قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية على الرقاب قدر نافذ للكاتبة شاهندة الفصل الثاني

رواية على الرقاب قدر نافذ للكاتبة شاهندة الفصل الثاني

رواية على الرقاب قدر نافذ للكاتبة شاهندة الفصل الثاني

تغيرت ذاتي كثيرا...
هناك فراغ بقلبى رغم الإزدحام...
أفقدنى عشقها الرغبة فى أي شيئ سواها...
وجعلنى غيابها أعيش جرحا لايكف عن النزيف...
لا أريد النسيان رغم حتميته ووجعه الذى لا ينفك ينخر فى عظامى...
فقد إشتقت إليها حد الجنون...
وأرهقنى الغياب...
فتت قلبى إلى أشلاء...
مؤلم حقا الوداع فى الحب...
والأكثر ألما، هو حب بلا وداع.

ربتة رقيقة على يده جعلته يعود من شروده الدائم فى الفترة الأخيرة، تعلقت عيناه بصاحبة تلك اللمسة الحانية..
إنها(ناتالى)، ومن سواها قد يشعر بما يعانيه، تذكره كثيرا بوالدته الحاجة(ثريا)، رغم إختلافهم فى كل شيئ إلا أن كليهما يسبران أغواره ويمنحانه الحب والعطف كما لم يمنحه أحد قط.
إبتسم لها بحنان فبادلته إبتسامته بأخرى باهتة، عقد حاجبيه وهو يقول:
-ماذا بك ياجميلة؟
طالعته للحظات قبل ان تتنهد قائلة:.

-سأفتقدك عزيزي، هذا كل شيئ.
ربت بدوره على يدها قائلا:
-سأفتقدك بدورى ولكننا سنتواصل دائما، أليس كذلك؟
طالعته قائلة:
-بالتأكيد، ولكننى ساظل أفتقدك رغم كل شيئ، سأفتقد تجوالنا سويا وفنجال القهوة الذى نشربه معا كل يوم، وحديثنا، سأفتقد بالتأكيد حديثنا حول كل شيئ ولا شيئ، تعلم أننى وحيدة، لا أصدقاء لى ولا أقارب ولا أبناء، وقد وجدت فيك كل هؤلاء، سيخلف غيابك فى قلبى فراغ لا قبل لى به.

تذكر هذا الفراغ الذى أخلفه غياب(شذا)فى قلبه فإنتفض جسده رافضا، وقال على الفور:
-إذا تعالى معى، ستعجبك بلدتنا كثيرا، لدينا هناك فندقا سياحيا من الدرجة الأولى، سيروق لك العيش به بكل تأكيد.
إبتسمت قائلة:
-لا أستطيع ان أترك روما، إنها العشق يافتى، جنباتها تحمل ذكريات جمعتنى بكل من حملت لهم يوما حبا فى قلبى.
ظهر الإحباط على وجه(مهران)لتستطرد (ناتالى)قائلة بإبتسامة:.

-ولكنى قد آتى إلى بلدتك يوما ما، فقط إن إشتقت إليك.
نهض (مهران)وهو يغمز لها قائلا:
-إذا سأنتظرك منذ الغد، فأنا حبيبتى يشتاقون إلي ماإن اغيب عن ناظريهم.
ضحكت(ناتالى)وهي تنهض بدورها قائلة:
-مغرور.
قال(مهران)وهو يضم ياقة معطفه قائلا:
-هل تسمح ملكتى لهذا المغرور بأن يأخذها فى آخر جولة له بروما؟لناخذ الصور والتذكارات فيحملها كلانا دائما امامه، وفى قلبه.

إبتسمت بحب فمد يده ياخذ بيدها ويركضان سويا بجنون، تحت المطر.

الظلام يحيطها، يرسل الرعب فى أوصالها، يجعلها متعثرة الخطى ولكنها تكمل الطريق، فلابد وأن تنال مأربها حتى وإن عانت من اجل ذلك...

المكان حقا موحش وسكونه يبعثر الطمأنينة ويبث الخوف فى النفوس، خشخشة أوراق الشجر تحت قدميها إقشعر له بدنها، حتى لاح لها هذا المنزل أخيرا، إنه المنزل المنشود، صغير قديم تكسوه النباتات، إحدى نوافذه محطمة، توقفت أمام الباب وطرقته، وجدته مفتوحا فدلفت وهي تبتلع ريقها بصعوبة، تأملت تلك الردهة التى لم تحتوى على شيئ سوى أريكة متهالكة، طال نظرها إلى تلك الحجرة المنشودة، فتقدمت بإتجاهها، توقفت فجأة وهي تشعر بان هناك من يراقبها، إستدارت تنظر خلفها، لتشهق قائلة:.

-واه، راجى، خلعتنى ياشيخ.
تأملها (راجى)ببرود قائلا:
-لا مؤاخذة ياست زبيدة، حوصل خير، إنما جاية النوبة دى من غير ميعاد، ليه إكده؟فيه حاجة؟!
قالت(زبيدة)وهي تتلفت يمنة ويسارا:
-عاوزة الست عوالى فى موضوع مهم ياراجى.
قال(راجى):
-مش هينفع ياست زبيدة، عندها ميعاد مع واحدة تانية بعد هبابة.
نظرت إليه (زبيدة) قائلة بلهفة:
-لع، احب على يدك ياراجى، لازم أجابلها وأجولها على حاجة مهمة متستناش للصبح.

تأملها( راجى) للحظات، قبل ان يقول:
-هجولها وهي تشوف الصالح، إستنى إهنه ومتتحركيش.
أومات برأسها على الفور، بينما إتجه (راجى)للحجرة الوحيدة بهذا المنزل الصغير، يغيب بداخلها للحظات قضمت فيها بعض أظافرها قبل ان يخرج ويشير لها بالدخول، فأسرعت تدلف إلى الداخل وهي تنظر إليه بإمتنان، وماإن أغلق الباب خلفها حتى بصق قائلا:
-ولية سو، ربنا يتوب علينا منيكم يانسوان كفر هوارة.

ثم إتجه إلى الخارج بخطوات سريعة تحمل غضبا.

دلفت (زبيدة)إلى الحجرة بخطوات متعثرة، لا ترى شيئا من هذا الدخان المعبق برائحة البخور والذى إنتشر بالحجرة، إقتربت بوجل من تلك السيدة ذات الشعر الأبيض والعيون التى تكحلت بشدة فأصبحت نظراتها حادة مخيفة تسلطها عليها دون رحمة، جلست (زبيدة)أمامها فبادرتها تلك السيدة على الفور قائلة:
-جاية لية يازبيدة فى الوجت ده ومن غير ميعاد كمانى؟كنك مش خابرة إنى مبجابلش حدا من غير ميعاد.

إبتلعت(زبيدة)ريقها بصعوبة قائلة:
-غصب عنى ياستنا، مكنش ينفع أستنى اكتر من إكده، اللى عاوزاكى فيه مينفعش نأجلوه للصبح.
طالعتها (عوالى)بنظرة متفحصة وهي تقول:
-وهي إيه الحاجة المهمة اللى متستناش للصبح عاد ياولية، أنى مش وجفتلك حال بنات اخوكى ولحد دلوكيت مفيش عريس بيهوب يمتهم.
قالت(زبيدة) على الفور:.

-تشكرى ياستنا، جميلك ده على عينى وعلى راسى طول العمر، وجفتى حال راوية وزهرة بنات ثريا، زي ماحال بتى نوار واجف ياحبة عينى بسببهم، دلوكيت مفيش حدا احسن من حدا، وخليهم جاعدينلها كيف البيت الوجف لحد ماتصرخ وتجول بووه، أنى محجوجالك يازبيدة وحجك برجبتي، اومال مش هي...
قاطعتها (عوالى)قائلة بنفاذ صبر:
-جصرى ياولية، انى مش فاضيالك عاد، جولى عايزة إيه وخلصينى.
إبتلعت(زبيدة)ريقها قائلة:
-مهران ولد أخوي.

عقدت(عوالى)حاجبيها قائلة:
-ماله؟!
قالت (زبيدة):
-راجع بكرة من بلاد برة.
قالت (عوالى) بغضب:
-طب وانا صالحى إيه بيه عاد؟تكونيش عاوزانى أجف أتحزم وأرجصله.
قالت (زبيدة)على الفور:
-لع، حاشا لله، انى، انى يعنى كنت عايزة...
قالت(عوالى)بحنق:
-عاوزة إيه يامرة؟ماتنطجى، ضيجتى خلجى.
قالت(زبيدة)على الفور:
-عاوزاكى تعمليله عمل يحب بتى ويطلبها للجواز، أهه، جلت اللى عندى.

تراجعت(عوالى)فى مقعدها، يظهر على وجهها ملامح التفكير، طال شرودها فقالت (زبيدة):
-جلتى إيه ياستنا؟
إعتدلت (عوالى)قائلة:
-الموضوع ده مش سهل وهيكلفك كاتير يازبيدة.
قالت (زبيدة)بلهفة:
-اللى تطلبيه هتاخديه كلاته، ولو هبيع صيغتي كلها بس أنول اللى نفسى فيه طول عمرى.
طالعتها (عوالى)بعيون حادة كالصقر قائلة:
-وإيه اللى نفسك فيه يازبيدة؟تجوزى ابن اخوكى من بتك ولا تكوشى ع فلوس أخوكى وأرضه اللى كتبها للمحروس ولده؟

قالت(زبيدة)بإرتباك:
-فلوس إيه عاد؟وهو أنا محتاجة لا سمح الله.
ضحكت (عوالى)بسخرية قائلة:
-لع، بس الطمع فى دمك يابت مجاهد الهوارى.
نهضت (زبيدة)قائلة بحنق:
-أنى مش طماعة، ده حجى، حجى اللى أخويا واكله فى عبه طول عمره ومرضاش يجسمه بحج ربنا، بعد ماأبويا الله يرحمه ماأستأمنه عليه.
مال فم (عوالى)بغضب قائلة:.

-حجك هيرجعلك ياولية، بس يمين بالله إن إتكلمتى فى حضرتى بالطريجة دى تانى لأخليكى تمشى تتلافتى وراكى من الخوف يابت آمنة.
قالت(زبيدة)على الفور بوجل:
-لع، أحب على يدك ياستنا، أنى آسفة والله مااجصد ازعلك منى.
طرقات على الباب ثم دلوف (راجى)الذى طالعهما للحظة قبل أن يقول موجها حديثه لتلك الساحرة التى طالعته متسائلة:
-الست نفيسة جت وجاعدة برة مستنياكى ياستنا.
قالت (عوالى):.

-إمشى دلوكيت يازبيدة ومصلحتك مجضية بعون الله.
أسرعت (زبيدة)بلف طرحتها على وجهها تخفى ملامحها وهي تغادر بسرعة، بينما إقترب (راجى)من (عوالى)قائلا:
-كانت عاوزة إيه عجربة عيلة الهوارية دى؟
إبتسمت (عوالى)قائلة:
-اللى عاوزاه واعر جوى، بس بعون الله عوالى كدها وكدود، تعرف ياواد ياراجى لو اللى فى دماغى حوصل يبجى طاجة الجدر إتفتحتلك ياعوالى.
عقد (راجى )حاجبيه قائلا:
-طب وانا يااما، مليش فى الطيب نصيب عاد.

قالت (عوالى):
-واه، لك ياولدى اومااال، وانا وانت إيه مش واحد ياإبن عوالى.
لتطلق ضحكة عالية شاركها فيها ولدها وقد نسيا تماما تلك المرأة التى تنتظر (عوالى)بالخارج.

الغائب سيعود...
هذا السر إذا...
السماء تزينت اليوم على غير العادة...
والمنزل ازداد بهجة وضياءا...
الدقائق والساعات صارت ذات أهمية...
والجو تملؤه الضحكات...
فقد آن الأوان لوحيدهم ان يعود إلى قلوب إفتقدته..
و أحضان تتوق لضمه...
الغائب سيعود...
ومع عودته ستعود الحياة لكل قاطنى منزل عائلة الهوارة...
مع عودته سترتج الجدران، بحرارة اللقاء.
نادى (عسران)غفيره قائلا:
-عواد، انت ياغفير الندامة.

أسرع رجل يحمل بندقية على ظهره إلى الداخل قائلا بسرعة:
-اوامرك ياعمدة.
دق (عسران)بعصاه الارض قائلا:
-حضرت الدبايح ياعواد عشان نراضى الخلج.
قال (عواد):
-حوصل ياحضرة العمدة.
قال(عسران):
-وبعت كامل السواج بالترومبيل يجيب سيدك البيه ياعواد.
قال(عواد):
-من بدرى ياحضرة العمدة.
جاءت (ثريا)من خلف (عسران)تقول ل(عواد):
-إدبح خمس عجول كمان من بتوعى ياعواد.
أطرق(عواد)راسه بإحترام قائلا:
-انتى تؤمرى ياست الحاجة.

رمقها (عسران)بنظرة زاجرة قبل ان يقول ل(عواد):
-روح نفذ اوامر الحاجة ياولد، ومتعوجش عشان عاوزك، ومتنساش تعمل حساب عويلاتك.
قال (عواد):
-خيرك سابج ياعمدة، ربنا يخليلك مهران بيه ويباركلك فيه.
ثم غادر، لتقترب (ثريا)من (عسران)قائلة:
-مالك ياعمدة بتبحلجلى إكده ليه؟
قال(عسران) بحنق:
-احمدى ربنا انها جات ع البحلجة وبس ياأم مهران، خمس عجول ياولية، ماانا لسة دابح عشرة، ليه بس الافترا ده؟
ربتت(ثريا)على كتفه قائلة:.

-اهدى ياحاج بس ومتتزرزرش، وهو إحنا فى داك اليوم اللى ابننا الوحيد يرجع فيه من الغربة ويجعد وسطينا، ده يوم المنى ولا إيه ياحاج.
طالعها (عسران)بملامح جامدة لم تلبث ان لانت وهو يقول:
-ربنا يباركلنا فى مهران ياأم مهران.
زينت البسمة ثغرها، لتنتفض على صوت (زبيدة)وهي تقول بنبرة ظهرت بها مشاعر الغيرة رغما عنها:
-هو انا جيت فى وجت غير مناسب ولا إيه ياعمدة؟
طالعها (عسران)قائلا بحنان:.

-تنورى بيت اخوكى فى اي وجت يازبيدة.
طالعت (زبيدة)(ثريا )الصامتة قائلة:
-منور بأصحابه يااخوي، كيفك يامرت اخوي، متزينة ومنورة وكننا فى العيد؟
إبتسمت (ثريا)ببرود قائلة:
-باه، مش ابنى وكبير عيلة الهوارية هيعاود النهاردة، ميبجاش عيد أومال؟
قالت(زبيدة):
-يوصل بالسلامة.
قال (عسران):
-الله يسلمك، أومال فين بتك يازبيدة؟
قالت (زبيدة):
-جاية ورايا، كنت عاوزاك فى موضوع ياحاج.
قال (عسران):
-دلوكيت؟!
قالت (زبيدة):.

-إيون، اصله موضوع مهم ومينفاعش يتأجل، بس ياريت نكون لوحدينا.
قالت (ثريا)بإستنكار:
-اباه وانا غريبة إياك.
تجاهلها (عسران)وهو يتقدم بإتجاه المندرة قائلا:
-تعالى ورايا يااختى.
تبعته (زبيدة)وهي تطالع (ثريا)بعينين شامتتين، حتى إختفيا من امامها، لتقول (ثريا)بحنق:.

-جبر يلم العفش، أنى عارفة إنتى نفسك فى إيه وبتحومى حواليه، بس هانت يازبيدة وولدى هيرجع لحضنى، وهجوزه ست البنات، صحيح بتك نوار مش شبهك بس كفاية إنك تبجى امها عشان مجربش منيها واصل، اللى بتحلمى بيه مش ممكن هيتحجج أبدا طول ماانى عايشة، وانى وانتى والزمن طويل يازبيدة يابنت آمنة.

كانت تطالع صورتها الجديدة بالمرآة بعد أن اطاعت والدتها ووضعت بعض الزينة على وجهها، مدت يدها تجدل ضفائرها البنية، وهي تغنى قائلة:
-ياحنة ياحنة ياجطر الندى ياشباك حبيبى ياعينى جلاب الهوا، لو يطلب منى العين راح أقوله خد الاتنين وتحنى فرحتنا سوا، وافرش له ضفايرى على شط الهوى.
شعرت ببعض السعادة تنتابها لتدور وهي تغنى قائلة:
-خدناها من ع الفرشى، صبوا لأبوها يغسل ايديه..
خدناها وضحكنا عليها..

خدناها خدناها..
بالسيف الماضى وابوها مكنش راضى..
وعشانها بعنا الأراضى..
الحلوة اللى كسبناها...
خدناها بالملايين وأهلها مكنوش راضيين..
وعشانها بعنا الفدادين...
الحلوة اللى كسبناها...
لتقف فى مكانها فجأة وقد احتل ملامحها بعض الحزن قائلة:
-ياترى ياأبا لو كنت عايش، كنت هترضى تجاوزنى إبن خالى ولا كنت هترفض وتجول مجوزهاش غير اللى يبوس التراب اللى بتمشى عليه بتى؟
ضربت على رأسها بخفة قائلة بحنق:.

-باه يانوار، تجوليش إبن خالك خلاص رايدك وطلبك للجواز، ده انتى مشفتيهوش ولا شافك من خمس سنين ياهابلة غير سويعات جليلة، وبتبجوا انتوا التنين وشكوا فى الأرض من الكسوف، أجولك على حاجة، متديش ودانك لامك وفوجى، إيه اللى هيخلى واحد متعلم ومعاه شهادة كبيرة زي ولد خالك يبصلك، عيبصلك على إيه إياك؟لا إنتى احلى البنتة ولا حتى بتعرفى تفكى الخط حتى، جومى طسى وشك بشوية مية وشيلى الهباب اللى عليه ده، ويلا شهلى هبابة عشان تروحى بيت خالك، امك جايلالك متعوجيش، واللى رايده ربك هو اللى هيكون يابت زبيدة.

توجهت (نوار)إلى الحمام تزيل آثار الماكياج من على وجهها لتعود ملامحها إلى طبيعتها النقية، ولكنها تدرك انها لن تستطيع ان تفعل ذلك بروحها التى تحاول والدتها طمسها بكل ماأوتيت من قوة.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة