قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية غزالة في صحراء الذئاب للكاتبة رحمة سيد الفصل الثاني

رواية غزالة في صحراء الذئاب للكاتبة رحمة سيد الفصل الثاني

رواية غزالة في صحراء الذئاب للكاتبة رحمة سيد الفصل الثاني

صرخة مدوية أطلقتها من بين شفتيها المرتعشتين بهلع وألم من قبضته الحديدية حول خصرها، رائحته المقززة التي تكرهها تكفلت بمعرفتها من هو، إلتفتت بسرعة تجاهد في إبعاده عنها، وكأنها تجاهد للحصول على الحرية من قاضى فاسد، ظالم، متجبر، ظلت تلهث لدقيقتان تحاول السيطرة على حالة الهلع التى سيطرت عليها حتى لا تفتح له الطريق لما اراد، وصاحت فيه بجزع حقيقي:.

انت مجنون، كم مرة اقولك بطل حركاتك دى بقا انت مابتزهقش
كان يقف بهدوء مفتعل، وكل خلية من جسده ترتعش من إقترابه منها لهذا الحد، لا يدرى ماذا يجيش بصدره تحديدًا عندما يراها، ولكن ماهو متأكد منه ان قلبه يتقافز حماسًا للحصول عليها، ثبت ناظريه على عينيها الرمادية بنظرات ذائبة، ثم اجابها بمحاولة للهدوء:
مجنون بيكِ يا شمس، مش عارف امتى هتحسي بيا بقا.

حديثه يخنقها رويدًا رويدًا، يكبلها بعشق لم ترغب به يومًا، ظهرت اشباح التقزز على قسمَات وجهها الأبيض، ومن ثم غمغمت بضيق:
مش هحس ومش عايزة أحس، قولتلك ارحمنى بقا انت ابن خالتى وبس.

أختفي بريق عيناه اللامع المشتاق، ليجتاحها نظرات مشتعلة بفعل كلماتها الحادة، التي باتت تؤلمه وتنغزه في قلبه دون رحمة، ثم نظر في المرآة الموضوعة على الحائط الكبير، ينظر على جسده المتوسط، يطالع هيئته الرجولية بنظرات متحسرة، ينظر لملامحه الهادئة والحادة في آنٍ واحد وكأنه يسألها بجنون
لما لا تجذبيها انتِ لما!؟
الأجابة كانت من شمس، التي باتت تعيد له نفس الكلمة وكأن لسانها اصبح آلي يردد تلك الجملة:.

انا مش رفضاك لشكلك او مش هقبل بيك بردو لشكلك، بس انا عمرى ما هحبك، انت مجرد ابن خالتى بس
إلتفتت لها في لمح البصر يمسك بيدها التي ارتعشت من مسكته المقززة كالوباء، وراح يترجاها وهو محدق بها:
طب اديني فرصة وانا هتغير، هبطل اى حاجة بتضايقك، خمرة او بنات او اى حاجة، بس كونى ليا.

جهر القلب بأعتراض شديد، اعتراض على حاكم مستبد يرغب في افتراض نفسه جبرًا عليه، هزة نافية صارخة من رأسها جعلته يحدجها بقوة وكأنما لا يرى الرفض، فقالت بجدية:
صعب اوى يا يحيى إلى انت بتقوله ده، انا مش بأفكر في اى حاجة من دى دلوقتِ، ياريت نفضل ولاد خالة بس.

ولا يسمع ايضًا الرفض، أقترب منها متعمدًا اثارة توترها، يثيره هيئتها الحمراء من الخجل، وإنتفاضة جسدها كالثعبان الذي لدغها، ولما لا يذقيها من نفس الكأس ألا وهو التوتر قليلاً، ثم قال بهمسات حطمت جديتها لأشلاء صغيرة:
بس هتفكرى، اوعدك يا شمس هتفكرى وهتفكرى كتيير، وهتجيلي بأرادتك
اختفت الدماء هربًا بهلع من وجهها، وتمنت الهرب كحبات الدماء بسرعة، تحاملت على نفسها وهي تسأله بخوف:
قصدك اية يا يحيى؟

إبتعد عنها يحيى وقد أصاب سهمه ما اراد تمامًا، لينظر لهيئتها المبعثرة بأستمتاع يتشبعه بجدارة:
انتِ فاهمة قصدى كويس ولو مش فاهمة يبقي خليها مفاجأة
إبتلعت ريقها الذي جف، وحاولت جمع شتات شجعاتها التي بعثرت بفعل رياح تهديده وهي تقول:
انت متقدرش تعملى حاجة اصلاً
تقوس فمه بأبتسامة ساخرة مستفزة، تعبر لها عن مدى عراها امامه، ثم اومأ بتهكم:
هنشوف يا بنت خالتى.

ثم استدار وغادر على عقبيه، مهما تبنى جدار امام جدار، بثقب خبثه ولؤمه يراها على الفور، ليهد كل ما بنته في ثوانٍ معدودة..

يتجسد كل شخص امامها كحبة لؤلؤ رقيقة هادئة، لتقترب عاصفة قوية وتهدمها، لتصبح قطع صغيرة متناثرة، وتركض هي لمحاولة لعودتهم كما كانوا، ولكن من الممكن ان نقل للماضي، هيا عد؟!، ام انه لا يعود بأكمله بل شظايا مؤلمة منه فقط ليس إلا!

نظراتها وحدها لا تكفي للتعبير عن مدى عجزها، وحزنها، ليس كل من يراها يستطيع إبعاد ذاك الغلاف الهادئ عنها، أخفت دموعها بصعوبة، تكاد تشعر بنهر من الدموع الساخنة يتناثر على وجنتيها من شدته، وقالت بصوت مهزوز:
حرام عليكِ يا أمى، كان ممكن أنقذه
هزت رأسها بأعتراض شديد تلقائيًا، عاطفة الأمومة هي المسيطرة الان فقط، ثم اردفت بحزم:
مش هتروحى يا خلود، انا مش مستغنية عنك يا حبيبتي.

خارت قواها بأكملها وحان وقت الاستسلام، فتحت الابواب وأعلنت راية الأستسلام، لتقع امام عبير فتاة هزيلة اهلكها ماضي مؤلم، وصرخت فيها من دون وعى:
انا مش هنتحررر يا امى افهمى
من يغفر لها وكان مثل الجدار الذي يعزل نار غضبها عنها ما هو إلا معرفتها بحالتها النفسية، تجز على اسنانها بقوة لتكبح غضبها بداخلها، ثم تابعت بصوت آمر:
قولت مش هتنزلى، هي كلمة واحدة.

إبتلعت ريقها بإزدراء، وتابعت دموعها الهطول بغزارة، نظرت لها نظرة تفهم مقصدها جيدًا، نظرة دائمًا ما تلعب دورها بأتقان، ثم تابعت مترجية:
ارجوكِ يا امى سيبني اعمل حاجة واحدة أقف بيها في وش الناس واقول لهم ده مش ذنبي انهم بيموتوا..!
تأففت والدتها وابتعدت بعينيها عن مفعول عينيها السحرى الذي يخدرها في كل مرة، ثم قالت هادئة:
عشان تنقذيه أفرض بعيد الشر حصل لك انتِ حاجة، انا هعمل اية ساعتها؟!

اهتزت رأسها نافية تلقائيًا بأعتراض شديد، وراحت دموعها الساخنة تنهار من جوف خنقتها داخل عينيها البنية لتتحرر واخيرًا لتحاول التعبير عما يجيش بصدرها من معاناة بدت ابدية..!
ثم سقطت منهارة على الأرض، لتستطرد وسط شهقاتها المميتة لوالدتها:.

كل ما أروح احاول ألحق حد، يفتكر إنى انا إلى فيا حاجة، الناس بقت بتخاف تقرب منى لأصحى تانى يوم اقولهم انتم هيجرالكم حاجة، كل واحد بيرمى كلمة براحته ومش واخد باله إنى انسانة بتحس، انسانة اترمت وسط ذئاب بتنهش فيها وبس
أقتربت منها تحتضنها بحنان، تمنع دموعها من الهطول حتى لا تكسر ذاك الجزع الذي تستند عليه خلود، أطبقت عليها برفق وقالت بمرح:
يلا يا ستي الأستاذ اخوكِ عايز ياكل مش هيستنى كتير.

ابتسمت بخفة من بين دموعها ثم نهضت مبتعدة عن والدتها بهدوء، ليتجهوا سويًا للخارج، حيث وجدوا شاب في اوائل الثلاثينات من عمره، يضع يده اسفل خده، يجلس على الكرسي المواجه للسفرة وما إن رأهم حتى قال بملل وضيق مصطنع:
شكلنا مش هناكل النهاردة عشان ست خلود بقاا
ضحكت خلود ومن ثم إقتربت منها واجابته بهدوء:
هناكل يا طفس بس اهدى عشان حاسه إنك شوية وهتاكلنا احنا شخصيًا
غمغم بضيق مصطنع:
اما نشووف بقاا.

تنتقل حياتها دومًا كالأمواج، هادئة حزينة غاضبة، متقلبة غير مستقرة ابدًا، دائمًا ما تشعر انها ليست المتحكمة في حياتها، ولكن ما يرطب ويهدأ صفو حياتها ولو قليلاً هو اخاها الأكبر الوحيد ووالدتها من بعد والدها الراحل على..

كانت تتوسط أصدقائها السوء، الحلقة السوداء، في احدى الملاهى الليلية الشهيرة، تضع قدم فوق الأخرى، لتظهر نصف قدمها البيضاء أسفل الشورت القصير الذي ترتديه، وبالأعلي تيشرت احمر نصف كم، وبالطبع ملامحها الهادئة لا تخلو من بعض مساحيق التجميل، وتترك شعرها الأسود ينسدل على ظهرها، ومن حولها حلقة دائرية يشكلها بعض الشباب والبنات، كان الضجر يظهر على ملامحها ويتشبعها بقوة، اقترب منها احد الشباب، ذو جسد هزيل، وملابس لا تليق بشيئ للشباب، وشعره يصففه بشكل مضحك، وتنحنح قائلاً بهدوء:.

مالك يا زينة؟!
هزت رأسها نافية، مثبتة عينيها على اللاشيئ، ثم همست بصوت قاتم:
مفيش حاجة يا زياد
نظر لها بطرف عينيه، ثم أمسك يدها بقبضتَه السمراء، يعلم بكل ما يجيش بصدرها الان، يحفظ كل مراحلها، ولكن بكل مرحلة يخطط لأستغلالها اسوء استغلال، كل ما يريده هو أن يتوغل بداخلها بقوة، ليصبح كالدماء التي تسير في شرايينها..!
مط شفتيه وقال بضيق مصطنع:
كدة مش عايزة تحكى لزيزو صديقك؟

تأففت بملل، سماء ذهنها ممتلئة بما يكفيها، لا ينقصها ثرثرته هذه الان!
ثم أجابته بهدوء حذر بعكس ما بداخلها:
قرفانة من كل حاجة
قرب فمه من أذنيها، ليهمس بصوت أشبه لفحيح الأفعي:
طب والي يروقلك مزاجك ده
يروقه ازاى يعنى!؟
سألته مستفهمة بعد أن قطبت جبينها، ليجيبها بخبث:
استنى دقيقة.

نهض بخفة متجهًا لمكان ما، وبالطبع سمعت الهمهمات بسهولة، تعتقد أن كل من ينظر له نظرة ذات مغزى حقود وكاره، ولكن، لتكن نظرتها هي المغلفة بقناع الغرور ليس إلا..
تقدم زياد منها يحمل بيده سيجارة، ولكن ليست بسيجار عادى، وإنما من يجعلك تغيب بكامل عقلك عن هذه الدنيا..
مد يده لها بهدوء، لتعقد حاجبيها ثم تقول متساءلة بعدم فهم حقيقي:
اية ده بقا، انت عارف إنى بطلتها.

تنهد بقوة قبل أن يتابع بنبرة كساها الخبث والاغراء:
دى هتريحك من وجع دماغك وهتخليكِ تنسي أهلك شخصيًا
نظرت له بطرف عينيها، جزءً ما بداخلها يحذرها وجزءً يشجعها على اخذها، ولكن الحبال المتينة تزجها نحو السوء، لتمد يدها وتأخذ منه تلك السيجارة، ثم وضعتها بين شفتيها الحمراء واخذت نفسًا عميقًا غير مبالية بالغد ابدًا..

وصل مالك امام البناية الكبيرة بالمعادى التي بها منزله المتوسط، ترجل من سيارته السوداء الكبيرة، ثم أبعد النظارة عن عينيه البنية، لتظهر تلك الجوفتين العميقتين الغامضتين، تنظران نحو ملجأها الوحيد الذي لم تلمحه منذ فترة كبيرة، سار بخطوات واثقة حتى دلف من باب البناية، ثم إتجه نحو الحارس الذي يجلس على احدى الكراسي الخشبية وهب منتصبًا حين رأه، وقال بجدية وحذر:
اهلاً اهلاً يا مالك بيه.

عقد مالك حاجبيه السوداوين، ثم قال متساءلاً بحيرة:
اية ده امال فين عم صابر؟!
نظر الحارس للأسفل، ثم حك ذقنه بطرف يده، يفكر في حلاً ما لتلك الأجابة، نظر له مرة اخرى واجابه بهدوء حذر:
اصله ساب الشغل يا بيه
سأله مالك دون تردد:
لية ساب الشغل يعني؟!
توتر بشدة، يخشي سقوطه في حفرة ما عميقة تسلب منه كل شيئ، عمله، مكانته، ولربما أسرته الصغيرة، نظر له بهدوء مصطنع ومن ثم قال متلعثمًا:
اصل آآ اصله دخل السجن يا بيه.

حدق مالك به بصدمة، ثم اردف فاغرًا شفتيه:
ازاى يعني، ده راجل قمة
رفع كتفيه بمعنى لا اعلم، ثم غمغم بعدم معرفة مصطنعة:
منا كنت بقول كدة، بس الله هو اعلم بخلقه بقا يا ساعت البيه
اومأ مالك بلامبالاة، ثم استدار وغادر على عقبيه، توقف للحظة وإلتفت له يطالعه بنصف عين قائلاً:
ابقي ابعتلي اى حد ينضف الشقة يا عم محمد لو سمحت
اومأ موافقًا بسرعة، ليغادر مالك بهدوء، في حين تنهد هو بقوة وقال في خواطره بلوم لشخصه:.

ربنا يكون معاك يا صابر، ويسامحنى
أستدار هو الأخر وإتجه نحو الداخل بهو البناية الكبير، ليصل امام منزل شمس الصغير، ثم طرق الباب بهدوء، وبعد ثوانى فتحت والدة شمس وعلى رأسها حجابها الصغير، لتسأله في هدوء:
ايوة يا عم محمد خير؟
اجابها بهدوء مماثل بل زائد، مغلف ببعض الأسف:.

الاستاذ مالك صاحب الشقة إلى فوق عايز حد يطلع ينضف له الشقة، وزى ما انتِ عارفة يا ست كريمة، استاذ محمود صاحب العمارة قال واحدة منكم تبقي تطلع عشان الايجار وكدة
أطرقت رأسها بحزن، تشعر بقلبها يتمزق بمجرد ذكر انها او ابنتها سيعملوا ك خدم، تشعر انها بداخل غابة مليئة بالذئاب، وبمجرد ان ذهب راعيهم إلتفوا حولهم ليهاجموهم، حتى انحصروا في زاوية صغيرة، وما لبث أن مرت فترة وجيزة هاجموهم مرة اخرى!

تمتمت بنبرة حملت الحزن والأسف والألم معًا في طياتها:
حاضر، حاضر يا عم محمد
استدار ليغادر محمل شعوره بالأسف نحوها، أما كانت تلك السيدة الفاضلة التي يحترمها كل شخص، الان ستعمل وابنتها كخادمة فقط!، يا الهي كم تدور هذه الدنيا وتدور حتى تسقطك في نفس الحفرة التي تخشاها دومًا، الان نظراتها تجعلك تشعر بالشفقة، نظرة لو ظلت تنظرها لشخص ما يعذبها لأسقط من يده كل مقاليد تعذيبها ليتركها حرة!

دلفت لأبنتها الوحيدة، لتجدها تجلس على الكرسي الخشبي الصغير، تعد الطعام، نظرت لها دون ظهور اى تعابير، ثم هتفت بهدوء اصطنعته بمهارة:
شمس، انا طالعة انضف شقة الاستاذ إلى لسة جاى
رفعت شمس ناظريها لها تطالعها بدهشة، وسرعان ما قالت بجدية تلقائية:
لا طبعًا، انتِ عارفة إن انا إلى هأطلع مش انتِ يا أمي
تنهدت تنهيدة حارة تحمل الكثير والكثير، ثم اردفت بقلة حيلة:
لأ يا شمس مينفعش يا حبيبتي.

نهضت مسرعة، ظهر بريق لامع في عينيها الرمادية، بريق ما إن لمحته والدتها حتى علمت أن موجه العند لن تزول إلا أن تفعل ما ارادته، فاستطردت شمس بتصميم:
لأ انا طالعة، الشقة إلى ف اول دور مش كدة؟
اومأت والدتها مؤكدة، فتقدمت شمس وامسكت بحجابها الصغير ترتديه ومن ثم اتجهت للخارج، لتتجه لمنزل مالك بهدوء دون بت كلمة اخرى..

في السجن كان صابر يجلس على الفراش الصغير الحديدى الموضوع على الجانب، بجوار الحائط المتهالك بعض الشيئ، يمدد جسده الهزيل عليه وينظر للأعلي بشرود، نظرات لطالما حاول من حوله أن يفهموها ولكن فشلوا، منذ دخوله السجن وهو كذلك، لم يتفوه بما يجيش بصدره ولو للحظات، لدرجة أنه يشعر أن ذات يوم سينفجر من كثرة البراكين المشتعلة بصدره، وكثرة الألم الذي بات لا يشعر به، بمعنى اوضح قد اعتاده وانتهى الأمر، ولكن ليس بسلام اطلاقًا..

أقترب منه أحد الاشخاص، في منتصف عمره، ذو وجه هادئ ولكن عليه بعض الندبات، ينظر له بهدوء، ثم تنحنح قائلاً:
اية يا عم صابر عامل اية؟
لم ينظر له ثم اجابه بصوت أقرب للهمس:
الحمدلله رب العالمين
تنهد الرجل، ورمقه بنظرات يعرفها جيدًا دون أن يراها، يشعر بها تخترقه لتستكشفه بفضول قاتل، ولكنه يوقفها عن الحد المناسب دائمًا، ثم سأله الرجل بصوت أجش:
انت محكوم عليك كام سنة يا عم صابر
مؤبد.

كلمة نطق بها بسهولة، ولكن بعدها شعر أت لسانه شُل عن الحركة، كلمة كلما تذكرها كانت حروفها تقطعه ببرود، تعيد عليه ما مر منذ سنوات، تذكره بقيده الأبدى الذي قيد به من دون ذنب، الحديدى، القاتل الذي لن يتحرر منه ولا يريد أن يحاول التحرر منه، قيد علمه الأستسلام، والصبر..
بينما إتسعت حدقتا عينا الرجل، الذي قال بصدمة شابت بالتعجب:
مؤبد وقاعد كدة عادى يا عم صابر؟
تابع مبتسمًا ابتسامة منكسرة:.

اديك جاوبت نفسك، يا عم صابر يعني انا صابر وراضى بقضاء ربنا
يتعجب اكثر واكثر، يتوغل بداخله شعور أنه شخص تافه، متعجرف، غير راضٍ بقضاء حكم عليه لشيئً فعله، بينما الأخر يرضي بحكم على شيئ من المفترض أنه لم يفعله اساسًا، اى بشر هذا؟!
عاد يسأله بصوت قاتم:
انت عملت اية اصلاً يا حاج؟
تنهد صابر بقوة، ثم نظر له بنصف عين، ثم قال مشاكسًا برغم كل ما بداخله من هموم:
انت هنا ف سجن اية؟
تنحنح بحرج واجابه بهدوء:
قتل.

رفع كتفيه بهدوء بمعنى هذا، حائط أمن بناه لحماية ابنته الوحيدة وزوجته ولن يهدمه مهما حدث، وإن حاول الجميع كسره سيقاوم كل عضو بداخله بقوة قبل ان يتحرك هو..
بينما استطرد الرجل قاطبًا جبينه:
طب ازاى قتلت يا عم صابر وانت راجل باينلك عارف ربنا
الزمن يابني.

قالها بلجهة امتلأت بالحزن والألم، تجسدوا في هاتان الكلمتان بكل معانيهم، وكأن هذا الزمن عدوًا له ليهلكه هكذا دون ذنب مفتعل!، بداخله يحترق بمجرد التذكرة فقط، لو كان الغضب والحزن لهم رائحة لكانت فاحت الرائحة منذ زمن..
راح يسأله الرجل كالقاضي مستفسرًا في قضية ما:
طب لية ما تدافعش عن نفسك وتعمل نقض وتحكى كل إلى حصل يا عم صابر
صمت برهه، وإنزلق لسانه بعفوية:.

اصل انا سمعت إنك ماقولتش حاجة غير انك ماقتلتش، لكن ما حكيتش اى تفاصيل، ومستغرب بما انك مفروض برئ يبقي ده عبط كدة
ابتسم بخفة على عفويته، ولكن سرعان ما تحطمت بقوله الغامض:
لو اتكلمت هأذيهم، وانا مليش غيرهم، يا إما اخرج انا واتكلم، يا إما اسكت، لكن مش هحاول أأذيهم عشان اطلع انا
عقد حاجبيه ثم اردف بتفكير:
يااه، هي مشكلة عويصة للدرجة!
اومأ صابر بهدوء، ثم نهض قائلاً بصوت هادئ:.

تعالي بقا نساعدهم عشان كدة مش هيأكلونا..

طرقت شمس الباب عدة مرات بهدوء، تفرك يدها بتوتر شديد لمعرفتها أنه شاب في اوائل عمره، عدلت من وضعية طرحتها الصغيرة لتخفي الشعيرات السوداء المتناثرة اسفل حجابها، مرت ثوانٍ وفتح مالك الباب، أُصيب بالدهشة قليلاً لمعرفته أن زوجة الحارس السابق هي من ستقوم بالتنظيف، وليست فتاة كهذه!؟، صمت برهه وظل هكذا يطالعها بأعين حادة كالصقر، إلتمعت بوميض غامض، ولكن سرعان ما تسللت الأبتسامة له، وانفرج ثغره ليصبح في شكل خطوط متعرجة حوله، وتحولت نظراته لنظرات لم تفهمها شمس بسبب نظرها للأرضية الرخامية، ليقول مالك بصوت هادئ ولكن يحمل الخبث في طياته:.

هو انتِ بقا إلى بعتك
اومأت شمس مسرعة دون تفكير بما ستجلبه لها هذه الهزة الصغيرة، لتنقلب حياتها رأسًا على عقب!
رفع الهاتف الذي كان في يده ليضعه على اذنه ليتابع بصوت رجولى خشن اثار الرجفة في انحاء جسدها المرهق:
خلاص يابنى اهى جات
...
اه مع انى مستغرب بس..
صمت برهه ينظر لشمس من اعلاها إلى امحص قدميها ولم يستطع إخفاء نظرات الاعجاب واللمعة تلك من عينيه ليستطرد بصوت قاتم:
بس اشطا، يلا سلام انت.

اغلق ينظر لها ثم تنحنح قائلاً بأبتسامة زادت من القلق الذي كان يتوغل بداخلها رويدًا رويدًا:
اتفضلي اتفضلي واقفة لية هنا
ما إن مدت شمس قدمها للداخل حتى وجدت من يضربها بقوة على رأسها، جعلتها تسقطت فاقدة الوعى من دون أن تصرخ حتى، بين ذراعى مالك الذي التقطها على الفور و...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة