قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية غوثهم يا صبر أيوب ج1 للكاتبة شمس محمد الفصل التاسع والسبعون

رواية غوثهم يا صبر أيوب ج1 للكاتبة شمس محمد الفصل التاسع والسبعون

رواية غوثهم يا صبر أيوب ج1 للكاتبة شمس محمد الفصل التاسع والسبعون

يا شيخة تعبتي أمي، وقطعتي نفسي.
هتفها تَيام وهي بين ذراعيه يُشدد ضمته لها فيما خجلت هي وسكتت عن الحديث وأرادت البكاء من فرط الخجل، هذا الغبي لم يدرك بعد أنها لأول مرة تتعامل مع أحد الرجال خارج بيتها؟ لذا تركته ووقفت خلف نِهال تحتمي فيها بخجلٍ تأجج مثل النيران في وجهها فيما هتفت الأخرى بنبرةٍ ضاحكة للاخر:
معلش بنتنا خجولة حبتين تلاتة كدا.

ضحك تَيام لها ثم خرج من جديد يقف مع البقية في الخارج وفي هذه اللحظة توقفت سيارة أمام هذا الحشد لينزل منها سامي الذي ابتسم بسخريةٍ وهو يقول:
مش معقول؟ أنا توقعت برضه إني آجي ألاقي حبايب كتير هنا بس لدرجة عبدالقادر العطار و نعيم الحُصري مع بعض؟ دي غريبة بصراحة، ابني فين بقى؟

توقف أمامهم بتأهبٍ وكأنه يستعد للهجوم عليهم بينما حاوطته نظرات الاستنكار وبشدةٍ بالغة وعلى نقيضها كانت نظرات أيوب و يوسف له، البرود الذي يشبه الصقيع مُغلف بطبقة ثلجية أتت من عينيهما الزجاجية التي خَوت نظراتها، أما هو فوقف أمام الاثنين يهتف بنبرةٍ هادرة من بين أسنانه:
فين ابني يالا منك ليه؟
نظرا لبعضهما بعضًا بنظرة غامضة تبعها عودة يوسف للنظر في وجه سامي وهو يقول بنفس البرود الذي ازدادت درجته:.

عند أمك، روح شوفه هناك.
عبارته جعلت الأنظار بأكملها تتبعه هو وفقط بينما سامي أقترب منه أكثر وهو يهدده بصراحةٍ أمام الجميع دون أن يكترث به أو بهم حتى:
متخلينيش أزعلك وأنتَ فاهم هزعلك إزاي قدام الكل، ابني فين ولأخر مرة هكلمك بالأدب، نادر مش ظاهر من امبارح ولو أنتَ السبب أنا مش هسيبك.

تلاشى البرود عن ملامحهِ وظهرت مكانها عبارات أخرى أُرتسِمت على وجههِ وهو يحاول الثبات قدر الإمكان وقد نجح في ذلك حينما هتف بنبرةٍ قوية لم تنفك عنها الثقة:
لسه غبي زي ما أنتَ، علشان لو تعرفني كويس هتعرف إني مبتهددش بأي حاجة، واللي يهددني بحاجة بعملها أنا، فشوف بتهدد بإيه وخليني أنا أتعامل أحسن، غِيره بقى؟

حسنًا كعادته برع في رسم البرود والشجاعة كما اعتاد مؤخرًا أمام أفراد هذه العائلة البغيضة، أجاد رد الصفعات له مما جعل الأخر يطالع وجه أيوب وهو يقول بتهديدٍ صريح:
ابني فين يا أيوب؟ كلامك معايا أنا مش مع ابني.
حرك عبدالقادر حينها عينيه نحو الأخر يرمقه باشمئزازٍ فيما هتف أيوب بهدوء نسبي بالغ الأثر عليه بطريقةٍ ملحوظة:.

والله أنا ميشرفنيش الكلام لا معاك ولا مع ابنك حتى، هو كل واحد ابنه بيغضب عليه بييجي هنا؟ ماتشوف تربيتك الأول قبل ما تيجي تبوظ فرحة الناس! روح ياعم ربنا يسهلك.
كاد أن يتحدث من جديد لكن أيهم دلف يحول بينه وبين الأخريْن وهو يقول بنبرةٍ جامدة تنذر بشرٍ قاتمٍ شارف على القدوم لا محالة في ذلك:.

مبتسمعش الكلام ليه؟ ما قالك شوف حالك وأمشي، وآخر مرة لما تتكلم معاهم تتكلم بأدب بدل ما أوريك قلة الأدب شكلها إزاي، ولو على ابنك فهو مش عندنا، روح شوفه في أنهي داهية وتاني مرة تدخل بأدبك هنا.
عاد سامي خطوة واحدة للخلف يُراقب الوضع بعينيه وهو يدرسه بكامل تركيزه، من المؤكد أن قمة الغباء تَكمُن في إدعاء القوة أمام هذا الجيش العتيق في قوتهِ، لذا حرك رأسه نحو يوسف و أيوب معًا يهددهما بقولهِ:.

لو أنتوا اللي ورا أي حاجة هتحصل لأبني أنا هكتب نهايتكم بأيدي، وابقوا وروني نَعيم و عبدالقادر هينفعوكوا إزاي بعد كدا.
كاد أن يرد نَعيم عليه ويهينه لكن كف إيهاب منعه وأشار له نفيًا برأسهِ حتى لا يفعل ذلك ويذهب معه في الطريق الذي أراده، فيما عاد البرود يرتسم على ملامح يوسف وهتف باستمتاعٍ جليٍ لرؤيته الذُعر باديًا في نظرات سامي:
وماله؛ بس أبقى هات قلم خطه حلو بقى.

وقف سامي أمامه للحظةٍ واحدة فقط ثم فتح باب سيارته وولجها مُباشرةً دون أي حديثٍ أخر وقد حقًا تيقن أن قوته أو تجبره وحدهما لم يبلغا ولو نقطة واحدة أمام هذا الحشد، لا يهم إن كان ابنه معهم أم لا بقدر ما يكره أن تكون الهزيمة نفسها على أيديهم هم فقط، كرهه لهم ينبع من ماضٍ تخلله الحقد وسكنته الكراهية وتوغل بأنسجتهِ الغِل الدفين ليكره حتى مجرد البسمة في وجوههم، لا بأس من المؤكد سيتصرف معهم وسيكون هو الرابح، فإذا كان جيش العدو عُرِفَ بالقوة؛ من المؤكد أن جيش الغريم يتصف بالذكاء.

لحظة واحدة مرت على تحركه تبعها حديث عبدالقادر يُعاتب يوسف بقولهِ أمام الجميع بنبرةٍ جامدة بعدما أعتلى الضيق ملامحه:
أدينا سكتنا وخرسنا خالص، والبيه واقف يهدد فيكم عيني عينك ورغم إن محدش يقدر يرفع عينه في عيل من عيالي ودا واقف يهدد اتنين مش واحد، إيه اللي ناوي تعمله بقى؟ ومتقوليش أنا فاهم كويس، علشان جملتك دي بتعصبني.

ضحك يوسف رغمًا عنه بيأسٍ ثم أقترب منه يحدثه بنبرةٍ هادئة تبدلت كُليًا عن السابق وكأنه تبدل بأخرٍ غيره:
طب يعني لو مصطفى عمل كدا كنت هتزعل برضه؟
فهم عبدالقادر إن الأخر يتلاعب به ويضغط على الوتر الأكثر حساسية بداخلهِ لذا رفع كفه يصفعه بخفةٍ وهو يمازحه أمام الجميع تزامنًا مع عباراته اليائسة:
ياض تعبتني، أهمد بقى.

انتشرت ضحكات خافتة عليهما فيما تحدث أيوب بنبرةٍ عالية بعض الشيء يوجه حديثه لمن يقفون معهم وقد صبغ حديثه الحماس الذي رافقته السعادة:
طب إيه؟ هننكد على نفسنا يعني؟ يلا علشان نروح البيت نكمل يومنا، يلا يا جماعة عقبالكم كلكم يا رب.

تحركت على إثر حديثه السيارات خلف بعضها نحو بيت عبدالقادر الذي تم تحضيره سابقًا لأجل هذه المناسبة كما أنه قام بذبح ماشية وأمر بتوزيع الطعام على ساكني الحارة والمساجد، كما قام بتجهيز المندرة داخل بيتهِ لإطعام ضيوفه معًا، فرحته كانت غامرة ورآها الجميع على وجههِ وعلى تصرفاته في الترحيب بهم.

انتشرت السيارات تطلق الأبواق العالية وصولًا إلى البيت خلف العروسين ومنها يبدأ الإحتفال الكبير في منزل آل العطار في ليلةٍ انتظرها الجميع للحصول عليها.

ثمل، مُهمل، مُشعث.

صفات كريهة حملها شخصٌ واحدٌ فقط يستلقى على الفراش بجسدٍ مُنهكٍ وهو يحاول الخروج من ألم رأسه الذي أسقط الألم على عينيه وأثقل حركتهما وحركة جفونه لكي تنفتح وتظهر من أسفلها مُقلتاه، لم يعلم أين هو ولما رأسه ثقيلة بهذه الطريقة وكأنه تحمل بداخلها الملح من ثقلها، نجح أخيرًا في تفريق الجفون عن بعضها ليصرخ بتلقائية حينما استشعر ألم منطقة الجبين متأوهًا بنبرةٍ مكتومة ثم أعتدل بنصف جسده على الفراش يمسك رأسه براحتيهِ.

ثواني قليلة فقط هي التي مرت عليه وتبعها استيعابه لما حوله وازداد إدراكه للوضع وحينها انتفض خارج الفراش يتفحص هذه الغُرفة التي وُجِدَ بداخلها وأول ما تحرك نحوه كان باب الغرفة وهو يحاول فتحه لكنه وجده موصدًا من الخارج وبعد محاولات عنيفة منه قرر أن يعود مُتقهقرًا إلى طرف الفراش يُلقي بجسدهِ عليه وحينها وقع بصره على ورقة بيضاء وُجدَت على الجارور بجوار الفراش فأخذها بأنامل مرتخية كسائر جسده ليقرأ ما بها:.

صباح الخير أو مساء الخير على حسب ما تتهبب وتفوق من اللي أنتَ فيه، المفتاح تحت مخدتك تفتح الأوضة وتخرج منها هتلاقي هدوم برة تتنيل تلبسها وأكل تطفحه، وبعدها تتلقح لحد ما أجيلك، وتليفونك على الشاحن برة، دي أول مرة أحط ثقة فيك، خليك راجل مرة واحدة واثبتلي إنك مش عيل يا ابن سامي.

كانت الرسالة متروكة له من يوسف وبالطبع الأخر منذ بداية الكلمات وهو علم هوية الراسل لذا زفر بقوةٍ قبل أن يقع بصره من جديد على الامضاء المتروكة بنهاية الورقة من الجهة اليُسرى:
حبيبك عيونك: الباشمهندس يوسف الراوي.

كور نادر الورقة في كفه وألقاها على طول ذراعهِ بعيدًا عنه ثم خطف المفتاح من أسفل الوسادة بحركاتٍ عنيفة ثم خرج من الغرفةِ مثل الأسد الجريح حينما يُحبس رغمًا عنه وعن أنف قوته وقد أقترب من باب الشقة يفتحها لكي يخرج منها فوجد الرسالة الثانية مفداها:
عرفت إنك عيل وعمرك ما هتبقى راجل حد يثق فيه؟ المفتاح متلقح عندك، أفتح الباب وغور في داهية بس أبقى أعدل نفسك قبل ما تمشي، متعرناش.

تخبط نادر لوهلةٍ ووقف حائرًا خائر القوى وكأنه كما يُقال وُضِعَ بين نارين كلاهما أشد حرارةً من الأخرى، فإذا أختار واحدة وترك الأخرى الحروق ستصيبه لا محالة من ذلك، عليه فقط أن يختار بين الاثنين، إما خروجه من هُنا وإما بقائه في طريقٍ مجهول.

شدد يده فوق خصلات رأسه وما جال في ذهنهِ حينها هو مظهر والده وهو يصفعه فوق وجههِ بقسوةٍ دون أن يُلقي بالًا لمشاعره، هل يظنه إنسانًا آليًا يخلو من المشاعر التي تتولد عن قلبٍ يشعر بكل شيءٍ؟ لذا عاد للخلف بظهره يتابع الباب والمفتاح الذي يجاوره ثم التفت برأسه ليجد ملابس بيتية خاصة ب يوسف وبجوارها الطعام فوق الطاولة المُلاصقة للأريكة، حتمًا غريمه يتفنن في اللعب على أوتارهِ لذا استسلم نادر أخيرًا وحمل الثياب ثم دلف المرحاض يتحمم لعله يخرج من حالة السُكر وأثرها عليه.

ساعة تقريبًا مرت عليه في المرحاض تبعها خروجه بدقائق نحو الطعام وقد شعر بالجوع بعدما شارف على يومٍ كاملٍ دون تناول الطعام، وما إن أقترب يتفحص ما وُجدَ على الصينية المعدنية حينها وجد معها أيضًا عقارًا طبيًا ومسكنًا لألام الرأس، وحينها وجد ورقة أخرى جعتله يضحك بيأسٍ:
شكلك هتطلع راجل مش عيل، أقعد أطفح اللقمة وخُد المُسكن لحد ما أجيلك ولو عاوز تمشي غور عادي بس أنا مش هدخل كباريهات تاني أجيبك منها.

مسح وجهه بكلا كفيهِ ثم بدأ في تناول الطعام وأخذ الأدوية المتروكة له وقد لاحظ الهاتف الموضوع في مقبس الكهرباء وحينها ظل محله فوق المقعد الخشبي ينتظر قدوم الأخر كمن يجلس في إنتظار حكم البراءة برغم عدم ثقته في رقة قلب السجَّان؛ لكن لا شك أنه برغم طبيعة غبائه وحكمه في الأمور نبع من ذلك ذكائه.

في بعض الأحيان يقود الشغف المرء إلى طرقاتٍ تُلهب حماسه أكثر أو ربما تقضي عليه، ولا شك أن العزيمة حينما تتطلب التحرك يقودها حماسٌ يوصلها في النهاية لما تُريد، وهاهي هذه الشخصية الفضولية تقودها أكبر طاقة حماس عُرفت في التاريخ، لذا قامت بالدخول لمكتب شقيقها الذي جلس أمام الحاسوب الخاص به فيما حملت هي الطعام لهما والشاي أيضًا ثم هتفت بنبرةٍ هادئة:
مش هتاكل يا جواد؟

رفع عينيه نحوها أسفل نظارته الطبية المُربعة وهتف بنبرةٍ هادئة ظهر بها الإنهاك إثر جلوسه بهذه الطريقة:
جيتي في وقتك، تعالي.
أقتربت منه تضع الصينية فوق المكتب ثم سحبت المقعد تجاوره بحركاتٍ سريعة جعلته يمسك كفها وهو يقول بنبرةٍ محذرة كونه مُحبًا أو ربما عاشقًا للهدوء:
قولت 100 بالراحة محدش بيجري وراكِ.

حركت رأسها موافقةً بضحكةٍ مكتومة ثم بدأت في فرغ الطعام في الصحون لهما ليتناولا الطعام سويًا في هدوء من جهته وتخطيط من جهتها ثم قالت بنبرةٍ حماسية بعد انتهائهما:
عاوزة أسألك عن حاجة، بس تجاوبني.
حرك عينيه نحوها وكأنها سرقت اهتمامه لها هي لتقول بنبرةٍ هادئة تحاول من خلالها سرقة ما تريد:.

هو يوسف الراوي عنده إيه؟ من غير ما تتعصب أنا الملف بتاعه وقع في أيدي صدفة، ولاحظت إنك حاطط حاجات كتير أوي لدرجة خلتني مش مستوعبة أي حاجة خالص، إيه اللي عنده تحديدًا وأرجوك ريح فضولي.
زفر بقوةٍ ثم هتف بنبرةٍ هادئة تخللها اليأس:.

قال يعني لو مقولتش هتسكتي؟ بس هجاوبك أنا، يوسف مش هقدر أنا أجزم تفصيلًا عنده إيه لأن اللي هو بيعاني منه عبارة عن مجموعة اضطرابات نفسية مع بعض، صوته الداخلي بقى ليه سلطة مع الوقت أكبر منه هو ذات نفسه، عنده شوية أعراض نفسية زي اضطراب الشخصية الحدية وزي اضطراب ذو الاتجاهين وزي اضطراب الاكتئاب الحاد اللي شبه ثنائي القطب وغيره وغيره، كل دا يوسف عانى منه لدرجة كبيرة بسبب الظروف اللي عاش فيها حصله زي تضارب جواه.

عقدت ملامحها كُليًا وكأن الحديث بدا مُبهمًا لها وليس في مجال عملها ودراستها وقد قرأ شقيقها كل ذلك لذا أضاف من جديد مُفسرًا بتوضيح أكثر:.

يعني الفكرة إنه في الأول عاش مع أب ممتاز كل غرضه أنه يكون عيلة جميلة بدل عيلته المؤذية اللي عاش وسطهم فزرع في ابنه قيم وأخلاق تخليه شخص مثالي، لما يوسف اتصدم في وفاة عيلته مكانش متخيل إنه يعيش المعاناة دي في بيت الراوي طفل زيه أتربى كويس جدًا أخلاقه للأسف مساعدتش في إنقاذه، بل بالعكس كانت سبب دمار ليه لدرجة أنه كان بينام من غير أكل، لما عاش وسطهم في ظلم وقسوة مقدرش يعمل حاجة تحميه منهم، بس لما أخد رد فعل شوية كانت النتيجة أنهم سابوه في الأحداث لحد ما جه نَعيم ولحقه، وهنا بقى الكارثة ظهرت.

استطاع بحديثهِ أن يسرق انتباهها له وهي تركز عينيها عليه في إنتظار التكملة، ليضيف متابعًا بنفس الأسلوب المُيسر:.

ساعتها راح نزلة السمان وهناك كان مجبر ينسى كل حاجة اتعلمها، ينسى حتى أخلاقه اللي أتربى عليها وينسى نفسه، وهناك كان إيهاب أول واحد يأثر فيه ويعلمه إزاي يحمي نفسه بدراعه وإزاي اللي يبصله بعين يقفله الاتنين، فبدأ يتولد يوسف جديد جواه، يوسف عنيد وقوي وصعب، وقصاده يوسف الصغير اللي أتربى على أيد مصطفى هنا بدأت النزاع يكون جواه، مين فيهم الصح ومين الغلط وبدأت زي صوت الضمير كدا، لحد بعدها ما أتولد يوسف تالت كمان جواه بقى عبارة شخصية كبيرة قوية معاه فلوس واللي للأسف هي مصدر قوة كبير، وحب يثبت للكل أنه مبيمشيش بدماغ حد، وساعتها برضه المشاكل بدأت تظهر وكبرت عند ظهور شهد اللي أصلًا كانت عاملة صراع جواه مخلياه يتحدى نفسه وخسر قدام الاتنين التانيين.

ظهرت الشفقة على ملامح فُلة بمجرد الاستماع للحديث عن البطل الأسطوري الذي عرف بقوتهِ فيما أضاف شقيقها متابعًا:
الفكرة بقى إن هو نفسه بيعاند نفسه وفيهم، الصوت بقى يوصل معاه لدرجة الخناق كأن اتنين بيضربوا بعض، واحد يقاوح والتاني يعاند والتالت ساكت والرابع شمتان، هو بقى من جواه طفل صغير لسه، بس عنيد أوي.
انتبهت هي لتوها لحديث شقيقها وسألته بلهفةٍ:.

طب وأنتَ ليه مساعدتهوش؟ طالما عارف كل دا؟ يعني كدكتور نفسي ممتاز واستشاري في علم النفس والاضطرابات النفسية وكيفية التعامل إزاي متساعدهوش؟
ابتسم رغمًا عنه وأخفض رأسه يحركها يُمنةً ويسرى بمعنى لا فائدة ثم أعاد بصره إليها من جديد ولازال مُحافظًا على بسمته:.

ومين قالك إني شيلت أيدي عنه؟ بعدين تفتكري واحد زي دا يقدر يسمع كلام حد؟ مستحيل طبعًا، ولو مش واخدة بالك لما كان عاوز يقتل سامي ساعة أخر مرة كان فيها هنا، جه علشان عارف إن علاجه غضبه هنا، عارف إنه هيلاقي الحل هنا وهيلاقي اللي يهديه هنا، بس عناده أكبر من كل دا، وقبل ما تسألي عناده في إيه إنه يتعالج بسبب خوفه من الضعف، خايف يثبت لنفسه إن العيلة اللي كرهته هي نفسها العيلة اللي خليته مريض نفسي محتاج مساعدة حد، الفكرة نفسها في طريقة حياته، بس لحد دلوقتي أنا نجحت كوني لسه مأثر عليه، والحقيقة الأصعب إن محدش يقدر يلوم عليه، دا واحد عاش وسط غُربة كانت بتاكل فيه.

ضيقت جفونها بسؤالٍ غير منطوقٍ جعله يقول متابعًا ومفسرًا سبب حديثه:.

الفكرة فيه كشخص مبيسمعش كلام حد هي إنه يسمع كلامي أنا، وغير كدا فكرة الشغبطة والرسم وإنه يخرج الطاقة اللي جواه دي أنا تعبت لحد ما أقنعته بيها، بس دا في حد ذاته نجاح، يوسف دلوقتي ممكن في أي وقت يخرج غضبه بأي شكل غير أنه ينتقم لأنه لو حصل وسلم نفسه لصوت واحد من اللي جواه هينتهي الموضوع بموته أو موت حد على أيده، حاليًا بقى فيه يوسف جديد خالص ظهر مشوفتوش غير لما حب عهد، كلامه عنها وطريقة حبه ليها كافية إنها تخليه يعمل أي حاجة علشانها، بدليل أنه ضد فكرة العلاج النفسي وعاوز يجيبها هنا، فأنا علشان كدا مستني أشوف يوسف هيعمل إيه، بس مش اللي أنا عارفهم، أنا مستني يوسف اللي حب عهد.

ابتسمت هي له بحماسٍ ثم هتفت بتحدٍ هي الأخرى:
وأنا برضه مستنية، بس مستنية عهد اللي هتغير يوسف وصدقني الاتنين هيشدوا إيد بعض، فيه جملة قبل كدا كتبتها ملخص لحالة قابلتها في المستشفى ودلوقتي نفس الجملة لايقة على الاتنين وهي بتقول:
بعض الجروح حينما تكون فُرادة تؤلم صاحبها، لكن عند وضعها بجوار جراح رُفقاء الروح يتلاشى أثر ألمها ويُزال أيضًا ألم جراح الرُفقاء وكأن الجروح للجروح كانت دواءًا.

أنهت حديثها وهو يرمقها مُتسائلًا ليجدها تضيف بنفس الحماس الذي غلفه الإصرار النابع من عزيمتها القوية:
يعني جروح عهد مع جروح يوسف كل واحد فيهم لوحده هيحس بالوجع لكن لما يكونوا مع بعض كل واحد فيهم هينسى جرحه ويفتكر جرح التاني، ساعتها الجرح بتاع الناس التانية بيكون دوا يخلي الإنسان يهتم بجرح غيره، ودا اللي هيخلي الاتنين يساعدوا بعض.

ابتسم لها جواد وهتف بنبرةٍ ضاحكة يثير من خلالها استفزازها ويبعثر بها ثباتها:
أما نشوف، ورينا شطارتك بقى، مع أني أشك.

انتفضت فجأةً تمسك عنقه بين كفيها وهي تمازحه حتى ضحك رغمًا عنه وأجبرته على الإعتراف بمهارتها في الطب النفسي ولم ينكر هو هذا، لقد تم وضعها مع أصعب الحالات وأخطرها وحينها أثبتت براعتها وكم جهدها المَبذول في هذا المجال لينعكس على من هُم حولها، وهاهي يقودها شغفها تجاه أصعب الحالات من جديد لتخوض التحدي بكل براعة تُجيدها هي.

ثلاثة يتوجب عليك الحفاظ عليهم؛
صديق وفي يُنصفك أمام العالم، قلبٌ يحب قلبك بكل صدقٍ دون أي مقابل، الفرح إذا دلف دارك يزروك.
وهاهي محاولة التمسك بالفرح في بيت العطار الذي امتلأ بالناسِ بكل الأجناس يقدمون المُباركات ل عبدالقادر وأبنائه بعقد قران كريمته، هذه النجمة التي يعرفها الجميع ويسمع عنها الآن تتزوج من أكثر الصبية مشاغبةً في الحارةِ بأكملها.

تم وضع طاولة كبيرة الحجم ممتلئة بالطعام الشهي وترأسها نَعيم وبجواره الشباب على يمينه يجلس إيهاب وعلى يساره يجلس تَيام وفي المقدمة الأخرى يجلس عبدالقادر وهو يشير لضيوفه بتناول الطعام حتى هتف تَيام بتعجبٍ:
هو أنا مش هاكل مع مراتي؟ أنا بتكروت بقى!
انتشرت الضحكات عليه وكذلك نَعيم الذي هتف بنبرةٍ هادئة بعض الشيء تتخللها ضحكاته:
تصدق صح، لو منك أقوم أمشي.
حرك تَيام رأسه نحوه وهتف يعاتبه بقولهِ:.

مش أنتَ كبيري؟ أقف في صفي بقى، أيوب عمل إشهار في المسجد والحارة كلها عرفت خلاص، متبوظوش مخططاتي لو سمحتوا.
ابتسم له نَعيم ثم ربت على كفهِ تلقائيًا وهو ينصاع لحديثهِ قائلًا:
محدش هيبوظ حاجة، أنتَ العريس وحقك تفرح الليلة دي، معلش بقى يا عبدالقادر عندي أنا دي وأعتبرني أبو نسب، خلي الراجل ياكل مع عروسته.
ضحك تَيام بسعادةٍ بالغة جعلت عبدالقادر يضحك له ثم هتف بنبرةٍ هادئة يُذعن للأخر بقولهِ:.

ودا شرف ليا والله، حاضر بس ياكل حاجة خفيفة معانا ويروح يكمل مع عروسته، كدا كدا مش هناكل حقه يعني، وأنتَ يالا! اللي هيرحمك مني الحج نَعيم أبقى هاته معاك بعد كدا علشان غير كدا هاكلك أنا.

انتشرت الضحكات من جديد وبدأوا في تناول الطعام معًا الذي أشرف أيوب على وضعه أمامهم واهتمامه بضيوفهم وقد صنع هو الطعام في الأواني الفُخارية بنفسهِ كما وعد شقيقته، وحينما جاور نَعيم واقفًا وضع أمامه الإناء الفخاري ثم هتف بنبرةٍ هادئة:
الطاجن دا باللي جواه عمايل أيديا، دوق وقولي رأيك.

ابتسم له نَعيم وحرك رأسه موافقًا فيما تابعهما مُنذر بعينيه مُبتسمًا، الاثنان معًا يبدوان كأنهما صديقان مقربان وقد لفت نظره تواجد تَيام الذي كان يطالعهما بنظرة غريبة كأنه وسطهما غريبًا، وحينها تحدث تَيام بنبرةٍ حانقة قبل أن يفوت الوقت:
بقولك إيه؟ ماتروح تاكل أنتَ وتسيب كبيري آكله أنا علشان بعدها أروح آكل مع مراتي؟ عاوز ألحقه قبل ما يمشي.

من جديد انتشرت الضحكات عليه وشاركهم أيوب تناول الطعام حينما جاور يوسف الذي كان يجلس في انتظاره لكي يبدأ تناول الطعام ثم مال عليه يهتف بنبرةٍ خافتة:
هتاكل ولا لسه زعلان من إمبارح؟
نظر له أيوب بطرف عينه وهتف بنبرةٍ هادئة:
لو تعرفني هتعرف إني مبزعلش من حد.

ابتسم له يوسف ثم مد ملعقته في صحن أيوب يأكل منه وما إن طالعه الأخر حينها غمز يوسف يراوغه كعادته ليضحك أيوب رغمًا عنه ثم خطف قطعة اللحم الموجودة أمام يوسف ومال عليه يهتف بشقاوةٍ مرحة:
شوفلك غيرها يا عسل.

في الطابق العلوي كانت جلسة الفتيات على النقيض تمامًا، جلسة صاخبة بالمزاح والغناء والرقصات بين الفتيات وبين بعضهن، كانت آيات محور الجلسة والأنظار تتوجه نحوها خاصةً حينما بدلت فستانها بأخرٍ يلتصق على جسدها بعض الشيء وفردت خصلاتها الطويلة كعروسٍ تجلس وسط صديقاتها.

كانت جنة حاضرة هذا الحفل باعتبارها صديقة قديمة ل آيات وحينها كانت ترتدي ملابس عادية غير الشرعية التي كانت ترتديها، يشبه الأمر كأنها تاهت من نفسها لمجرد علاقة واحدة صنعتها في مُخيلتها حينما عاونها القلب ودق لمن لم يرغبها، رغمًا عنها كانت تتابع قمر التي تجلس بجوار آيات ورغمًا عنها أيضًا ابتسمت وهي تراها فتاة رقيقة وبريئة ولم تكن مثلما تخيلت هي.

لاحظت قمر نظراتها نحوها فتحركت من محلها تسألها بمرحٍ حينما جلست بجوارها:
هاخدهم إمتى بقى؟
عقدت جنة مابين حاجبيها تلقائيًا لتقول الأخرى بنبرةٍ ضاحكة تقصد بها تفسير جملتها التي هتفتها:
قصدي الصور، مش أنتِ مركزة معايا وبتصوريني بعينيكِ؟ أنا عارفاكِ على فكرة، اتقابلنا مرة في شارع المعز، بس غالبًا كدا أنتَ متكبرة وعاملة نفسك مش عرفاني، بس مش مهم نبدأ تاني أنا قمر مرات أيوب.

للحق هي تتعامل بطبيعتها وتلقائيتها لكن في هذه الحالة أي شخصٍ قد يظنها تقصد توصيل رسالة مُعينة بالرغم من عدم وجود أي نية لها في ذلك، وقد ابتسمت لها جنة وهي تقول بنبرةٍ هادئة:
وأنا عرفاكِ، بس محبتش أضايقك.
ضحكت لها قمر ثم سحبتها من كفها تقربها من جلسة الفتيات وهي تقول بنبرةٍ ضاحكة:
وأنتِ قاعدة لوحدك ليه؟ أقعدي معانا أحسن.

دفعتها بخفةٍ تجلس وسطهن لتبتسم الأخرى بتوترٍ من آيات التي تعرف مشاعرها تجاه شقيقها لكنها أخفت هذه النظرة وهي تبتسم لها ثم ربتت على ظهرها بهدوءها المعتاد مع الجميع لتشعر الأخرى بمدى حقارتها مقارنةً بهذه الملاك، فحتى وإن كانت تشبهها خارجيا إلا أنها لم تصل لمرحلة آيات التي تربت على كف أيوب.

مرت ساعة تقريبًا أخرى.
تحرك بعدها عبدالقادر نحو غرفته يجلس على الفراش بعدما انحنى بجسده للأمام في وضع التعب أو ربما الوحدة، حينها مد كفه أسفل الوسادة يخرج صورة زوجته رُقية وما إن أخرج الصورة ابتسم بعينيه وترقرق بهما الدمع وهو يقول بنبرةٍ يصعب تحملها على سامعيه:.

آيات كبرت يا رِقة وبقت عروسة زي القمر، ملاك في الفستان الأبيض، كان نفسي تكوني معاها وتشوفيها بنفسك عاملة إزاي، الحمدلله اطمنت عليها مع واحد لا يمكن يحب غيرها ولا حتى يهون عليه زعلها، أتمنى أكون قد الأمانة اللي سيبتيها وحافظت عليهم، وأتمنى برضه أشوفك قريب، أبقى تعالي في الحلم أنا مش بعيد عنك.

نزلت دموعه من عينيهِ شوقًا وألمًا على فُقدانها ثم استغفر ربه حتى لا يكون معترضًا على أمرهِ ومشيئته ثم هتف بنبرةٍ مختنقة:
أنا عارف إنك مش بعيد عني، أنتِ ساكناني ويمكن دا اللي مخليني متونس في غيابك، إنك جنبي ومعايا، كدا فاضل بس أدخلهم بيوتهم وأتطمن على أيوب وبعدها كل الدنيا تهون، أشوفك في الجنة يا جنة الأيام.

أعاد الصورة لموضعها من جديد ثم استعاد ثباته وحالته القوية ورسم البسمة من جديد على وجههِ ثم خرج من غرفته لضيوفه مرة أخرى يرحب بهم وقد بدأ التوافد يزداد أكثر وأكثر على البيت.
في الأعلى تحديدًا في الطابق الأول بالبيت.

كان تَيام جالسًا في انتظارها بتوترٍ، هذه هي المرة الأولى التي يجتمع فيها معها أخيرًا من الإنتظار، لقد شارف على فقد الأمل في قدوم هذا اليوم لكنه لم يكن مستحيلًا، وإذا كان مستحيلًا في فكرهِ، فالخالق أرحم من أن يترك الأمل بداخل قلبه دون الاستجابة لدعائهِ، اليوم يطول نجوم السماء ويلتقط أجملهم بين راحتيه، وها هي تطل النجمة عليه لتضيف الوهج لأيامهِ وهي تطل عليه بخمارها الأبيض ووجهها المبتسم له.

وقف تلقائيًا أمامها يراقبها بشغفٍ وقد انفرجت شفتاه ببسمةٍ جعلته يضحك رغمًا عنه وهو يسألها بمعاتبةٍ:
إيه يا آيات؟ هتحسي بيا إمتى؟
توترت هي وخجلت منه وكادت أن تتركه فوجدته يمسك مرفقها وهو يقول بنبرةٍ هادئة حتى لا يزداد خوفها منه بعدما لاحظ هو انفعالات جسدها وحركة كفيها:
أنا مش عاوز أخوفك مني، أنا بس عاوز أقولك حاجة مهمة وبعدها همشي والله، بس المهم واثقة فيا صح؟

حركت رأسها موافقةً فوجدته يقترب منها ثم لثم جبينها قُبلة مطولة جعلتها تشعر بالخدر تلقائيًا، حقًا ما يفعله أكثر من قدرة استيعابها، بينما هو أبتعد عنها وهتف بنبرةٍ هادئة مخمولة بنبرةٍ صادقة أخرجها القلب من داخل ثناياه:.

أنا عاوز أقولك إن نجوم السما كانت في خيالي أقرب ليا منك، كل حاجة كانت بتقول إنك بعيدة عني، حتى لما حد قبلي ياخدك أنا ساعتها فقدت الأمل إني ممكن أكون معاكِ، بس والله حاجة جوايا قالت إنك مني وليا، حاجة قالت إن القلب اللي بيدق لما يشوفك دا مش عادي، قلبي بيدق بسببك أنتِ، أنا مش عاوز غيرك أنتِ من الدنيا كلها، ومش شايف غيرك في الدنيا كلها يا آيات مش عاوز منك أي حاجة غير إنك تكوني معايا بس، أنا شايفك بيتي ومش عاوز أتشرد من غيرك.

نزلت دموعها وابتسمت رغمًا عنها من بين عبراتها المُنسابة بفرحةٍ وحينما تبدلت ملامحه للقلق عند بكائها وجدها تسأله بنبرةٍ ضاحكة من بين دموعها:
شوفت بقى حلاوة الخطوبة الشرعية؟ إني أحس بحلاوة الموقف دا وأصدق كل كلمة قولتها ليا علشان خارجة من قلبك من غير ما تغضب ربنا علينا، شكرًا إنك كنت قد كلمتك وحافظت على وعدك معايا وشكرًا إنك نصفتني قدام نفسي.

ابتسم هو بسعادةٍ ثم خطفها بين ذراعيه ووضع رأسها على صدرهِ ثم هتف بنبرةٍ هادئة ظهرت فيها راحته الكلية بهذا الموقف:
لا شكر على واجب، خليكِ في حضني كدا.
ابتسمت هي بخجلٍ واستمعت لضربات قلبه العنيفة التي تضرب أسفل أذنها كأنه يؤكد صدق حديثه الذي تفوه به فيما رفع هو ذراعه يربت على ظهرها ثم أخفض رأسه يقترب من أذنها وهتف بنبرةٍ هادئة رخيمة بهذه الكلمة لمرته الأولى:.

آيات أنا بحبك، وشكرًا علشان لو فيه حاجة حلوة قلبي عملها في حياته هي إنه يوم ما حب حد حبك أنتِ، وشكرًا إنك وافقتي تكملي معايا طريقي وأوعدك إني أحطك في عيني، النهاردة أنا عاهدت ربنا أحافظ عليكِ ووعدت عيلتك إنك مكانك محفوظ، متخافيش مني علشان والله أنا ماعنديش غيرك في الدنيا دي أعتبرها كل الدنيا.
ضحكت هي ورفعت رأسها له حينما لمعت عيناها من جديد ببريقٍ يشبهها تمامًا حينما تُشابه نجوم السماء:.

هو أنتَ كلامك حلو كدا ليه النهاردة؟ على العموم أنا في الفترة اللي فاتت دي حسيت بمشاعر ناحيتك، حسيت أكتر من مرة إنك الشخص اللي اتمنيته من ربنا، وطلبت منه ينور بصيرتي ويوم ما حسيت بحاجة كانت حُبك يا تَيام.
اتسعت عيناه من جديد بصدمةٍ وكادت أن ترحل لكنها وجدت نفسها بين ذراعيهِ من جديد بعدما عانقها هو وكأنه يجبر عقله على استيعاب ما يحدث أمامه، وكأن الواقع فاق الخيال والأحلام ليرسم الصورة ببراعةٍ أكبر.

استمر البحث عن نادر من زوجتهِ وعائلته وكأن العجز كان حليفًا لهم حيث انتهى الأمر مع استحالة الحصول عليه، حينها بدأ قلب فاتن يتأكلها عليه وكذلك شاهي التي باتت كل محاولاتها تبوء بالفشل في الحصول على زوجها وقد هتف عاصم بنبرةٍ جامدة يسأل الأخر:
متأكد إنك دورت في كل مكان؟ الواد راح فين يعني؟
تحدث سامي بانفعالٍ في وجهه:.

ماقولت دورت عليه وملقيتهوش، هعمل إيه يعني؟ بعدين روحت حارة الزفت لقيتهم في فرح هناك ومعاهم الواد ابن أخو نَعيم، المشكلة أنه يكون عمل في نفسه حاجة، نادر متهور وممكن في زعله يبوظ الدنيا كلها.
كانت مادلين تراقب وضعهم بفتورٍ وفقط كانت تشارك فاتن ببعض المواساة وكأنها فشلت في رسم دور القلق وقد لاحظت شاهي ذلك لذا أمعنت النظر في وجهها وهي تقول بنبرةٍ جامدة هجومية:.

أكيد أنتِ عارفة هو فين، ماهو مش معقول يوسف هيخبي عنك حاجة يعني، بس ياريت تقدري الوضع اللي إحنا فيه دا وتقولي فين مكانه، ياستي اعتبريه أخوكِ الصغير.
رفعت مادلين حاجبيها وحركت عينيها نحو زوجها ثم هتفت بثباتٍ كعادتها دون أن يُرمش لها جفنٌ:.

والله معرفش ليه بتتكلمي كأني سفاحة هنا، على العموم أنا مش هرد عليكِ بطريقتك، أنا هقولك إن دا أثر الصدمة وفعلًا بكلم يوسف بس بخصوص الشغل وبس لأني مش هضحي بفلوسنا علشان اعتبارات عائلية، اتعودي تكوني ذكية وتفصلي بين عواطفك وبين شغلك، لأن محدش عاقل بيخلط الأمور ببعضها، دا أحسنلك.

تحركت شاهي من أمامهم بحركاتٍ عنيفة وكأنها تتشاجر مع الأرض أسفلها ثم دلفت غرفتها تبكي دون سببٍ يذكر، هل من المعقول أنها تخشى على زوجها؟ ولما لا؟ هو زوجها والأيام التي قضتها معه كانت كفيلة بأن تجعلها تشعر تجاهه بمشاعر أخرى، أين هو وماذا حدث له؟ خفق قلبها من جديد بخوفٍ ثم سحبت هاتفها تطلب رقم يوسف وما إن وصلها الرد منه هتفت بنبرةٍ باكية:.

لو سمحت يا يوسف فين جوزي؟ لو تعرف مكانه قول هو فين علشان خاطر عمتك حتى، بلاش تنتقم مني أو منهم فيه، فين نادر؟
هتف هو بنبرةٍ باردة لا يُبالي بها:
والله أنتِ حرة، أنا عن نفسي ماعرفش هو فين لو أنتِ عارفة مكانه روحي دوري عليه، دا أولًا يعني، ثانيًا بقى أنتِ مين علشان انتقم منك؟ لتالت مرة هقولك متحطيش نفسك في مكانة أنا مش حاطك فيها.
حسنًا لقد استفزها كعادته حتى صرخت فيه بقولها:.

أومال تفسر بإيه إن جوزي مختفي ومش لقياه، تفسر بإيه إنك أكيد السبب ومتقنعينش إنك مش مركز معانا، أكيد مركز ومستني الفرصة علشان تاخد حقك، بس مش من نادر.
ابتسم بتهكمٍ وأصدر صوتًا من حلقهِ يَنم على هذا التهكم ثم هتف بنبرةٍ هادئة يثير استفزازها أكثر:
فرق النظر دا غريب جدًا؛
يعني ممكن تكون أنتَ شايفني مركز معاك في حين أني مش شايفك أصلًا.

أنهى جملته ثم أغلق الهاتف في وجهها ليرفع مقدار الغيظ بداخلها، حسنًا قد يكون هو متهورًا لكنها لن تقبل بالفشل أمامه، لن تسمح له أن ينتصر عليها في أخذ ما يُريد، لذا ألقت الهاتف على الفراش بغيظٍ تفاقم عن المعقول ثم دارت في الغرفة ذهابًا وإيابًا عدة مرات تحاول الوصول لطريقةٍ ترد بها حقها لها من جديد.

بدأ الختام الليلي لانتهاء هذا الاحتفال.
بدأ الهدوء يزداد نسبيًا وبدأت الأقدام تقل عن زيارة البيت، وتجهز نَعيم للرحيل بالشباب ولأول مرة يكره العودة إلى بيتهِ دون أي سببٍ يُدعى لذلك، لذا أشار ل إيهاب الذي فهم عليه وقد تجهز سراج و مُحي أيضًا معه واختفى عن الأنظار إسماعيل.

في مكانٍ أخرٍ وقف إسماعيل ينتظر نزولها حتى مرت أمامه في حديقة البيت فتحرك قلبه الساذج بنفس الحركة التي تجعله على يقينٍ أنه حينما تحرك، تحرك فقط لأجلها ولذلك وقف محله ينتظر اقترابها منه، وبالرغم من ذلك لم يُخفى عنه تبدلها وكأن الخوف أصر على مرافقتها، لا بأس يكفيه فقط أن يراها ولذلك وقفت أمامه تبتسم له وهي تقول بنبرةٍ هادئة:
إزيك يا سمج؟
ضحك رغمًا عنه وهتف ردًا عليها بمزاحٍ:.

كويس علشان شوفتك يا مطرقعة.
تنفست الصعداء ثم هتفت بتوترٍ من وقوفها معه:
أنا للأسف مش هينفع أتأخر، بس أنا قولت أشوفك بما إنها فرصة يعني، وعلى فكرة عُدي أخويا بقى عارف كل حاجة عنك، أظن كدا محدش بيجبرك على حاجة، أتمنى إنك تكون مرتاح يا إسماعيل وتقدر تاخد الموقف الصح.
أنهت حديثها وهي تتجه للخلف فوجدته يقطع هذه المسافة قائلًا بنبرةٍ مُتلهفة أو ربما مُشتتة كحالهِ في علاقته بها:.

أنا مش عاوزك تكوني زعلانة مني أو تحسي إني لسه باخد القرار، ضُحى أنا طبعي حُر مينفعش الكدب يكتفني، إيهاب رباني على كدا، مينفعش أكدب على أبوكِ علشان أوصلك، حتى لو دي الطريقة الوحيدة اللي توصلني ليكِ، قوليلي بصراحة أنتِ إيه مخوفك مني؟ إيه اللي مخليكِ مش عاوزة حد يعرف.

لأول مرة تتعرض لهذا الموقف، أين قوتها وأين تحكمها؟ لماذا يضعها في خانة تُضيق عليها الخِناق؟ أي حديثٍ سيقال في لحظتها هذه ربما يُنقذ كل شيءٍ وربما يُدمر كل شيءٍ، لذا هتفت بنبرةٍ هادئة:
بلاش أحسن علشان متزعلش، لأن أي كلام هيتقال أنتَ هتفهمه غلط، صدقني أنا معنديش حاجة أقدر أقولها ليك غير إني والله بحاول وهحاول وحاول أنتَ كمان، وخليك عارف إني لو نصيبك مش هكون لحد غيرك.

ابتسم رغمًا عنه وهتف بقلة حيلة وغلبٍ على أمرهِ:
وهو أنا محيرني غير الخوف إنك تكوني مش نصيبي؟

ترقرق الدمع في عينيها وحركت كتفيها تخبره عن قلة حيلتها هي الأخرى حينما اتصلت عيناها بعينيهِ ثم تركته محله، من جديد تكتب له الحيرة ويعود خالي الوفاض، من جديد خيبة الأمل تظهر له وتراقص لسانها وتعانده، لما لم تكن الحياة أسهل؟ وكيف يُعاقب المرء على إجرام الآخرين في حقهِ؟ لعنة! نعم الماضي لعنة قديمة مجرد النبش بجوار من يقاربها تطوله هذه اللعنة.

خرج هو من الحديقة نحو المندرة بعدما حاول استعادة السيطرة على نفسه وعلى ملامحهِ وقد فهم شقيقه حالته فسأله باهتمامٍ وهو يتفحصه بعينيه:
أنتَ كويس؟ مالك؟
جاوبه الأخر بنبرةٍ فاترة يحاول بها اختلاق الكذبات المُقنعة:
كنت بشرب سيجارة برة عادي، يلا؟
أومأ له إيهاب ثم هاتف زوجته لكي تنزل له وبعد مرور دقائق نزلت برفقة نِهال التي أوصلتها للأسفل وأوصتها بقولها بنبرةٍ ودودة:.

بقولك إيه؟ تيجي تاني علشان أديكِ شايفة كلنا هنا بنحبك أهو والمرة اتعرفنا المرة الجاية بقى نقعد أكتر مع بعض، هنستناكي كلنا، أنتِ ليكِ جمهور هنا يا فنانة.
ضحكت سمارة لها وهي تقول بمزاحٍ:
الشهرة متعبة أوي والله، بس هو جوزي قافلها عليا بصراحة لولا كدا، كان زماني نجمة متلألئة قدام الكل.

ضحكت الأخرى ثم ودعتها بعدما أخذها زوجها وادخلها سيارته تجلس بها وكذلك بقية الشباب في السيارة الأخرى الموالية لوقوفه وقد وقف نَعيم يودع عبدالقادر بقوله ضاحكًا:
معلش بقى قعدنا اليوم كله وتعبناكم، بس الشهادة لله قعدتكم حلوة ميتشبعش منها، ألف مبروك وربنا يديم عليكم الفرح، ألف مبروك يا بيشوي واعذرني مجيتش إمبارح بس تتعوض في الفرح بقى.
ابتسم له بيشوي وهتف بنبرةٍ دبلوماسية:.

يا حج تنور وفوق راسنا، وأنا و تَيام واحد كأنك جيت ليا بالظبط ومستنيك في الفرح الكبير تنورني.
أعجب نَعيم برده ونظر ل عبدالقادر مُبتسمًا يُثني على تربيته البائنة على كل الشباب حتى أتى تَيام وعاتبه بقولهِ يمازحه:
هتمشي يا كبيري من غير ما تسلم عليا؟
ضحك له نَعيم واحتضنه وقد تمسك به الأخر يمسح على ظهره وهو يقول بامتنانٍ له على مشاركته في هذا اليوم:
ألف شكر يا حج، ربنا يكرمك وعقبال فرح مُحي.

لم يفهم نَعيم لما حزن بهذه الطريقة وكأنه أراد إخباره أنه يملك ابنًا غيره لم يعلم أين أراضي وطنه لكنه ابتسم له وهتف بنبرةٍ هادئة يواري خلفها تأثره وحزنه:
كلكم ولادي يا تَيام ربنا يسعدك وخلي بالك من نفسك، لو احتاجت حاجة قولي أنا عيوني ليك ودول أخواتك برضه، أي وقت تحتاج حاجة من حد فيهم قول هتلاقيهم في ضهرك بس ماعدا الجواز تاني، فدي نبيعك كلنا.
ضحك تَيام وهتف بنبرةٍ صادقة:.

صدقني أنا عيوني مش شايفة غيرها هي.
ربت نَعيم على كتفهِ بفخرٍ وأنهى توديعه لهم ول أيوب بعدما أوصاه على ابن شقيقه الذي أصر على العودة إلى البيت من جديد بعدما أنهى الإحتفال معهم وخاصةً أنه يكره المناسبات العائلية واجتماع الأفراد في هذه الأجواء، يحارب لأجل الاختلاء بنفسهِ وكأنه يخشى اجتماع الناس حوله حتى لا تنكشف وحدته أمام الجميع.

فرغ البيت على أهلهِ في حالة تخالط بين السعادة والتعب الذي بلغ أشده، مناسبة عائلية كُبرى تبدل حال البيت على أثرها وأصبح في حاجة الرعاية مُجددًا والتنظيف، وقد وقفت نِهال تراقب الوضع بتعجبٍ وما إن شعرت بزوجها خلفها التفتت تسأله باندفاعٍ:
البيت دا هيتعمل إزاي؟ دا حاله أتقلب.
هتف أيهم بنبرةٍ ضاحكة ردًا عليها:.

عادي حصلت كتير، بكرة قبل صلاة الضهر هتلاقيه بيلمع، الست وداد بتجيب جيش كامل ينضفه، بعدين شاغلة نفسك ليه يعني؟ عاوزة تساعدي سمي وأبدأي.
تعجبت من مزاحهِ وهتفت بنبرةٍ جادة:
أنا والله مش بهزر، أصل إحنا في عيلتنا لو فيه مناسبة كلنا بنتدبس ونروق البيت ونعدل حاله زي ما كان قبل المناسبة، علشان كدا مستغربة، أكيد مش عاوزين مساعدتي في حاجة؟ أحسن يتقال عليا بعد كدا شايفة نفسي.

كانت تمزح في أخر حديثها بينما هو فهم سبب حديثها فابتسم رغمًا عنه وقال بنبرةٍ هادئة تمامًا:
متقلقيش، محدش هنا هيتكلم، بعدين مفيش حد لوحده هيقدر يعدل حال الاستاد دا، لو عاوزة تشغلي نفسك، شاغلي نفسك بيا أنا أولى من الجماد على الأقل أنا بحس.
ضحكت بصوتٍ عالٍ وقبل أن يبدأ في وصلة تواقحه ومغازلته لها أتى صوت والده من خلفه يُناديه بقوله:
تعالى يا أبو إياد عاوزك ضروري.

التفت لوالده وطالعه بسخريةٍ وهتف بتهكمٍ كمن إعتاد على الأمر:
ها! هروح الهند أصطاد قرود من هناك؟ ولا أروح أدور على الودع على شط البحر؟ مش الأستاذ خد إياد ونام؟ خير يا حج؟
كاد والده أن يجاوبه لكن نِهال استأذنت منهما وتحركت نحو الأعلى فيما هتف حماها بنبرةٍ هادئة بعض الشيء:.

كنت عاوز أتكلم معاك بخصوص مراتك، يعني لو محتاجة حاجة عاوزة حاجة شوفها كدا، وشوف موضوع علاجها دا، افتحه أنتَ معاها وبلاش تتعامل عادي، وشوف كدا لو محتاجة حاجة تانية خليها تقول.
ابتسم له أيهم وهو يقول بثباتٍ يعبر بكل صدقٍ عما يحمله بداخل قلبه لها:.

مش دي يا حج، دي بنت أصول عينيها مليانة، وحاضر هسألها وهاخدها ونروح لدكتور نشوف الدنيا، بس عاوز أقولك حاجة مهمة، لو فيه صدفة واحدة بس حلوة حصلت في حياتي كلها، تبقى الصدفة اللي جمعتني بيها وخليتها من نصيبي، علشان من اللحظة اللي بقت معايا فيها أنا بقيت إنسان تاني خالص، وأي حاجة قبل نِهال مش محسوبة، عارف إنك بتسحب مني الكلام علشان تطمن على حياتنا مع بعض، بس أقسملك بالله أنا الروح ردت فيا من تاني بوجودها معايا.

ضحك له عبدالقادر وهتف بنبرةٍ هادئة وهو يوليه ظهره:
روح ربنا يطمنك، أنا كدا أقدر أنام بقى.
عاد لغرفتهِ فيما ابتسم أيهم لأثر رحيل والده الذي لم يتغير مهما مرت الأيام، سيظل كما هو يبحث عن راحة الجميع مهما كانت درجة القرب منه، ولذلك يعرفه ابنه جيدًا أو عفوًا؛ نسخته المُصغرة.

دقائق مرت تبعها رحيل الجميع عن البيت عدا ساكنيه فقط، وقد أخذ يوسف عائلته ورحل بهم من البيت إلى بنايته ودلف أولًا إلى شقته فوجد نادر نائمًا على الأريكة ويبدو أنه مل من كثرة الإنتظار لكنه قرر البقاء هنا وفضل عدم الرحيل، حينها أقترب منه يوسف يوقظه حتى فتح الأخر عينيه على مضضٍ وانتفض فجأةً مما جعل يوسف يسأله بسخريةٍ:
إيه؟ شوفت سامي قدامك؟
أغمض نادر عينيهِ وفتحهما مُجددًا وهتف بنبرةٍ مُحشرجة:.

أنتَ إيه اللي آخرك كدا؟ دا عقابي يعني؟
تركه يوسف دون أن يجاوبه وفي هذه اللحظة دلفت غالية ومعها قمر التي تعجبت من جلوسهِ بهذه الملامح الناعسة بينما انتصب هو واقفًا في محله يتابع غالية بعينيه وهو يسألها بلهفةٍ:
إزيك؟ أنا عاوز أشكرك إنك خلتيني هنا.
جاوبته بجمودٍ قاسٍ رغمًا عنها:
عادي، دا بيت يوسف وهو اللي قرر.
عاد الإحباط على وجهه مُجددًا ثم انتبه ل قمر وهتف بنبرةٍ هادئة بعض الشيء:
ازيك يا قمر؟ فكراني؟

هذه الغبية تُشفق عليه؟ يبدو الأمر كذلك لذا حركت رأسها نفيًا وهتفت بتلقائيةٍ كعادتها:
أنا مقدرة مشاعر حضرتك والله بس مش لدرجة أني افتكرك وأنا عيلة صغيرة، الأولى كنت أفتكرت بابا.
عاد يوسف مُجددًا لهم وهو يقول بنبرةٍ جامدة:
ماما سخني الأكل علشان ياكل، لسه مطول معانا هنا.
انتفض نادر من محلهِ وسأله بانفعالٍ:
يعني إيه؟ ما تخلص وتقول عاوز مني إيه؟ هو أنتَ خاطفني ولا إيه حكايتك؟ ومين اللى عرفك طريقي أصلًا.

حرك يوسف كتفيه بلامبالاةٍ وكذلك كانت نبرته حينما قال:
والله أنا مضربتكش على إيدك تفضل، أنتَ هنا بمزاجك بعدما أنا اتفضلت عليك بكرم أخلاقي وأدبي وشهامتي ونزلت ألمك من حضن الكباريه، كان زمانك في حضن واحدة مقلباك ورمياك وشكلك زبالة، يعني رَيح شوية هي مش طلباك بصراحة.

خجل نادر من الحديث أمام غالية و قمر وشعر بضرورة توسله للأرض كي تنشق وتبتلعه في جوفها، لكنه بدلًا عن ذلك توسل يوسف أن يَكف عن الحديث لكنه هتف بنفس السخرية الوقحة:
لأ ماهو أنا مش جايبك من قوافل خيرية إمبارح، أنا جايبك من كباريه وكله عارف، عاوز تفضل هنا أنا معنديش مانع، عاوز تمشي برضع اتفضل مش همانع، بس لو خرجت من هنا هتحتاجني وساعتها عمرك ما هتلاقيني، وأنا بصراحة متعودتش أكون متاح في كل وقت.

وقف نادر حائرًا أمامه وقبل أن يرفض عرضه تذكر الصفعة التي تلقاها على وجههِ من أبيه، تذكر أمر نظرتهم ونظرة الجميع له في كونه مُستغلًا وسطهم يتلاعبون به دون شفقةٍ، لذا عليه أن يتمرد ويثأر؛ فحتى الصغير يرفض ويحتج على الوضع وهذا الكبير ألن يأخذ الموقف المُضاد في حياتهِ ردًا عليهم؟ لذا أومأ موافقًا بشرودٍ وهتف بنبرةٍ ضائعة يقدم من خلالها فروض الولاء والطاعة:
وهتعمل بيا إيه إن شاء الله؟

ابتسم له يوسف وهتف بتهكمٍ:
هعشيك، هو أنتَ بييجي منك حاجة عِدلة؟
أنهى جملته ثم أمسك كف قمر وخرج بها من الشقة يُدخلها شقة خالها وقد فعل هذه الحركة لكي يقتل نادر الذي طالعه بعينين خاويتين يعاتبه من خلال النظرات وكأنه يصرخ داخل قلبه أنه لن يؤذيها، أما الآخر فكان يتلذذ بهذه النظرة في عينيه وقد أدخلها هناك وهتف بنبرةٍ هادئة:.

أنا علشان وعدت أيوب إن نادر مش هيتعامل معاكِ وكتر خيره وثق فيا، نادر طول عمره بيلعب على العواطف وأنتِ هطلة أصلًا يا قمر فخليكِ بعيد لحد ما أخلص مصلحتي منه.
طالعته بعتابٍ وهي تسأله بنبرةٍ حزينة مما يفعله:
وأنتَ هتستغل ضعيف يا يوسف؟ دا واحد المفروض أنه مصدوم وفي وضع صعب إزاي هتقبل إنك تستغله؟ ماشي خد حقك زي ما أنتَ عاوز بس مش كدا، خليه بعيد عنك وعن حساباتك أحسن.

تحدث هو بنبرةٍ جامدة دون قصدٍ في رده عليها:
وهو أنا يعني لما أبوه كان بيفرمني تحت رجله كنت قوي؟ ما كنت عيل صغير أضعف منه وعمري ما شوفت ساعة واحدة بس كويسة معاهم، كل يوم كنت بدعي ربنا يخلصني وياخد روحي وجاية تقولي عليه ضعيف؟ على كدا جوزك معاه حق يبعدك عنه علشان عارف إنك عاطفية زيادة عن اللزوم، خليكِ هنا يا قمر.

تركها تقف بجوار باب الشقة ثم خرج وتوجه نحو شقة زوجته فيما خرجت أسماء تطالع الوضع بعينيها ثم هتفت بتعجبٍ نتج عن ذهولها في أحوال الشباب بالبيت:
لا حول ولا قوة إلا بالله، مالكم يا شوية بهايم غاويين نكد.

زفرت قمر بقوةٍ ثم توجهت نحو غرفة ضُحى التي يتأكلها القلق من التفكير في أمر علاقتها بمن تحب، ظلت جالسة على الفراش تضم رُكبتيها معًا بكلا ذراعيها ثم وضعت رأسها تتخذ وضع النوم أو ربما الهرب من الواقع، بينما قمر دلفت الغرفة بشرودٍ تجلس على المقعد وهي تفكر في أمر شقيقها الذي يسعى خلف انتقام أعمى سَيُنهي الأمر به من خلال هزيمته قبلهم.

في الأعلى صعد يوسف وولج لغرفتها التي تجلس هي بداخلها وما إن رأته أقتربت منه تسأله باهتمامٍ:
مالك! شكلك عملت عاملة وجاي؟ حصل حاجة؟
زفر مُطولًا ثم هتف بتلقائيةٍ دون أن يكذب عليها:
بصراحة دماغي ورمت من كتر الرغي وجيت علشان أقعد معاكِ شوية ونتكلم مع بعض، لو مش عاوزة عادي خلاص.
أمسكت كفه وأجلسته على الأريكة وجلست أمامه وهي تقول بنبرةٍ هادئة بعدما ابتسمت له تلك البسمة التي تفعل الأفاعيل بداخل قلبه:.

لأ طبعًا عاوزة وهفرح كمان، قولي كل اللي عاوز تقوله وأنا هسمعك ووعد إني مش هتكلم غير لما تقولي أنتَ، ها مالك يا يوسف؟
سحب نفسًا عميقًا يُرتب به نفسه من خلالهِ ثم رفع عينيه تتلاقى بعينيها وهو يقول بنبرةٍ مشدوهة وغالبًا بفعل نظراتها لينطق بهدوءٍ:.

أنا متلغبط أوي وحاسس إني بعمل مصيبة بس جوايا فرحان باللي بعمله وفي نفس الوقت أنا مش عاوز أعمل كدا، أنا ضايع جوايا وحاسس إني مش هلاقيني، بس يمكن أكون هنا، ويمكن أشوف نفسي في عينك وألاقيني.
ابتسمت مُجددًا له وهتفت بنبرةٍ هادئة ورقيقة كعادتها:
طب بص كدا في عيوني وقولي شوفت إيه؟

ركز ببصره على عينيها ثم أقترب منها حتى أغمضت هي عينيها فوجدته يُلثم عينيها واحدةً تلو الأخرى حتى توقفت أنفاسها للحظةٍ من اقترابه الغريب وكأنها تراه لمرتها الأولى بينما هو أعاد رأسه للخلف وهتف بنبرةٍ هادئة:
شايف حياة تانية فيهم.
ارتفعت ضربات قلبها فيما أمسكها هو وأجلسها بجوارهِ ثم هتف بصوتٍ خافتٍ يحاول إقناعها بما يريد:.

سيبك مني أنا، أنا هنا علشانك أنتِ يا عهد، عاوزك بس تسمعيني للأخر، المفروض إنك تروحي لدكتور يشوف حل في كوابيسك دي ويقدر يتعامل معاكِ بطريقة صح، وقبل ما تعترضي أنا مش حابب إن أشوفك كدا قليلة الحيلة، مش حابب كل يوم تصحي من النوم على خضة زي دي وقلبك يفضل يوجعك، صدقيني أنا ميهمنيش غيرك أنتِ يا عهد والمكان اللي هتروحيه أنا واثق فيهم وعلى فكر.

رفعت كفها تضعه على فمه توقفه عن الحديث فيما سألها هو بعينيه بدلًا عن لسانهِ المُحكم بفعل كفها لتقول هي بنبرةٍ صبغتها بالقوة رغم ضعفها:
من غير ما تبرر كل دا، أنا موافقة وعلى فكرة أنا فكرت فعلًا في الموضوع دا بس مجاش في بالي إني ممكن ألاقي دكتور قريب مني، ههرب من مشكلتي ليه يعني؟ وكفاية تعب لماما كل شوية لما تقوم مخضوضة على صوتي بليل، هاجي معاك يا يوسف.

تبدلت نظرته فجأةً إلى الذهول واكتست الدهشة ملامحه وهو يفكر باهتمامٍ كيف تملك هذه القوة؟ كيف تعترف بما تعاني منه وتعترف بحاجتها إلى طريقةٍ للتخلص منه؟ هل يُعقل إن هذه الفتاة تملك أضعاف قوته؟ ازدادت الأصوات بداخلهِ ليصدح صوت هاتفه هي هذه اللحظة برقم شقيقته وقد أخرج الهاتف بعدما ابتعدت عنه عهد وأبعدت كفها عن فمه ليصله صوت شقيقته تهتف بخوفٍ:
تعالى بسرعة يا يوسف.

أغلقت الهاتف في وجهه فيما تحرك هو بسرعةٍ كُبرى وعقبته عهد نحو شقته ووقف في الرواق أمام الحاضرين ليجد أخر من توقع تواجدها أمامه وهي فاتن وبجوارها شهد وما إن وقف أمام عمته أقتربت منه تتوسله بقولها باكيةً بقلبٍ ملتاعٍ على صغيرها:
فين نادر يا يوسف؟ أكيد مش هتكدب عليا هو عندك طيب؟ لو عندك قولي وريح قلبي.

طالعها بعينين خاويتين وكاد أن يتحدث لكن شهد نطقت بغيظٍ منه أمام زوجته وشقيقته وكأنها ترد له انتقامه أمام الجميع في الرواق المؤدي إلى الشقق:
ويريح قلبك ليه يا طنط؟ لازم يطلع شغل الجنان علينا، دا مكانه مش هنا، مكانه في مستشفى المجانين زي ما كان، هو دا مكانه الأساسي.

صدمة قاتلة ألقتها هي أمام الجميع وخاصةً عهد و قمر اللاتي نظرتا لبعضهما فيما وقف يوسف أمامها لا يصدق ما فعلته هذه الحرباء الملونة، أكان يعطيها سره يومًا لكي تُفشيه أمام الجميع دون رأفةً؟ توتر بشدةٍ وتنفس بحدةٍ ووقف يفكر في موقفه ليجدها أقتربت من زوجته تسألها بتهكمٍ:
ياترى البيه اللي خاطف جوزي عنده قالك إنه مريض وكان في مستشفى أمراض عقلية؟ ولا ماشي يسوق الهبل على الكل وخلاص وسيادتك مخدوعة فيه؟

حسنًا هي هنا لكي تنتقم وليس إلا
اللعنة عليها وعلى لسانها وعلى رأسها الفارغة هكذا سبها بداخلهِ، وقد حرك رأسه بعيدًا عن عهد لكي يهرب منها وأغمض عينيه حينما وُضِعَ في أكثر المواقف التي لا يُحسد عليها، يود الآن أن يصبح كل ماهو به حلمًا وليس واقعًا، فهاهي تتحقق أكبر مخاوفه أمام مرأى عينيه.

في بعض الأحيان حلبة المُصارعة تقوم الذكاء والدهاء معًا لنرى من بينهم الأقوى ومن أكثرهم سُلطة على الأخرين، تحديدًا هذا الشاب الذي يتم إجباره دومًا على الدخول في حلبة المُصارعة بكلا الطرفين، هذا ال مُنذر الذي دلف غرفته ينام بها وهو يفكر في لقاء الغد، لقد وجد طريق المرأة التي قامت ببيع ابن عمه منذ صغره والأمر شارف على الحدوث أخيرًا.

أغمض عينيهِ يحاول اقتباس السلام من الهدوء المحاوط له ليجد فجأة سكينًا وضِعَ على عنقهِ جعله يفتح عينيه فجأةً لتتسع كلتاهما حتى وصلتا لمرحلة الجحوظ فيما تحدث هذا الشخص المُلثم بنبرةٍ مكتومة:
بالشفا وأبقى سلم على أبوك وابن عمك.

لم يأمن ولن يأمن وحقًا يبدو كأن الدنيا اعتبرته غريمًا لها لكي تحارب لأجل التخلص منه منذ أن وضعته أمامه طفلًا رضيعًا وحتى أصبح شابًا يافعًا، وكأن مهمة قتله والتخلص منه هي المعضلة الأكبر في الحياة ليكون كمن قيل عنهم ابن موت وهو منذ أن وُجِد نُضفةً بداخل رحم أمه كُتِبَ عليه الموت.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة