قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية على الرقاب قدر نافذ للكاتبة شاهندة الفصل الختامي

رواية على الرقاب قدر نافذ للكاتبة شاهندة الفصل الختامي

رواية على الرقاب قدر نافذ للكاتبة شاهندة الفصل الختامي

على الرقاب قدر نافذ قرأت هذه الجملة التي كانت عنوانا ليوميات أمي، وجدته عنوانا غريبا وبعدها أدركت بعد مئة وخمسون صفحة بقدر ما يجعل الحب الإنسان مهترئا ضعيفا قابل للكسر يجعله القدر قابل للصبر والزمن قابل للإمتلاك..
علمتني أمي أن لا بأس في أن أحب بقدر استطاعتي على تحمل ألمه وعلمني أبي أن مايسكن في أعماق القلب إذا ما قطعه القدر وصله الزمن، فاصبر!

كان يجلس على أرضيّة غرفته وسط ظلام دامس يدخن سجائره بشراهة سيجارة تليها السيجارة حتى غرقت غرفته بسحاب خانق، كأنه يزيد ما بداخله من لهيب الفقد والندم، ما يعيشه (مهران) الآن أشبه بكابوس مخيف يريد أن يستيقظ منه فلا يستطيع..
المؤلم أكثر من الفقد ذاته الذكريات التي تتقافز داخل العقل وتفتك بثباته، الصوت الذي لايفارق أذنيّه، والطيف المتسلط على بصره، و الرائحة التي لن تخفيها سجائر ولا ظلام..

(بدارة) في كل مكان حوله، في وجه صغيرتها الملائكي، في صوتها الجائع، في هدوئها اللطيف ولمستها الدافئة وهذا لم يزد (مهران) سوى اعتزالا لنفسه عن الجميع وحتى ابنته، أصبح مجرد شخص بائس، عصبي، حزين لا تريحه مواساة ولا تعزية.
احتارت (ناتالي وثريا) في أمر الصغيرة فلم تجدا بدا من ضمها إلى رعاية (فضيلة) حتى ترضعها مع ولدها (فاروق)، وكان ذلك وقد انتقلت معها (ناتالي) كي تكون لها أما عوضا عن الأم التي فقدتها..

بعد مرور شهرين وقد بدأ الجميع يعتاد فُقد (بدارة) وكفوا عن بكائها والتحسر على فقدانها إلا (مهران) الذي مازال على وضعه بالرغم من زيارة الدكتور (ياسين) - طبيب نوار النفسي الذي نشأت بينهما صداقة -ومحاولة التنفيس عنه وحمله على ترك ذكرى (بدارة) حتى تهنأ في قبرها لكنه لم يستطع تمالك نفسه وذكراها تحاوطه كذراعيّن تشدان عليه بقوة..

حان موعد وضع (زهرة) فأنجبت ولدا بصحة جيّدة اكتسب سمرة والده وملامح والدته وأخذ إسم خاله مهران، اجتمعت العائلة مجددا في سبوع المولود في وليمة بسيطة مراعاة لمشاعر الحزن التي خيّمت على قلوبهم..

حضر الجميع ما عادا (مهران) الذي لازم دور أحزانه- الطابق الثالث من بيتهم الذي جعله مسكنا له ول (بدارة) وصغيرتهما فأطلقت عليه العائلة دُور الأحزان الذي يعتزل فيه (مهران) نفسه مع حزنه- وقتذاك أدرك (عويس) أنه لابد أن يفعل شيء لإخراج (مهران) من ما هو فيه، استأذن من حضوره الذي أمّن (عسران) عليهم وتوجه نحو (مهران) وقد قرر ألا يعود إلا وهو بيده..

فتحت العمة (نفيسة) الباب وقد تفاجئت بالحاج (عويس) يقتحم البيت فقالت بينما هو يواصل طريقه إلى الأعلى:
ماحدش إهنه ياحج، كلاتهم عندك بالبيت!
فرد عليها بصوت عال:
فيهّ يانفيسة فيهّ لكن هو نسيّ نفسه و واضح الكل نَساه!
فتح باب الغرفة المظلمة فأزكمته رائحة التبغ المحترق فراح يسعل وقد أشعل كل الأضواء ودخل يزيح الستائر ويفتح الشبابيك الثلاث لتنسحب الرائحة خارجا.

والتفت يطالع (مهران) الذي يجلس على الكرسي المتأرجح يلف نفسه بشال أسود كان ل (بدارة) ولا تزال رائحتها عالقة به..
سحب كرسيا وجلس قبالته بينما هو ساهم زائغ البصر قد اسود وجهه وتشققت شفتاه وخط الدمع على خديّه خندقيّن سوداويّن بينما جفنيّه المنتفخيّن يوحيان أنه لا ينام إلا فاقدا لوعيه من البكاء والإرهاق، استغفر وحوقل ثم قال بصوت باكي:.

يومها لمن جيت وجلتلي يا أبا الحج بدارة رايدة تتحدت وياك ودخلت عندها حبت على يدي وسحبتني، جعدت حداها فحطت راسها على كتفي وجالتلي: يابوي رايدة منك تسامحني لمن هربت من البيت وجليت منك جدام العريس وأهله سماح حجيجي من جلبك الطيب مسحت على راسها وجلتلها: يابدر داري وحياتي كولاتها لو على السماح مني فاني لا يمكن أشيل منك، جلبي راضي عليك يانن عيني، أني اللي أجولك السماح عشان غصبتك وخليتك تهربي ده غلطي مش غلطتك..

ولو رايدة الحجيجة أني مبسوط بهروبك، هو اللي خلاني أرجع أتصافى مع عسران وبسببه هشيل حفيدتي باذن الله الي هتبجى أغلى منك، فبجولك من اللول ماعيزشي غيرة بيناتكم انتي وبتك عشان جدها هيدلاعها جوي جوي...

وجتها ضحكت وهي موجوعة بس بتداري، فجيت أجوم عشان أخليها تتسطح وترتاح فجالت: يابوي! عارفة إن مهران هيشيل شيلة كبيرة عتهد حيله ويمكن مايلاجيش اللي يسنده، أوعاك تهمله يابوي ده أمانة عندك! لو حصل ولجى نفسه لوحده ابعت لفدوى ترجع مش هأمن بتي على حد
غيرها..

ووجتها أني اللي بكيت، بكيت يامهران وأنى حسيت في كلامها وداع، طب جولي بالله عليك مين يحس بجلب الأب وهو بيشوف بته تتحط تحت التراب ويتلفت يرجع داره ويهملها فى قبرها بروحها...
وضع (مهران) وجهه بين يديه وأخذ يبكي حتى تردد صوت بكائه في البيت كله..
و (عويس) يواصل كلامه:
بتي ليها حق عليك ياولدي ماتبجاش خاين للأمانة، بتي حطت بين يدك حتة منيها، بتك بدارة !.
رفع (مهران) رأسه يحدق فيه بتحقيق، فأردف:.

إيوه، سميتها بدارة على اسم أمها، بدارة الصغيرة هتصبر جلبي على بدارة لكبيرة الله يرحمها، خابر إنك ماشفتهاش من وجت ما ولدت، بتك دلوك بجالها شهرين ونص بتضحك لمن تلاغيها وتلاعبك لمن تشيلها وتغفى لمن تغنيلها..
وقتها تذكر (مهران) كلامه ل (بدارة) حينما جهز غرفة الصغيرة، واصل الاستماع للحاج (عويس) دون أن يقول كلمة فقط نشيج ونواح وحنين يعبر عن الوضع المزري الذي آل إليه بعد خسارته العظمى، (بدارة)!

قال (عوبس):
جوم احلج دجنك واتسبح والبس جلبابك وحط عمتك على راسك وهم معايا، زهرة جابت مهران الصغير ويمكن يجمعه الجدر مع بدارة الصغيرة ومايفرجهمش الموت لحدن لمن يعجزو مع بعض.
وقتها أطلق (مهران) سراح صوته المختنق وقال:
أحب على يدك ياعمي ماتربطش بتي بأي حد ولا تأملها فى أي حد وينكسر جلبها..
ضحك الحاج (عويس) ضحكته المتقطعة وقال:
آه ياولدي آه، شيل بتك على يدك ووجتها عتعرف مافيش حاجة فوق الضنى حتى الحزن!

سار (مهران) بخطى متعثرة يسند نفسه إلى الجدار يشعر بالدوار نتيجة قلة أكله، انسحب (عويس) إلى الخارج ونزل ينتظره بالأسفل وقد طلب من من (نفيسة) أن تحضر ل (مهران) كأس عصير المانجا وتكثر العسل بداخله حتى يتزود ببعض الطاقة تجعله لاينهار بينما تتشبث ابنته بأصبعه...

وكما وجد (مهران) الأمل في إبنته (بدارة) يجعله يتعافى ويعيش من أجلها وجدت (نوار) الأمل أيضا في (ياسين) الذي سحبها بقوة لتعود إلى وعييها، جعلها تطلق مشاعرها التي أطفأتها بداخلها، نجح في جعلها تصرخ وتنتفض حزنا، جعلها تحرر غضبها وتنفس عنه، جعلها تبكي بلوعة وتبتسم بعفوية، نجح في جعلها تستعيد ثقتها بنفسها وتشعر بالأمان بينها وبين نفسها..

في باديء الأمر لم يكن من السهل التحكم في مشاعرها المتدفقة بقوة إلا بالدواء وشيء فشيء استطاعت الموازنة بين ردود أفعالها، توقف هو عن الثرثرة وبدأت هي في تحرير معاناتها، انتابه الألم لمصابها وتعاطف معها حبا لا شفقة وهي ميّزت ذلك
لقد رأت في عينيه احتراما وعطفا لم تراهما في عينيّ أحد..

كانت خائفة من الانجذاب إليه والوقوع في نفس الدوامة السابقة ومع ذلك بقي الإنسان الوحيد الذي تثق به أكثر حتى من والدتها التي لازمتها طوال فترة العلاج..

شهر بعد شهر و (نوار) تعود إليها إشراقتها من جديد كما عادت الحياة تسري في عروق (مهرا) ن الذي أصبحت (بدارة) تشغل كل أوقاته، أصبحت الرمق الأخير الذي يمسك روحه عن التلاشي، كان أحيانا يأخذها في نزهات ويكلمها عن والدتها التي تشبهها كثيرا وكلما مرر يده على شعرها الأبيض الذي ورثته عن أمها تخنقه العبرات وتنتابه تلك الأمنية التي تمنتها المرحومة (بدارة) عن أخذ ابنتها نفس لون شعرها فيطلق لدموعه العنان إلى ماشاء الله لها أن تتوقف فيعود برفقتها إلى (فضيلة) حتى تطعمها ويخلدان للنوم في حضن (ناتالي)...

(ناتالي) الغريبة التي أتى بها الحب لطفل من غير كبدها لتكون له أما وفية تلملم شتات نفسه وترعاه كأنه جزء من روحها...
أسلمت (ناتالي) و أصبح إسمها حبيبة وبدأت تتعلم أمور الدين بعد أن رأت الجميع يلجأون إلى التضرع لله حتى يثبت قلوبهم الحزينة الجزعة على فراق (بدارة)...

عقد الحاج (عويس) قرانه عليها وأصبحت أم الجميع السيدة الطيبة التي قدر الله لها أن تحيا غريبة وقد أنجبت عوض الولد أربعة، وتحيا أما حبيبة في غربة أصبحت لها الوطن والسكن لتتشارك مابقي لها من العمر وسط دفء عائلي مع الحاج (عويس).

الحاج (عويس) الذي كان يذكر (مهران) دائما بوصية (بدارة) رحمة الله عليها بأن تكون (فدوى) أما لابنتها لكن (مهران) يغضب بشدة ويكرر جملة واحدة:
- مافيش اللي يستاهل جلبي ولا جربي ولا بتي غير بدارة.

وهتبجي عروسة زينة وحداكي العيلة كولاتها وبردك هتجولي ياريت أمي حداي هتجوليها مش إكدة ياروحي؟ لو كنت بتمنى حاجة كنت هتمنى أشوفك في اليوم ده، ألبسك وأمسح دمعتك وأبوسك..

أنا بحبك جوي جوي يازينة البنته، ويعز عليا أسلمك لأي حد، لكن متأكدة أنك يمة الراجل اللي جلبك رايده، عارفة طالعه لأمك مش عترضي حد يغصبك على حاجة ماريدهاش، لكن فدوى جنبك هتعمل الي أنى كنت هعمله معاكي، لكن ده مايمنعشي أني أنصحك حبي يابتي على جد ماتجدري تتحملي الوجع ماتكلفيش نفسك حب كبير يجتلك وجعه الحب اللي حبيته ليكي ولأبوك كان كابير، كابير جوي مايسعوش جلب ولا تساعوش روح، ولساتني بحبكم حتى لو انمحت ذكرايّ جواتكم...

تركت ليكي يومياتي كنت بكتبها ليكي عشان تعرفيني وتحبيني كيف مابحبك...
بنتي الحلوة دي آخر حاجة أكتبها ليكي بجيت بدوخ كاتير وماجدرش أرفع راسي..
هخلص كلامي بدعوة كيف ما الأمهات تدعي لبناتها باليوم ده الله يرزجك الفرحة اللي يستاهلها جلبك ويرزجك العلم النافع و الراجل الصالح والولد البار ويصلح حالك ويرضى عنك ويراضيكي دنيا وآخرة يارب.

طوت (بدارة) الدفتر الذي بين يديها وجلست تبكي وتدعو لوالدتها وبينما هي كذلك دخل والدها غرفتها فوجدها على حالها وقد أدرك من الدفتر أنها قد قرأت مابداخله للمرة المليون أو أكثر، جلس إلى جانبها وأخذ رأسها إلى صدره وقال:
إنتي نسخة منها بالظبط مع انك شبهي، لكن جلبك نضيف كيفها يابخت عريسك بيكي وياحسرتي على فرجتك..

عانقت والدها وقد ازداد بكاؤها وهي تتذكر كيف كان لها الأب والأم، كيف سهر من أجل تربيتها، تعليمها، تمريضها، كيف كان الصديق الذي تفضي إليه بكل مايكدر صفو بالها، كيف لها الآن أن تترك يده وتمسك بيد رجل آخر قد خفق له قلبها وقاسمها مساحته مع والدها..
دخلت الست (حبيبة) وهي ترتكز على عصاتها وقالت بلهجتها المتكسرة التي لاتزال تتعثر فيها بالرغم العشرون سنة التي عاشتها وهي تتعلم وتحاول اتقانها:.

ياميران ياولدي، جوم الناس برا رايدينك!
قبل رأس إبنته وهو يبتسم ويمسح دموع وجنتيها وربت على كتفها أن تطمئن، ثم خرج فغمزتها الجدة حبيبة وقالت:
عريسك برا كمان، عيريد يشوفك!

ابتسمت (بدارة) ونهضت سريعا تغسل وجهها ثم توجهت مع جدتها (حبيبة) تلف ذراعها حول كتفها إلى المطبخ لتخرج من بابه إلى الجانب الشمالي من الحديقة حيث ينتظرها خطيبها الذي عاد ليلا من عمله مشتاقا لرؤيتها ولأنه يعلم عقلية خاله لكان أتاها وقتها الرائد مهران محمد الجبالي ..
كان يجلس على الأريكة المتأرجحة فاقتربت منه بحماس شديد وألقت السلام فرد على سلامها:
وحشتيني!

جلست بقربه وقد تذكرت أن عرسهما بعد يوميّن فغيّم الحزن على وجهها فأردف (مهران):
البدر مضلم اكده ليه بس؟ لازمن ينور ده فرحنا بعد يومين!
فقالت:
مش هاين عليا أسيب بابا لوحده، أنا عارفه أنه هيحس بوحدة بغيابي، كده هبقى أنانية وبفكر في نفسي وسعادتي بس!
فرد عليها بتفهم:
دي سنة الحياة ياحبيبتي، مصير كل بنت تطلع من بيت أبوها عروسة لبيت جوزها، وده مايتحسبش أنك فرطتي فيه، احنا أكيد هنزوره دايما.
فقالت بحزن:.

هو، ماما الله يرحمها سابت وصية إنه يجوز الست فدوى، بس هو مرضيش كنت دايما بسمع جدي يطلب منه حتى جدتي حبيبة كمان لكن هو كان بيتعصب منهم ويرفض ويقولهم دي خيانة لذكرى بدارة..
فقال (مهران) مستغربا:
بعد عشرين سنة لسة بيعتبرها خيانة!؟
فأجابته ممتعضة:
جرى إيه ياسي مهران، كلامك ده مابيطمنش وشكلك هتبيع مع أول فرصة؟
دفشها (مهران) وهو يقول:.

امشي من هنا، أنا جاي عشان اسمع منك كلام حلو بس لسانك طول، آدي آخرة الدلع وأنا اللي بلبس في الآخر..
واستقام يسير فلحقت به وهي تقول:
-استنى بس، استنى! أنا كنت بهزر!
استدار نحوها ليقول شيء فتعلقت عيناه وراءها ليبتسم ابتسامة مصطنعة وهو يقول:
فاروج!
التفتت (بدارة) بدورها وقد شعرت ببعض الإحراج من أخيها الذي جمع يديه على صدره يطالعهما باستنكار وقال:.

مش جلنا في حظر تجوال بالجنينة ياحضرة الرائد، بتعمل إيه عنديك؟
حافظ (مهران) على إبتسامته واقترب من (فاروق) وتأبط ذراعه ففعلت (بدارت) مثله وقال:
كنا بنتناقش في مصير خالي بعد ما اخد بنته!
فقال (فاروق) بسخرية:
والله؟! فيكم الخير بجد!
فأردفت (بدارة):
أيون أومال! يعني أمشي وأسيبه كده لوحده!
فقال (فاروق):
لو جلبك عليه جوازيه!
فأجابته بحزن:
مش هيرضى، اذا كان مارضيش باللي حبها فكرك هيجوز أي ست كدة وخلاص!

بدا التفكير على (فاروق) ثم قال:
تقصدي الست فدوى؟
فسألته بحماس:
إنت عارف مكانها؟
فأجابها:
أنا سمعتها بتكلم جدتي حبيبة، هي بنابولي رجعت إيطاليا وفتحت فرع لشركتها الفرنساوية اهناك!
فقالت بذات الحماس:
أكيد مش متجوزة؟
فقال:
لاه دي معرفهاش الصراحة.
فنظر كل منهما نحو (مهران) نظرات مستفسرة..
فقال وهو يرفع ياقة قميصه متفاخرا:
عندي الجضية دي، أنا هطجس عليها وأجولكم.
فقال (فاروق) وهو يسحبه من ذات الياقة:.

بجولك إيه يابو نسب، إنت رائد مالي هدومك ومتعلم أحسن تعليم، بتتكلم صعيدي ليه، بتتريج علينا ياولد الداكتور؟
تصنع (مهران) الخوف وقال:
حاشا ياود عمي، أنا بفتخر فيكم والأصل أصل يعتز بيه!
تعانقا وأخذ كل منهما يقول:
-حبيبي ياولد العم!
بينما وقفت (بدارة) تراقبهما بتذمر وقالت:
أيوه حبوا فى بعض كده ولا كإني هنا زيي زي عمود النور!
فقال (فاروق):
تعالي فى حضن أخوكي يابت جلبي يأم شعر أبيض!

ونظر إلى (مهران) بتشفي واردف بهمس:
أنا اللي أحضن إنت لاه.
بينما قالت (بدارة) ممتعضة:
بس ماتقولش أم شعر أبيض ده هدية من أمي الله يرحمها ومش هفرط فيه وأغيره واللي مش عاجبه الله يسهلوا..
فقال (فاروق) يغيظ (مهران):
بتجول الله يسهله واجف عندك بتبحلج على إيه امشي من اهنا، مش كفاية هتاخد أختي مني وتسافر..

تركهما (مهران) وغادر وهو يدرك حاجة (فاروق) لقضاء بعض الوقت مع (بدارة)، أخته من الرضاعة التي تعلق بها كأنها توأمه ويعزها أكثر من بقية أخواته الحقيقيّين.

الزمن يداوي الجروح التي تركت ندوبها على الأرواح، هكذا فعل الزمن ب (نوار)، منحها فرصة ثانية للحياة، امتهنت التمريض و تزوجت من (ياسين) وأنجبت ثلاثة أبناء كانوا لها العوض بعد معاناتها، أما (ياسين) فكان يعاملها بحب شغوف بها يتطلع إليها بإعجاب لم يتغير أبدا خلال الخمسة عشر سنة التي تشاركاها مع بعضهما، وكذلك (ناجي) الذي أصبح قاضيا مشهورا و زوجته (راوية) التي أصبحت مستشار قضائي لم تؤثر حياتهما العملية على حياتهما العاطفية والأسرية بل في خضم انشغالهما كانا ينقبان تنقيبا عن لحظات يتشاركان فيها مع توأمها الفتاتيّن الرائعتيّن التي أنجبتهما (راوية) بعد طول إنتظار وكانتا وصالا وتكملة لحبهما الكبير المبني على المساندة والمشاركة والتقدير..

أما (فضيلة وعزام) كما زادها الزمن قربا وعاطفة زادهما عصبية ومع ذلك كانا يجدان في بعضهما الراحة والسكن مع التفاف أبنائهما الأربعة حولهما، كذلك الأمر بالنسبة ل (زهرة ومحمد) وحبهما الملحمي هاهما يحضران لزفاف ولدهما البكر (مهران) من إبنة خاله بدارة مهران الهواري والتي ستكون ابنة ثالثة لهما إضافة إلى إبنتيّهما...

مات (عويس) منذ خمس سنوات تاركا الجدة (حبيبة) وصديقه (عسران) يشعران بمرارة فقد لاتوصف ومع ذلك كانت ولا تزال (حبيبة) الأم الحبيبة للجميع ولا يزال (عسران) كبير العائلة الذي لايخرج أحد عن مشورته...

وها قد انقضى اليومان واجتمع أهل البلدة على زفاف حفيد الجبالي على حفيدة الهواري، مافرقه القدر جمعه الزمن مرة أخرى، قُدِر ل (بدارة الجبالي) أن تفارق الحياة لبيقى (مهران الهواري) وحيدا يشكو بثه في حب ابنته التي جعل منها أملا يحيا من أجله، وهاهو الزمن يجمع بين (بدارة الهواري ومهران الجبالي) جمعة حب لاكسرة قلب فيها..

انتهى الزفاف المهيب الذي بدت فيه العروس كأميرة خرافية زفها الجميع إلى عريسها بفرحة حزينة وهي تتمنى ياليت أمي كانت بجانبي اليوم أمسكت يد عريسها لتعيش السعادة الأبدية كما تمنى لها الجميع..
اعتزل (مهران) نفسه مجددا في دور الأحزان
وهذه المرة يشكو بثه من البدارتيّن اللتان ملأتا حياته حبا كبيرا وحزنا بذات الكبر.

أما الآن فحان وقت السعادة أن تطرق القلوب التي أنهكها الحزن..
حضر (مهران) على عُجالة يعد الساعات ثانية ثانية لتحط طائرته على أرض روما فيهرع راكضا إلى إبنته التي اتصلت به تستنجد أنها مريضة...
وحطت طائرته فوجد صهره (مهران) ينتظره وقد طمأنه أن (بدارة) ذات الشعر الأبيض بصحة جيدة وقاده إليها...

أمام الجسر توقف (مهران الجبالي) وقد لمح الحنين على وجه خاله الذي تعلقت عيناه بالجسر، استرجل من السيارة وفتح له الباب فنزل وأشار له إلى يساره وقال:
هي مستنياك إهناك ياخال!
نظر إلى ذلك الإتجاه فرآها، لم تتغير كثيرا
زادها الزمن جمالا رغم شحوبها وهزالها، اقترب منها بخطى بطيئة كما تفعل هي وقد امتزجت ابتسامتها بالدموع...

خطوة خطوة كل خطوة ترسم ومضات من الذاكرة فيها ألم، وفيها حب، وفيها خيانة، وفيها تضحية، وفيها فراق!
لقد وقع القدر على رقابهم كسيف حام اردى صفاء أرواحهم وهنائها..

وقفا أمام بعضيّهما صامتيّن فحسب فكان ذلك الصمت يعبر عن الشوق ولوعة الفراق ولذة اللقاء، أسكنت (فدوى) (مهران) قلبها فكان حارسه يصد أي رجل عنها، وأسكن (مهران) حزن (بدارة) قلبه حتى غطى على رغبته في (فدوى) كأنه يلوم نفسه ويلومها على موت (بدارة) الذي كان مقدرا لاذنب لهما فيه.

لم يبحث (مهران عسران الهواري) عن نهاية سعيدة بعد أن أختار القيام بواجبه بحب فعاد له الحب كواجبا من الإبنة على أبيها فكانت النهاية مُرضيّة وسعيدة في آن واحد.

تمت
نهاية الرواية
أرجوا أن تكون نالت إعجابكم
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة