قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية على الرقاب قدر نافذ للكاتبة شاهندة الفصل السابع عشر

رواية على الرقاب قدر نافذ للكاتبة شاهندة الفصل السابع عشر

رواية على الرقاب قدر نافذ للكاتبة شاهندة الفصل السابع عشر

وقفت (فدوى)تطالع هذا المنظر الخلاب لصفحة النيل من نافذتها فى تلك الحجرة التى منحها إياها(مهران)لترتاح قليلا كي تستطيع أن تكمل عملها فى الصباح ورغم رفضها بالبداية إلا أنها لم تستطع أن تصر على رفضها حين هدد بإستبدالها، فلن يجازف بإنهيارها فى فندقه كما قال، ولكنها تدرك أن بين طيات كلماته يقبع إهتماما يثير قلبها حبا وألما، تدرك أنه يحبها كما تحبه ولكن يقف بينهما قدرا قاسيا لا مناص منه.

تنهدت وهي تتأمل السماء الملبدة ببعض الغيوم، تذكرها بروما، تلك البلد التى قابلته فيها لأول مرة ثم غادرتها، تبعث فيها الذكريات شعورا لا تستطيع له صبرا، يصرخ قلبها..
فى تلك الليلة ومثل كل الليالى فى قربه..
يأتى النسيم من نافذتي التى أقف حدهامحملا بعبق الذكريات..
يصافح وجهي برقة فيزيدني شوقا..
تهرب كل أفكاري نحوك ويمزقني الحنين إليك..
أحن إلى هذا الماضى الذى لن يعود..
ويعلو صوت لهفتي..
أتذكر كل مابيننا..

حتى تلك الاشياء صغيرة التى مست قلبى وتركت به أثرا لن يمحى...
فماذا فعلت بى ياحبيبي؟!
أحاول ان أنسى كل ماكان بيننا فأصاب بالخذلان..
وكأننى أصبت بمس من السحر، لا أستطيع له شيئا.

فلطالما كنت تلك الفتاة الهادئة الرزينة ولكن عشقك أيقظ الجنون بداخلي وجعلنى أسير فى طريق العشق بأذرع مفتوحة وقلب منتشى الخفقات، فلم أعد أستطيع العودة، وليت العودة بالإمكان، وكأن لقاءك كان قدرا إنتظرته طويلا كشربة ماء ينتظرها طفل ظمآن، أقر وأعترف بجرم العشق مصحوبا بشوق مع سبق الإصرار والترصد لك فى حلمي، وأرضى بعقوبتي وهي أنين الفراق، والموت دونك.

تعالى صوت الرياح فجأة وكأنه يشاركها عاصفة أفكارها لتتأمل تلك السماء التى تشاركها مشاعرها، حتى أنها تبكى الآن مثلها، تتساقط دموعها، كقطرات من المطر.

إستيقظت على صوت هاتفه، لتفتح عيونها بسرعة وتطالعه يرتدى رباط عنقه أمام المرآة، أزاحت دثارها وهي تهبط من السرير وتسرع إليه قائلة:
-رايح على فين إكده من صباحية ربنا ياسى مهران؟
إستدار إليها قائلا:
-هروح فين بس يابدارة؟اكيد على الفندج، ماإنتى خابرة إن ورانا شغل كاتير.
رمقته بنظرة فاحصة وهي تقول:
-شغل إيه ده اللى عتروحله والسمس لسة مطالعتش؟!

أشاح بناظريه عنها، لا يستطيع ان يواجهها وهو يدرك أن ما يجعله يسرع بالعودة إلى الفندق هو شوق إستبد به وحرمه النوم، حتى أنه آثر أن يكون قرب حبيبته على أن يتلظى بنيران الفراق تلك، يؤرقه الذنب وهو راقدا جار زوجته يطالعها بقلب بارد الخفقات بينما تشتعل نبضاته شوقا لأخرى وأفكاره تحوم حول ماتفعله فى تلك اللحظات.
ليقول وهو يتناول سترته:.

-اليوم عندينا شغل كاتير، عنكمل توضيب الجناح وعنختارله فرشه، وعجتمع بممثل وفد سياحي جاي الفندج ولازمن أخلص كل الحاجات دى النهاردة وأعاود بسرعة عشان رايح مشوار مع أبوي.
عقدت حاجبيها وهي تقف فى طريقه تجبره على النظر إليها وهي تقول:
-مشوار إيه ده عاد؟
طالعها بحنق قائلا:
-انتى عتفتحيلى تحجيج يابدارة؟هملينى أخرج، أنى مفاضيش لرط النسوان ده وورايا ميت حاجة أفكر فيها.

طالعته بصمت، ثم تنحت عن طريقه ليخرج بخطوات سريعة غاضبة، بينما سارت هي إلى سريرها، وجلست عليه بقلة حيلة، تدرك أنه يسرع إليها هي، تلك الغريبة، وليس إلى عمله وأشغاله كما يدعى، يجعلها هذا الإدراك تتلظى بجحيم مستعر من الغيرة، لا تجد أمامه ردا، سوى البكاء بصمت.

كان (راجى)يمشى فى طرقات بلدته، يطالع ملامح كفر هوارة التى صارت باهتة، لا حياة بها، يعقد حاجبيه بقوة، لم تكن تلك نظرته لتلك الطبيعة حوله مطلقا، يتذكر عشقه لها، حتى أن صوت تلك الساقية وهي تدور كان كالموسيقى بأذنه، والآن صار صوتها فقط، مجرد ضجيج.

هناك خواء فى قلبه يؤرقه، يشعره بأنه قد فقد شيئا ما، تصرخ روحه وتناديه دوما ولكنه لا يدرك مايفتقد، حين يتنفس يشعر بأن تلك الأنفاس ينقصها شيئ ما، هناك شعور دافئ ضمه يوما، وغادره للأبد، يحاول إسترجاعه فلا يستطيع، هناك غياب ترك عالمه رمادي اللون، ولكن أي غياب، هو لايستطيع إدرك سر ذلك الشعور الحارق بداخله والذى يجعله يتلظى بالنيران، والادهى أن نيرانه مجهولة الأسباب، غير واضحة المعالم، تجعله فقط، يحترق.

لم يعد يشعر بأي شيئ، ولم يعد شيئا له ذات أهمية، فقط هناك مرارة فى الحلق غريبة عليه، تغيرت ملامحه حتى بات لا يعرفها، وإختلفت مفاهيمه حتى أنه صار يعشق نور الصباح بعد أن كان يحب عتمة الليل.
النور، ماإن يذكره حتى تزيد خفقاته وكأنه إرتبط لديه بشيئ ما أو ربما، شخص ما.

رفع رأسه يشاهد السماء المنيرة بتوق غريب، وجد قطرات من المطر تتساقط على وجهه فبللته، لم يأبه او يهتم، فالمطر يزيل الهموم عن الوجوه، المطر خير يبعث فى الأرض حياة وفى القلوب حنين، وجد نفسه يهمس حروف لا يعرفها ولكنها جعلت خافقه ينتفض بقوة مع هذا الإسم الذى خرج من بين شفتيه رغما عنه:
-نوار.

وجدها هناك وسط العمال كما توقع، قد عقصت شعرها على هيئة ذيل حصان، ترتدى بنطالا ثلجي اللون وبلوفر يماثله فبدت رائعة خاصة وهي تلقى بتعليماتها هنا وهناك، ليطالعها بنظرة أخرى لجانب من جوانب شخصيتها العملية رغما عنه أثار إعجابه وزاد من افتتانه بها، كانت تقول آمرة:.

-خفف اللون هنا شوية ياوضاح، ولما تقرب من العمود تقله، خليه زي ماوريتهولك بالظبط، وانت يامحمود الرسمة تعلى ١٠ سم وحاول تثبتها بشكل مايل شوية وكأنها بتميل بالشيئ اللى فى إيدها ده ع النيل تملاه، مفهوم؟
إنتفضت على صوت قربها يقول بسخرية:
-إسمه بلاصى على فكرة.
طالعته بقلب إرتعش عندما لفحتها أنفاسه، لتجده يقف قريبا منها يحمل فنجالين من الشاي، ويطالعها بعيون تشربت من ملامحها لتشيح بناظريها عنه قائلة ببرود:.

-متولدتش فى أسوان عشان اعرف كل كبيرة وصغيرة فيها، بس أكيد هتعلم، شكرا على المعلومة.
تجاهل برودتها وهو يرتشف من فنجال الشاي خاصته ثم قال بهدوء:
-قالولى انك فطرتى بس مشربتيش الشاي بتاعك، إتفضلى الشاي، خفيف وسكره مظبوط.
طالعته بدهشة قائلة:
-انت لسة فاكر؟!
قال بصوت ظهر به توقه:
-وعمرى ماهنسى.
أشاحت بوجهها عنه رغما عنها قائلة ببرود:
-لازم تنسى لإنى بطلت أحب الشاي وبطلت كمان أحب كل حاجة بتضرنى.

وضع فناجيل الشاي على طاولة قريبة وهو يقول بصوت شابه المرارة لبرودتها:
-ياريت أبقى زيك وأبطل أحب أي حاجة بتضرنى، بس مع الاسف اللى بحبه مبقدرش أخرجه من قلبى مهما حصل، بيبقى إدمان وخروجه من قلبى زي الموت.

ثم غادر الحجرة بخطوات سريعة، لتتطلع (فدوى)إلى فنجال الشاي خاصته، قبل أن تتجه إليه وترفعه متأملة إياه، تحضنه بكلتا يديها وكأنها تضمه هو، ترفعه إلى ثغرها وترشف منه رشفة، ورغم ثقل الشاي الصعيدي كما سمعت عنه ومرارته إلا أنها أغمضت عيناها تتلذذ بطعمه الذى صار عذبا فى فمها، تتلذذ بأنفاسه المختلطة بطعم الشاي، لتنتفض على صوته وهو يقول:
-الشاي ده مش بتاعك على فكرة.

فتحت عيونها على إتساعهما وهي تطالع عيونه التى نظرت إليها مباشرة وفى مقلتيهما إستقر توقه، لم تستطع أن تحرك ساكنا وهو يسحب فنجاله من يدها ويقربه من ثغره يتناول رشفة منه وعيونه لا تفارقها، قبل أن يطالعها بنظرة أخيرة متهملة على وجهها، ثم مغادرا بخطوات هادئة، تاركا عاصفة بداخلها بعدما ظهر له بما لا يترك أي أثر للشك، أنها كاذبة ونبضاتها تخفق مثله، بالعشق.

السماء ملبدة بالغيوم، تنذر بمطر قريب وعاصفة هوجاء، كعاصفة تستقر بقلبها الآن تطالبها بأن تنصت لكلمات قلبها وتهرع إلى محبوبها، تنصاع لأمره دون تفكير، لا تريد لقصتها معه ان تصير مجرد ذكرى، لا تريد لأي شيئ أن يحول دون ان تكون معه تلك العائلة التى تمنتها يوما، ولكن تبقى كلمات والدتها كناقوس من الخطر يوقفها، يجعلها تضع يدها على بطنها، تخشى على طفلها من مصير كمصيرها، وان يسير بين الخلائق يحمل وصمة أبيه وعاره كما حملته هي.

تساقط قطرات من المطر فتعالى أصوات اطفال بالقرب منها، هتافات فرحة يطلقونها فلم يروا مطرا منذ مدة، طالعت المطر بقلب مفعم بالحزن، خرجت من ذلك العريش الذى يحميها من زخاته، حتى أصبح يغمرها، تود لو صرخت..
أهطل أيها المطر، وأمحى آلامي وجراحي.
كأنها لم تكن يوما ولم تسمع الأرض نواحي..
أهطل أيها المطر وإجعلنى أنسى..
فلم يعد الكون ملجأي و براحي.
وجدت والدتها تضع شالا على جسدها وتسحبها للداخل تصرخ بها:.

-واه يا نوار، حرام عليكي يابتي، واجفة فى المطرة بهدمتك الخفيفة دى، إكده هتاخدى برد شديد وعتموتى إنتى واللى فى بطنك.
توقفت (نوار)قائلة بمرارة:.

-مبجاش ليها عازة حياتي ياأما، عاوزانى أعيش ليه إياك؟عشان اجيبلك العار ولا عشان توطى راسك فى الطين بذنبي، أني بجيت كيف اللجمة اللى عتجف فى الزور وتجيب الموت لصاحبها، مبجاش حوالية غير الخراب والموت، مستجبلي ومستجبل اللى فى بطني ضلمة كيف الليل الغميج واللى معيطلعلوش حتى جمر ينوره.
لتنهمر دموعها مردفة:
-رايداني أعيش ليه ياأما ماتهمليني أموت وأريحكم كلياتكم مني.

أمسكتها (زبيدة)من كتفيها تطالعها بقوة قائلة:
-كلنا عنموت يانوار، بس لمن ربك يريد، متبجيش ضعيفة كيف أبوكي الله يرحمه ويسامحه، كونى جوية كيف أمك، لع، كونى أجوى منى كمانى وإرجعى لربك، هو الجادر على فك ضيجتك، هو الجادر على إنه يفرج الهم، نسيناه وبعدنا عنه وإبتلانا عشان يجربنا منيه تانى، فرصة وجاتلنا متضيعيهاش منينا، جربى من ربك يابتي وإسأليه السماح والفرج، ده أجرب إلينا من حبل الوريد.

إرتمت (نوار)فى حضن امها وهي تبكى بحرقة، لتربت والدتها على ظهرها قائلة من وسط دموعها التى سقطت بدورها:
-لا حول ولا جوة إلا بالله، لا حول ولا جوة إلا بالله، إبكى يابتي وخلى دموعك كيف المطر تغسل سواد همك وبدنك، وتحيي جلبك كيف مابيحيي المطر الأرض، وإرفعى يدك وإدعى من جلبك، لعلها تكون ساعة إجابة.
لتغمض( نوار) عيناها وقلبها يبتهل بكل الدعوات بينما يؤمن قلب (زبيدة) وهي تطلب الغفران من الله قائلة بصمت:.

-سامحنى يااااااارب.

قالت (فضيلة)بمرارة:
--بجولك كان بيناديها فى منامه، انا مبجتش جادرة أتحمل يابدارة، عجلى هيشط منى وجلبى جايد نار.
قالت(بدارة)بحرقة:
-ومين سمعك ياخيتي، كنها ساحرالهم بنت المحروجة دى.
لتلمع عينا (فضيلة)وهي تقول فجاة:
-لجيتها.
إنتفضت (بدارة)قائلة بجزع:
-هي إيه اللى لجيتيها دي؟خرعتيني ياولية.
أمسكت (فضيلة )بيد (بدارة)قائلة:
-لجيت الحل للمصيبة اللى هبت علينا من بلاد برة دى.
عقدت( بدارة ) حاجبيها قائلة:.

-حل إيه ده؟
قالت (فضيلة):
-عنسحرلها، نجاة بنت خالى، كان جوزها مش طايجها وساجيها المر كاسات، راحت لشيخة إسمها عوالي، عنديكم فى كفر هوارة، خليته كيف الخاتم فى صباعها، وشايفة الهنا كله منيه دلوكيت.
قالت (بدارة)بإستنكار:
-واه، إتجنيتي إياك، سحر إيه وعوالى إيه؟حد الله مابينى وبين الحرام، ده غير إنى مكوية بناره..
لتشير لشعرها مردفة:
-وآدى الدليل كدامك، لع يافضيلة، إتجى الله، إحنا مش ناجصين مصايب.
قالت(فضيلة):.

-مصايب إيه يامخبولة إنتى؟وهو فيه أكبر من المصيبة اللى حاطت على راسنا دى عاد، إسمعى الحديت اللى عجولهولك ده، إحنا نلجأوا لعوالي دى، ونطلبوا منها تبعد المرة دى عن إجوازتنا من غير ضرر ولا شر، بس إكده، مفيهاش حاجة عفشة تخليكى تجلجى منيها..
إنتفضت تلك التى كانت تستمع إلى حديثهما من خلف الباب على صوت زوجها يقول بإستنكار:
-واجفة كدة ليه يازهرة؟

اشارت له بالصمت وهي تتقدم منه وتسحبه من يده، تدلف إلى حجرتهما وتغلقها جيدا ثم تستدير وتواجهه قائلة:
-مصيبة ياأخوي، مصيبة عتجع على راسنا كلياتنا.
عقد (محمد)حاجبيه قائلا:
-باه، مصيبة إيه دى؟ماتنطجى علطول يازهرة، وجعتى جلبي.
قالت (زهرة):
-عجولك ياخوي، عجولك.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة