قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية على الرقاب قدر نافذ للكاتبة شاهندة الفصل الحادي والعشرون

رواية على الرقاب قدر نافذ للكاتبة شاهندة الفصل الحادي والعشرون

رواية على الرقاب قدر نافذ للكاتبة شاهندة الفصل الحادي والعشرون

‏رحيل آخر بدون سابق إنذار، بدون وداع وبدون صفح، كيف يواسي المرء نفسه وبداخله كل هذا الإنشطار؟ اللسعة التي يسببها غدر الفقد تصيب في مقتل، تلك الشهقة المُكذبة التي يحدثها ما كان ليست سوى انتفاضة أخيرة للروح قبل أن تركن إلى عذابها...

ما أصاب (عسران) بسبب ما وصله عن مقتل( راجي) لايمكن وصفه، شيء بداخله قد هرم فجأة، كأن أحد أضلعه قد كُسر، كأن قلبه تقلص لنصف حجمه، أنفاسه تضاربت واكتسحه عرق الذعر البارد، كل عضلة فيه ارتجفت ووقع على الأرض مغشيا عليه انكبت عليه عائلته بين صريخ وهلع..
استغاثت (راوية )بالعم (كامل) بينما( بدارة) تطلب رقم الإسعاف لكن (فدوى) خاطبت العم( كامل) بحزم:.

نشيله للعربية ياعم كامل دي أزمة قلبية مانقدرش نستنى وصول الإسعاف.
نادى العم( كامل )على البستاني وتساعدا في حمله إلى السيارة التي تولت قيادتها (فدوى) بينما جلست (راوية )في الخلف تحتضن جسد والدها، أما البقية فلحقوا بهم مع( كامل) إلى المشفى..
حاولت (راوية) بكل الطرق جعله يستفيق فلم يفدها ذلك سوى بزيادة انفعالها بين نحيب وخوف فنهرتها (فدوى)قائلة:.

بس ياراوية انتي بتتعبيه أكتر بطلي كلام وبكى، خلاص بقينا على باب المستشفى!
ركنت( فدوى) السيارة ودخلت إلى قسم الطواريء تصيح بالمساعدة، أسعف الحاج (عسران) وبعد الفحوصات الأوليّة طلب الطبيب بنقله إلى غرفة العمليات بسرعة قائلا:
- لازم نعمله قسطرة.
انكبت( راوية) بين ذراعي( فدوى) ملتاعة، وقتذاك دخلت بقيّة العائلة، كانت( ناتالي )تسند( ثريا) التي ترتعش خوفا بينا اقتربت (زهرة) من أختها قائلة بوجل:
هاا حصل إيه؟

فردت (فدوى )بثبات حتى لا تزيد من خوفهم:
الحمد لله حاجة بسيطة ياجماعة، ربنا قدر ولطف، هيبقى كويس بإذن الله ونرجعه معانا!
بينما صرخت بها (فضيلة):
-بت انتي، ماريدينشي فزلكة متعلامين، جولي اللي فيها خلينا نطمن!
أشاحت( فدوى) بوجهها عنها وأمسكت يد (زهرة) وقالت برفق:
أزمة قلبية وعدت الحمد لله، هيدوه العلاج المناسب، صدقيني!
لتقول( ثريا) بصوت متقطع وأحد الممرضين يسلم (فدوى) وثيقة للتوقيع عليها:.

ايه؟، الورجة دي تبع ايه؟ ماتخبيش عليا، هو حصله حاجة؟ الحاج خدوه على فين؟
أخذت (فدوى )الوثيقة من الممرض وسلمتها ل(زهرة ) قائلة:
وقعي يازهرة دي إجراءات المستشفى؟
خطفتها (فضيلة )من بين يديها وطالعتها لكنها لم تفهم شيء لأنها مدونة باللغة الإنجليزية فقالت:
مش عنوجع على حاجة جبل مانعرف فيها ايه!
وقفت (فدوى) تطالعها بذهول قائلة:
هيعملوله قسطرة! اخلصي هاتي الزفتة من ايدك عشان نلحقه!

وقعتها (زهرة )بيدين مرتجفتين بينما تقدمت (فدوى) من( ثريا) وقالت بحنو:
هيبقى كويس بإذن الله ادعيله انتى بس!
فقال الممرض:
حضراتكم ممكن تستنوا في الويتينغ روم ولا في الكافي ماينفعش تقفوا هنا!
فأومأت له( فدوى) بتفهم بينما تمتمت (فضيلة):
وده ماله هو راخر كنها مشتشفى أبوه!
رمقتها (فدوى) بنظرات غاضبة وهم يتوجهون نحو غرفة الانتظار.

خسرت التانين، جالتلي روحيله مش عشان رضيت بيه عشان تحرج جلبي عليه،
أكيد هي اللي جتلته! ماعرفاش إنها دبحتني بعملتها.

ظلت كلمات( نوار )تنخر في رأس (مهران) الغاضب وهو لايصدق أن كل ذلك حدث دون أن ينتبه، لقد غرق في مشاكله لدرجة أنه لم يسأل عن حال( نوار) وعمته بعد أن غادرا منزله، كان يلوم نفسه بشدة، بداخله حسرة وكسرة، كيف لأخ أن يتحمل هذا العار الذي انغمست فيه أخته بسبب إهماله لأمرها؟ يتخبط دول أن يثبت على حال هل يشفق عليها أم يغضب منها؟

تلك لم تكن (نوار )أبدا، تلك الجالسة هناك كانت شبح إمرأة ذابلة، الوجوه تشحب من الحزن لكن وجهها أخذ شكلا آخر، ذاك السواد والانطفاءة رسما بؤس مخيفا على ملامحها..
قطع حبل أفكاره سؤال( ناجي):
مهران؟ إنت سامعني؟!
استدار( مهران) إليه زائغ البال وقال:
هاه! جلت حاجة ياناجي!
قال(ناجى):
جلت كتير ياخوي بس شكلك ماسمعتنيش! المهم في اللي جولته إن دي جناية والشهود كلهم ضد عمتك، يعني القضية لابساها!
قال(مهران)بحسرة:.

لا حول ولا جوة الا بالله، اللهم لا اعتراض!
قال(ناجى):
للأسف جثتين متنكل بيه، لو ماتحاكمش عليها بالاعدام هيتحكم عليها من عشرين سنة لخمسة وعشرين!
قال(مهران)بفزع:
وه! هو العمر فيه حاجة، عتموت اهناك مش هتتحامل، لازمن نلاجي حل!
أجابه ناجي بتوجس:
فيه حل! لو أثبتنا إنها قضية شرف هتاخد حكم مخفف شوية!
قذف (مهران )بسيجارته غاضبا:
جنيت اياك؟عايز نفضح البت جدام الخلج!
قال (ناجى):.

زي ماجلتلك دي جناية، أنت لازمن تضحي بحدا فيهم، ياعمتك يانوار! هيطلبوا شهادة نوار وأكيد الموضوع هيتفتح من أوله وطبعا عوالي مش عتسكت، كده كده جصتها مع راجي هتتعرف!
غرق (مهران )مرة أخرى في بحر أفكاره العنيفة وهو يحدق في (نوار )الجالسة على أحد المقاعد بلا روح تضم بطنها بكلتا يديها.

منظرها يمزق قلبه، كان يشعر بمؤاساتها، الفتاة التي جعلها الجميع تشعر أنها لاتستحق الحب لا من أجل طيبتها أو جمالها، جعلوها تشعر أنها عبء بسبب أخطاء غيرها حتى هو في وقت ما كانت ثقيلة على قلبه بسبب تصرفات عمته، ربما لذلك وجد رحيلها من المنزل شيء مريح فلم يكلف نفسه السؤال عنها..
مرة أخرى يقاطعه (راجي )قائلا:.

أنا هطلب مجابلة العمة زبيدة واسمع منيها حصل إيه، مافيش داعي تبجى، خد نوار وروح، البنت تعبانة جوي خليهم ياخدو بالهم منها بالبيت!
مسح (مهران )على وجهه بقلة حيلة فربت( راجي) على كتفه مواسيّا، توجه (مهران )نحو( نوار )وقال بهدوء:
جومي يانوار نروح لازمن ترتاحي!
طالعته (نوار )بعينيها المحتقنتين لثوان دون أن تتحرك ثم قالت:
نروح فين؟
قال:
نروح البيت ياخيّتي!
قالت:
البيت؟!

منظرها الذي يجعل الكلمات تغص في حلقه لم يسعفه بالإجابة فأومأ برأسه ودموعه تقاوم النزول، لتردف هي قائلة:
البيت؟ أنهي واحد منيهم..
بيت أبوي تجصد؟ البيت اللي شلت ذنب صحابه بين الناس! مش البيت ده بردك بيسموه بيت العز؟ البيت اللي تلاجي فيه البت الدلال والرعاية من أهلها، البيت الدافي بالحب اللي لو كرهك العالم كله عتحس وانت جواه انك بأمان، طب ماحسيتش فيه بالأمان ليه؟ كان غربتي ليه؟ كنت مشوهة جواته ليه؟

ماعيزاهوش، البيت ده مش بيتي!
انهمرت دموع (مهران) فأشاح بوجهه يمسحها وهو يعض على شفتيه بقهر لكنها أردفت:
ولا جصدك بيت العيلة؟ بيتكم اللي ماكنش ليا فيه موطرح بردك، لجيت فيه الشفجة بس مالاجيتش الحب، البيت اللي عرفت فيه إني مش زي البنات ولا عتوازى بكفة معاهم عمري، البيت اللي كانت أمي رايده يبجى ملكي وأمك كانت بتحاول يبجالي مأوى بس..
ماعيزاهوش، البيت ده مش بيتي!

ظل (مهران) لايقوى على مواساتها وهي ظلت تطالعه كما لو كانت نظراتها تخترقه دون أن تراه وهي تردف:
ولا جصدك بيت راجي؟ بيت أحلامي اللي اتبنى على الكدب، ماكانش جصر ولا بيت بعفش فخم، كان عشة بسرير خشب و وابور جاز بس فيه دفى حضن الأم، البيت الوحيد اللي حسيت أنه احتواني بدون شفجة ولا همه نسبي، البيت اللي خطيتي فيه كانت حب، حبيت راجي من كل جلبي وسامحت كدبه وغلطته فى حجي، آمنته على روحي من غير ماأفكر مرتين..

البيت اللي شهد حبنا بردك هو هو اللى شهد على موتتنا..
ماعيزاهوش، البيت ده مش بيتي هو كومان!
طب أروح فين ومافيش منهم بيت بيتي؟
أروح فين وأنا مش لأي حد؟
عندك بيت يساع كربتي، يساع سواد بعمر طفل جاي على الطريج لأم خاطية وأب خاين؟ عندك بيت يساع وجعه ويدارى فيه من نظرة الخلج اللي عتعريه؟

البيوت مش بس مساكن ياواد خالي! البيوت ستر عورة الجلوب والأرواح، مالجيتش فى أي بيت ستر لجلبي ولا ستر لروحي! عن أي بيت جاي تتحدت وتاخد بيدي عليه!؟

لم يستطع قول شيء أمام هذا الحطام الذي يهوى شيئا شيئا على الأرض مخلفا خرابا تحت أنقاضه تموت براءة فتاة لم يرأف بها أحد، أمسكها من ذراعها وجعلها تقف، استندت عليه وسارا معا إلى السيارة، فتح لها الباب وجعلها تستقلها وتوجه إلى خلفها فاستند عليها وراح يبكي بنشيج مختنق وهو يعض على قبضته كي يمنع صوته من التحرر وكل كلمة قالتها انغرزت كسهام حامية داخل قلبه..

الحقيقة دائما مرّة يتجاهلها الإنسان لكن وقت مواجهتها تجري في نفسه مجرى السم في الوريد فتنهار لها سائر الروح.
حاول تمالك نفسه قليلا، مسح وجهه بكلتا يديه بعنف لكن احمرار عينيه يفضحه، قاد السيارة بصمت حتى وصل إلى بيتهم بالمدينة..
ترجلّ من السيارة فوجد الحاج (عويس) يهرول بسرعة يسحب عصاته وراءه وقال:
هاه، مهران كويس انك عاودت! خدني معاك ياولدي، استر يارب، استر يارب!
تقدم منه (مهران )بحيرة وقال:.

في حاجة ياعمي، عتروح فين مخضوض اكده؟
توجه( عويس) نحو السيارة وأمسك بيد (نوار) يساعدها على النزول وهو يردد:
- الله يصلح حالك يابتي.
ثم نادى:
ياجمالات، ياجمالات، تعالي خدي نوار جوه وخدي بالك منيها لحدن ما يعاودو البنات!
كل هذا وسط ذهول (مهران) الذي راح يستغفر في سره ويتنبأ أن هذا اليوم لايزال يحمل غُلبا كبيرا..

استقل السيارة بجانب( عويس) الذي فهم أن( مهران) لم يصله خبر مرض والده ففضل أن يصمت ولا يخبره حتى لا يقلقه كأنه لم يفعل منذ قليل، تجاهل سؤاله قائلا:
سوج ياولدي على المشتشفى، صديج ليا تعبان هبابة!
قال (مهران):
إن شاء الله خير ياعمي ماتجلجش كده اومال!
أسر( عويس) ذاك الهم في نفسه وصمت إلى أن وصلا إلى المشفى..

توجها نحو قاعة الانتظار حيث طلبت منه (بدارة)، وقتذاك كان الطبيب يقف وسط العائلة يشرح لهم عن حالة (عسران)...
تقدم (مهران) مذهولا أكثر من تواجد أهل بيته جميعهم فاختلّ نبضه وأمسك بقوة قلبه فجعا، تساءل بصوت خفيض:
ايه اللي بيحصل هنا ممكن حد يجولي جبل ما أنجلط؟
بعيد الشر!

قالتها كل من (فدوى) و(بدارة) معا بذات الوقت ونفس واحد، من الجيد أن البقية كان يركز مع الطبيب فلم يسمع الفتاتين غيره فكفاهما حرج مشاعرهما فسكتت( فدوى) لتقول( بدارة):
عمي تعب فجأة، بس الحمد لله لحجناه!
قال الطبيب مخاطبا إياه:.

ماتجلجش يامهران بيه، الحمد لله وضع الحاج عسران مستقر، ضغطه منخفض شوية هيتعدل باذن الله على الصبح كده، هيشرفنا الليلة دي بالعناية وبكرة باذن الله ننقله لغرفة عادية ولو صحته عال تاخدوه معاكم، ألف سلامة عليه! مافيش داعي تبقوا هنا روحوا وهتشوفوه بكره فى ميعاد الزيارة.
وقبل أن يغادر أمسكته( ثريا )من يديه وقالت برجاء:
وحيات ولادك خليني أشوفه، بس اطمن عليه!

قال (مهران) وهو لايزال يمسك قلبه وبذات الصوت الخفيض:
وأنا كمان يادكتور أرجوك!
بدا على الطبيب التفكير ثم قال:
الحاجة بس اللى هتدخل عنده و انت هتشوفه من الشباك بس!
أومأ( مهران )برأسه وتبع الطبيب يسند والدته وقد تضاعفت أنفاسه وبدأ جبينه يتصبب عرقا، لم ينتبه لحالته تلك سوى( فدوى)، قلبها ينذرها أن هناك خطب به فبينما كان( كامل) يقود الجميع خارجا من أجل إيصالهم إلى البيت تسللت خلف( مهران) ووالدته..

وقف (مهران) يطالع والده الممدد خائر القوى مرتبط بالأجهزة عاري الجذع، ووالدته تمسك بيده وتطالعه برجاء أن لايتركها ويرحل..
اختل توازنه وكاد يسقط أرضا إلا أنها دفعته بكلتا يديها وبقوة لينتصب مجددا ثم أسندته لكنه جلس خائر القوى على الأرض وقد سحبها ثقله لتجلس هي الأخرى، قالت بشفقة حانية:
يوم صعب عارفة، شد حيلك يامهران أزمة وهتعدي بإذن الله!
قال بعيون زائغة:.

عمتي عتتسجن بجناية، ونوار حالتها بالويل، وابويا بيصارع الموت جوة، أجيب منين الحيل اللي يخليني أجف من غير ما تميل الأرض من تحتي!
لأول مرة تكون( فدوى) بهذا القرب منه تمسك يديه بيدها و تستند على ركبته وهي تطالعه بعطف، كأنها العوض لمصائبه تلك، كأنها -الحيل- الذي يبحث عنه حتى تثبت قدماه..
قالت بحنان:.

هنسند بعض يامهران وربنا هيعديها باذن الله، الابتلا مش حاجة وحشة بالعكس هي زي النار اللي بتخلي الحديد يلين وياخد شكل جديد وحلو، بطبيعتنا بنبتعد عن الطريق الصح، بنقسى على بعض وبنكابر وبياخدنا الغرور، الابتلا ده هو اللي بيخلينا نقرب من بعض أكتر ويخلينا نفكر صح من غير أنانية، عمتك اتسجنت مش يمكن دي إشارة عن انكوا تقربوا من بعضكم وتتلم العيلة من تاني؟ وعمي يمكن التعب الصغير ده نجاه من مرض أخطر، و نوار مش يمكن حالتها دي عشان تتعلم درس مهم!

إثبت يامهران مافيش حال بيدوم، لو مابكيناش مش هنقدر الضحكة اللي بتطلع مننا حتى لو كان مجاملة!
استسلم( مهران )لدموعه مجددا دون حرج ودون مراعاة لأي شيء، أراد أن يبكي حتى يغسل التراكمات التي ترسبت بقلبه، احتضنت( فدوى) رأسه وهي تشاركه البكاء..
لم يعلما أن هناك من يراقبهما من بعيد بقلب منشطر، (بدارة )!

(بدارة) أحبته بصدق وتفهم، لم تطالبه بشيء لم تكن أنانية معه لو أتاها الآن وقال أريد (فدوى) لما عارضته، أرادته لنفسها لكن رغما عنها دخلت كطرف ثالث بين حبيبين فرقهما القدر فلم ترد أن تجني عليهما هي أيضا، إن كان يريدها بقربه ستبقى وإن كان يريد رحيلها سترحل لكنها لن تجبره أن ينتزع قلبه ويضعه بين يدي أخرى ويبتعد إنه الذنب الذي لا تريد أن تتحمله أبدا..

لم يدري الثلاثة أن هناك من يطالعهم أيضا، كانت تقف( ثريا )بزاوية تستطيع رؤيتهم ثلاثتهم، ترى الحسرة على وجه( بدارة )وترى الألم على وجه (مهران )والعشق على وجه (فدوى)، زفرت بضيق وقد أدركت أن ماكانت تشكه ماهو إلا يقينا!

دائما تصور لنا الأحلام مالا نستطيع الاعتراف به في وعينا، فتكون مصدر اللاوعي المُتَجاهَل، و لاوعي (عسران )كان يسيطر عليه( راجي )، الإبن الذي لم يعترف به ولكنه كان يعلم أنه يمكن أن يكون ولده فقد عاش قصة حب لاحدود فيها مع (عوالي)..
يقف أمامه بهيئته اللعوب المزرية وجهه مسود مخيف ويداه ملطختان بالوحل كريه الرائحة ورجليه غارقتان في مياه ملوثة كلما رفع رجله سحبت المياه جسده أكثر..

كان يحاول أن ينجده لكن يده لا تستطيع أن تمتد إليه ولا يستطيع صوته الخروج منه..
استيقظ (عسران )يستغفر ويحوقل ثم دخل في نوبة نحيب صفرت لأجلها تلك الأجهزة فأسرعت الممرضة نحوه وقد أحضرت الطبيب برفقتها الذي حاول أن يهدئه لكن دون جدوى فطلب منها أن تحقنه بمهديء يجعله يكمل بقية ليلته نوما هنيئا، مالم يكن يعرفه أن النوم كذلك لم يعد فيه هناء ولا راحة.

ممكن تاخدي بالك من نوار هي بغرفتك
كانت تلك هي الرسالة التي استقبلتها (فدوى) من (مهران) بعد أن وصلوا إلى البيت فتوجهت إلى غرفتها كما فعل هو برفقة (بدارة) التي أخذ يعاتبها لأنها لم تخبره عن مرض والده، ورغم تبريرها المنطقي لكن نظرة الغضب بعينيه لم تتغير فقالت وهي تجلس على كرسي الأرجوحة تضم ركبتيها إلى صدرها:.

مش هجدر أواسيك لا بغضبك ولا بحزنك، عمرك ماعتبجى على طبيعتك معاي، مانيش الحيطة اللي تجدر تتسند عليها وأنا مسنودة بشدتي عليك، سامحني يامهران، سامحني!

استمر في تدخين سيجارته دون أن يقول شيء، كان يريد أن يطمئنها لكنه لا يدري ما يقول، لايدري كيف يلملم شتاتها وتخبطها في أمس الأوقات التي تحتاجه فيه، تحمل طفله الذي لاذنب له في قلبيهما المحطميّن، تذكر كلمات (نوار) فارتجف جسده ووضع يديه على السور مُصدرا آهة قهر انتفضت لها( بدارة) فاقتربت منه تربت على كتفه فاستدار نحوها عنوة وعانقها بقوة وهو يردد:.

-حيلي بيتهد يابدارة أنا خايف ومرعوب، كل حاجة بتنهار حواليا.
واصل كلامه دون أن تقاطعه فكانت حقا لاتعلم كيف تواسيه وتجعل من خوفه أمنا لكن ارتعاشته كانت تسكن بين ذراعيها، ذاك الصدق الذي بداخلها جعلها أمنا وسكنا حتى دون أن تنطق.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة