قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية على الرقاب قدر نافذ للكاتبة شاهندة الفصل الثلاثون والأخير

رواية على الرقاب قدر نافذ للكاتبة شاهندة الفصل الثلاثون والأخير

رواية على الرقاب قدر نافذ للكاتبة شاهندة الفصل الثلاثون والأخير

الحكايا الجميلة تبدأ دائما ب كان يامكان وتنتهي وعاشوا في سعادة أبدية لكن الواقع يختلف كلما بدأ الأمر بسعادة ينتهي بأمنية ياليته ماكان ومع ذلك لا يتوقف الناس عن السعي وراء النهايات - دعنا لا نقل سعيدة وإنما مُرضيّة.

لو خلت (بدارة) بنفسها وفكرت بما تشعر به وقد عاد (مهران) يحاول إصلاح مابينهما لوجدت أن مافعله وسيفعله لتعويضها يدخل إلى قلبها بعض السكون لا السرور حتى وإن بدت مشعة و راضيّة، ومع ذلك لا تنفي شعور الإكتفاء بداخلها.

لقد ملأ خزانتها بالكثير من الهدايا أحضرها معه من روما، فساتين حمل أنيقة، اكسسورات وعطور، فأدركت (بدارة) وقتها أنه لازال يعاملها بواجب لا حب ومع ذلك أرادت أن تكون أنانية لمرة واحدة وتستمتع بما تراه عينها وتكذب ما يراه قلبها وتسكت ما يتبادر بعقلها من أفكار لتستعيد عافيتها وتعيش بعض لحظات السلام.
لازمت غرفتها الجديدة بينما (مهران) توجه للأسفل للقاء والدته الملتاعة على غربته..

لفته بين أحضانها وأخذت تقبله غير مصدقة أنه عاد إليه ثم أخذت تلومه تارة وتطمئن عليه تارة أخرى.
جلسوا يتحدثون في أمر (نوار) ومصابها فقال (مهران):
نوار لازمن تدخل المشفى تتعالج يابوي!
فرد والده:
لاع، خليها وسطنا ونجبلها العلاج واللازم اهنه حدانا، كفيانا فضايح بين الخلج!
فقال (مهران) باصرار:.

ماينفعش الكلام ده، مايهمنيش الفضايح، المهم سلامة نوار وصحتها ولا مْصمم تخسرها تاني ويمكن تعاود تجتل نفسها وتفلح، حرام يابوي! البنت ادمرت ومش باجية على الدنيا، لازمن تساعدها تفوج لروحها!
بدا التفكير على ملامح (عسران) لتقول (ثريا):.

كل واحد مننا عايش حياته ومهملها عايشة فى حزن مالوش آخر، من يوم ما جيت ياحاج وجلت إكتب عليها ياولدي أني حسيت إن في حاجة كابيرة بس جلت يمكن فيها الصلاح لنوار وطلع مافيش صلاح ولا حاجة البت كانت بتسند نفسها بلي فى بطنها ولمن راح روحها راحت معاه،
ماجدرينش نساعدها يبجى ضروري تتعالج وترجع لعجلها، أني من رأي مهران ياعسران، نوار عتدخل المشتشفى لو مش اهنه يبجى تاخدها مصر حتى، المهم تبجى زينة.

رفع (عسران) رأسه فلاح نظره (زبيدة) التي تقف بعيدا متخفية تخشى الظهور أمام (مهران) ليرى نظرة الانكسار واليأس على ملامحها فقال:
دام كلاتكم شايفين اكدة يبجى على خيرة الله، وديها يامهران!
أومأ (مهران) برأسه ثم تجهم وقال:
هطلجها في المحكمة كومان، هجول لناجي يرفع الجضية.
ردد (عسران) لا حول ولا قوه الا بالله بينما قالت (ثريا):
ليه ياولدي أكده، البت لا بتهش ولا بتنش خليها على ذمتك هتبجى انت والدنيا عليها.

فقال (مهران):
لو مطلجتهاش هبجى ظلمتها وأنى والدنيا عليها زي مابتجولي، أكده أحسن يا أما!

بينما هم يتحاورون دخل (ناجي) يلقي السلام فرحبوا به أحسن ترحيب، جلس إليهم وقد استدعاه (مهران) من أجل قضية طلاقه من (نوار) وبعد الحديث في ذلك وجدها فرصة ليفاتح الحاج (عسران) في موضوع دراسة (راوية) وكما توقع لقد استشاط وامتعظ من هذا الأمر غير أن (مهران) رحب بالفكرة ووعده أن يقنع والده الذي لم يعجبه الحديث وغادرهم وهو يجر عصاته وراء ظهره.

توجه (مهران وناجي) إلى المشفى من أجل الحصول على تقارير بخصوص حالة (نوار) تمكنهما من تسهيل مجرى القضية ومن أجل أن يطمئن (مهران) عليها ويقوم باللازم من أجل تحويلها إلى قسم المساعدة النفسية..
دخل غرفتها التي دلته عليها الممرضة فوجد (فدوى) إلى جانبها تقرأ على مسامعها (رواية) وما إن رأته حتى وقع الكتاب من يدها وأشرقت ابتسامتها وقالت بلهفة:
مهران!، إنت هنا؟، إنت رجعت؟ حمد لله على السلامة!

تخطاها كأنه لم يلاحظ وجودها ولم يصله صوتها وجلس بجانب (نوار) التي تحدق في السقف ساهمة وقال:
نوار، خيّتي المليحة! أنى إهنه، جيت أشوفك وأطمن عليكي، بصيلي يانوار!
فقالت (فدوى):
على فكرة هي بتسمع بس مش بتتجاوب مع الكلام!
فأردف (مهران) كأنه لم يسمع حديثها فغيم الحزن عليها وقد أدركت أنه لن يسامحها أبدا:.

فاكرة يانوار لمن كنا صغار، لمن وجعت بالترعة و جرحت رجلي وفضلت تنزف ماجدرتش أدعس عليها و أطلع، كنتي إنتي وزهرة معاي، هي راحت تنده لأبوي وانتي جعدتي وياي عشان ماخافش،.

عطيتيني منديل راسك وجلتلي اربط رجلك يامهران يمكن يخف الوجع، وربطت رجلي و طلعني أبوي وانتي خدتي علجة منه عشان كشفتي راسك وجولتيله وجتها أعمل إيه ياخال أفكر في راسي وأسيبه للوجع وماعملش حاجة وبعدها راضيتك وجبتلك عروسة من المولد، وجلتيلي اديها لزهرة يامهران يعني العروسة هتنسيني العلجة! وجلتلك مش عتنسيكي بس عتفكرك بأن اللي عملتيه مايستاهلش علجة جد مايستاهل العروسة.

دلوك أنا اللي كشفت راسي جدام الخلج كولاتها ومش عسيبك للوجع وهاخد بيدك عشان ترجعي نوارة زمان اللي جلبها على الكل، أنا معاكي وبشد على يدك لحد ما يخف وجعك، جاي أجولك اللي عمالتيه مايستاهلش تموتي على جد مايستاهل تعيشي يانوار، كفياكي ظلمة ياخيتي شدي على يدي نتمسك في الحياة ونطلع للنور اللي تستاهليه، بصيلي يانوار، لازمن تطلعي من عندك!

لازالت تحدق في السقف ساهمة و (فدوى) تقف إلى جانبها تطالع (مهران) بأسى، استقام ليغادر و قال:
هرجع أشوفك بكرة يانوار، فكري فى كلامي أنى عارف إنك سمعاني.
شعر بيدها تشد قليلا على يده فابتسم وانحنى إليها يدير وجهها نحوه وأردف:
هي دي نوارة اللى أعرفها، أنى معاكي لحد ما ترجعي!

تركت يده فخرج يخبر الطبيب بردة فعلها، فأكد له أن استجابتها تلك بداية مبشرة بتقبلها للعلاج، أما (فدوى) شعرت بشيء يحترق في قلبها، نغز مؤلم يجعل أنفاسها متضاربة، لقد جافاها (مهران) وتجاهله لها طعنة أخرى تنزف قلبها العاشق مجددا.

وبالحديث عن القلوب العاشقة، كان (عويس) يشعر بشيء باتجاه (ناتالي)، انجذاب جميل إلى أحاديثها -التي أصبحت تثير الضحك مؤخر لتهجئتها العربية- وروحها الطيبة، بعدما غادرت رفقة (بدارة) إلى بيت (عسران) شعر كما لو كان شيء ينقصه، كما لو غاب ماينير بيته.

أما (زهرة) فقد أثار الحمل هرموناتها، فزادت إنفعالاتها الحب والغيرة، الغضب والبكاء لأتفه الأسباب ولكن دائما ما تجد راحتها بين يدي حبييها (محمد) يهدهدها بحنانه وتفهمه وإستيعابه لكل حالاتها فيعيد إليها إتزانها، كان هو كذلك قد جهز غرفة لطفله المنتظر يشاركه فيها طفل (عزام) الذي سيولد بعد أيام قليلة..

كان (عزام) لأول مرة يبدي سعادته بولده وقد جهز كل مايلزمه من سرير وثياب ومستلزمات، كان ذلك يشعر (فضيلة) بسعادة غامرة تخفف عنها تعب الحمل في أيامه الأخيرة..
أصبح (عزام) يستشير (محمد) دائما في الأشياء التي يمكنه فعلها من أجل إدخال السرور إلى قلب (فضيلة) فيساعده في ذلك بعد أن ينال جرعته من السخرية التي تثير عصبيته لكن (محمد) سرعان مايراضيه..

أما (ناجي) فطالته السعادة بعد أن وافق الحاج (عسران) والحاج (عويس) على دراسة (راوية) وتحديدهما لموعد الزفاف الذي سيكون بعد شهرين من الآن..
بعد مرور أسبوعين...

إجتمعت أفراد العائلتين يحتفلون بولادة الطفل (فاروق عزام الجبالي) كما توافد أهل البلدة على منزل عمدتهم (عويس الجبالي) لتقديم التهاني، وقف (عزام) بينهم يحمل الطفل ويبتسم بفخر، لاحظ الجميع تحول (عزام) إلى رجل آخر كليا، يبتسم دوما وقد انخفظت عصبيته وصار متفهما وقابل للمناقشة والاستماع لأراء من حوله، لقد غيره الحب و الأبوة.

بينما جلست (فضيلة) وسط النسوة ينشدن الأغاني الرائعة ويصفقن جميعا بتناغم، بينما ترقص بعض الفتيات إحتفالا بسبوع أول حفيد لعمدتهم.
سموا المولود سعد الله إن شا الله يعيش إن شا الله.

وضعن البخور على جمر متقد في المكان الذي ستتم فيه غربلة المولود ثم وضعن المولود في الغربال وقامت القابلة بالبسملة ثم تبخيره، وبدأت (فضيلة) بتخطي ولدها (فاروق) بقدمها اليمنى ثم تعود إلى مكانها متخطية إياه رجوعا مرة ثانية، وهكذا حتى أكملت سبعة أشواط، بينما القابلة تردد: الأوله بسم الله، والتانيه باسم الله، والتالته باسم الله، والرابعه بسم الله، والخامسة باسم الله، والسادسة باسم الله، والسابعة يا بركة محمد بن عبد الله.

بعد ذلك بدأت (سعدة) - والدة (فضيلة) - في دق الهاون مع هزّ القابلة الغربال بالمولود، قائلة:
- اسمع كلام أمك، ما تسمعش كلام أبوك.
ثم قامت القابلة بهز الطفل ورفعه بين يديها و إعادته إلى الأرض وهي تردد:
-غربلة يا غربلة غربلتين وغربلة للقمحاية غربلة للفولاية غربلة للشعيرة غربلة للعدساية غربلة للرزاية غربلة للحلباية.
ثم تم رش الملح مصحوباً بأغنية..

يا ملح يا مليح يا ملح يا مليح يا جوهر يا فصيح يحطوك في النار تطرجع يحطوك في الماء تسيح يا ملح دارنا عمر ديارنا يا ملح دارنا كبر عيالنا كتر عيالنا.
وفي نهاية الاحتفال دعون للمولود بالسرعة في المشي قائلات:
-دارج يا فاروج دارج، دارج يا ولد دارج دارج بين البيوت دارج على المساطب دارج وسط الغيطان دارج...
بينما جلست (بدارة) بينهم شاردة بفستانها الأبيض الأنيق الذي اختاره (مهران) من أجلها.

فجلست جوارها (زهرة) قائلة:
-عجبالك يامرت أخوي.
أفاقت (بدارة) من شرودها ورسمت على شفتيها إبتسامة وهي تشير إلى بطنها المنتفخة بدورها قائلة:
-عجبالك إنتي كمان يازهرة ربنا يجعلها فرحة علينا جميعا.
طالعت (زهرة) ملامحها الشاحبة قائلة:
-إنتي زينة يابدارة؟
هزت رأسها وهي تعتدل في جلستها تقول بوهن:.

-أني زينة متجلجيش، الحمل بس تاعبني هبابة، ده حتى الدكتور جالي أتسطح على ظهري الفترة الجاية، بس أني مجادراش أجعد في السرير كاتير، عتطج روحي.
قالت (زهرة) بقلق:
-أدام جالك تتسطحي في السرير يبجي لازمن تسمعي كلامه وإلا هخلي مهران يجف على دماغك
هزت (بدارة) رأسها قائلة وهي تبتسم:
- لاه! حاضر، عسمع الكلام يازهرة.
فقالت زهرة:
أيون اكده، لازمن أخوفك يعني!
نوار كيفها ياخيتي؟
فأجابتها (بدارة):.

مهران بيروحلها كل يوم، بيجول لسه متجبسة وموجوعة، لساتها مابتكالمش بس بتتجاوب مع كلامهم لمن يطلبو منها حاجة، بتسمع الداكتور بيكلمها وتتفاعل معاه، ده اللي جالهولي مهران.
فقالت (زهرة):
ربنا يشفيها، المسكينة مالهاش حظ! الحمد لله على كل حال.
قالت (بدارة):
فضيلة مبسوطة وشكلها حلو، من زمان ماشفتهاش أكده، ربنا يفرحها بولدها، أتاري الأمومة بتغير.
ردت (زهرة) بابتسامة:.

جصدك الحب ياخيتي! عزام بجى يهتم بيها و يحاول يسعدها على جد مايجدر، عرف جيمتها وهو كمان اتغير بجى واحد تاني بيتحدت ويانا بطولة بال ويضحك تجولي واحد تاني.
قالت (بدارة):
تعبت معاه جوي فى اللول اكمنه ماكنشي رايدها بس الحمد لله أنه جدرها وبيحاول يسعدها.
أومأت (زهرة) برأسها و هما يطالعان (فضيلة) المتوهجة التي تضم (فاروقها) إلى صدرها بحنان كأنه دنيتها التي أمسكتها بيديها.

وفي الجانب الأخر كانت (فدوى) تجلس برفقة (ناتالي) التي اشتاقت إليها كثير بعد أن قلت لقاءاتهما بسبب انشغالها مع (بدارة) وانشغال (فدوى) مع (نوار)...
قالت (فدوى):
سأعود إلى روما الليلة ناتالي، من الجيد أننا التقينا لأراكِ قبل أن أسافر..
حدقت فيها (ناتالي) لبعض الوقت ثم قالت:
لم تفعلين ذلك عزيزتي؟ لم تستسهلين الهروب دائما؟
أجابتها (فدوى) بصوت حزين:.

هذه المرة ليس هروبا ناتالي، أنا أطلق سراح مهران من قلبي ليعيش حياته، ألا ترين أنه يحاول جاهدا اصلاح زواجه مع بدارة، ولأكون صادقة إنها تستحقه أكثر مني!
قالت (ناتالي):
الحب ليس إستحقاق، أنت أحببته أولا و..
قاطعتها (فدوى) قائلة:
وليس بالأسبقية أيضا، إنه بالأصدقيّة، معك حق! أنا سبقتها في حبه لكنها هي من صدقت في حبه، صدقها يجعلها تستحقه أكثر مني، قد بدأ مهران يدرك ذلك أيضا..
لذا عليّ أن أرحل من هنا!

عانقتها (ناتالي) بحنان وهي تقول:
آه، صغيرتي آه، الرحيل لن يخفف معاناتك ولن يجعلك تنسينه!
كانت تعلم (فدوى) أنها لن تستطيع نسيانه لكنها على الأقل ستمنحه فرصة للعيش بسلام مع عائلته، طلبت من (ناتالي) البقاء معها هذه الليلة حتى يتسنى لها توديعها وكي تضمن عدم قولها ل (مهران) على رحيلها.

لم تكن (فدوى) وحدها التي أسعدها بقاء (ناتالي) فالجميع لاحظ ابتسامة (عويس) العريضة و قد عادت (ناتالي) الى بيته، جلست (فضيلة) بجانبه وأسندت رأسها إلى كتفه وقالت:
معجولة والله ياعمي جول يامسهل بس!
فقال باستغراب:
و ايه هو اللي معجول يابت اخوي؟
فقالت:
إن ناتالي تجعد حدانا على طول!
فقال بلهفة سرعان ما تداركها:.

بصوح جولك؟!، احم، جصدي كيف يعني، هي بتجعد اهنه عشان فدوى ولا بدارة، غير أكده جعدتها معانا ماتصحش!
ابتعدت عن كتفه وطالعته بعيون ماكرة وقالت:
نخليها تجعد طوالي عشان حدا تاني!
طالعها باستنكار فأردفت وهي تغمزه:
نطلبلك يدها من مهران!
فقال:
تفتكري عيوافج!
فقالت:
إلا عيوافج، ولو ماوفجشي هو الخسران هناخد منه بدارة...
فقال بينما هي تبتسم:
أيوه صح!
ثم تدارك نفسه ودفعها بعيدا عنه وأشهر عصاه أمامها يتهددها قائلا:.

جومي من يمي ياأم نص عجل، انى غلطان اني بتحدت وياكي..
ركضت وهي تضحك بينما تردد:
استهدى بالله ياعمي، أنى جلبي عليك!
بينما هما كذلك تقدمت (جمالات) وقالت:
ياكبير، سليمان ولد أخوك عاوز يتحدت وياك، جلتله يدخل بس جال عيستناك في الجنينة!
قالت (فضيلة) بحيرة:
سليمان أخوي! عيعوز ايه بالوجت ده؟
عنشوف!

قالها (عويس) وهو يتوجه إلى الخارج بينما صدح صوت (عزام) ينادي على (فضيلة) من أجل أن تطعم إبنها الباكي فتوجهت إليه وهي تتمتم يامنحوسة يافضيلة جلتي ياهادي خلصت من عصبية عزام أهو جالك ابنه.

ماهي لحظات حتى عاد (عويس) إلى الداخل ولا يزال يرسم على وجهه ابتسامة بشوشة،
نادى على (فدوى) وسألها على انفراد فأجابته
قائلة:
-أنا آسفة ياخالي، اعتذرله بالنيابة عني!
قال (عويس):
-ليه بس يابتي؟ده ولد زين جوي والكل بيتحدت عن أمانته وأخلاجه، وكمان شغلنته زينة وبيكسب منها بما يرضي الله، غير أنه ابن خالك وأجربلك من أي حد يعني ماعيتعيابش واصل.
قالت (فدوى) بمرارة:
-العيب مش فيه ياخالي العيب فية أنا!

عقد (عويس) حاجبيه قائلا:
-كيف فيكي؟!تجصدي إيه بحديتك ده؟
إبتلعت (فدوى) ريقها تبحث عن إجابة تمنحها إياه وقد أدركت أنه أساء فهمها، فلم تجد غير الصراحة، قالت بحزم:
-بصراحة ياخالي، أنا مقدرش أتجوزه لإني بحب واحد تاني.
على عكس ماتوقعت وجدت خالها يصمت للحظة قبل أن يسأل بهدوء:
- طيب يابنتي لو راجل زين خليه ياجي هو وأهله يطلبوكي، أهلا وسهلا فيهم!
تنهدت قائلة:
- ماطلعش من نصيبي ياخالي!
قال خالها بحنق:.

-يعنى إيه الكلام الماسخ ده؟
قالت (فدوى):
-اللى بحبه إتجوز واحدة تانية وخلاص فرقنا القدر.
قال (عويس):
-أدامه إتجوز حرمة تانية وباعك يبجى لازمن تنسيه وتشوفى بختك مع غيره.
قالت (فدوى):
-متظلموش أرجوك، إحنا حبينا بعض وبعدين فرقتنا الظروف ولما قابلته تاني كان إتجوز وبقى من نصيب واحدة تانية، ورغم إني عارفة إنه خلاص مبقاش من نصيبي، بس لا قلبي قادر ينساه ولا ينسى حبه.
قال (عويس) بغضب:.

-معناته إيه الكلام ده، لتكوني لسه متأملة منه وعتاخديه على مراته؟!
قالت (فدوى) بهدوء:
- تفتكر إني ممكن أعمل حاجة زي دي ياخالي، اطمن أنا مش خرابة بيوت، ولا ممكن يسمحلي ضميري أكسر قلب وخاطر ست وادمر بيتها وحياتها.
صمت لا يدرى بما يجيبها ولكن احزنه حالها فمازالت صغيرة لتتخلى عن الزواج وتكوين أسرة من أجل مشاعر لن تجلب لها سوى العذاب ثم تتركها بالنهاية وحدها لا أنيس ولا ولد.
وجدها تربت على يده قائلة بحنان:.

-متقلقش عليا انا بعد ما لقيت عيلتي بقيت أحس، أنا خدت كل اللي عاوزاه من الدنيا.
هز رأسه وهو يضع يده على يدها قائلا بحنان:
-ربنا يراضيكي ويرضى عنيكي يابتي.
وجدتها فرصة لتخبره بأمر سفرها، أرادت ان تخبره حتى لا يشعر بعد ذلك أنها تخطته وخرجت عن مشورته، فأخبرته بذلك دون أن تتطرق لأمر رحيلها إلى الأبد، فضلت أن تخبره أنها عائدة إلى روما من أجل بعض الأعمال، فوافق على مضض بعد إلحاحها الشديد.

صعيدي
أنا ليا عاداتي وتقاليدي..
أصلي صعيدي.
اللى يروح مني بالقوة..
إتعلمت إنجيبه، بإيدي.
واللي يقدرني بتقديري..
عمي وسيدي.
واللي يحس اللي جوايا..
يبقى حبيبي.
إتربيت وكبرت صعيدي.
عمري منزعل م الأيام..
أصلي مآمن، إن اللى يصيبني...
دا نصيبي...
أصلي صعيدي...
ويابخت اللي أساسه صعيدي
إتربيت...
إن الست عمود البيت.
كان أبوي دايما يقولي يا ولدي..
مهما رحت ومهما جيت..
ومهما في براح أرض الله...
وفي الكون لفيت...

عمرك يا وليدي م راح تسعد.
إلا إذا كنت هترجع بيتك تلقى المسند.
اللي عليه هتريح ظهرك..
واللي في وقت الحزن يا ولدي..
ينسيك قهرك...
واللي لا يمكن هيكون طاهر...
إلا بطهرك
مرتك، أرضك!
وطنك، عرضك!
عامل ربك دايما فيها..
وهتديك كد متديها.
(الشاعر طلعت الشريف).

في خضم الأمور التي انشغل فيها (مهران) لم يلاحظ غياب (فدوى) إلا بعد أسبوع من رحيلها حين سمع (ناتالي) تتحدث مع (بدارة) صدفة عن أمر سفرها فسألها لتخبره أنها رحلت للأبد حتى يستطيع كل منهما العيش بسلام في الحياة التي كتبها لهما القدر..
شعر (مهران) بسخرية وتفاهة الموقف فقال ل (ناتالي):
ترحل مجددا، من دون إخبار أحد! من دون وداع!، إنها عادتها القديمة ولن تتخلى عنها، لن أتوقع منها غير ذلك!

ربتت على وجنته وقالت:
لاتحزن صغيري، هذا أفضل!
ابتسم وقال:
مايحزنني حقا أننى أحببتها جدا، أحببتها لدرجة أنني أصبحت لا أشعر بقلبي، أصبح مجرد كتلة تثقل صدري، أحببتها لدرجة كل ماتفعله بدارة من أجلي لا أستطيع الشعور به وأعتبره خيانة لحبي لها..

أنا مرهق من هذا الحب ناتالي، لقد سئمت منه وضقت به، أريد أن أتحرر منها، أريدها أن تختفي من أمامي ومن عقلي ومن قلبي، من عالمي كله! أخبريها أن تفعل أرجوكِ، أخبريها فحسب!
غادرها متوجها نحو غرفة (بدارة) التي ولذات الصدفة كانت متوجهة إلى غرفة (ناتالي) فسمعت حديثها، لم تفهم كلماته ولكن احساسه وصلها بالرغم من ذلك، فغيم الحزن على قلبها من جديد ليس من أجلها فقط بل من أجل ثلاثتهم!

مرت ثلاثة أشهر سريعة وهاقد بدأت حرارة الصيف النزقة تثبت وجودها بعنف..

خلال هذه المدة حاول كل من (بدارة ومهران) تجاهل مشاعر قلبيهما، كان هناك دفء يجمعهما، (بدارة) أصبحت قليلة الكلام أما هو فيثرثر في أي مجال ليجعلها تشاركه الحديث، يأخذها جولات قصيرة للمشي، وأحيانا لزيارة بيت والدها وأوقات أخرى يقيمها بين عمله وزيارة (نوار) التي يتابع حالتها الدكتور (ياسين)، الطبيب الخامس بعد أن عجر الأربع الذين من قبلهم على حملها على الكلام وإعادة أحياء مشاعرها..

يجلس معها دوما يشاهدان فيلما أو يقرأ لها قصائد تحبها..
أما هذه الليلة تختلف فمنذ عودته لم يعجبه حالها وصدقت شكوكه حين نزل ليحضر لها عصيرا تشربه وعاد إليها، ناداها عدة مرات فلم تجبه فظن أنها نائمة غير أن منظر الدماء طرف الغطاء جعله يدرگ أنها على غير مايرام، ركض بسرعة إلى غرفة (ناتالي) المجاورة لها يستنجد بها فأتت وأهل البيت جميعا على صوته...

كان يجول أمام حجرة العمليات كليث جريح، ينتابه خوف شديد كأنه يفقد جزء من روحه، لقد عانت (بدارة) في الفترة الأخيرة كثيرا، حتى أنهم أحضروها للمشفى عدة مرات، أما هذه المرة أخبرتهم الطبيبة أن ولادتها ستكون مبكرة.

إنها فى نصف الشهر الثامن لحملها لم يحن موعد ميلاد طفلهما بعد إلا أن ما أخافه حقا هو طلب (بدارة) الحديث مع والدها على إنفراد قبل إجراءها العملية وجلوسه حزينا شاردا منذ خروجه من عندها، وكأن سنوات عمره قد تضاعفت، إلى جانب نظراتها الأخيرة له وكأنها تحفظ ملامحه لتغمض عيناها على صورته قبل أن تختفى عن ناظريه كأنها تودعه الوداع الأخير، نفض أفكاره السوداء وهو يضرب الحائط بيده بقوة، فنهضت (ثريا) تقول بهلع:.

-وه وه يامهران، أجعد ياولدي، هانت، هبابة وهتفرح بولدك وتتطمن على مرتك.
قال (مهران):
-إتوخروا جوي ياأما، أني جلبي مش مرتاح.
قالت (ثريا):
-وحد الله ياولدي وادعيلهم.
زفر (مهران) قائلا:
-لا إله إلا الله، ربنا يجومهالي بالسلامة يارب.
فتح باب على حين غرة فخرجت الممرضة تجر الطفلة المولودة في الحاضنة وقالت:
ألف مبروك ياجماعة، عايزين والد الطفلة لو من نفس فصيلة دمها هنحتاج نسحب منه دم.

فأشار (مهران) على نفسه فتقدمته وهو يلحق بها يطالع صغيرته بعيون دامعة وفي عقله سؤال واحد يخشى طرحه ويخشى سماع إجابته.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة