه أكبر من ذلك لذا رفع رأسه ليبدو شامخًا كما كان ودام طوال حياته وأضاف بقوةٍ لن تنفك عن طبعه:.

هتقلبها! لسه دا كله هتقلبها؟ أنا مبتهددش، واللي عندك أعمله ووريني هتعمل إيه، ولو على ابنك يا سيدي لو أنا خطفته زي ما بتقول يعني، فأنا جيبتله منحة في روسيا، أهو يغير الأشكال اللي بيشوفها كل شوية دي، بس الحقيقة قبلها سافرته ألمانيا علشان أعالجه هناك، بس مش عارف ممكن يكون إيهاب بعته مشوار تاني أو بلد تانية، وديته فين يا عمهم؟

تحول حديثه من القوة إلى السخرية وهو يتمتع بإذلال الآخر فيما سحب منه إيهاب طرف خيط الحديث وهتف بتهكمٍ:
باعته الهند يجيب شوية بهارات من هناك، أصل الجماعة عندي بيحبوا الأكل توابله كتيرة، لما سيادة القبطان يرجع إن شاء الله ندبحله أرنب ونكترله البُهارات.

ضحك إسماعيل على مزاح شقيقه وكذلك سمارة أيضًا فيما وقف سامي يرمقهم بسهامٍ حاقدة وناقمة وغلٍ من عينيهِ، حاول تمالك نفسه قدر الإمكان خاصةً حينما قام نَعيم بالأشارة على باب البيت وهتف بتهكمٍ:.

أنتَ طبعك زي طبع اليهود بالظبط، تبدأ قلة الأصل والغدر وتيجي تدور على حقك، بس أنا مبديش حقوق للجُبنا، علشان كدا برة بيتي وروح دور على اللي يخصك بعيد عننا، لأن ابنك بصراحة أكيد عينتك يعني غدار ويتخاف منه، أنا لو عليا مبخافش، بس بقرف، زي ما قرفان منك كدا.

ضيق سامي جفونه يتفرس ملامحه ثم قرر أن يقوم بتفجير آخر القنابل لديه في أرضهم، وكأنه وصل لمنطقةٍ ممتلئة بالألغام وقرر أن يضرب هذه الأرض لعلها تنفجر بالمارين فوقها بكل ثباتٍ وهو يشير نحو إيهاب:
قرفان مني أنا؟ طب مش قرفان من نفسك وأنتَ آوي في بيتك واحد قتل أبوه؟ إيه؟ عامل نفسك مش داري يعني؟ ولا فاكر هتفضل مخبي كتير؟ إيه يا إسماعيل متعرفش إن أخوك قتل أبوك ولا إيه؟ والحج معاه كمان.

لم يأتي منه إلا كل شرٍ وحقدٍ، ألقى القنبلة وخرج عن طور التعقل وتوابع الإنفجار الجديد سنراها لا شك في حتمية ذلك، بالأمس كانت له واليوم تقف ضده، هو أفجج النيران وسيتلقى مصيره هنا، هُنا حيث جفت صُحف الصبر ورُفعت أقلام التدوين، وأغلِقت أبواب العقول، وماهو قادم في غير المعقول.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة