قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية على الرقاب قدر نافذ للكاتبة شاهندة الفصل العشرون

رواية على الرقاب قدر نافذ للكاتبة شاهندة الفصل العشرون

رواية على الرقاب قدر نافذ للكاتبة شاهندة الفصل العشرون

تركونا ورحلوا..
خسرناهم ولن يعودوا..
الفراق يؤلم الخفقات..
والمرارة تعث بالقلوب...
بعد أن كان الحب يجيش بالصدور..
لم نرد العشق يوما..
وبنينا أسوارا حول قلوبنا..
فاقتحموا أسوارنا وإجتاحونا بقوة..
أيقظوا القلوب من سباتها..
لتنتفض بين الصدور عشقا..
فرفعنا راياتنا واستسلمنا بلا شروط..
لم نطلب سوى حبا وحنانا..
لم نبغى سوى الأمان..
عدنا لنرى الكون جميلا زاهيا..
فعاد بالغياب يتشح بالسواد..
وعاد للقلوب الشجن..

تصدعت جنباتنا ببرودة قاسية..
تبكى العيون بلوعة..
فقد رحل الحبيب، ولن يعود.
وقفت(نوار)تطالع هذا الكوخ بمرارة، فقد شهد عشق قلبها ونحره، شهد حياتها ورداها، شهد لحظة ميلاد وآهة موت، تساقطت دموعها أنهارا، وهي ترى تلك المدعوة أمه تجلس أمام الكوخ تنوح وتلطم وتخمش وجهها، تنادي على الغائب بكلمات تدمى القلب وتزيده أسى وحرقة..
روحت فين وسيبتني ياضنايا؟!
مش عتاجى؟
خدك منى الموت، لع، خدوك منى ولاد هوارة..

وهملتني لحالي..
ماليش حدا غيرك..
لا أب ولا خي..
ليه روحت ياولدي؟
الدار من غيرك سو..
والحيل إتهد..
مبجاليش عازة فى الدنيا من بعدك..
ولا بجالى ونيس..
يمين الله ماعسيب اللى جتلك لحظة يتهنى ويعيش..
ولازمن أطول رجبته وأمسك فى خناجها لحد ماتطلع منه الروح..
لأجل ترتاح روحك ياولدي..
لكن آني، عمرى ماهرتاح خلاص..
روحت ياغالى وخدت معاك الراحة والفرح..
روحت ياغالى وسيبت أمك فى جلبها نار متبردش..
صبرنى يارب.

هطلت دموع (نوار)تزامنا مع كلمات(عوالى)، قبل أن تتطأطأ برأسها وتتجه إلى المخفر لترى والدتها بقلب مات حيا.

بالأمس..
كانت تمشى بخطوات ثابتة بإتجاه مكان لطالما إرتادته من أجل الشر، ولكنها ويشهد الله لم تعد تضمر فى قلبها حقدا او شرا لأحد، ولم تعد ترغب فى الحياة سوى سعادة طفلتها، حتى وان كان على حساب سعادتها هي.
تراءى لها هذا المنزل الصغير، فتقدمت منه بسرعة وطرقت بابه بقوة، سمعت صوتها وهي تقترب قائلة:
-طيب طيب، عتتسربع على إيه ياللى عتخبط؟!الدنيا عتطير إياك.

ثم فتح الباب وظهرت هي على عتبته تطالعها بحدة قائلة:
-خير يابومة، مش خلصنا؟جاية تانى إهنه ليه ياحزينة؟
تجاهلت( زبيدة) كلماتها، فمن أجل إبنتها قد تتنازل عن كل شيئ حتى، كرامتها، لتقول بهدوء:
-رايدة أتحدت وياكى ياعوالى فى موضوع مهم.
قالت(عوالى) بنفاذ صبر:
-أباه، ماتتحدتى ياولية، ماسكة لسانك إياك؟
تلفتت (زبيدة )حولها قائلة:
-مش إهنه أومال، خلينا نتحدت جوة الدار.
أفسحت لها (عوالى)الطريق قائلة:.

-إدخلى أما نشوف آخرتها إيه وياكى.
دلفت (زبيدة)تتبعها(عوالى)إلى الداخل بعد أن أغلقت الأخيرة الباب، لتبتدرها (زبيدة)قائلة:
-كيف ولدك راجى؟
وضعت (عوالى)كفا على كف، قائلة بغل:
-مبجاش ولدي، بس ععمل إيه؟الصبر وكل حاجة عترجع زي ماكانت.
قالت(زبيدة) بتوتر:
-مبجاش ينفع ياعوالى، لازمن نجوزهم.
إتسعت عيناها قائلة:
-عتخرفى تجولى إيه ياولية، نجوز مين؟
قالت(زبيدة)بحزم:
-راجى ولدك وبتي نوار.
طالعتها (عوالى)بصدمة قائلة:.

-كنك جنيتى، أنى ماصدجت ينساها.
قالت(زبيدة):
-جلتلك مبجاش ينفع، بتي حبلى.
تجمدت (عوالى)وكأن على رأسها الطير، تطالع (زبيدة)بجمود للحظات، قبل أن تقول ببرود:
-وإيه يعنى؟خليها تسجط الولد.
إتسعت عينا (زبيدة )قائلة:
-عتخرفى تجولى إيه؟
ظهر الغضب على ملامح(عوالى) قائلة:
-هي مين دى اللى عتخرف ياولية، أجفى عوج واتكالمى عدل لإما جسما بالله أخليكى كيف الخرجة البالية واللى ملهاش عازة واصل انتى وبتك.

رغما عنها شعرت(زبيدة)بالخوف فطالعتها بوجل، لتردف (عوالى)قائلة بغضب:
-ولدي عنديه بدل العيل عشرة وعشرين، ومفيش مرة إتجرأت تطالبه بالجواز، بتك فى حضنك، سجطي الولد وستريها، أو غورى انتى وهي من البلد كلياتها، وريحونا منيكم.
قالت(زبيدة)بحسرة:
-بجى إكده ياعوالى، عتعملى فية وفى بتى إكده؟منيكم لله، مش مسامحاكم واصل، ربنا ينتجم منيكم زي ماإنتجم منى جبل سابج.
قالت (عوالى)بغضب:.

-إطلعى برة ياواكلة ناسك، عتدعى علية فى داري، إمشى من كدامى، صبري نفد وانتى مش كدى ولا كدهم.
أسرعت (زبيدة)بالخروج من الدار وهي تهرول بعد أن شعرت بحركة شديدة فى تلك الحجرة خلفها، تسقط أرضا من هلعها ثم تقف مجددا وتسرع إلى دارها، بينما إعتلى وجه (عوالى)غضبا شديدا وهي تقول بغيظ:
-الله يحرجك ياولد عسران، عتجيبلى المصايب لحد عندي، وأنى منجصاش مصايب.

مشت بخطوات غاضبة بإتجاه هذا الكوخ تنوى أن تقرعه بلهجة شديدة، وتفرغ غضبها المستعر فى وجهه، لتتوقف بالقرب من الكوخ، تتريث قليلا وقد عاد إليها عقلها يحذرها، إن ذكرت إسمها أمامه أو حادثته بشأنها، ستعود إليه ذكرياته معها وسيحن لها بكل تأكيد ويذهب كل مافعلته لتجعله يسلاها أدراج الرياح، لذا فقد همت لتعود من حيث أتت، ولكنها عادت لتتجه إلى الكوخ كي تطمان فقط أنه ادى مهمته كما طلبت منه.

وجدت باب الكوخ مفتوحا فأدركت أن المراة قد غادرت، لتدلف بهدوء، وماإن وقع بصرها على ولدها المذبوح وتلك المرأة المقتولة، حتى تسمرت فى مكانها وإتسعت عيناها هلعا، لقد قتل طفلها، ذبح بسكين غادر، تركها من كان لها كل شيئ فأصبحت لاشيئ.

إقتربت منه ببطئ، تراه جثة هامدة، جثت بجواره لا تقوى على فعل شيئ سوى التطلع إليه بعيون مصدومة تزرف الدمع، مدت يدها إلى وجه تتلمسه فشعرت ببرودة قسماته تحت أصابعها، رفعت يدها إلى عينيها تتطلع إلى تلك الدماء التى أغرقتها، لطالما تلوثت يداها بالدماء دون أن يرف لها جفن، ولكن دماءه هو أطلقت مشاعر الأمومة بداخلها وجعلتها تئن ألما، لتصرخ بكل قوتها وتعلو صرخاتها، تنتحب بقوة، تلطم وجهها وتخمشه، يعلو صوتها بكلمة واحدة لا غير، ترددها مرارا وتكرارا:.

-ولددددي، ولددددي.

هدأت صرخاتها ولم تجف دموعها وهي تنعى روح أخذت معها روحها للردى، وقعت عيناها فى تلك اللحظة على خمار تعرفه جيدا، إنه خمار فتاة تسببت فى هذا المصير لولدها بكل تأكيد، لابد وأن أمها(زبيدة)هي من قتلت ولدها، إلتمعت عيناها بالشر وقد وسوس لها الشيطان بحتمية قتل(زبيدة)ل(راجى)إنتقاما، ووجوب الإنتقام لمقتله، لتخرج باحثة عنها فى كل مكان بالقرية، بينما كانت (زبيدة)تبحث عن(نوار)فى طرقات البلدة بدورها، بعد أن عادت لمنزلها فلم تجدها، كانت (عوالى )هي أول من وجدت ضالتها، لتتوقف مطالعة (زبيدة)وهي تسير فى الطرقات هائمة على وجهها، لتتأكد من ظنها، هي من قتلت (راجى)وتهيم على وجهها خوفا، ولابد من أن تنال عقابها، إندفعت تجاهها تصرخ بإسمها فتوقفت(زبيدة)مصدومة من هجوم (عوالى)عليها تحاول أن تمسك خناقها وتقتلها، قاومت( زبيدة)( عوالى) بكل قوتها ولكن الأخيرة كانت أقوى بكل تأكيد وقد بدت كمن أصابها مس، تتسع عيناها بجنون وهي تصرخ:.

-لازمن أجتلك كيف ماجتلتي ولدي، لازمن آخد روحك كيف ماخدتى روحه.
لتقول (زبيدة)من بين أنفاسها اللاهثة:
-انتى إتجنيتي يامرة، أنى عجتله ليه عاد؟
تجمهر الناس حولهم، يحاول البعض تخليص(زبيدة )من يد (عوالى)ولكن دون فائدة، فقد بدت كمن تلبستها قوة عشرين رجلا أو ربما شيطانا.

كان هناك من إستدعى قوة من الشرطة، فأحاطت بالجميع وإستطاع رجالها تخليص (زبيدة)من يد (عوالى)التى إتهمتها بقتل (راجى)فأخذت الشرطة كلتاهما إلى المخفر، وأرسلوا البعض إلى مسرح الجريمة للتحقيق.

كانت (نوار)تسير كالهائمة فى الطرقات، تتذكر عشقها وخيانته لها ثم موته، على شكل ومضات تحرق القلب باللهيب، حين وجدت فجأة هذا التجمع من الناس لفت إنتباهها، إقتربت منه فرأت الشرطة تسحب والدتها وتلك المأفونة لعربة الشرطة، إتسعت عيناها بجزع ومع إنطلاق السيارة، هرولت ورائها تصرخ بإسم والدتها بلوعة، حتى سقطت أرضا من الإعياء، فنهضت تطالع سيارة الشرطة المبتعدة عنها بألم، لتجر أقدامها إلى دارها وتستنجد بأهلها، وما إن أجاب محدثها حتى صرخت بلوعة:.

-إلحجنى ياخال.

عودة للوقت الحاضر
كانت تقف على باب المخفر شاردة حزينة، لا تدرى ماذا تفعل وقد منعوها من زيارة والدتها، إنتبهت على صوت مكابح سيارة فإلتفتت إليها وماإن رأت (مهران) حتى هرولت تجاهه، تقول بلهفة:
-مهران، إلحجنى ياولد خالى.
ربت (مهران)على كتفها قائلا:
-إهدى يانوار وجوليلى، عمتي فين الحين والشرطة خداتها ليه؟

كادت (نوار)أن تتحدث ولكنها توقفت وهي تتطلع إلى هذا الرجل الذى جاورهم ويتطلع إليها بإهتمام ليسمع مالديها، فربت (مهران)على يدها قائلا:
-ناجى كيف ماإنتى عارفة بجى واحد منينا، ده غير إنه محامى وهيدافع عن أمك ولازمن يكون خابر كل شي، إتحدتى يانوار الله يرضى عنيكى وجوليلنا الحجيجة.
أطرقت (نوار)برأسها ألما وهي تقول:
-هجولك ياأخوي، هحكيلك على كل شي ومش عخبى عنك حاجة واصل.

لترفع وجهها فى تلك اللحظة تطالعه بنظرة أمل قائلة:
-بس توعدنى اللول إنك هتخرج أمى من حبستها وتثبت برائتها، يشهد الله إن أمى مش ممكن تجتل حدا واصل..
لتردف فى لوعة:
-دى كانت وافجت خلاص إنى أتجوزه، ليه عتجتله عاد؟
قال (مهران) وقد وقع قلبه بين قدميه حين أوضحت (نوار)ان والدتها متهمة فى جريمة قتل:
-جلتلك تهدي وتحكيلى من اللول يانوار.
طالعته بتصميم قائلة:
-لمن توعدنى.

طالعها بصمت، غير قادر على منحها وعدا لا يستطيع تحقيقه، ولكن إيمانه بأن عمته لا يمكن أن ترتكب جريمة قتل جعله يقول بكل حزم:
-أوعدك.

كان يسترق إليها النظرات، يراها تحنو على الجميع وتقدم يد المساعدة دائما..
وكأنها إبنة بلد أصيلة وليست غريبة كما تبدو ملامحها ولهجتها..
وكأنها أم حانية ولدت فى تلك الأرض واكلت من خيرها..
فمنحت الجميع، حنانها.
حانت منها نظرة إليه فأمسكته بجرم التطلع إليها، كانت نظرتها حانية رقيقة كما لم تنظر إليه إمرأة يوما..
أطرق برأسه وهو يشعر بتلك المضغة بين أضلعه تثور..
تتوق إليها...

ربما عاش الوحدة طويلا حتى أصابه الخرف..
يدق قلبه فى هذا السن الكبير..
وتشتاق روحه وتتوق لإمرأة..
وكأنه عاد مراهقا، يعشق من نظرة.
أفاق (عويس)من أفكاره على صوت هاتف يرن، ليسرع (عسران)بالرد عليه، بينما إلتف حوله الجميع، وهو يستمع بإهتمام لمحدثه قبل أن تتسع عيناه بصدمة..

لقد قتل (راجى)، ذبح بسكين الغدر، قتل ولده، نعم ولده، مهما إدعى وأنكر أبوته ل(راجى)، يظل له إبنا، يشعر لأول مرة فى حياته بطعم مرارة الغياب والفقد، ليصرخ بصمت
فى جوفي بركان..
كسرني فقدانه..
وإرتجفت اضلعي ألما..
وخنق الفؤاد الأسى وذبحته اللوعة..
إلى أين أهرب بأنين العتاب ولسعات اللوم..
إلى أين أهرب من سوط الضمير ولفحات الذنب.
لا أستطيع ان اذرف الدمع على الفراق..
فقد كان غيابه ذنبي..
كما كان وجوده ذنبي..

ولد يتيما وعاش يتيما ومات يتيما، فى حضرتي.
شعر بخناجر حادة تقطع صدره، مد يده إلى حيث مضغته التى آلمته بقوة، خفقاته تذبحه، وأنفاسه تذوى، بينما تتسلل الزرقة إلى ملامحه والرؤية تتغشى، ليسقط فجأة وقد لفه السواد بينما يصرخ بإسمه، الجميع.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة