قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية غرامة غدر للكاتبة شاهندة الفصل الأول

رواية غرامة غدر للكاتبة شاهندة الفصل الأول

رواية غرامة غدر للكاتبة شاهندة الفصل الأول

تأملت طفلها النائم بحنان. يشبهها كثيرا هذا الصغير خصلاته صفراء كخصلاتها تماما وعيونه المغمضة عشبية اللون كخاصتها فلم يأخذ من أبيه شيئا سوى شامة على كتفه تحاول أن تغُضّ البصر عنها كلما رأتها، تغمض عيناها لتمحو وجودها حتى لا تُذكرها بجُرح حاولت نسيانه بكل ماأوتيت من قوة، مالت تطبع قبلة حانية على جبينه صاحبتها دمعة مسحتها برقة ثم نهضت وإتجهت إلى شرفة حجرتها تتطلع إلى تلك الليلة العاصفة بقلب يإنّ ألما، فى الماضى كان الشتاء بالنسبة إليها فصلها المفضل ولكنه لم يعد كذلك أبدا، لطالما حملت لها لياليه هدوءا وسكونا وأمانا وحملت أمطاره الخير والسعادة لقلبها، إلا أنه فى السنوات الأخيرة حمل لها ضجيجا يؤرقها، فالقلب رغم البرودة يتلظى بجمر الحزن ويحترق بأنين الجراح.

إشتد وقع صوت قطرات المطر على النافذة، ليمتزج المطر مع مثيله المنهمر من عينيها الجميلتين وشريط الذكريات يمر بخاطرها محملا بالهموم والأشجان، أخذها إعصار الليلة لليلة شبيهة بها قضت على قلبها وكادت ترديه قتيلا ولكنه بشكل ما مازال حياً.

مازال المطر ينهمر ومع زخاته الرتيبة تعلو وتيرة الذكريات لتنقسم بين قسوة البرد ولوعة الهجران، لاتدرى لما تهاجمها الذكريات بقسوة فى تلك الليلة؟وتتمثل أمامها كما لو كانت بالأمس، ربما لإنها الليلة الأخيرة لها فى المكان الذى حمل ذكريات طفولتها وأيام صباها، ربما لإنه المكان الذى طالما جمعها به وقد آن الأوان لتتخلى عن المكان وعن ذكرياتها المريرة معه، بل الأحرى تتخلى عنه هو كما وجب أن تفعل منذ سنوات.

لقد أبت دوما أن تتخلى عن مزرعتها وقد رفضت أن تستمع لعقلها كثيرا وحاربت من أجلها أكثر، فرغم أن المزرعة تحمل عبقه فى كل خطوة إلا أنه إستحال عليها كُرهها كما كرهته هو، وإستحال عليها طمس الذكريات رغم أنها تحمل إسمه منقوشا على جدرانها فى كل لحظة، حاربت من أجل الإبقاء عليها طويلا وكأنها تعشق تعذيب النفس وتهوى الألم، ولكنها بالنهاية خسرت.

مازالت الدموع تنهمر تعلم ان البكاء لا يفيد ولكنها مازالت تبكى، تبكى خذلانا أصاب جوارحها تلتمس فى الدموع السلوى ولكنها دوما تخذلها بدورها.

مدت يدها ومسحت دموعها تطالع الخارج بحسرة فغدا تذهب إلى أقاربها فى الإسكندرية بغير رجعة، تودع منزلها الذى عاشت فيه طيلة حياتها، غدا تترك المكان ولكنها تحمل معها ذكرياته، ربما لم تستطع إنقاذ مزرعة أبيها وباعها البنك لآخر كي يُحصّل ماله، ربما فقدت كل شيء عندما فقدت مزرعتها ولكنها لن تيأس. ستبدأ من جديد وستكون بخير فقلبها النقي الذى ماأضمر شرا لأحد قط يخبرها بذلك.
إنها خيبات الأمل..

تلك التى تفطر القلب.
وتقتل كل رغبة بداخلك بقسوة.
تشبع النفس بالوجع.
وتحرقك بلهيب الجحود.
توقف الأنفاس فى الحلق.
وتتركك فى طريق مظلم.
تمقت من مددت إليهم يديك بالورود.
فتركوك لمخالب وأنياب الوحوش.
ينهشون فى جسدك حتى ينالك الردى.

كان لابد لها من أن تودع هذا المكان قبل الرحيل، لطالما تجنبته فى السنوات الأخيرة المنصرمة، تتفادى الألم الذى يحييه وجودها به، تقدمت ببطئ من تلك الشجرة التى جمعتهما تحت ظلها يوما وتلمست الأحرف التى حُفرت عليها برقة وحنين، حرف ال K و حرف ال A. يحيطهما قلب شعرت بإنكسار جدرانه داخلها.

مدت يدها تضعها على فؤادها الذى تإنّ خفقاته وهي تنفض صورته التى أطلت أمامها فجأة، قبضت على يدها بقوة وهي تغمض عيناها ترفض التطلع إليه ثم فتحتهما لتراه لم يزل هناك. أمامها.

يمسك لجام جوادها يديره فى حلقات بينما يتطلع إلى تلك التى تمتطيه بعيون شع بهما الحب أو هكذا ظنت وهي تبادله تلك النظرات، كانت تتوه فى عيونه السوداء كالليل واللتان تزدادان قتامة كلما تأملها هي. وحدها دون غيرها، تخبرانها أنها فقط من تحتل قلبه لتقسم له أنه كذلك أيضا، وقتها تركت اللجام وقد تملكها عشقها فإختل توازنها وسقطت لتجده يتلقفها بين يديه. وتوقف الزمن.
حرارة إجتاحت الجسد وعيون تُرسل حديثا صامتا.

=أحبك كما لم احب مخلوقا قط.
=أقولها لكِ وحدك، أنتِ العشق.
=لو وضعوا الدنيا فى كفة وحبك فى كفة لأخترت الحب دون شك.
=قادنى قدري إليكِ فأبيت الرحيل.
=وقعت فى غرامك فأصبح قلبك الوطن.
إعتراف بالعشق فى تلك اللحظة لأول مرة ووعود بالحب والوفاء و البقاء إلى الأبد، وعود كتبت على الرمال فحملتها رياح أول عاصفة وبعثرتها بعيدا، ولم يبقى سوى بضعة آثار بالية ستفنى يوما وتزول بدورها.

تنهدت بحزن وهي تطالع ذكريات الماضى تتجسد أمامها تحييرمادا ظنته قد إختفى لتشتعل جذوة عشق صار بالماضى سعادتها وأصبح الآن شقائها.
تطلعت إلى المكان بنظرة أخيرة، قبل أن تمسح تلك الدموع التى إنهمرت من عينيها وتستدير عائدة للمنزل. بخطوات منكسرة.
طرقت الباب ثم دلفت على الفور لتجد خالتها مازالت فى سريرها تتمطى بكسل، فقالت بإستنكار:
-إنتى لسة فى السرير ياطنط رجاء؟
طالعتها (رجاء)بحب قائلة:.

-خلاص هقوم أهو، هو جه ياقمر؟!
قالت (قمر) بهدوء:
-لأ لسة.
هبطت(رجاء)من السرير بسرعة وهي تأخذ المنشفة قائلة:
-كويس أوى، ياريت نمشى قبل ماييجى مش حابة أشوف البنى آدم اللى أخد مننا كل حاجة ده.
قامت (قمر)بترتيب السرير تلقائيا كما كانت تفعل دوما وهي تقول:
-وهو ذنبه إيه بس ياحبيبتي؟مش حاتم الله يرحمه اللى أخد القرض بضمان المزرعة وفضلنا سنين مش عارفين نسده ولا نسد فوايده.
قالت (رجاء)بحزن:.

-بتجيبى سيرته ليه دلوقتى؟الله يرحمك ياحاتم. من بعدك إتبهدلنا ياحبيبى.
تجاهلت (قمر)كلماتها، وهي تقول:
-وهو لولا عمى فاضل جارنا اللى قعد يماطل مع البنك عشان ميحجزوش على المزرعة كانوا سابونا لحد النهاردة قاعدين فيها؟المفروض كانوا باعوها من سنة كاملة وكنا أكيد هنسيبها وقتها، بس خلاص مبقاش ينفع يأجلوا أكتر من كدة و جه صاحب النصيب وإشتراها من البنك، ربنا يباركله فيها ويعوض علينا.
قالت(رجاء)بحنق:.

-بقى ياخد البيت اللى عشنا فيه سنين طويلة وياخد المزرعة وبتدعيله يباركله فيها، ده أنا لو طايلة أحرقها بإيدى قبل ماأمشى كنت عملتها.
توقفت(قمر)عما تفعله قائلة بإستنكار:
-تولعى فيها؟!انتى عايزة تودينا فى داهية؟
قالت(رجاء)وهي تهز يدها بلا مبالاة قائلة:
-وشفتيني يعنى عملتها؟ماأنا قدامك أهو، لميت هدومى وماشية معاكى من غير كلام.
لتردف بحنق:.

-مع إنى مبطيقش مرات ابن خالي بس رايحة أعيش معاهم لأجل عيونك يابنت أختي.
إبتسمت (قمر)وهي تقترب من خالتها تضمها قائلة:
-ربنا يباركلى فيكى يارورو. يارب.
ثم خرجت من حضنها وهي تقرص وجنتها قائلة:
-يلا بقى خدى شاور بسرعة وجهزى نفسك عشان نمشى قبل ماييجي زي ماانتى عايزة.

هزت خالتها رأسها متنهدة قبل أن تتجه بمنشفتها إلى الحمام تتابعها (قمر)بعينيها، تتنهد بدورها ثم تتقدم بإتجاه النافذة وتفتح شباكها تسمح لأشعة الشمس بالدلوف إلى المكان، تأخذ نفسا عميقا مُشبعا بهواء حديقة المنزل، تسمح للنسيم العذب بأن يصافح وجهها ويتغلل فى صدرها يبعث الراحة فى نفسها ربما لآخر مرة أو يقبضها وهو يرسل إلى خاطرها مجدداً، الذكريات.

وقف يتطلع إلى المنزل ذو الواجهة الكبيرة من البلاط الجيرى أرجواني اللون، قد يشع المنزل بهجة ودفئ للناظر إليه خاصة مع وجود لمسات الطبيعة التى حاوطته بالكامل، ولكنه يحمل له برودة سرت فى أوصاله إمتزجت بشعور عميق بالضعف نفضه عنه بقوة وهو يتمسك بيد طفلته ذات الخمس سنوات، يتقدم بإتجاه باب المنزل بثبات فقاموسه لم يعد يعترف بتلك الكلمة مطلقا. لقد تخطى خيبات الامل وتجاوز حُرقة القلب وصار صلدا قاسيا كالجلمود، وقد عاد فقط لسبب واحد لا غير، لذا فعليه دوما التذكر والتحلى بالقوة والثبات فالقادم يحتاجه قويا كي يستطيع تحصيل غرامته. غرامة غدر.

كانت(قمر)تضع الهاتف مابين عضديها وأذنها، تبحث فى حقيبتها عن شيئ ما وهي تقول:
-مش عارفة حطيته فين؟كان لسة هنا من شوية الظاهر دخل جوة الهدوم.
لتترك مابيدها وتمسك الهاتف مردفة:
-عموما هو مع خالتي، هبقى أبعتهولك فى ماسيدج.
قالت(أمنية):.

-تمام ياقمر المهم خلى بالك من نفسك وخلى بالك من تيام وقوليله إنه هيوحشنا أوى، سارة عاملة مناحة هنا عشان مرضيتش أجيبها تودعه، مش قادرة تقتنع إنك مبتحبيش لحظات الوداع وان احنا إمبارح بكينا بما فيه الكفاية.
إبتسمت(قمر)بحزن قائلة:
-بوسيهالى، والله ياأمنية أيامى هينقصها وجودكم معايا.
قالت( أمنية) بنبرات متهدجة:
-طب متبكنيش تانى، وبعدين اول ماتبعتيلى العنوان هتلاقينى جايالك علطول.
قالت (قمر)بسعادة:.

-بجد يامنمن؟
لتزوى سعادتها وهي تردف:
-وهو صادق هيرضى يجيبك لية إسكندرية؟
قالت(أمنية):
-وميرضاش ليه؟مش صاحبتي الوحيدة واختي اللى ماجابتهاش لية أمي.
قالت(قمر):
-أيوة بس..
قاطعتها (أمنية)قائلة:
-الموضوع ده منتهى ياقمر واحنا إتكلمنا فيه كتير. هو آخد صف صاحبه وعاطيله العذر وده على عيني وعلى راسي، أنا كمان زيه خدت صف صاحبتي ومش هتخلى عنك ولا هبعد مهما حصل.
تهدج صوت(قمر)قائلة:
-أنا بحبك قوى على فكرة.

قالت(أمنية)بصوت تهدجت نبراته بدورها:
-وانا كمان، بس لو مبطلتيش بكا هبطل أحبك.
قالت وهي تمسح عبراتها:
-متقدريش..
قاطعها صوت طرقات على الباب فسمحت للطارق بالدخول، دلفت الخادمة وهي تقول:
-البيه اللى إشترى المزرعة جه تحت ياستي.
هزت (قمر)رأسها قائلة:
-أنا جاية حالا ياسعاد.
غادرت (سعاد)، بينما قالت(قمر)ل(أمنية):
-كان نفسي نمشى قبل ماييجى بس إتأخرنا، مضطرة أنزل دلوقتى وارحب بيه قبل ماأمشى.
قالت (أمنية):.

-تمام، خدى بالك من نفسك ياقمر وطمنينى عليكى.
قالت(قمر):
-أكيد، سلام مؤقت.
قالت (أمنية):
-سلام ياحبيبتى.

أغلقت (قمر)الهاتف وهي تسرع بوضع الحجاب على شعرها تخفى خصلاتها الذهبية ثم تسحب حقيبتها خارجا، كادت ان تتجه إلى حجرة خالتها التى تجلس بها الآن مع ولدها (تيام) لتخبرها بقدوم المالك الجديد، ولكنها تذكرت انها تمقته ولا تبغى رؤيته لذا وجب على عاتقها الترحيب به وحدها، فتركت حقيبتها وهي تتجه إلى ردهة المنزل لتستقبل هذا الرجل بإبتسامة رسمتها على شفتيها، فجاءت باهتة رُغما عنها.

دلفت إلى الردهة بخطوات هادئة، فوجدت طفلة صغيرة جميلة تتجول فى المكان، توقفت الصغيرة تطالعها بفضول ماإن رأتها فأدركت أنها إبنة هذا الرجل الذى يمنحها ظهره، منحتها إبتسامة رقيقة ثم تأملت الرجل الواقف بثبات مانحاً إياها ظهره يتأمل اللوحة الكبيرة التى تزين المكان والتى رسمتها ذات يوم لمكان رائع بالمزرعة كانت تهواه كثيرا ولكنه الآن صار كغيره من الأماكن بالمزرعة. سبباً للوجع.

فلا تُذكرها تلك الأماكن سوى بلحظات من السعادة نالتها من القدر، ثم إتضح أن سعادتها كانت زائفة والمشاعر خادعة وكل شيئ إلى زوال.
نفضت أفكارها وهي تتنحنح ليستدير إليها الرجل ومع إستدارته تسمرت فى مكانها وتجمدت إبتسامتها لتختفى تدريجيا، فبينما هو يتأملها بعيون باردة ساخرة كانت هي تعيش دوامة من الذكريات ضربتها بعنف حتى كادت ان تسحبها لسوادها الذى أرادته بكل قوة، أو ربما سحبتها بالفعل.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة