رواية غوثهم يا صبر أيوب ج2 للكاتبة شمس محمد الفصل السابع عشر
ضحك إسماعيل على مزاح شقيقه وكذلك سمارة أيضًا فيما وقف سامي يرمقهم بسهامٍ حاقدة وناقمة وغلٍ من عينيهِ، لقد حاول تمالك نفسه قدر الإمكان خاصةً حينما قام نَعيم بالأشارة على باب البيت وهتف بتهكمٍ:.
أنتَ طبعك زي طبع اليهود بالظبط، تبدأ قلة الأصل والغدر وتيجي تدور على حقك، بس أنا مبديش حقوق للجُبنا، علشان كدا برة بيتي وروح دور على اللي يخصك بعيد عننا، لأن ابنك بصراحة أكيد عينتك يعني غدار ويتخاف منه، أنا لو عليا مبخافش، بس بقرف، زي ما قرفان منك كدا.
ضيق سامي جفونه يتفرس ملامحه ثم قرر أن يقوم بتفجير آخر القنابل لديه في أرضهم، وكأنه وصل لمنطقةٍ ممتلئة بالألغام وقرر أن يضرب هذه الأرض لعلها تنفجر بالمارين فوقها بكل ثباتٍ وهو يشير نحو إيهاب:
قرفان مني أنا؟ طب مش قرفان من نفسك وأنتَ آوي في بيتك واحد قتل أبوه؟ إيه؟ عامل نفسك مش داري يعني؟ ولا فاكر هتفضل مخبي كتير؟ إيه يا إسماعيل متعرفش إن أخوك قتل أبوك ولا إيه؟ والحج معاه كمان.
لم يأتي منه إلا كل شرٍ وحقدٍ، ألقى القنبلة وخرج عن طور التعقل وتوابع الإنفجار الجديد سنراها لا شك في حتمية ذلك، بالأمس كانت له واليوم تقف ضده، هو أفجج النيران وسيتلقى مصيره هنا، هُنا حيث جفت صُحف الصبر ورُفعت أقلام التدوين، وأغلِقت أبواب العقول، وماهو قادم في غير المعقول، وقد تبدلت التعابير في نفس اللحظة وتخشبت الأجساد وكأنه أتى يسلب منها الأرواح، توسعت الأعين، وتجمدت الأطراف والأذن أصابها الطنين وكأنها تتصادم في البحر مع أمواجٍ صادمة؛ تقتل كل ما هو رخوٍ وتُفتته.
حينها أول من خرج من قوقعة الصدمة وطور الصمت كان نَعيم الذي هتف بنبرةٍ جامدة بعدما ضرب الأرض بعصاه كتعبيرٍ منه على الغضب: أنتَ بتقول إيه يا خايب أنتَ؟ مجنون ولا إيه، مخك خلاص فوت وعقلك شت منك، أخرج من هنا قبل ما تبقى خَارجتك على أيدي، وساعتها أنا هعرفك مين القاتل بجد، روح دور على ابنك بعيد عننا، شوفه في أنهي داهية تشبه الدواهي اللي أنتَ جاي منها، غور.
أقترب سامي منه يهتف من بين أسنانه متغاظًا منه لكنه اتخذ سياسة الطوفان المُدمر للكل حتى الآمنين عند هتافه: وأنا مش هسكت ولا هرتاح غير بحلين ملهمش تالت، ابني يرجع لحضني ويبقى معايا، يا تخرب على الكل وأنتَ والصيع اللي مربيهم أولهم، أظن خلاص أنتَ ابنك رجعلك وبقى معاك في حضنك بلاش تخسره تاني، اللي فاضلك مش قد اللي راح منك.
هدده بكل صراحةٍ وهو يتحداه بنظراتهِ حتى بدأ الصراع ينشب بين العينين في محيطهما وكأنها نيرانٌ طفقت في إحراق المَطرح الآمن، وعلى النقيض هناك نوعٌ من نظراتٍ أخرى تواصلت مع بعضها، حيث الإنكسار والخزي في عيني الفاعل، والصدمة والذهول في عيني المُتلقي وكأن الألسنةِ شُلت عن وظيفتها وأقدمت العين بكل شجاعةٍ تقوم بمهمتها، وقد صدح صوت سامي في الأرجاء يُعلن التهديد من جديد ذاكرًا اسم إيهاب فوجده يتخطى حواجز الصدمة مثل الخيل الجامح قافزًا بأقصى تهوره ثم اصطدم به يفرض هيبته الطاغية وهو يسحبه من عنقه ضاغطًا عليه بقوةٍ حتى أقتربت منه زوجته صارخةً وهي تتولى مهمة إبعاد فيما هتف إيهاب ما بعثر الثبات وأدخل الشتات بقولهِ: بما إنك دكر أوي وفاتح صدرك كدا في وشنا، أنا كمان هوريك الرجولة عاملة إزاي وهعلمك على أيد المعلم زي ما بيقولوا، تفتكر أنتَ اللي قتل أبوه وعاش حياته عادي، هيعز عليه يقتل واحد زيك أمه عالمة من عوالم الغجر؟
أنهى حديثه لتزداد الغيامة في عينيه والقوة في قبضتيه وقد تلاشي السمع عن أذنيه بعدما وقع أسيرًا صراعٍ بين الماضي والحاضر حيثما أزهق روح أبيه والآن يُكررها مع غريمه والهدف فقط الثأر لأجل طفولته المهدورة حتى أعاده لرشده صوت إسماعيل الذي وبالرغم من آلام جسده الذي أنهش عظامه إلا أنه نجح في أن يُصبح حائلًا بين الجسدين ووقف يلهث بأنفاسٍ مُتقطعة فيما هتف إيهاب الذي أمسكه نَعيم يسيطر عليه: أقسم بالله لو ما خرجت من هنا بكيفك لأخليك دواسة في الأرض الجزم تفعصها وهقتلك، هقتلك زي ما قتلت مرة وعادي أكررها اتنين وتلاتة طالما المقتول زيك كدا يبقى يستاهل إني أجيب رقبته تحت رجلي.
زادت حدة النظرات بين الجميع وقد ترك سامي المُحيط لهم وقبل أن يُجليه منه ألتفت له لهم يُطلق تهديده الأخير هاتفًا بنزقٍ:
أنا لو ابني مجاش لحد عندي متزعلوش مني.
أنهى تهديده ورحل ليعم الصمت في المكان من بعدهِ وكأنه أتى مثل الأمطار الإعصارية تقتلع الأشجار وتنشر الدمار، تشبه تلك التي تأتي فجأةً مُحملة بغياهب السحاب المُظلمة ومعها الرياح ويرافقها الأتربة، ومن بعدها تختفي شمس الربيع، وتظهر الغيوم المُظلمة، وقد وقف إيهاب بينهم يكره نفسه حتى وصل لمرحلة العجز عن رفع عينيه لمواجهة البقية، وقد تحرك هو الآخر يهرب منهم، أو هكذا ظن أنه يهرب من عدوٍ، لكنه لم يعلم أن العدو يسكنه ويعيش في جوفهِ، هذا المُدعى إيهاب كُلما حاول أن ينجو بنفسهِ في عالمٍ هاديءٍ ذكرته الدنيا أنه كان ولازال إيهاب ومن الجميع يُهاب.
في قاموس الأغبياء فاقد الشيء لن يُعطيه، وفي قاموس الضعفاء من فقد شيئًا إذا وجده يحسب نفسه هو الأحق بِه، وفي قاموس الرُحماء وهم قلة قليلة فاقد الشيء هو أحق من يُعطيه لأنه أكثر الناس درايةً بحاجة الآخرين إليه.
في حارة العطار تحديدًا وسط اليوم قُبيل الغروب.
خرج يوسف من غرفة الرعاية التي أجلسته بها والدته فرضًا وإجبارًا وهي تهتم بِه بعدما بدل ثيابه وقبل خروجه من الشقة أوقفته أمه بقولها ملهوفةً عليه:
رايح فين يا حبيب عيوني؟ أنتَ لسه تعبان.
ألتفت لها يبتسم بقلة حيلة وهتف مُرغمًا على الحديث أمام خوفها وقلقها عليه بتلك الطريقة التي تسرق لُبه:.
أنا مش بتاع قاعدة وأنتِ عارفة، وسامع كلامك من الصبح وعمال آكل وأشرب ووضعي كدا غلط مش هينفع أوصفه، بس هنزل أتمشى علشان وعدت أيوب هروحله ونشرب عصير مع بعض، مش هتأخر والله، حضري الغدا لحد ما أجيلك.
أومأت له موافقةً فيما أقترب هو منها يضمها بين ذراعيهِ ثم مسح على ظهرها ورأسها وهتف بصوتٍ مخلمي ودافيء:
ربنا يزودلي عمري ويبارك في عمرك علشان أعيش معاكِ قد اللي فاتني، عن إذنك ووعد مش هتأخر عنك، سلام.
لا يعلم لما اليوم يشعر بطاقة حُبٍ نحو الجميع، يغدو كما الطفل الذي حصل على إذنٍ بالبقاء في الشارع بين الصبية عشية العيد يقضي الليل ساهرًا بملابسه الجديدة ومعه لعبته المفضلة وجيبه الممتليء بالنقود الجديدة حادة الطرف في شاكلة العيدية واليوم تبدو مدينته هادئة على عكس اهتياجها عليه، وقد تحرك نحو الأعلى لسطح البيت ليجد ضالته جالسةً بجوار القطط تضع لهم الطعام فاقترب يجلس على عاقبيه فابتسمت له بعينيها وكأن المدينة أعلنت الأضواء ورفعت الظلام فيما هتف هو بنفس الهدوء:.
لو كل مرة معاكِ همشي ورا إحساسي أكيد هييجي يوم وهبطل أسمع لأي صوت تاني جوايا.
ابتسمت عهد وهتفت بنبرةٍ عميقة ودافئة تشبه الهدوء المقتبس منه هو:
يا رب يا سيدي هو أنا أكره يعني؟ أنا قولت أطلع آكلهم قبل ما أروح الشغل دي أرواح برضه وهتحاسب عليها، و وعد كتر خيرها عمالة تجمع فيهم حواليها وخلاص عرفوا إن راحتهم هنا، بقيت أحس بالمسئولية ناحيتهم، أنتَ بقى طلعت ليه وأنتَ تعبان لسه؟
حرك كتفيهِ وهو يبتسم لها بحيرةٍ وحقًا هو لم يعلم لما صعد لهُنا لكنه أنصاع لصوتٍ مُبهمٍ بداخلهِ أوصله لعندها وقد مد كفيه يمسك هِرَّة صغيرة من وسط البقية ثم مسح على بطنها فحركت هي رأسها نحو كفه تمسح عليه؛ فقالت عهد بنبرةٍ أقرب للضحك تمازحه:.
عارف؟ كان حلم حياتي وأنا صغيرة إني أفتح سوبر ماركت كبير ويكون عندي بيت صغير زي بيوت الكارتون وبيطل على جنينة واسعة ويكون عندي مطبخ باصص على الزرع والشمس وأقف أعمل كيك ومخبوزات، وكل القطط تكون صحابي، حققت نص الأحلام ولسه الباقي بس علشان كدا بحب القطط تحديدًا وأنا في سنة خامسة، أنتَ بقى إيه أحلامك مع القطط؟
سألته وهي تطالعه مُبتمسة العينين والشفتين فيما رفع عينيه نحوها وابتسم ساخرًا بوجعٍ طفق يظهر في عينيهِ:
وأنا في سنة خامسة تحديدًا كان حلمي أنام متعشي والله، بس من غير ما استنى بقى حد ينام وأقوم أدور على أكل، وكان نفسي يوسف تربية مصطفى ميضعش مني، شوفتي كانت أحلام أكبر مني إزاي؟
استشفت هي القهر في حديثه ونظراته وهو يهرب من نظراتها وقد حركت كفها يشق الطريق نحو كفه تمسكه ثم هتفت بصوتٍ تملئه العزيمة والقوة:
كانت أحلام واعية وعاقلة لطفل كبرته الأيام، ممكن يكون يوسف التاني ضاع منك بس لسه جواك، بعدين أنتَ نسخة من باباك، بشهادة العيلة كلها سواء مامتك أو أختك أو كلهم قالوا إنك نسخة تانية منه بس الحياة عدلت فيها شوية، بعدين متقلبهاش نكد، أنا مبسوطة النهاردة ورايقة.
طالعها بتعجبٍ بعض الشيء بسبب حديثها وذلك لأن حالته لم تختلف عن حالتها البتة، بل اليوم يشعر بالراحة وقد يكون السبب مجهولًا لكن يبدو أن أضواء عينيها أفترشت في أطراف المدينة ووصلت حتى أوسطها وحينها وقف هو وتحرك صوب اللوح الخشبي المُعلق ثم أمسك القلم يرجع لعادته القديمة معها حين كتب:
أخبروا المدينة أن تُطفيء أضوائها اليوم،
فلا حاجةٍ لها أمام لمعة أضواء عينيكِ.
كتبها راضيًا بوجهٍ مُبتسمٍ ثم أقترب منها يجلس على عاقبيه ولثم وجنتها في نفسها الحركة المُفضلة لديه معها لكن وبكل آسفٍ صدرت شهقة كبيرة من فم وعد التي صعدت لتوها ورآته يُلثم وجنتها وقد خجلت عهد من الموقف برمتهِ فيما حمحم هو بخشونةٍ وقبل أن يُبريء نفسه أمامها هتفت هي بنبرةٍ ضاحكة:
عادي عادي، مش أنتَ أتجوزتها؟ يبقى مش عيب.
أنهت جملتها بكل بساطةٍ وهي تضحك له وقد أقترب منها هو يحملها بين ذراعيه ثم أدارها وهو يمسكها بكفيه لتشبه العصفور الحُر في السماء ثم لثم وجنتها وهتف بحماسٍ طفولي:
علشان جدعنتك دي أنا هجيبلك كل حاجة حلوة.
صفقت هي بكفيها معًا فيما تركها هو ثم أعتدل في وقفته وأشار للأخرى بحديثه خفيةً مقتضيًا بمنطق الصغيرة:
أبقي أتعلمي من أختك يا عسولة.
رحل بعد جملته يترك المكان بينما هي فقد نفذ صبرها من وقاحته وقد قررت أن تنظر للوح المُعلق فرآت جملته المكتوبة لأجلها وقد تبسمت بعينيها ترفع الأضواء أكثر وقد تمنت أن يرى هو تلك الأضواء، وسرعان ما تذكرت أن سبب لمعة هذه الأضواء هو وليس غيره.
بعد مرور دقائق كان أيوب يجلس في حديقة البيت ويُنقيها بتلاوته للقرآن الكريم بصوته العذب وتلاوته الخاشعة على غرار تلاوة الشيخ محمد صديق المنشاوي، المكان كان يشبه قطعة من الجنة فوق الأرض؛ حيث صوت التلاوة الخاشعة والهدوء المحاوط للحديقة بعيدًا عن الضجيج في الخارج ورائحة الزرع الأخضر مع الزهور المُفعمة بالحياةِ ورائحة المياه موضع سقاية الزرع، وقد ولج يوسف في تلك اللحظة ووقف يشعر بالإنتشاء في أوردتهِ خاصةً مع صوت أيوب ووقوف بعض الطيور البيضاء على أغصان الأشجار الصغيرة وكأنها رُقعة سلامٍ وسط توبٍ من قماش الحرب.
أقترب منه وجلس مقابلًا له وما إن انتبه له أيوب أغلق دُفتي المُصحف وهو يذكر ربه سرًا أو رُبما يُغمغم بحديثٍ لم يلتقطه يوسف كعادته، بينما رحب به الآخر ثم عدلَّ ذراعه المُصاب في الحامل الطبي وحول نبرته للمزاح قائلًا:
دي الجنينة نورت بيك، مش كنت كملت جميلك وجيبت الحاجة الحلوة معاك بدل ما أنتَ داخل كدا أيد ورا وأيد قدام؟
ابتسم يوسف له ثم هتف بنبرةٍ ضاحكة يوضح له:.
ولا تزعل نفسك عندي أنا دي، بس هي نايمة علشان فضلت سهرانة جنبي طول الليل، صعبت عليا أصحيها قولت خليها نايمة أحسن، ولا أصحيها وأكبر للموضوع بتاعك؟
لاحظ أيوب حديثه الذي يخصها وكأنه يثبت صك ملكيته فيها فهتف بتهكمٍ هو الآخر وهو يحرك كتفيه:
طب وفيها إيه يعني؟ ما أختي فضلت طول الليل في حضني وبايتة جنبي، محدش أحسن من حد، أستناني هقوم أجيب اللمون علشان أشوف أنتَ عاوز إيه، عن إذنك.
تركه وولج للداخل وهي دقائق قليلة مرت عليه بمفردهِ تبعها عودة أيوب يمسك الزجاجتين فوق الحامل المعدني وجلس مُقابله يُعطيه العصير وهو يسأله عن سبب الزيارة فهتف الآخر بثباتٍ بعض الشيء يواري خلفه الحماس:
كل ما في الموضوع إني بكسر القواعد وبرجع في كلامي علشانك، معاك مُهلة شهر من دلوقتي وأختي تكون عندك هنا في بيتك وفرحكم يتم، وصدقني أنا دي هتبقى تاني مرة أغير رأيي في حاجة وأرجع في كلمتي والمرتين بسببك.
هتف كلمته وهو يُشير برأسهِ عليه فيما ذُهِلَّ أيوب وشكك في أمر الحديث وقد بدا كل ذلك واضحًا على ملامحهِ وهو يسأله بلمحة تعجبٍ:
أنتَ بتتكلم جد؟ مش قولت في نص السنة بعدها آجلتها وقولت لما نفوق لنفسنا شوية؟ إيه الحكاية؟ بعدين مش غيران على أختك ولا خايف عليها خلاص مني؟
في الأغلب كان يذكره بحديثه السابق وقد أبتسم له يوسف وهتف بصدقٍ وحبٍ له تلك تقريبًا هي المرة الأولى التي يتحدث فيها معه بتلك النبرة الأخوية:.
كنت! مابقيتش خلاص أنا لما جيت هنا كان السبب إني ألحق أعوض أي حاجة من اللي فاتتني من غيرهم، ألحق أتمتع بحضن أمي وأنتَ حاسس بكلامي يعني إيه واحد يتحرم من أمه، بس وعهد الله لما جيت هنا وعيشت معاهم أنا نسيت أصلًا حصلي إيه، وأختي مش هكدب عليك هي كل حاجة عندي، بس خلينا واقعيين أنا لو خايف عليها فعلًا، يبقى هخاف عليها من غيرك، ولو هي أختي فأنتَ أخويا ومتقلش غلاوة عنها عندي، ولا أنتَ بترجع في كلامك بقى؟
ضحك له أيوب وقد تأثر من حديث الآخر له فيما أقترب منه يوسف بالمقعد ثم هتف بصدقٍ أكبر من سالفه:
أنا لما مشيت ورجعت تاني قَمر قالتلي كل حاجة حصلت في غيابي وقالتلي كمان إنك مسيبتهاش ولا سيبت أمي في غيابي وفضلت تدور لحد ما عرفت مكاني، كل دا يخليني متأكد إنك لازم تكون معاهم، وتستاهل تفرح علشان للأسف أنا مبهدلك من ساعة ما ظهرت، أتمنى تكون مبسوط.
عانقه أيوب بذراعه الحُر وهتف بحبٍ وامتنانٍ له:.
مبسوط، مبسوط وفرحان بيك وإن ليا صاحب قلبه عليا وعاوز يفرحني زيك كدا، وفرحان إنك رغم كل حاجة بتفكر في غيرك لسه، ربنا يسعدك ويزيد إحساس فرحي دا في قلبك.
ربت يوسف على ظهرهِ في لحظة الصفاء التي قلما تتواجد بين الاثنين بكل تلك المشاعر وقد مسح الآخر فوق رأسهِ وهو يبتسم بسعادة سجينٍ أنفك عنه الأسر ونال الحرية بهواها وشمسها والسماء بقمرها، وآهٍ من هذا القمر، قَمرٌ فتن الزاهد، وسرق عنه لُبه، وسكن وتخلل في جُبه، واليوم وغدًا وحتى نهاية العُمر سيحكي العالم عن رجلٍ زهُدَّ العالم وتاب عن الهوى، ويوم أن أحب عشق القمر ولقى مصرعه أمامها وكأنها تقتل زُهده وكل ما عنه أنتوى.
في مشفى الأمراض العقلية.
جلس مُنذر بغرفة محمود يُتابع معه تطور الحالة حيث تحول من إنعدام الحديث إلى التغمغم بكلماتٍ مُبهمة من أحاديثٍ متفرقة غير مترابطةٍ جعلت الآخر يسحب مقعده ثم جلس بجوار فراشه وهتف بثباتٍ بعض الشيء:.
أنا مبسوط إنك على الأقل بقيت تتكلم، بس صدقني لازم تقولي أنا فيك إيه، محمود أنتَ عاقل وواعي وكل المؤشرات بتقول إنك سليم، يعني أنتَ بتمثل أو مستسلم وفي كلتا الحالتين هتضيع، هما لو آذوك فعلًا مرة، أنتَ بتأذي نفسك مليون مرة، مش عاوز تخرج من هنا؟
ازدرد الآخر لُعابه وهتف بصوتٍ متعب وثقيل كأنه يتحدث بالإجبار:.
عاوز إيه؟ أنا يا سيدي مجنون وابن مجانين، وعيل زبالة، وراجل علشان حبيتها ووثقت في أخويا، هخرج ماشي وأنا دلوقتي عاقل علشان واخد العلاج، خلي العلاج يطير كدا وأديني حريتي، هيحصل إيه؟ ولا أي حاجة، بلاش، خليني خلاص وافقتك وخرجت من هنا، أنا مش قدهم برة، مش قد نظرة إني مجنون في عينهم، لو أنا هنا بموت مرة واحدة في اليوم، برة هموت ألف مرة لما عيني تقابل عيونهم، أنا ماليش حاجة أخرج علشانها، أنا هنا مبسوط، أخرج بقى قبل ما الحالة تشتغل.
أولاه ظهره بعد جملته الأخيرة فيما شعر مُنذر بالإحباط تلك المرة، بعد مرور ما يقرب ثلاث أسابيع معه في جلسات نفسية وعصبية وعلاج سلوكي، وصل الأمر لهنا والأخير يعود لنفسها نقطة البداية وقد خرج مُنذر من الغرفة فوجد أمامه فُلة تتحدث منفعلة مع أحد الأطباء بالمشفى:.
يا دكتور أهم الحاجة الرأفة بالحالة، مش مهم إنك توصل للنتيجة الحتمية قد ما مهم إنك توصل معاه إنه يرتاح ويتطمن، حضرتك مصمم معاه على أسلوب القسوة وهو مازال بينتهج الأسلوب الهمجي لأنه فاكره دفاع عن النفس، دول حالات نفسية قبل ما تكون مَرضية، يعني المهم وجود الرحمة تجاههم، لآخر مرة هفكر حضرتك إن الأسلوب دا مش هينفع مع المرضى، أتفضل حضرتك.
أشارت له بالإنصراف فيما ركزت هي بعينيها على الطريق أمامها فوجدت مُنذر يقف في مواجهتها فابتسمت له بإقتضابٍ وهي تتذكر طريقته معها صباحًا وقد أقترب هو منها يسألها بثباتٍ:
بعد إذنك يا دكتور، محمود الألفي ليه مين غير أخوه وخالته وطليقته اللي أتجوزت أخوه؟ أو مين فيهم يخصه حالته أكتر من بينهم؟
أنتبهت له وهي تقول بحيرةٍ تجاوبه على سؤالهِ:.
مش عارفة الحقيقة لأن جواد هو اللي عارف الحالة بكل ملابساتها، ممكن حضرتك تيجي المكتب وتسأله هو هيفيدك، لو حضرتك فاضي دلوقتي يعني، حاليًا وقت استراحة.
حرك رأسه موافقًا لها ثم تبعها نحو مكتب أخيها وقد طرقت هي الباب ثم فتحته ليظهر له المنظر الذي جعله يبتسم بعينيهِ بحنينٍ فاض وقلبٍ بكى حيثُ وجد جواد يحمل صغيرته على أحد ذراعيه ويُطعمها بكفهِ الآخر الشطيرة التي يمسكها وهي تتدلل عليه فيما يُلح هو حتى أنتبه لهما فأنزلها تقف بجوارهِ يُرحب بضيفه الذي عاد أدراجه منتبهًا إليه وقد هتف الأول يخبر شقيقته بقولهِ:.
معلش يا فُلة خليها تكمل أكلها وأنا هقعد مع دكتور مُنذر شوية نتكلم مع بعض، أتفضل يا دكتور.
جلس مُنذر على مقعد المكتب وجلس الآخر بقربه فيما تولت هي مهمة التعامل مع الصغيرة، وقد بدأ الطبيب حديثه قائلًا:
أؤمر يا دكتور، أتمنى مايكونش فيه حاجة هنا مزعلاك أو متضايق، أنا المهم عندي راحة الشخص اللي قدامي حتى في المعاملة الشخصية، أنا سامعك.
ابتسم الآخر له بثباتٍ وهتف برزانةٍ بعض الشيء:.
إطلاقًا، أنا هنا مرتاح جدًا في كل حاجة وفي المكان وشايف إني بتعامل كويس والمكان كمان بيعاملني كويس أوي، أنا بس بسأل عن محمود الألفي المفروض إنه ليه مين يتولى أمره غير أخوه وخالته؟ مفيش حد تاني؟
هو للآسف فقد كل عيلته، يعني والدته وهو في ثانوي بعدها والده بعدما أتخرج من الجامعة وخالته هي اللي جابته هنا بس لأنها خافت عليه بعدما أخوه خد كل حاجة منه وخافت يترمي في الشارع، وكانت بنتها باين بتتردد على هنا وتطمن على حالته، بس لما يأست من تغيير الحالة أو تقريبًا كانت بتضايق من وضعه بطلت تيجي.
أومأ متفهمًا ثم تنهد بعمقٍ وحرك رأسه نحو الجالستين فوجدها تحمل الصغيرة على أحد فخذيها ويبدو أنها تسرد لها قصة أو ما شابه ذلك وهي تُطعمها فيما ضحكت الأخرى وهي تتناول طعامها وحينها أبتسم هو لهذا المظهر الممتليء بالحنين وقد تلاقت نظراته بنظرات فُلة التي رفعت رأسها بغير قصدٍ لتجده مُمعن النظر معهما وحينها أبعد هو عينيه ثم استأذن وترك المقر، الآن يضحك على نفسه ساخرًا حيث كُلما وجد طفلًا بجوار عائلته يتخيل نفسه موضعه، وتلك المرة تحديدًا يصعب عليه التخيل.
أنا المهزوم في حربٍ خسرتها طوال عمري،
وهذا لم يُحزنني، بل ما يُحزنني حقًا أن الهزيمة في كل مرةٍ سببها هو أنا، أنا المهزوم وأنا الحرب،
أنا الحرب القائمة بيني وبيني، بل أنا ساحة القتال بذاتها، والقاتل هو أنا، والمقتول أيضًا كان أنا.
نصف اليوم تقريبًا أنقضى عليه في تلك الساحة لكن الأمر الغريب أنه أمر بإطلاق سراح كافة الخيول وبالأخص الجامح منهم، القرار المتهور الذي أخذه غفلةً وقرر أن يُحاربهم عن طريق إخراج النيران من جوفه في أكثر الأشياء التي يُحبها لكنه الآن يستخدمها كعقابٍ لنفسه وهو يحاول مرارًا ومرارًا الركض بينهم حتى رغم إختلاف القوى بينهم، لكنه لازال يحاول، يحاول وهو يرى ومضات الماضي تقترب منه، وهدم المستقبل نصب عينيه، والمخاوف تمد كفيها فوق عنقه وتُضيق عليه الخِناق، ظل هكذا حتى ظهر له إسماعيل على الطرف الآخر من الساحة وأقترب منه بخطى متعرجة جعلت إيهاب يسبُ ويلعن نفسه حتى تلاشت المسافة بينهما وهتف شقيقه في وجههِ بصوتٍ عالٍ:.
هتموت نفسك! كل ما تغضب تيجي تجري وسطهم كأنك في حرب معاهم؟ وآخرتها إيه؟ بتهرب مني ليه يا إيهاب وأنا مش فارق معايا غيرك أنتَ في الدنيا دي، هتموت نفسك وهتعيش العمر كله بحزنك وتعبك دا، ولو دا حصل بجد يبقى أنا اللي المفروض أكره نفسي.
تنفس إيهاب بصوتٍ عالٍ وظل صدره يعلو ويهبط وحتى الآن لم يجد ما يتفوه به فيما رفع إسماعيل وجهه بكفه ثم سأله بصوتٍ متألم:
أنتَ قتلته بجد؟ عملت كدا يا إيهاب؟
لم يعلم أنه بذلك يضغط عليه ويحمله فوق طاقته وقد صرخ إيهاب في وجهه بإندفاعٍ عنيفٍ يُفجر البُركان الثائر في جوفهِ:.
أتنيلت على عيني أيوة، قتلته ومش زعلان ولا ندمان وحتى لو حصل إيه كنت هقتله تاني وتالت ورابع، قتلته ولو الزمن أتكرر تاني برضه كنت هقتله والمرة دي هكون قاصدها، ولو فيه حاجة واحدة بس عملتها عدلة في حياتي هتبقى قتلي ليه هو، قتلته ومعاه قتلت نفسي، طلعت غبي وأهطل، علشان هو مات مرة بس أنا بموت كل 100 مرة، هو مشي وسابلي الذنب في رقبتي، وأهو بكرة هبقى أب وكل يوم هنام وأنا خايف برضه، عرفت أنا بخاف ليه من العيال الصغيرة؟ علشان كلهم بيفكروني إني ولا يوم كنت عيل زيهم.
تألم وهو يخرج ما في جبعته أمام شقيقه وقد ضمه إسماعيل يضمه بكلا ذراعيهِ وقلبه ينتفض بين أضلعه خوفًا وحزنًا لأجل شقيقه، وقد بادل إيهاب العناق يتشبث به هاتفًا بضياعٍ:.
اليوم دا خطفك وكان منيمك في البيت اللي هنا في النزلة، كنت بلف عليك زي المجنون لحد ما عرفت وجريت عليك، ساعتها خدتك منه وأنا شايلك زي كل مرة بس ماكنتش عارف هروح فين، عارضني ووقف في وشي وساعتها زقيته بعزم ما فيا ووقع على قالب حجر ونزف ومات في ساعتها، ومحدش لحقني غير الحج اللي كتم على السر وساعتها قطع عهد قدامي وقدام ربنا إني دراعه اليمين وروحي كلها معاه هو أمين عليها، وإنه مستحيل يسيبني أدخل الأحداث أو سيرتي تيجي، وساعتها بكرم ربنا البيت وقع على كل اللي فيه وبقوا تحت الرُكام، وقلبي مات معاهم هناك، محياهوش غيرك أنتَ.
نزلت عبرات إسماعيل على وجههِ يشاركه الوجع فيما تنفس إيهاب بعمقٍ جاهد لكي يكون بكل هذا القدر ثم هتف بصوتٍ مُحشرجٍ:.
مش عاوزك تخاف مني، ولا عاوزك حتى تفكر في حاجة ولا تحسبها وتبعد عني، أنا هنا في الدنيا دي معرفش حد فيها، أعمي ماشي يخبط في الكل وأطرش مش سامع حد، وأنتَ عيني اللي بشوف بيها، أنا دلوقتي بس أرتاحت لما أنتَ عرفت، بس واللي خلق الخلق كلهم، أنا مش بالجحود دا، أنا كنت عيل ساعتها ومغلول منه بس والل.
قبل أن يكمل حديثه أبتعد عنه شقيقه وهتف بنبرةٍ مُتعبة:.
سيبك من كل حاجة واللي فات أرميه، أنا وأنتَ تعبنا في الدنيا دي أوي، شوفنا الذل والهم، بس قصاد كل دا كسبانين بعض ومفيش حاجة ممكن تخليني أخسرك غير إن الموت يدخل ويفرق بينَّا، علشان كدا ورب الكعبة أنا مش زعلان ولا متضايق ولا خايف، أنا قدامك صغير أوي وأنتَ كاتم في قلبك وساكت، وعلشان كدا دخلت السجن ورضيت بيه ولما جيتلك قولتلي يمكن تكون بتتعاقب على حاجة غلط عملتها ومدفعتش تمنها، سجنك كان تمن الغلطة دي؟
في نفس التوقيت بداخل البيت كان نَعيم جالسًا مع سمارة يقص عليها ما حدث وقتها وكيف قاوم هذا الصغير طغيان والده الفاسد، وأخبرها عن قسوة الليلة التي قُتِلَ هو فيها على يد والده، وليس العكس هو ما صار، وقد أنهى الحديث ثم أضاف بصوتٍ متعبٍ لأجل أبنه الرَوحي:.
شوفي يا بنتي، دا ماضي وفات خلاص، بس أقسملك بالله جوزك أرجل واحد تشوفيه في حياتك، جوزك راجل نزيه وحُر، خيل وفي عمره ما نخ لحد ولا قبل شُفعة ولا إكرامية، فحت في الصخر ونجى بأخوه من الطوفان، عمره ما قبل الحرام ولا رضي بالمعووج، ويوم ما حس بيكِ خد الطريق العدل بحلال ربنا، شوفي ناوية على إيه وأنا معاكِ، ومحدش هيقدر يجبرك على حاجة.
تلاقت النظرات ببعضها منه ومنه وفي ساحة الركض أيضًا تلاقت النظرات وقد نكس إيهاب رأسه وهو يوميء بها مؤكدًا وفي هذه اللحظة أتت سمارة نحوهما بوجهٍ شاحبٍ وملامح ذابلة وكأنها زهرة توقف راعيها عن سقيها، وقد لمحها إسماعيل آتيةً فأشار برأسهِ نحوها ليفهم الآخر ذلك وقد أنسحب إسماعيل من المحيط تزامنًا مع إقترابها من الآخر الذي أزدرد لُعابه بخوفٍ من إقترابها منه وهي تقف نصب عينيه ترفع رأسها شامخةً على خَيالها وقد فاجئته حينما فرقت ما بين ذراعيها وهتفت بنبرةٍ باكية:.
تعالى، تعالى يا سي إيهاب.
تهدج صوتها وهي تُناديه وتشير له بالإقتراب وقد أرتمي عليها يُعانقها بين ذراعيه وكأنه شريدٌ تغرب في شتى البُلدان عن موطنهِ الحبيب وأضحى أمر العودة شبه مُستحيلٍ، يُشبه النازح من أرضهِ هاربًا بجسدهِ فيما ظل الفؤاد محله، أمانه الآن بجوارها يُشبه الأمان ذاته عند فتح المعابر بين الحدود ليعود الشريد لموطنهِ الحبيب، والأمر ليس في أمر الفراق بل في الأمان، وأي أمانٍ يناله المرء بعيدًا عن الموطن الحبيب؟
الوقت دومًا يمر كلمح البصر برفقة من نُحب، فتمر السنون ثوانٍ، وتمر الساعات طرفة عينٍ، وتمر اللحظات المؤنسة مثل مرور المياه بين الأنامل، وهكذا هي حركة عقارب الساعة في هذا التوقيت المار عليهما سويًا
قضى مُحي يومه كاملًا برفقة شقيقه في وكالة العطار ولم يذهب لمحاضراتهِ الجامعية حتى أنه لم يكترث بأمر هاتفه الذي أخذ يصدح برقم الفتيات العديدات، لكنه قام بتقديس لحظاته بجوار شقيقه حتى سأله شقيقه بتعجب:.
ولا! أنتَ غفلتني ومروحتش الجامعة صح؟
كان مُقررًا قبل أن يسأل وقد أنتبه له شقيقه الذي حك فروة رأسه وهتف بسخريةٍ:
عاوزني أروح علشان محاضرتين لو بعت لواحدة صباح الخير هتيجي لحد عندي تشرحهم؟ بعدين أنا بحب أقعد معاك، ولا أروح الجامعة بقى وأشوف البنت هناك؟ مش كدا أحسن برضه؟
ضحك تَيام مُرغمًا على ذلك ثم تنهد مُطولًا وهتف بحزنٍ حينما تذكر موقف الأمس المار عليه مع مُنذر حينما ذهب إليه بعد الإقتحام الذي صدر في الحارة:.
أنا إمبارح روحت أشوف مُنذر بعد اللي حصل وأنتَ عرفته دا، بس للأسف مرضاش يخليني أهتم بيه، وقالي إني مش متعود حد يقرب منه، والغريب كمان إنه قالي أخليني بعيد عنه لو عاوز أكون في أمان، أنا مش فاهمه ومش فاهم ماله بس والله أنا عاوز أساعده، مش عاوزه يقفل على نفسه ويفضل لوحده، الواد مُحصن يخربيته.
ضحك له مُحي ثم أقترب منه يسأله هامسًا بخبثٍ:
تحب أبعتله واحدة تروق عليه؟
لطم تَيام جبهته بكفه يائسًا فيما كتم مُحي ضحكته وهتف من جديد بنفس الهمس وكأنه يُفشي أسرارًا دولية:
أسمع مني الواد دا محتاج حضن حنين، محتاج إيد تطبطب عليه وكتف يسند راسه، أنا بموع من الحاجات دي مش سكتي، وأنتَ حلو بس مش هتجيب سكة، الواد دا عاوز حد يحتويه، وأنا عندي مكان قديم هو اللي يحتويه بالجامد أوي.
أنتبه له تَيام وهو يسأله بلهفةٍ:
شقة دي يعني؟
مفروشة، شقة مفروشة.
هكذا عدل مُحي الحديث الصادر من شقيقه حتى أغمض تَيام عينيه وأطبق شفتيه فوق بعضهما وهتف بغيظٍ منه ومن وقاحته أو بالأحرى إنعدام أخلاقه:
أنا تعبتلك، ياض مش قولت بطلت السكك الهباب دي، شكلك عاوز تتروق من إيهاب بجد، آه لو عرف.
أبتسم مُحي بتهكمٍ وجاوبه متشدقًا بنزقٍ:.
آه لو عرف؟ عارف كل حاجة عني يا حبيبي حتى قعدتي معاك هنا عارف بيها، بس أنا بطلت أروح مش علشان إيهاب مانعني، أنا بطلت علشان أبوك كل ما يبصلي عينه بتقولها إني مش طايقني، بيشوف أخوه فيا، عمره ما قالها بس عينه كانت بتقولها وأهو يمكن بكرة أعقل وأبطل.
مد تَيام كفه يمسح على كتف شقيقه ثم هتف بنبرةٍ هادئة يُشدد من أزرهِ ويمسك بكفهِ:.
وأنا معاك أهو، والله أنا فرحان بيك إنك واحدة واحدة بطلت السِكة دي، ولسه هتبطل كل دا، بص أنا درست في الجريمة والعقاب في كلية الحقوق إن كل إنسان فينا عنده وازع الإجرام، وعنده محركات الخطورة بدليل جرايم القتل اللي بتحصل فجأة من غير حساب، المُحرك لكل دول الظروف، وأنا واثق إنك كنت تايه ومش لاقي الإهتمام اللي يخليك شخص حاسس بأهمية نفسه، بس دا كان قبل ظهوري، لأني كنت هموت ويطلع ليا أخ، وحظي إنك أخويا، والله أعلم فيه كام حد أحتواك.
غمز له مُحي بمشاكسةٍ وهتف يمازحه:
بتعرف تعد لحد كام؟
قبل أن يجاوبه قطع صوتٌ ما حوارهما سويًا وهو يُلقي التحية عليهما ولم يكن سوى مُنذر الذي أتى لابن عمه ووقق أمامه يهتف بآسفٍ طفيفٍ رغم محاولته لإخفاء ذلك:
أنا جيت أقولك متزعلش يعني من موقفي إمبارح، بس أنا كنت مخضوض ومشدود، بعدين أنا مش متعود إني أكون محور إهتمام حد، أعتبرني فقري بقى.
أقترب منه الآخر يقف في مقابلته وهتف بثباتٍ وشموخٍ وكأنه يتحدى الآخر:
وأنا مش فارق معايا أنتَ حاسبها إزاي بس اللي عليا هعمله حتى لو أنتَ رافض دا، أنتَ مش أحسن مني ولا أنتَ غريب، زي ما سعيت ودورت ترجع الحق لأصحابه يبقى رجعه كامل، والحق هيرجع كامل برجوعك لمكانك أنتَ كمان، وعلى فكرة أنا هنا علشان أنتَ هنا، مش همشي غير ورجلك على رجلي، وبراحتك، أنا نفسي طويل أوي.
رغم أن الحديث كونه وديًا إلا أن التحدي السافر ظهر بينهما وكأن كلاهما يعلن على الآخر قوته، رغم عدم التقارب بينهما وإختلاف طباعهما إلا أن كل الترابط يكمن بينهما، وقد تدخل مُحي بينهما يسأل الآخر بضجرٍ منه:
هو أنتَ ليه بتتعمد تعمل نفسك مش شايفني؟ المفروض إني ابن عمك أنا كمان، وبعدين إحنا شايلين همك وأنتَ مش سائل فينا! بلاش اللون دا معانا يا عمنا.
حرك مُنذر عينيه نحوه وهتف بثباتٍ تهكمي على ابن عمه العابث المُشاغب:
طب والله كويس إنك شوفتني، أنا قولت عينك مبتلقطش غير الحريم وبس، دا تطور حلو لحالتك فيه أمل تخف.
توسعت عينا مُحي بقوةٍ فيما ضحك تَيام بملء شدقيه وقبل أن يحدث أي تصادم بينهما تدخل يهتف بلهفةٍ:
طب بما إننا هنا مع بعض، يبقى نتغدى سوا وقبل ما تقفشوا في بعض، وأهو يبقى عيش وملح يمكن تصونوه لبعض، آمين؟
لاقى الصمت منهما فعلم أنها بوادر الموافقة لذا تنهد أخيرًا بعمقٍ ثم أخرج الهاتف يطلب الطعام آملًا في تكليل خطواته بالنجاح في الجمع بينهما وخاصةً ابن عمه الذي يحسب نفسه عنهم غريبًا.
تولي المُهمات الصعبة هي ما تجعل المرء دومًا في حالة شتاتٍ كمن وضع بين المطرقةِ والسندان، حيث تصبح المخاوف من أكثر إحاطةٍ به، والمخاطر أكبر، وعليه أن يتوخى الحذر كمن يسير في حقل الألغام، وقد وقف أيهم برفقة بيشوي يقوما بإسناد نادر ويضعاه فوق الفراش بعد العودة من جلسة العلاج الطبيعي فيما أقترب الممرض منهما يحصل على التعليمات منهما وحينها حذره أيهم بقولهِ:.
أهم حاجة يا عم عاشور الحركة وخلي بالك منه، الكُرسي أهو يتحرك بيه أفضل علشان ميحصلش أي ضرر، ولو محتاج حاجة كلمني أو كلم بيشوي، محتاج حاجة يا سيادة القبطان؟
سأله بلمحة سخرية جعلت الآخر يسأله بضجرٍ:
هي أمي هتيجي النهاردة؟
تدخل بيشوي يجاوبه بتهكمٍ ونفاذ صبرٍ:.
جاية، هتطمن إن العرة أبوك غار من البيت وهتيجي علشان للآسف ممكن يكون مراقبها، بعدين هي الأول بتروح حارة العطار ومن هناك بتيجي على هنا يعني بتاخد وقت شوية، عارف؟ أنا كنت ناوي أخليك برة الليلة دي، بس للآسف سامي مش مخلي وراه ورى، حرام تتداس أنتَ بسببه.
أغمض نادر عينيهِ ثم فتحهما بتروٍ وهتف بمللٍ من كثرة التراهات التي يهذون بها في نفس الحديث:.
لو معاك سلاح طلعوا وخلصني، صدقني أنا معنديش أي حاجة أبكي عليها، الصحة وراحت، الشغل اللي كنت بموت فيه وضاع، صحاب ومعنديش، مراتي وغالبًا أرتاحت من مسئوليتي وأبويا ومش فاضي غير للفلوس وبس، وأمي بدأت تفوق متأخر، تفتكر بقى دي حياة أحزن عليها؟ صدقني لو ناوي تقتلني أعملها وأخلص علشان كدا هتكون رحمتني من اللي أنا فيه.
تبادلا الرفيقان النظرات سويًا وقد تنهد نادر بثقلٍ يخرج الهموم الجاثمة فوق صدرهِ والآن فقط يتمنى لو يزوره الموت ويأخذه من بين الجميع، ليس ندمًا على شيءٍ لكن كرهًا في كل شيءٍ.
في منطقةٍ من المناطق الراقية الخاصة بعلية القوم.
كانت شهد في شقتها تجلس فوق الفراش ووالدتها بجوارها تمسح على رأسها وهي تقول بنبرةٍ ناعمة مخملية:.
كدا برضه تقلقيني عليكِ؟ دا أنا لما عرفت كنت هروح فيها يا روح مامي، عارفة إنك زعلانة بس بكرة تحملي تاني وتجيبي غيره، بعدين مش قولتي إن الدكتورة قالت إنه كان خارج الرحم ولازم ينزل خلاص متزعليش كأنه محصلش أصلًا، و ياريت نادر ميعرفش علشان ميزعلش أكتر، يارب بس يظهر ويقول هو فين.
أومأت لها بشرودٍ فضمتها والدتها تمسح على خصلاتها السوداء المُسترسلة بينما الأخرى فكان كل شاغلها وتفكيرها ينصب على ما فعلت وماهي هي مُقدمة عليه، وعليه يتوجب أن تحسب حساب أقل خطوة صغيرة تصدر عنها لعل الأمور تُكلل بالنجاح وتنقلب لصالحها، وقد أختارت الكذب على الجميع حتى ترى ما هو قادم عليها لكن الخطر الأكبر حاليًا هي نور تلك التي تعلم مصدر نيران الحقيقة ومن المؤكد ستحرقها تلك النيران.
في مقر شركة الراوي.
بدأ العمل يأخذ محمل الجد بشكلٍ أكبر حيث الإعداد والتجهز للمعرض المُقام بمدينة شرم الشيخ وقد كان عُدي كما الإنسان الآلي يعمل بكل كدٍ وجهدٍ حتى يُحقق النتيجة المطلوبة فيما غرقت رهف في شرودها وحيرة أمرها، الخاص به هو، حيث كانت تفتش طوال اليوم بداخلها عن ذكرياتها مع حمزة رحمه الله، وقد زالت جميع الذكريات عن رأسها وكأنه أراد حتى أن يمحي الذكريات من خُلدها.
جلست أمام النيل ليلًا تستنشق الهواء البارد وقد لاح في أفق عقلها ذكرى قديمة جمعتها بفقيدها، وقد أنتفض قلبها مثل جسدٍ مسته الكهرباء، حيث كانت تجلس على شاطيء النيل وهو بجوارها وبجوارهما الدراجتين الهوائتين في منطقة الزمالك وقد طلب لها ذاك المشروب المصري الخاص بالأيام الشتوية حمص الشام وحينها هتفت هي بضجرٍ له:.
أنا مش بحب حمص الشام، بتحبه على إيه بقى؟ ما تيجي نشرب قهوة يا حمزة البتاع دا طعمه مش حلو مش عارفة ليه، بعدين أنا غلطانة إني قولتلك ننزل نتمشى؟ بعد كدا هنزل لوحدي رغم إني مبعرفش.
حينها طالعها هو ضاحكًا ثم هتف بصوتٍ هاديءٍ:.
ياستي حبيه وخلاص، بعدين لازم فعلًا تتعودي تكوني لوحدك، لأن الإنسان مؤكد إن هييجي وقت عليه يكون في لوحده ويمر بتجارب خاصة بيه، يمكن وجودي معاكِ مخليكِ مش حاسة بحاجة من دي، بس غيابي هيعرفك، المهم يعني لو حصل ومش مكتوبلي أكون جبنك لنهاية الطريق، متكمليهوش لوحدك، لأن جايز تقبلي وحدته دي في الأول إنما في نصه أو آخره هيبقى صعب تكمليه، يمكن أسافر برة وآخد فرصة جديدة علشانك، وساعتها أو في أي وقت بلاش تكوني لوحدك، وأنتِ بالذات خسارة تكوني لوحدك، لازملك حد معاكِ وساعتها هو الكسبان.
خرجت رهف من شرودها على صوت عُدي يزاحم ذكرياتها كما أمسى يُزاحم على حاضرها ومستقبلها وقد هتف هو بنبرةٍ مُنهكة:
خلصت الحمدلله أخيرًا، الشغل المرة دي كان كتير متعب ومراجعات كتير أوي بس عدت، شكرًا لتشجيعك وكلامك، مهون تعب الرحلة الفردية، وحكمتك دايمًا في محلها.
حركت رأسها مومئةً له وقد تلاقت نظراتها بنظراتهِ فابتسم هو بعينيه ولحقتهما شفتاه فيما أرتدت هي نظارتها الطبية وقد أتى صوت عاصم من قربهما وهو يقول بثباتٍ يوجه حديثه للآخر:
واضح جهدك أوي ومجهودك، وأنا دايمًا بحترم المُكافح زيك كدا، بس برضه متنساش إن ليك دور محدود هنا رغم إني شايفك بتتخطاه بس مش مهم، طالما في مصلحة المكان والشركة خلاص، أتمنى تاخد بالك.
هتف حديثه وقبل أن يخطو خطوة واحدة أوقفه عُدي بقوله الذي أنبثق منه الشر والغل الدفين الذي يحمله في قلبه:.
براحتك أنا مش مهتم برأيك لأني واثق في شغلي ومجهودي ومش كل الناس عندها سلام نفسي تتقبل نتيجة جهد غيرها، بعدين أنا صاحب مكان ودي شركة أخويا ويحق ليا إني أكون هنا وأعمل اللي أنا عاوزه، بعدين متنساش إني ليا تار عندك مش هسيبه، حق أبويا وعمتي واللي حصل مش هسكت عليه، بس الفرق إني بدرس صح علشان لما أمد أيدي وآخد الحق آخده كامل.
ابتسم عاصم له ثم أقترب منه ومسح على كتفهِ حينما تشدق بنزقٍ مُريب من نظراته القاتمة:
إن شاء الله، وماله.
أنهى جملته وألتفت يوليه ظهره ليتصادم بالغريم الأصعب في وجهه وقد هتف يوسف بثباتٍ كعادته أمام عدوه الخبيث:.
هيشاء، ربنا هيشاء والحق يرجع لأصحابه، إن شاء الله حتى بعد 100 سنة هيرجع، وأنتَ بقى كوش وعبي براحتك بس متنساش إني هنا وهفضل هنا، يوسف الراوي وبالمسمى الصحيح أنا اللي هسيقكم المر، بس أفوقلكم شوية، رَيح بقى، ولا أقولك؟ أصحى وفوق قبل ما تاخد على عينيك.
في قديم الزمان صدق من قال واثق الخُطى يمشي ملكًا، وهو يشبه الملوك في قوتهم، والفُرسان في عزتهم، يبدو كما الوحوش في حدتهم ورغم ذلك لازال كما الأطفال في برائتهم، واليوم تُضاف صفة جديدة لقاموسه وهي صفة التخطيط، حيث العقل المُدبر والذراع القوي، والجاذبية الفارضة فوق أرضٍ يملؤها الجُبناء.
لقد سمع دومًا عن رجلٍ صعد للقمر،
لكنه لم يعلم أنه يومًا سيحب القمر، ليغدو مجنونًا في الأعين وهو يسهر طوال الليل يبتغي السهر، ولكن ما رفع من مقدار الجنون وتخطى حد التعقل لديه هو أن القمر ترك موضعه ونزل لأجلهِ
جلس أيوب في غرفته يتحدث مع زوجته التي هتفت بحنقٍ ناقمةً على فعل شقيقها:.
سابني نايمة وجالك؟ أنتوا إيه حكايتكم، أكونش أنا الطرف التالت في العلاقة دي؟ عرفني بس لا أكون متقلة عليكم، بعدين هو جاي من عندك رايق ليه ومبسوط؟ بتشربه إيه أنتَ يا شيخنا؟
ضحك على طريقتها في التحدث ثم وقف وهو يغلق سحاب سترته السوداء الرياضية سويت شيرت وجاوبها ساخرًا وهو يستعد للخروج من غرفته:.
والله بشربه لمون بالنعناع، بعدين هو قالي هيعرفك مبسوط ليه يرضيكي أخون الأمانة يا قمر؟ دا أنا راجل محيلتيش غير السمعة الطيبة، فاكرة يا أخت السمعة الطيبة لما جيت أتقدملك؟ عيطتي ونكدتي علينا، بدأتي بدري أوي.
رفعت حاجبيها ثم هتفت بسخريةٍ كونه لم يُفصح لها عن حديث شقيقها ولازال يخفي السر عنها:.
ولسه هنكد تاني يا مطروف العين، علشان تخبي عليا كويس وتسمع كلامه ومخليني الفضول بياكل فيا، عن إذنك هروح أصلي، أبقى زود لمون بالنعناع بقى وأكتم كويس على السر، سلام.
أغلقت الهاتف فيما ضحك هو يائسًا ثم ترك غرفته ونزل منها للأسفل حيث التجمع العائلي فوجدهم يلتفون حول المائدة وجلس هو بجوار والده الذي أبتسم له وقد قام أيهم بالإقتراب من زوجته يهمس لها بقولهِ:.
ما تفكي وشك شوية كدا؟ كل دا علشان هزرت وقولت متجوز عليكِ؟ أومال لما أقولك معايا منها هناء و شيرين هتعملي إيه؟
كتمت ضحكتها وطالعته بحاجبٍ مرفوعٍ فيما غمز هو لها وقبل أن يستمر في المشاكسات هتفت آيات بنبرةٍ ضاحكة تشاكس بها الصغير:
بس بجد الناس دي ربنا نجدهم من إيد إياد تخيلوا كان هيشوح ليهم بأيديه الأتنين ويقول جماعة كدا عيب ميصحش؟ شوفت إفترا إبنك يا أيهم؟
أرتسمت الضحكة على الوجوه وقد جاوبها والد الصغير بسخريةٍ مرحة قائلًا:
يا ستار يا رب! وليه العنف دا؟ أكيد هيموتوا فيها دي، من الضحك طبعًا، يلا يا أهطل جتك خيبة.
تدخل أيوب يهتف بنبرةٍ ضاحكة هو الآخر:
بس الشهادة لله الواد عامل مجهود والصرف باين، دا هيشوح بأيديه الاتنين، يعني مش باقي على الدنيا خلاص.
من جديد يرتفع صوت الضحكات حتى رمقهم إياد بسخريةٍ وهو يقلد طريقتهم حتى تدخل عبدالقادر يهتف بنبرةٍ جامدة يحذرهم من التمادي قائلًا:
بس منك ليها! قولتلكم مهما يعمل محدش يتريق عليه، هو حر وبراحته ويعمل اللي عاوزه إن شاء الله يكسر البيت دا، وعلى الله حد فيكم يتريق عليه تاني.
أنهى حديثه لهم ثم ألتفت لحفيده يهتف له بنفس الجدية:.
وأنتَ، قولتلك 100 مرة لما تلاقيهم بيحلووا عليك كدا، متسكتش ليهم علشان التلاتة يموتوا في التريقة وأولهم أبوك الكبير بتاعهم دا، خد حقك منهم.
لاحظ الصغير جديته فسأله بحنقٍ مُضجرًا:
آخد حقي إزاي بس يا جدو؟
جاوبه بنبرةٍ زاحمتها الضحكة المكتومة حين هتف يجاوبه:
شوح ليهم بإيديك الاتنين وعرفهم أنتَ مين.
شهق إياد مدهوشًا فيما صدح صوت ضحكاتهم للمرة الرابعة تقريبًا يتشاركون المزاح على أصغر أفراد العائلة، وقد صدح صوت جرس الباب فتحركت وداد مُدبرة البيت تقوم بفتحه فوجدت رجال الشرطة أمامها ورئيسهم يتحدث بوقارٍ:
الحج عبدالقادر بكر العطار موجود؟
حركت رأسها موافقةً وقد تلاشى الحديث عن طرفها وأتى المذكور وخلفه أبنائه يهتف بثباتٍ:
أيوة يا فندم خير؟ فيه حاجة؟
رفع الآخر رأسه يطالعه وألقى القنبلة الجديدة عليه هاتفًا:
متقدم في حضرتك بلاغ بخطف نادر سامي السيد من والده المدعو سامي السيد وآسف يا حج حضرتك مطلوب للتحقيق.
المصائب في قاموسهم لا تأتِ فُرادة، بل تنهال عليهم كما الجسد كله واحد، إذا تأذى منه عضو تألمت بقية الأعضاء، لكن ماذا إذا كان العضو المتأذي هو العضو الرئيسي في الجسد؟ بالطبع ستتوقف بقية الأعضاء، وقبل ذلك تذكر أن ثمن العودة دومًا يُكلف أكثر من ثمن التحكرك.