قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية على الرقاب قدر نافذ للكاتبة شاهندة الفصل الثالث والعشرون

رواية على الرقاب قدر نافذ للكاتبة شاهندة الفصل الثالث والعشرون

رواية على الرقاب قدر نافذ للكاتبة شاهندة الفصل الثالث والعشرون

يوم غريب الأجواء، مطر عاصف بالخارج كأنه ينعي آخر أيام الشتاء حتى يأتي الربيع فسيحا على النفوس المرهقة، لنستبشر أن تكون آخر عاصفة حتى تهدأ هذه المشاعر المتضاربة وتلتف الأيادي حول بعضها وتتشابك الأصابع، يتسلل منها الدفء إلى القلوب والأرواح فتشفيهما من كل بؤس سكن الوجدان كان سببه حب وقع أسير القدر وصدمات انخلع له رداء الراحة وأحلام غشيها واقع مرير يحمل بصمة قهر الزمن وظلم البشر...

لم تكن السعادة عنوان هذا اليوم طبعا، بل كانت المشاعر متناقضة و الحزن سيدها على الأرجح، تعلو الوجوه ملامح الغضب، إنه يوم تشارك أمطاره دموع القلوب الحزينة، رضي أصحابها عن أقدارهم، فكيف للرضى أن يكون ذنبا!؟

اليومين الماضييّن مرّا بثقل على( عسران )رغم تظاهره بالصمود، صحته تراجعت وهدّل الحزن كتفاه، يمضي وقته ساهيّا إما ساجدا و داعيّا، كان الجميع يظن أن حاله بسبب ماحدث لأخته زبيدة خاصة وقد أعلن قراره بزواج( مهران) من (نوار) أمام العائلة والآن لابد من حديث يجمعه مع صديقه (عويس) فاستدعاه إلى مكانهما بطرف القرية بينما ترك العائلة في صدمة من قراره..

ابتل جلبابه وعمامته فكان يرتجف ولم يكن له سعة صدر ليشعل نارا تقيه لسعات البرد، وصل( عويس) وقد وجده في تلك الحال فأسرع بإشعال النار وهو يلومه لكنه لم يجبه كما لو لم يسمعه فناداه مجددا:
عسران! إنت زين ياخوي؟
نظر إليه و قد انكمشت ملامحه وانهمرت دموعه وأطرق برأسه يسند جبينه على عصاه مما زاد (عويس) قلقا فاقترب منه وأمسك كتفه وقال:
باينه حمل كبير ياواد عمي!

سكت الروع عن( عسران) ثم قال بصوت خفيض مبحوح بالكاد يسمع:
نوار..! نوار لازمن تجوز مهران!
تجمدت ملامح (عويس )وجحظت عيناه وقد استأنف (عسران )كلامه:
راجي طلع ابني ياعويس! عوالي حرجت جلبي وانتجمت مني إكمني سبتها وخدت ثريا، خدت ولدي فى بطنها وربته على الشر والحرام والجدر لف لف وحطه عند باب زبيدة خيتيّ، عشق نوار بتها واديك سمعت آخرته كيف كانت..

نوار حامل ياعويس! كيف أهملها وفى بطنها ولد ولدي، حتى لو كانت خاطية، الخطى جاي مني لول، بسببي عيلتي غرجانة فى الهم..
نوار ضاعت، وابني اتجتل، ومهران اتهد حيله، وبدارة!، بدارة هتتظلم تاني..
أحب على يدك ياخوي جولي أعمل إيه أنا خلاص مابجاش فيا عقل أفكر..

نزع (عويس) يده من بين يدي( عسران) واستقام ثم سار بضع خطوات كأنه يفكر، لفهما الصمت لدقائق اشتد فيهما صوت المطر مع طقطقة الحطب كأن غضبهما تمارسه الطبيعة عنهما..
عاد (عويس) ليجلس مكانه ثم قال:
اعمل الصوح ياعسران!، لكن ماهغصبشي بتي على حاجة، لو جالت لاه يبجى لاه، وانت وجتها تختار.
وبينما هما كذلك دخلت( بدارة )وهي توزع نظرها بينهما:
بدارة؟

فقالت متعجبة من وجودهما معا في مكان كهذا فى حين أنها ظنت أن الحاج (عسران) من استدعاها لتوافيه في مكان ما..
أبوي!، أبا الحج؟
التفت (عسران) نحوها وقد وجه كلامه ل(كامل):
روح انت ياكامل استنى في العربية!
وإنتي يابتي تعالي يمتنا اهنه عاوزينك فى حاجة..

اقتربت( بدارة) بوجل وقد ولاها والدها ظهره بينما أمسك الحاج (عسران) يدها وبدون مقدمات أخبرها بما يجب عليها أن تعرفه بدون الخوض في حقيقته مع (عوالي) وأبُوته ل(راجي)..
ابتسمت ثم بدأت تضحك وضحكاتها تعلو شيء فشيئا فأدرك (عسران) أنه أصابها في مقتل فلم تسعفه كلماته لقول المزيد فراحت عيناه تعبر عن ألمه. أو آلامه إن صح القول، صرخ (عويس) في إبنته فجعلها تتستفيق من صدمتها وتستعيد ثباتها..
صمتت قليلا فأردف:.

إنتي مش مغصوبة على حاجة يابتي، مش مجبورة توافجي تشاركك مرة تانية فى جوزك، لو قلتي لاه هاخدك ونرجع دوارنا وربنا يعوضك...
تجاهلت (بدارة) كلام والدها واستدارت نحو (عسران) وقالت:.

أنا ماتغصبتش على مهران يا أبا الحج لكن هو اللي اتغصب يجوازني، هتغصبه تاني يجواز نوار؟ حياة ايه دي اللي عايشها ولدك كلها غصب، كيف ترضاها ليه؟ ولا اكمنك عارف أننا مافرجنشي معاه ولا عينه منينا، طب اشفق عليه هو كومان زي ما جلبك على نوار! مين هيشيل ذنبا لو رضينا؟
فأجابها (عسران) بحسرة:
يعني أجتل نوار إكمنها غلطت؟
قالت بحسرة:
واللي بتعمله دلوك مش موت يا أبا الحاج؟
قال:.

نوار طول عمرها عاشت بخطية أبوها ماهرضهاش لولدها يعيش كيف ماعاشت!
انتصبت (بدارة) واقفة وربتت على كتفه وقالت:
رضيت يا أبا، رضيت عشان ولدي أنا كومان!
خطت إلى خارج لينطلق بها (كامل) إلى البيت الذي قضت الطريق إليه باكيّة بصوت عال أرهق قلب ( كامل).

لم يستطع (عزام)أن يقبل زواج (مهران)من إمرأة أخرى غير أخته وأقام الدنيا و أقعدها، رغم أنه كان يفكر في أن يفعل نفس الشيء ولكن ما نبيحه لأنفسنا قد نحرمه على غيرنا، رفض حضور ذلك الحفل الصغير الذي يقيمه( عسران) في دواره لعقد قران نجله على إبنة أخته، وتشاجر مع والده وإخوته لموافقتهم على تلك الزيجة وتصميمهم على حضور الحفل بدلا من وقوفهم ضده والحول دون ذلك.

بينما إلتمس (عويس)ل(عسران)و(مهران) العذر، يدرك دون كلام أن (عسران)لم يكن ليأمر إبنه بالزواج إلا قلة حيلة منه ومادامت( بدارة) قد رضيت فما عليه إلا مساندتها..

(محمد)أدرك أيضا من ملامح أخيه (ناجي)حين أخبره بالأمر أن هناك سرا وراء ذلك الهدوء الذي بدا على ملامح الأخير، وأنه كان ليتصرف تصرف( عزام) لو رأى أن تلك الزيجة أتت على عنق أخته بأي حال من الأحوال، فرغم هدوء (ناجي) الظاهري إلا أنه يصير ليثا مدافعا عن أحبته بكل قوته إن وجد ما يضرهم، لذا فقد تبع حدسه بدوره ووافق على تلك الزيجة.

بينما شعرت(زهرة) بالتعاطف مع (بدارة) والحزن لأجلها، كذلك فعلت (راوية)، ولكن شحوب (نوار)وحزنها الشديد وكذلك إنطوائها على نفسها جعلهما تدركان أن ربما زواج أخيهما منها قد يبدل حزنها هذا ويجعلها تصبر على مصيبتها في حبيبها المتوفى.

أما (ثريا)فكانت تستشيط غضبا، فلطالما سعت لإبعاد (نوار) عن ابنها والآن هاهي ترى ولدها المجبور يساق إلى قدره مساق الشاه إلى المذبح يعزز حزنه من رفضها، ربما لو كانت العروس تلك المرأة الأخرى التي أدركت عشقه لها لكانت أصبحت أقل حزنا ورفضا وهي توقن من أن زواجه ذاك من أجل سعادته، ولكن أن يتزوج مرة أخرى ومن إمرأة لا يحبها هذا أمر لم تستسيغه أبدا وحين أبدت رفضها قوبلت بثورة من(عسران)لم ترى مثيل لها من قبل فخشيت على قلبه من ذلك الغضب وأظهرت الخضوع والإستسلام توقن بقلب المرأة قبل قلب الأم أن هناك أمر خاطئ في إجبار(عسران)لولدها على تلك الزيجة ولكنها بدورها مجبرة على قبولها وقبول (نوار)ككنة لها رغم علمها بحبها لرجل آخر حتى وإن وافته المنية.

جلست (عوالي) تقضم أظافرها في إنتظار (مصيلحي)لتشفي غليلها من قاتل ولدها حتى تستطيع شفاء روحها العالقة بين الحياة والموت، تنتظر قصاص عادل يريح قلبها المكلوم، حين دفع الباب فجأة نهضت بلهفة مالبثت أن أضحت صدمة وهي ترى زائرها الذي يرمقها بمقت، قالت بنبرات مهزوزة:
-عسران!
قال بصوت حاد النبرات تطاير منه رذاذ الغضب:
-إيوة عسران، أبو ولدك، ولدك اللي جتلتيه بجلبك الإسود وضميرك الميت وحجدك وطمعك.

شعرت بالضعف خاصة وكلماته تنخر عظامها وقلبها حدثها منذ برهة بذات الكلمات ولكن سماعها منه كان قاسيا حتى على روح قوية كروحها، مزقتها إلى فتات، لتدرك أن خير وسيلة للدفاع هي الهجوم فتمالكت نفسها وهي تقول بغضب:.

-دلوك بجى ولدك ياعسران؟ مش كنت بتجول إنه مش من صلبك وإن مهران ولدك هو اللي من صلبك وبس، مش كنت بتجول عليه بغل وعتحذره ميهوبش ناحية المحروسة بت أختك، أختك بت هوارة، بت كبير البلد اللي محدش يجدر يهوب يمتها واصل، أختك أم جلب إسود اللي كانت بتجيني عشان أسحر لبناتك وولدك، دلوكيت بجيت آني رأس الفساد، وانتوا إيه؟من أولياء الله الصالحين إياك؟

ضربة موجعة أخرى وخنجر بالظهر ولكن لن يكون الوجع أبدا كوجع الفقدان ولن يكون الألم كألم رحيل ولد أشعره بالذنب والصغر وكأنه لا شيء مطلقا أمام قضاء الله وقدره، لذا طالعها بهدوء وهو يقول:.

-تعرفى ياعوالي، اللي خفف من وجعي إن ولدي إرتاح منيكي، إرتاح من شرك اللي بيفط من عيونك وجلبك عيعشش ويلبد، عترمي ذنب ولدك علي وعلى خيتي مش إكده؟ بصي جواة جلبك عتشوفي إن ولدك كان ضحيتك إنتي، ضحية حجدك وزرعك جواه الغلط وأهو إنتي حصدتيه ويل وموت وخراب الجلب، من جواتك عارفة إنك لو كنتي جلتيلي ع اللي في بطنك مكنتش ههملك واصل وكنت هتجوزك حتى لو في السر عشان خاطر طفل ملوش ذنب في غلطنا، بس غرورك وطمعك غلبوكي وفضلتي إنك ترمي اللوم علية وتربي جواتكوا الكره على إنك تيجي على نفسك وتكوني زوجة تانية مش إكده؟فضلتي إنك تشعللي جمر الحجد في جلبك وتزيدي نار الكره والإنتجام جواتك وجواة ولدك، تحرميه مني وتحرمينى منيه على إنك تجاسميني مع حدا غيرك، عوزتي الكل يا إما تغفلجيها على الكل مش إكده؟بس ربك كبير وإنتجامه كان أكبر، بديتي بالشر ياعوالي والشر في الآخر طالك ومبجاش جدامك غير الحسرة والندم.

كانت تدرك أن الحق معه في كل كلمة فلم تستطع مجادلته، لتقول بوجه شاحب وعينان طفرت الدموع منهما فلم تستطع كبح زمامهما لتظهر ضعيفة كما لم تكن يوما وهي تقول:
-عتشمت فية ياعسران؟هو مش ولدك اللي مات مجتول ده؟معتحزنش عليه ولو هبابة؟
قال(عسران)بمرارة:.

-ربك اللي عالم أد إيه جلبى جايد نار وكنى ربيته العمر في حضني واتاخد مني غدر، عينزف جرح فراجه كنه بحر من دم معيبطلش نزيف واصل، ألف حاجة دارت بعجلي وألف لو، عجلي كان عيشط بس إيماني رجعني لحالي، ورضيت بالجدر، رضيت بجضا ربنا وبدعيه يخفف الوجع ويرحم الولد في جبره، ويغفرله، وبدعي يسامحني ولدي اني كمان على غلطي، وبوعده أعوضه في ولده وعسميه على إسمه، هربيه في حضني زي ماكان نفسي اربيه وعخليه يكون له ولد صالح يدعيله، يمكن أكفر عن ذنبي اللي تبت عنه من كل جلبي، لكن انتي ياعوالى مظنش إنك ناوية تتوبي عن ذنبك ولا تفوجي من اللي انتي فيه، لكن بحذرك يابت الناس، بعدي عني وعن أهلي، لإني مش عرحمك لو جيتي يمتهم، هجتلك بيدي وأشرب من دمك كماني.

كادت أن تقول شيئا ولكن قاطعها دلوف سيدة تحمل حقيبة بيدها قائلة:
-جيبتلك طلباتك ياستنا.
وماإن رأت (عسران)حتى وضعت شالها على وجهها قائلة:
-وه وه، راجل غريب.
نقل (عسران)بصره بين (عوالي)وتلك المرأة قبل ان يستقر بنظراته الساخرة على الأخيرة، مغادرا بخطوات هادئة، لتقول المرأة بفضول:
-مين الراجل ده؟كني عارفاه.
لتهدر فيها (عوالي)قائلة:
-إمشى ياولية إطلعي برة وهمليني لحالي، منجصاش في ليلتك الطين ديه..

قالت المراة وهي ترفع أمامها الحقيبة بصدمة:
- والحاجة...
قاطعتها( عوالي )بدفع الحقيبة من يدها بقوة لتقع أرضا وتتناثر محتوياتها قائلة بغضب هادر:
-جلتلك غوري من وشي، جبر يلمك.
أسرعت المرأة تغادر بخطوات وجلة بينما كانت (عوالى)تصرخ بقوة وهي تكسر كل ماتطاله يديها قبل أن تجلس مكانها أرضا وقد خارت قواها وبح صوتها، تلعن تلك الحياة التي عاشتها وذلك الألم الذي قبع بقلبها يزداد قوة، في كل لحظة.

دلف (عسران)إلى حجرتها، كانت تجلس على كرسي بجوار النافذة تقرأ ماتيسر من آيات القرآن الكريم، صدقت ثم نظرت إليه لتدرك من تلك النظرة التي يرمقها بها أنه لازال يضمر لها نفورا، تركت المصحف الشريف على جنب وأسرعت إليه تركع على ركبتيها وتقبل يده قائلة:
-أحب على يدك يا أخوي...
قاطعها قائلا:
إنتي راس الخراب اللي حل على بيتي! بتسحري لولادي يازبيدة! بتطعنيني فى جلبي يابت ابوي؟!
سحب يده بسرعة فأردفت وهي تبكي:.

-سامحني ياعسران، أني غلطت ومعترفة بغلطتي، كنت ماشية ورا الشيطان بس ربك عاجبني، وخلاني بعجابه أفوج، فوجت بعد فوات الأوان صوح بس المهم إني فوجت، اني مش عايزة حاجة من الدنيا غير إنك تسامحني، وبتي تتستر، وجتها لو جتلتني هكون راضية وأموت وأني مرتاحة في تربتي.
طالعها (عسران)قائلا:.

-ليه يازبيدة؟عملت فيكي إيه عشان تسحريلنا، وولادي عملولك إيه عشان يشوفوا اللي شافوه بسببك، عمري ما كنت أتخيل لمن جالي الشيخ وهدان إن اللي عمل العملة دى جريب مني ومن اهلي يكون إنتي!
زاد عويلها وهي تقول:.

-سامحني يااخوي، الشيطان صورلي إنك عتسرج حجي وورثي، غيب عجلي وخلاني أطاوعه بحجة إني برجع حجي منك، ولما عرفت إنك كنت خايف على مالي من عباس، يمين الله ضربت روحي بألف بلغة إني غلطت في حجك وضريتك ياأخوي، آني راضية بأي عجاب تشوفه بس المهم إنك تسامحني بعديه وأني عوعدك إني أكفر عن ذنبي طول عمري.

طالعها صامتا تتنازع روحه رغبتان إحداهما الصفح والعفو عما كان وكما قالت لقد ظنت السوء وإتبعت الشيطان فهيأ لها أنه يسرق حقها وهي ترده حتى وإن كان بالخطأ وقد نالت عقابها بالفعل، والرغبة الأخرى هي فراقه عنها ولكن لمظهرها الضعيف و دموعها رق قلبه الذي يدرك أن كل إبن آدم خطاء وخير الخطائين من يتوب عن خطأه وقد تابت عن خطأها فأصبح الغفران واجبا.

جلست على الأرض تنوح بصوت تهدجت أنفاسه من الحسرة والألم وهي تقول:
-وحياة أمي وأبوي، وحياة ثريا ومهران و زهرة وراوية، وحياة الغاليين عندك تسامحني، أني خلاص مبجاش فية حيل وإنت حيلي ياأخوي، أحب على يدك متهملنيش لوحدي.
مال يمسك ذراعها ويرفعها لتواجهه قائلا:
-وحياة زبيدة خيتي اللي بحبها سامحتك، ربنا بيسامح ياهابلة هاجي آني ومسامحش، كلنا مليانيين ذنوب لولا ستر ربنا.

إندفعت تغمره وهي لا تصدق نفسها، لقد سامحها بالفعل، تبكي بحرقة وهي تدرك كم طيب القلب هذا الذي إعتبرته عدوها يوما وهو من دمها، تدرك كم كانت مذنبة في حق أخيها ونفسها، تشكر الله على صفعة أفاقتها من وهمها وأعادتها للطريق الصحيح، بينما ربت (عسران)على ظهرها بحنان وهو يشكر الله بدوره على كل حال.

إن كان الجسد للقسمة قابل، فماذا عن الروح والقلب أيخضعان لذات القسمة أيضا!؟
انشغل (مهران) عن كتب كتابه والكل مجتمع ينتظر وصوله لا يعلمون أن( فدوى) لها رأي آخر من هذا الزواج..
بينما كان( مهران) يستعد لهذا الزواج انقضت عليه (فدوى) كلبؤة جريحة، شدت عمامته التي كان يحاول وضعها على رأسه وهي تتطلع في عينيه قائلة:.

أنا بتخنق كل ماتخيل بدارة قريبة منك، كابوس بشع وأنا بشوفك بتخطي لاوضتك اللي مشاركاك فيها، حتى وأنا عارفة انك مش بتحبها بس بموت، الغيرة هتموتني يامهران!
دفعته بعيدا عنها ليرتطم بالجدار وبدأت تلف حول نفسها كالمجانين وتمسك جبينها ثم تنحني لتمسك ركبتيها بكلتيا يديها وهي تئن أنين قهرا..
فدوى...
ناداها (مهران )فنظرت إليه بعتاب فأردف:
إنت مش عارفة ظروفي أنا...
فقاطعته قائلة:.

أنا بحبك يامهران بس عزت عليا نفسي إني أنافس بدارة عليك، أنا، أنا مش قادرة اتحمل، تحت قناع البرود اللي لبساه نار بتغلي بتحرق في روحي وقلبي، إنت مش حاسس!
كان (مهران) ليقول شيء وهو يقترب منها لكن رنين هاتفه قاطعه فأجاب وقد كان والده يستعجله للنزول فأقفل الخط وهو يقول:
انا نازل ياأبوي!
طالعته( فدوى )بغضب وقالت:
مستحيل..

لم يكن ليفهم عن أي مستحيل تتحدث إلا بعد أن أسرعت إلى الخارج وقد أقفلت باب الحمام عليه وتركته حبيسه كي تضمن عدم نزوله..
شعر (مهران )بألم يجتاح كيانه قلبه يحترق أيضا يعلم أن مايفعله فوق طاقة تحمل امرأة عاشقة لكن واجبه يحثه على إنكار مشاعره الآن، واصل دفع الباب لينخلع لكنه فشل ليقف بتعب يتطلع إليه ثم مالبث أن فتح وكانت وراءه، (بدارة)!
بدارة!
قالت بسرعة:
مش وجته الناس مستعوجاك تحت، روح!

لم يستطع (مهران )تخطيها والمرور على مشاعرها وقد علمت ذلك فخرجت دون أن تنطق بشيء فتبعها هو الآخر بصمت.

إنتهى كتب الكتاب وتقدم الحضور القليل يهنئ العروسيّن بينما وقفت (زهرة) تمسك بيد (بدارة)التي وقفت تطالع مايحدث بقلب تصدعت جدرانه ولكنها كانت من القوة بحيث اظهرت صمودا رائعا ووجها لا يعبر عن روح ممزقة يجبرها القدر على مشاركة من تحب مع أخرى وكأنه مصير محتوم لا مهرب منه.
بينما كانت هي هناك تقف إلى جوار (ناتالي)تراه يعقد على غيرها، يصبح لأخرى مجددا والمؤلم أنها لا تستطيع الصراخ، أنا أعترض!

أسرعت بخطواتها إلى حجرة (ناتالي)تتبعها الأخيرة بإرتباك والعيون تتركز عليهما، يتعجبون من تلك الدموع التي رأوها في عيون (فدوى)، بينما هناك اعين تدرك تماما ماخطبها، خاصة ذلك الذي لم يرفع عينيه عنها طيلة عقد القران وكأنه يحاول التأكد من شيء ما - عدم رحيلها مجددا- أو ربما هو فقط، يشاركها الوجع.

هناك وخلف تلك الأبواب المغلقة، جلست (فدوى)على أرضية حجرة (ناتالي)تبكي بقهر بين أحضانها تقول بصوت متهدج ألما:
-بقى أنا مرضيتش أتجوزه عشان مجيش على مراته وأخرب بيته، يقوم يتجوز بنت عمته وينقهر قلبي بالشكل ده، أنا معملتش حاجة في دنيتي عشان أتعذب كدة، ده حرام والله العظيم حرااام.
ربتت (ناتالي)على ظهرها وقالت..

-لا أفهم كلماتك عزيزتي ولكنى أدرك ألمك وأتفهم وجعك، ورغم ذلك أثق بقلبي الذي يخبرني بأن هناك سر وراء تلك الزيجة، هو مجبر لا شك على زواجه من نوار، فلو خيروه كان إختارك بلا شك.
خرجت(فدوى)من حضنها قائلة في مرارة:
-تزوج بإختياره أم رغما عنه ناتالي، الأمر سيان، إبتعادي عنه أضحى صار لازما، فلوعة الفراق أهون من ذلك الألم الذي يجتاحني قربه.
عقدت (ناتالي)حاجبيها قائلة:
-ماذا تقصدين؟
نهضت (فدوى)ببطئ وقالت:.

- سأعود لروما.
نهضت (ناتالي) بدورها قائلة بصدمة:
-ستعودين لروما؟وماذا عن عمك وولده، سيجدونك بكل تأكيد.
قالت بمرارة:
-فليفعلوا وليأخذوا روحي حتى، فلم أعد أهتم.

فتح الباب في تلك اللحظة وظهر (مهران) على عتبته، يطالعها بنظرات معاتبة، بينما تأملته هي بعيون عجزت عن إخفاء مشاعرها التي إمتزج فيها الحب بالحزن وهي تراه متأنقا في جلباب صعيدي وعمة تناسبه وكأنه خلق ليكون على تلك الصورة ملكا للصعيد تثق بأن صورته تلك ستقبع في خيالها، أبد الدهر.

إقترب منها يطالعها بصمت، فأشاحت ببصرها عنه كي لا تضعفها تلك النظرات، فلغة عيونه لا يفهمها سوى إمرأة عشقته بجنون وقد قرأت بين طيات عيونه عشق يذبح بسكين الفراق مجددا ولن تقوى على منحه الخلاص من ذلك العذاب الذي يؤلمه، وجد صوته ليقول بمرارة:
-هتهربي تاني؟
رغما عنها عادت بعينيها إليه تقول بألم:.

-أنا وإنت عارفين إن اللي هعملوا ده هو الصح، مبقاش ينفع أبقى في حياتك أكتر من كدة، ولا إنت ينفع تكون في حياتي دلوقت.
توقف أمامها يتأمل ملامحها الجميلة بمرارة قائلا بعيون زائغة:
-هتروحيله؟!
خرج صوتها مختنقا وهي تقول:
-إبن عمي وهو أولى بية، مش ده قانونكم وعرفكم؟
أمسك ذراعها بقوة قائلا:
-فدوى اااا!
هزت رأسها دون صوت فإشتدت قبضته على ذراعها وهو يقول:.

-لما انتي هتهربي؟ قلتيلي بحبك ليه؟واللي عملتيه من شوية كان إيه؟
ظهر الألم على وجهها بينما أمسكت(ناتالي)بيده التي تقبض على ذراعها بقوة تؤلمها، تحاول تخليصها منه قائلة:
-إهدأ ميران، فدوى...
قاطعتها (فدوى)قائلة:
-هو على حق ناتالي، كنت المخطئة على الدوام وحان أوان تصحيح الخطأ، آسفة إن كان في أسفي عزاء لك، سأودعك الآن آملة أن تسامحني من كل قلبك يوما ما.

ترك ذراعها فجأة، وملامحه تتجمد وتصبح باردة كالصقيع، لتسير (فدوى)بخطوات بطيئة بإتجاه الباب قبل أن تستدير وتلقي نظرة أخيرة طويلة عليهما، ثم تغادر بسرعة، بينما أمسكت (ناتالي)بذراعه قائلة بوجل:
-إمنعها من الرحيل، أقسم لك أنها مظلومة، هي تحبك ولكنها خوفها عليك يعميها، إلحق بها ميران وإلا ستندم.

ظهر صراعه على وجهه للحظات قبل أن يحسم قراره ويتبع قلبه، يغادر بخطوات مسرعة خلفها، وجدها تحادث (عويس)وهو يرفض بشدة كلماتها قبل أن تتسع عيونها بصدمة ويظهر على ملامحها خوف شديد وهي تتراجع حتى أصبحت خلف خالها تماما، تتبع بصرها فوجد على عتبة منزلهم رجل كبير وشاب في مثل سنه يقفان هناك وينقلان بصرهما بين الحضور، يبحثان عن أحدهم، حتى وقع بصرهم على (عسران) فتقدما منه ليقابلهما والده بترحاب بدا طبيعيا ولكنه يعرف أباه جيدا ليدرك زيف مشاعره، بينما سمع صوت والده يقول بوضوح:.

-نورتوا بلدكم وأرضكم يا توفيج انت وولدك.
ليشعر بالصدمة وهو يعود بناظريه إلى هذا الشاب الذي يقف نافخا أوداجه وكأنه يملك الدنيا ومافيها، يرى غريمه لاول مرة، وكما توقع تماما، كرهه منذ اللحظة الأولى.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة