قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية على الرقاب قدر نافذ للكاتبة شاهندة الفصل السابع والعشرون

رواية على الرقاب قدر نافذ للكاتبة شاهندة الفصل السابع والعشرون

رواية على الرقاب قدر نافذ للكاتبة شاهندة الفصل السابع والعشرون

أكداس الكآبة تجثم على صدري بقسوة، والحزن يسترخي في ممرات روحي، والليل يرسم لشحوبته ألف وطن تبدأ حدوده من عيناي، والحياة همست في مسامعي وأوصتني ألا أعوّل على الآخرين، وأن لا أعقد خط آمالي على سبل السراب.
فمن نحاول الاحتفاظ بهم قدر استطاعتنا في حياتنا يتسربون منها ويتساقطون كقطرات الماء، كحبات المطر، مهما نحاول جمعها لا نستطيع! نتبلل بها ونزكم فحسب.

والآن! بعد أن خسرت كل شيء لم أعد أحلم بأي شيء، الهدوء هو كل ما أطمح إليه بعد أن انشطرت روحي بضياع كل شيء..

بينما كان (عزام) يحاول تفسير الفراغ الذي شكله غياب (فضيلة) كانت هي الأخرى تحاول إقناع نفسها أن مافعلته كان لابد منه للفت إنتباهه إليها ومع ذلك لم يطب لها البقاء في بيت والدها كأنه غريب عنها لاتنتمي إليه وراحت الظنون والتساؤلات تتناطح بخاطرها، نفضت عنها غطاءها ونهضت من سريرها تزفر بقوة لم يغمض لها جفن طوال الليل وهي تفكر بما يفعله (عزام) في غيابها..

شعرت بأنفاسها تضيق وهي تتساءل عن حاله وإن كان يشعر بالراحة، إن كان قد أكل وشرب، إن وجد ملابسه التي دائما ما لا يجدها وهي أمامه؟!
وأهم سؤال كان يراودها هل أخطأت حين أخذت بنصيحة (فدوى) وستتسبب بخراب بيتها؟

تنهدت بحزن يعتصر قلبها ثم اقتربت من النافذة وفتحتها على مصرعيها فلطمتها على وجهها نسمة الفجر المنعشة علها تبرد قلبها المجروح، أجفلت لدقيقة وهي تحدق في طيف أسود يقف بجانب المدخل يرفع رأسه إلى نافذتها على ضوء الساحة الشحيح..
ضربت رأسها بخفة وتمتمت:
- بجيتي تحلمي وانتي صاحية يابت همام، ادعي عليك بايه ياعزام وانت فيك كل العبر , عجبك أكده اهو اختليت وبجيت اتوهم.

فركت عينيها بقوة ثم نظرت مجددا لتجده يشق الساحة إلى باب البيت فقالت بدهشة:
عزام!
هرولت خارج غرفتها وفتحت الباب إلى الخارج فوجدته يقف هناك يرتجف من البرد
فبصقت ما بفمها من أسئلة بوجهه وهي تلف حوله شالها الصوفي الثقيل:
بتعمل إهنه الفجرية إيه عاد؟ لابس خفيف إكده ليه، عتمرض ياعزام وتفضل تئن زي العيل الصغير وتفضل تجول يافضيلة. يافضيلة، يافضيلة لحدن ماتفجع مرارتي؟

وبعدين واجف عندك ليه مبلم في الشباك ماكنت دخلت ده بردك بيت عمك؟
أما هو فبقي صامتا يطالعها بنصف ابتسامة
لقد اشتاق فعلا لثرثرتها بدون فائدة، اشتاق إلى لهفتها عليه واهتمامها به، اشتاق إلى تذمرها، إشتاق إليها بكل تفاصيلها، انتفض على صوتها وهي تقول:
هم بينا جوة اعملك سحلب تدفى، انت بتترجف من البرد، وشك ازرج ويديك اتجمدوا..
سحبته إلى الداخل فشد على يدها وقال:.

الدفى إنتي يافضيلة، أنا بدفى بيكي وما كنتش حاسس..
توقفت عن المسير والتفتت إليه كأنها لاتصدق ما تسمعه فأردف:
هملتك كاتير حجك على راسي من فوج يابت عمي، غبتي يوم عني حياتي اتجمدت، كل حاجة حواليا مالهاشي جيمة ولا طعم أتاريكي إنتي اللي محلية دنيتي...
أشارت بإصبعها إليها وقالت بدهشة واستنكار:
أنى! إنت، تجصد، الحديث ده عني أنى ياعزام؟!
سحبها نحوه وقال:.

أومال مين يعني؟أنى بجول الكلام ده لفضيلة بت عمي ومرتي وأم ولدي يجي بالسلامة بإذن الله..
أنى معرفشي كيف يتجال الكلام الحلو ولا الغزل، أنى بجول اللي فى جلبي واللي حاسه، طلعتي أغلى حاجة فى دنيتي يافضيلة..
كان منظر (فضيلة) يدعو للضحك وهي تحدق في وجهه ببلاهة كأنها لاتسمع مايقوله فأردف وهو يهزها:
أباي عليكي ولية! جاية تنامي دلوك لما اتحلت عجدة لساني ياحرمة!
رفعت يديها وكأنها تولول:.

ياختااااي وانا اللي جلت الراجل اتعدل، مالت على بختك يافضيلة..
دفعها (عزام) إلى داخل وهو يبتسم قائلا:
جدامي على جوة، السحلب ماله، كنت شربت سحلب بلا وجع جلب، أنى اللي مالت على بختي يافضيلة وكلمة تاني هجعد بجلب الدار والطم واولول منك، جدامي!
كانت (فضيلة) تمشي باتجاه المطبخ لاتسعها فرحة وهي تدعو ل (فدوى) في سرها لا تصدق أن زوجها بدأ يشعر بقيمة وجودها في حياته وهذا أكثر ما كانت تتمناه.

تنفس الصباح وتسللت أشعة الشمس الباهتة تنشر بعض الدفء، يبدو أن ربيع يحاول إثبات وجوده..

خرج (مهران) باكرا بالرغم من أنه لم ينم بعد ليلة تفكير طويلة خاصة بعد أن أخبرته (ناتالي) أن (فدوى) قد سافرت إلى روما برفقة (ناجي) من أجل الإدعاء على عمها وإبنه في قضية مقتل والدتها والجرائم الأخرى، لا يدري لما إنتابه الهلع من فكرة أنها ربما تستقر هناك ولن تعود مجددا، كان لابد أن يتحدثا قبل أن تسافر ولم يفعلا وهذا ما زاد من إنزعاجه، مكالمات كثيرة جرت بينه وبين (ناجي) يستفسر فيها عن تحركاتهما منذ أن وصلا روما وأخبره (ناجي) أنهما استقرا في فندق للراحة ثم يستأنفان ما جاءا من أجله..

قام (مهران) باتصالاته ودلهما على محام جيد يمكنه مساعدتهما كما دلهما على شخص في السفارة سيساعدهما أيضا، كما ألح على ضرورة عودتهما بسرعة إلى البلدة ومع ذلك بقي باله منشغلا وها قد أتى الصباح فوجد. شيء يشغله عن أمر (فدوى) إلى حين عودتها مساءا أو غدا...
بطرقات سريعة على الباب جعلتها تهرول تجاهه قائلة وهي تفتحه:
-عتخبط كدة ليه ياحزي...
تجمدت في مكانها وهي تطالعه ثم أردفت بحذر:
-إنت تبجى مين ياجدع إنت؟

أجابها بسخرية:
-معجولة معتعرفيش الراجل اللي سرجتي الخاتم بتاعه؟
قالت بصدمة:
-مهران!
قال (مهران) وإبتسامته تتسع بسخرية:
-عرفتيني أهه، جوليلي بجى سرجتي الخاتم ليه؟
تمالكت نفسها وعيناها تعكس مشاعر الحقد بداخلها وهي تقول:
-أني مسرجتش حاجة.
بضحكة مصطنعة قال (مهران):
- لا ياشيخة! ده أنى يادوب جلت خاتم، جلتي مهران طوالى.
ردت عليه بنفاذ صبر:
-بجولك إيه ياإبن ثريا اني مفايجاش للعب العيال ده إحنا لسة الصبح والسمس...

قاطعها قائلا بغضب:
-إتكلمي عدل يا ست و صحصحي أكده معايا وهاتي م الآخر، الخاتم بيعمل معاكي ايه وجبتيه كيف! هتجولي ههملك لحالك، تلفي ودوري وتكدبي هجيبلك الشرطة تاخدك بتهمة الشعوذة والدجل وفي بدل الشاهد مليون، هااا جلتي ايه؟
طالعته بغضب وقالت:
-وياترى عتتهم عمتك كومان وياي ولا عتسيبها تفلت منيها؟
عقد (مهران) حاجبيه قائلا:
-عمتي! صالحها إيه إياك؟
أخذت (عوالي) تدور حوله وهي تجيبه:.

-ماهي اللي جابتهولي، كانت رايداك تتجوز بتها وأهو حوصل.
غضن حاجبه وقد شك في صدق كلامها فواصلت:
-مش عارفة فيك إيه زيادة عن ولدي؟كانت رايداك لبتها ومرايداش ولدي مع إنكوا التانين ولاد عسران.
احمر وجهه غضبا وقال:
- بتتبلي على عمتي وأبوي ياولية ياجليلة ذمة...
قاطعته قائلة:.

-إنت وولدي راجي الله يرحمه خوات، الفرج إنك إبن ثريا وهو إبن عوالي، جدك الله يجحمه موطرح ماراح غصب عليه يتجوز ثريا فهملني آني، أصل أبوك كان ناجص وجتها ما تغركش هيبته دلوك، بس معلاش! الأيام بينا وزي ما إتحرج جلبي على ولدي عحرج قلب أبوك عليك وعتشوف يامهران.
أمسكها من ذراعها وراح يهزها كخرقة بالية وهو يقول:
ده أنا لو جتلتك دلوك محدش عيجول حرام كانك حشرة واداست تحت الرجلين..
دفعته عنها بقوة وهي تقول:.

الحجيجة بتوجع لكن اسال ابوك عيجولك أن مش كدابة، راجي خيّك، أبوك خلاك تكتب على نوار عشان ولدها من ريحة راجي كأنه بيكفر عن ذنبه، اسال ابوك ياولد ثريا عن عوالي، العيلة اللي هملها ومحدش رحمها، اسال عمتك عن وجف حال خواتك وعن اللي حصل لبدارة وزهرة..
ماحدش احسن من حد ياولد الهوارة، أنا عوالي بنت خضرة مرة شينة وبجولها جدام الخلج مابدعيش الأصالة بس انتو...
دوت ضحتها الساخرة وأردفت:.

انتو شياطين بحد ذاتها ياهوارة!
السمس لو مهما غطاها الغيم هياجي يوم وتطلع حجيجتكم، عتظهر وبعدها ماحدش عيبص يمتكم وتطلع ريحتكم النتنة اللى عتخلي الخلج ينفرو منيكم..
غادر (مهران) بيتها الكريه تتملكه شياطين الغضب لا يكاد يرى أمامه وكلمات (عوالي) تنخر في رأسه كما تنخر الأرضّة الخشب..

إمتطى حصانه وانطلق بسرعة الريح فجأة صهل بقوة وإنتفض وكأنه يشعر بغضب صاحبه الذي نهره بركلة قوية تستحثه على الإسراع اكثر، ثم تمهل وقد شعر أنه قد أذاه في فورة غضبه هذه..
توقف و أمسك لجامه بقوة فهاج الحصان فبدأ (مهران) يلاطفه بحنان حتى هدأ ليملس على جيده قائلا:.

- كلاتهم بيطعنو فيا ياصاحبي، أصدج مين ولا مين؟ نفسي اصرخ بعلو صوتي وأجول الرحمة ياناس، أنى بني ادم من لحم ودم مش حديد أتحمل الخبط ده كلاتو على جلبي ودماغي، أحزن عليهم ولا على نفسي، أنا رجعت اهنه ليه كان بكفياني اتحمل وجع الجلب اهناك لكن دلوك كيف عتحمل كل المصايب دي! أنا شيلت شيلة موش جدي، ظهري انحنى ولسه بعافر، أجف على حيلي أجع بدفشة حجيجة ابوي وعمتي، طب هجوم كيف عاد! دلوك أشد يد مين تنجدني ولا اتسند على مين؟ أبص فى خلجتهم كيف؟

لازمن أروح من اهنه مابجاليش موطرح وسط الغش ده كلاته! ماعشيلش شيلة حد تاني هعيش لنفسي وكفاياني!
يالا ياصاحبي، لازم نعاود الدار!
انطلق الحصان عائدا إلى بيت الهوارة وبعد أن وصل (مهران) وضعه في الإسطبل ثم توجه إلى الداخل نحو غرفته مباشرة لكنه انحرف عن وجهته وقد رأى عمته تدخل إلى غرفة (نوار) فهجم على الغرفة بغضب وقال بدون مقدمات:.

عشان بتك تجعد في الاوضة دي كنتي هتجتلي زهرة وبدارة إنتي مابتخافيش من ربنا ياست انتي..
طالعته (زبيدة) بعيون منكسرة ولم تستطع التفوه بكلمة فأردف هو يطالع (نوار) الساهمة فأردف قائلا:
أن شاء الله تكوني شريكتها انتي كومان!
أعوذ بالله منيكم معندكومش ضمير ولا خوف من ربنا حسبي الله ونعم الوكيل فيكم..
بتك طالج. طالج، طالج!
مهراان!!

صاحت (زبيده) بإسمه لكنه صفع الباب وراءه بغضب وغادر الغرفة دون أن ينظر إليهما فتوجه نحو غرفته حيث كانت (بدارة) مستلقية بتعب شديد يبدو واضحا على ملامحها ومع ذلك اعتدلت بصعوبة في جلستها وهي تقول:
مالك يامهران داخل كيف العاصفة اكده!
حمل حقيبة السفر وحقيبة ظهره ووضعهما على السرير وراح يأخذ ثيابه من الخزانة ويضعها بداخلهما بصمت فسألته من جديد:
هتعمل ايه بالهدوم والشنطة دول؟
فأجابها باقتضاب:
مسافر!
مسافر؟!

رددت كلمته بتعجب، ثم أردفت:
وأنى، أنى هاجي معاك؟
بقي سؤالها معلق فأدركت أن به خطب ما وبينما هما كذلك دخل والده وبرفقته (زبيدة) التي تتخفى وراءه، ليقول والده:
اللي عملته غلط يامهران انت اتخطيتني وطلعت عن طوعي!
ما إن لمح (مهران) عمته حتى صرخ بغضب:
اطلعي برا جبل ماجتلك!
مهراان!
صرخ به والده بينما (بدارة) بقيت متسمرة مكانها فاقترب منها (مهران) وقال:.

كل اللي حصلك يابدارة بسبب الست اللي اهناك دى، اوعاكى تسامحيها، كل ماتشوفي شيبتك في المرايا حسبني عليها وادعي من كل جلبك ربنا يجحمها فى جهنم أبدا الآبدين!
ضربت (بدارة) على صدرها وسألته بدهشة:
السبب كيف!؟
قال بغضب:
ساحرة! سحرتلك عشان بتها تاخد مكانك، بتها اللي عملت مصيبة مع ولد الحاج عسران فشيلني مصيبتهم اللي ماليش ذنب فيها مش إكده ولا لاه ياحاج عسران، ياكبير هوارة؟

لم يدر (مهران) الا والصفعة تدوي على خده ووالده يطالعه بشرر قائلا:
لولا اني مجدر صدمتك كنت غضبت عليك دنيا وآخرة، عايز تغور من اهنا، غور بس اوعاك تحلم تاخد بدارة معاك هي كنتي ومكانها اهنه!
أمسك (مهران) بحقيبته واتجه إلى الخارج ونار الخذلان تلتهب في روحه لكنه توقف وعاد باتجاه (بدارة) بعدما سمعها تترجى والده أن تذهب برفقته، وقف أمامها وأمسك يدها وقال:.

لو رجعت هرجع عشانك يابدري، هكلمك كل يوم واطمن عليكي كل يوم ماتزعليش أرجوكي، وعد مني ارجعلك!
فقالت من بين دموعها:
خد بالك من نفسك يامهران!
قبل جبينها وغادر المكان دون أن يودع أمه حتى،
غادر مكسور الخاطر مبعثر النفس لم يطلب تفسيرا للحقيقة التي اكتشفها ببساطة لم تكن اي كلمات بقوة كافية تجعل أمله يبقى.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة