قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية على الرقاب قدر نافذ للكاتبة شاهندة الفصل التاسع والعشرون

رواية على الرقاب قدر نافذ للكاتبة شاهندة الفصل التاسع والعشرون

رواية على الرقاب قدر نافذ للكاتبة شاهندة الفصل التاسع والعشرون

السعادة هي أن تكتسب شخصا لايجيد التصنع ولا يخفي نواياه تحت الأقنعة، أن تغيب عن عينيه وقلبه بك متعلق، أن يجعل منه القدر روحا تغنيك عن كل الأرواح..

توالت الأسابيع الثقيلة على عائلة الهوارة وتوالت معها عدد المرات التي كانت تهرب فيها (نوار) من البيت و تهيم على وجهها في شوارع البلدة غالبا ماتنتهي بها قدماها في المقبرة ويجدها العم (كامل) مستلقية أمام قبر (راجي) والقبر الذي صنعته من أجل ابنها - كانت في أحد مرات اختفاءها قد كوّمت كمية من التراب كقبة صغيرة أمام قبر (راجي) وحاوطتها بالطوب وجعلت منها قبر ابنها الذي أطلقت عليه اسم (رحيم)، شاع أمر علاقتها ب (راجي) في البلدة والبلدات المجاورة وتعالت الهمسات عليها لم تسلم من ألسنة الناس ولا من نظراتهم التي تحتقرها، ماكان يخشاه (عسران) قد حدث فأصبح همه أشد ثقلا كان بحاجة ماسة إلى (مهران) كي يقف بجواره ويسانده في أمره لكن (مهران) كان يرفض الحديث معه والرد على مكالماته..

دخلت زبيدة إلى غرفتها فلم تجدها فخرجت تصيح بهلع:
ياخوي!، ياخوي نوار مش لجياها، شكلها استغفلتني و اختفت تاني..
وضع فنجان القهوة من يديه وهو يطالعها بغضب ثم استشاط بها قائلا:
جلتلك ايه جبل سابج؟ ماتهمليهاش غمضة عين! ما، تهما، لي، هاش، جلت ولا ماجلتش!
وارتفع صوته ينادي على (عواد) وما أن إمتثل بين يديه حتى أردف:
نوار طلعت من البيت ياعواد؟
فأجابه (عواد) بارتباك:.

لاه ياكبير ماطلعتشي، أنا جاعد يمة الباب من العصر وكامل جاعد يمة الباب الكابير لو كانت طلعت كنا شفناها، مطلعتشي، احنا مفاتحين!
استدار (عسران) نحو (زبيدة) فقالت (ثريا):
دورتي زين يا زبيدة في البيت؟
فأجابتها:
لاه! هي كانت متمددة جلتلها هجيبلك حاجة تاكليها وارجعلك ونزلت تحت رجعت مالجيتهاش.
أمسك (عسران) عمامته يعدلها فوق رأسه وقال بغضب وهو يشير بأصبعه نحوهم:.

الحريم تدور جوات البيت وانت ياعواد شوف بالحديجة برا يمكن طلعت وماشفتهاش، اخرتي معاكم انجلط!
اقتربت منه (ثريا) تحاول تهدئته وقالت:
ربك هيفرجها علينا ياحاج لازمن نصبر على حكمته، اجعد أنت بس ونوار هنلاجيها ماتجلجش!
جلس (عسران) بارهاق وهو يوحد و يحوقل بينما هم كذلك حتى سمعوا صوت (كامل) وهو ينادي:
الحجني ياكابير!، ياحاجة فينكم!، الحجوني ياخلج!.

ركضوا جميعا نحو الخارج حيث يقف (كامل) وسط الساحة الجانبيّة من البيت التي تواجه المطبخ وهو يرفع رأسه إلى الأعلى ويمسك جلبابه بيد واليد الأخرى يضعها على رأسه وما أن رآهم حتى أشار لهم بالاقتراب، فارتفعت الرؤوس وتعالت الصراخات..

كانت (نوار) تقف على حافة سور الشرفة بالطابق الثاني على ارتفاع ستة أمتار من الأرض تنظر إلى جانبها وتتمتم كما لو كانت تتحدث إلى شخص ما، أصوات عالية متداخلة من العائلة تنهرها عن فعل ماتنوي فعله، تجمد الدم في عروقهم ينتظرون سقوطها وماهي إلا طرفة حتى هوت تلتقطها أيديهم دون أن تمنع جسدها الهزيل أن يصطدم بالأرض وهم حولها بين نواح وصريخ...
هرعت (راوية) تتصل بالاسعاف بينما أخذ (عسران) يقول:.

أوعوا تحركوها، شكلها اتكسرت...
أما (زبيدة) فكانت تردد بهستيريا:
نوار ماتت، أنى جتلت بتي! أنى جتلتها!
لتمسكها (حورية) وتحاول جعلها تستفيق من صدمتها فجرتها جرا إلى المطبخ ومسحت وجهها بالماء البارد وهي تقول:
نوار عايشة، نوار عايشة مامتتش! اهدي..

أدرك (عسران) الجالس يحتضن رأس (نوار) أن أنانيته جعلته يحبس (نوار) في بيته وهي في أمس الحاجة إلى العلاج والمتابعة النفسية لتخرج من الظلام الذي يبتلعها يوما بعد يوم حتى كاد يتسبب في مقتلها لولا تجمعهم لنجدتها في اخر لحظة.

في الجانب الآخر من العالم..

هاقد مر شهر بأكمله منذ أن رحل (مهران) غاضبا وهاربا من عائلته لم يشعر بالراحة التي كان يظن أنه سيشعر بها إن ابتعد عنهم، كانت (ناتالي) تطمئنه عن أحوالهم دائما، أخبرته عن فقدان (نوار) لجنينها كما أخبرته عن تدهور حالتها النفسية والصحية وصومها عن الكلام والتفاعل حتى أصبحت كائنا جامدا يحترق بما بداخله بمعزل عن إحساس من حوله، شعر بالأسى لحالها فهو يدرك تماما أن لاذنب لها في ما كانت تفعله والدتها، يشفق عليها لأنه يشعر بانشطار قلبها وتصدع روحها بوفاة حبيبها ثم جنينها إنها تتحمل مالا يتحمله أحد فلن يستغرب من انهيارها...

طالبته (ناتالي) بالعودة مرارا فيخبرها أنه بحاجة للمزيد من الوقت، الوقت يمضي وحاجته لا تتقلص أبدا، لايزال يشعر أنه لايستطيع تقبل سماع تبريرات والده للحقائق التي عرفها عنه، إنه يتألم بشده حتى وإن تظاهر بالصمود والتعافي..
عاداته اليومية أصبحت مكالمة (بدارة) مساءا يكتفي بمكالمة صوتية بعد أن بدأت ترفض مؤخرا مكالمة الفيديو، إنه شهرها الخامس لم يتبق الكثير على موعد وضعها.

كلما يتذكر أنه تركها في أكثر الأوقات حاجة إليه ترتعد نفسه لوما.
كل ما يفعله هنا هو الذهاب إلى الجامعة أحيانا والسهر برفقة أصدقائه أحيانا أخرى وغالبا ما يقضي وقته بالقرب من الجسر يحدق فيه بحنين وغضب، حنين لأنه وبالرغم من كل شيء يشتاق إلى (فدوى)، والغضب برغم كل شيء لم يستطع أن يمتلك حب (فدوى).

وكما جرت العادة هاهو يحمل كوب قهوته يجلس طرف سيارته يطالع الجسر المقرفص أمامه بشموخ وقتذاك وصلته رسالة عبر الواتساب من أخته (زهرة)، فتحها ليجد محتواها..

نوار حاولت تنتحر يامهران وأبوي حالته ماتطمنشي، البلد كولاتها جايبة في سيرتنا، ارجع ياخوي أحب على يدك، بدارة كومان تعبانة ومش بتطلع من أوضتها، الصبح محمد جاب تحاليلها بجى عندها أنيميا من جلة الوكل والزعل والسكر عندها بينزل ده غير لما رحنا للداكتور وجال لازمن ترتاح عشان ضغطها بيعلى..
حرام عليك يامهران تهملنا فى حالتنا ديه، عاود ياخوي!

ما إن قرأ رسالتها حتى وقعت قهوته وتناثرت على رجله، شعر لحظتها أنه فكر بأنانية حين ترك والده يتخبط في مشاكل لتتناسب صحته، قفز في سيارته وانطلق يدعو في سره أن يجد تذكرة لطائرة تعود به إلى وطنه بسرعة.

عادت (بدارة) إلى بيت الهوارة وقد صاحبتها (ناتالي) لتقوم برعايتها لكنها كانت تلازم غرفتها كما كانت تفعل في بيت والدها لا تخرج منها إلا للضرورة..
أما (راوية) فكانت تشارك همومها مع (ناجي) الذي ما توانى يوما عن مواساتها عبر الرسائل الإلكترونية بينهما حين يجدان متسع من الوقت في خضم فوضى المشاكل التي تغرق فيها العائلة..

جلست (راوية) بغرفتها منهكة وقد حملت هاتفها لتجد عدة رسائل من (ناجي) يسأل عن حالها، فكتبت له:
-الدار كنها صابتها لعنة معارفينش نخلصوا منيها، أبوي دايما حزين وجاعد لحاله جليل الكلام وأمي مشغولة مع عمتي ونوار و بدارة ياجاعدة مع ناتالي ياجاعدة مع فدوى يا جاعدة بروحها، عتشتاج لأخوي، والشوج عيحرج جلبها، أني حاسة بيها.
كتب:
- جد ياراوية تحسي بالشوج؟!
كتبت تحاول تغيير مجرى الحديث:.

-جولي جاعد بتعمل إيه لحد دلوكيت؟
أدرك تهربها من كلماته التي تعبر عن عاطفته القوية، وكتب:
- الحمد لله خلينا جضية فدوى وعمها وابنه اترحلوا على روما من أمن السفارة واتسلموا للأمن هناك، ودلوك ببحث في جضية عترافع فيها بعد سبوع من دلوك!
كتبت:
-إحكيلي عنيها.
كتب:
-مابلاش، عتجيكي كوابيس.
إبتسمت تكتب:
-متجلجش، مبخافش بسهولة.
إبتسم بدوره يكتب:.

-طب شوفي ياستي، وكيلي متهم في جضية جتل، مرت الضحية إتهمته بجتل جوزها، كان بيناتهم تار زي مابتجول، النيابة عثرت على المجني عليه مجتول في صالة بيتهم ب٣ رصاصات في الصدر والطلجات أحدثت فتحات دخول وخروج، المشكلة إن الجريمة لابساه لابساه بسبب التار ده، وشهادة مرات المغدور كومان ومع أكده الجضية ناجصة، موكلي بيجول أن مابناتهمش تار ولا حاجة هما شركا فى أرض اشتروها مع بعض وعيخدموها بس ماتفجوش على تجسيمها وصار خلاف بسيط عركة يعني بالعصي وكل واحد راح دواره.

فكرت (راوية) للحظات قبل أن تكتب:
- هو اللي عايز ياخد بتاره يجتل الجتيل بنص بيته؟!
كتب:
- على رأيك! بس الست مصممة على كلامها.
صمتت لبرهة مجددا قبل أن تكتب:.

-مستحيل يكون تار أو حتى حرامي، وجتها كان الجاني هيكسر شباك أو باب عشان يدخل الدار، لكن من الواضح إن الجاني كان معاه مفتاح الشجة، كمان فتحات دخول وخروج الرصاص عيجولوا إن الجاني جتل الضحية من مكان جريب، نص متر تجريبا، أكيد الجاني كان يعرف الضحية كويس وده معناه حاجة واحدة بس.
كتب (ناجي):
-إن مرت الضحية متورطة بشكل ما في الجضية، ياهي الجاني، ياشريكه معاه؟مش إكده؟
كتبت:
- أظن إكده.
كتب:.

-ده اللي ظنيت فيه وناوى أدعبس ورا الاحتمال ده، بس جوليلي إيه الحلاوة دي؟هتفكري زين جوي ياراوية، كنك مفتش مباحث.
كتبت وهي تبتسم وقد شعرت بالاطراء من كلماته:
-مش جوى إكده، كل الحكاية إني بحب أطالع روايات أجاثا كريستي وتجريبا جريتهم كولاتهم.
صمت (ناجي) للحظة قبل أن يكتب:
-إنتي ليه مكملتيش تعليمك ياراوية؟
كتبت:
-هو آني اللي عجولك ياناجي على عوايدنا؟حدانا التعليم للرجالة وبس.
كتب:.

-طب إيه رأيك أجدملك في الجامعة إهنه و تكملي تعليمك.
كتبت بسرعة:
-إنت عتتكلم جد يا ناجي؟!
كتب:
-طبعا بتكلم جد، عجدملك في كلية الحجوج وتبجي محامية كد الدنيا ونشتغلوا مع بعضينا كمان، إنتي معاكي ثانويه عامه مش أكده؟
كتبت:
-أيوه، أحب على يدك يامتر متخلنيش أحلم وأطير فوج السحاب، وبعدين أجع على جدور رجابتي.
كتب:.

-بعيد الشر عنيكي، إحلمي ياراوية وخلي أحلامك تطول السما وأني بعون الله عحججهالك كلاتها، إنتي معتعرفيش كد إيه عحب، جصدي يعني إنك عزيزة علي.
إبتسمت بخجل تدرك ما طوته أحرفه من مشاعر، ربما لم يحن الوقت بعد للكلام عنها، لذلك كتبت بقلب يخفق بجنون وأحرف إختارت السكون:
-أسيبك دلوك ترتاح، تصبح على خير.
كتب بأحرف نطقت بحنان غمر عيناه:
-تلاجي الخير يازينة البنتة.

أغلقت هاتفها تضمه إلى صدرها وقد ظللت ثغرها إبتسامة سعادة واسعة.

تعرضت (نوار) لكسر في كتفها ورجلها اليسرى وتشقق ضلعين، لفها الأطباء بالجبس والأربطة كأنهم يحبسون روحها داخل جسدها بعناية، مع إصرارهم على (عسران) بضرورة عرضها على طبيب نفسي، وبعد أن وافق قُرِرت أول جلساتها بعد يومين حتى يستكين ألم عظامها بعض الشيء، كما طلبوا أن يرحل الجميع من المشفى وأن يكفوا عن زيارتها حتى لا تؤذي نفسها مجددا ومع اعتراض (عسران) كالعادة وافقوا على بقاء (فدوى) برفقتها فقط باعتبارها ليست فردا من العائلة يمكنه أن يؤثر سلبا على المريضة.

مر اليوميّن سريعا وقبل أن تشرق شمس اليوم الثالث عاد (مهران) مجددا إلى بلدته..
اعتبر نفسه محظوظا وأنها إشارة خير حين استطاع اللحاق بصلاة الفجر جماعة في مسجد قريتهم، انتهت الصلاة واستقام المصلين للمغادرة بينما بقي (عسران) مكانه يسبح ويستغفر ويدعي، صلى على الحبيب المصطفى و مسح على وجهه واستدار لينهض ويغادر فتفاجأ بوجود (مهران) على جانبه، أمسك يده وقبلها ثم قبل جبينه فعانقه (عسران) وهو يردد:.

أنت عاودت يامهران؟ الحمد لله ربنا استجاب دعايا! وحشتني ياولدي!
قال (مهران) بصوت باكي:
سامحني يابوي هملتك بروحك، ماجدرتش أتحمل اللي سمعته عنك وعن، الله يسامحها!
قاطعه (عسران) قائلا:
اذا كان ربنا بيسامح، انت ولا أنا مين عشان مانسمحهاش، كلنا بنغلط لولا ستر ربنا ماحدش يجدر يبص فى خلجة اللي جدامه، وعوالي خدت جزاتها وراحت للي خلجها هو يحاسبها حصلت ولدها، ولدي واخوك، ادعيلو ربنا يغفر له يامهران!

قال (مهران) وهو يحاول كبت غضبه:
ليه داريته عننا يابوي؟
تنهد (عسران) وقال:
ماداريتوش، يامين بالله ماكنت أعرف أنه ولدي جبل حكايته مع نوار، عوالي مشته فى طريج الشيطان عشان تنتجم مني، وبعد ماجالتلي مصدجتهاش، بس حاجة جوايا كانت بتجولي انها مش بتكدب وأنه فعلا ولدي، كنت ناوي اخد بيده وأطلعه من الوحل اللي غرجان فيه، لكن على ما استوعبت أنه ولدي كان اتجتل بخطيته وخطيتنا أنا وأمه، ربنا يغفر لنا جميعا..

كان الإرهاق يظهر جليّا على ملامح (عسران) فسأله (مهران):
إنت زين يا بوي وشك أصفر اكده ليه؟
ابتسم وقال:
جلبي وجعني يامهران، ماجدرتش أحافظ على ولد راجي الله يرحمه ولا على نوار، وشايل في جلبي هم لو عرفت أمك مش عتستحمل لا حجيجة عمتك ولا حكايتي مع عوالي، أنا خابر ثريا زين مش هتسامحني اللي باجي من عمرنا.
ربت (مهران) على يده:
محدش يعرف عشان يجولها، لو انت ماجولتلهاش، اطمن!

فقال وهو يستقيم لينهض وقد عاوده السرور:
جوم ياولدي نروَح ده النهاردة عيد برجعتك!
فرد عليه (مهران):
اسبجني انت يابوي نص ساعة بالكاتير وهعاود البيت، ماتجولش اني رجعت خليها مفاجأة.
أومأ (عسران) له بابتسامة مشرقة تنم عن شعوره بالراحة بعد أن عاد إليه ولده الوحيد بينما بقي (مهران) مكانه يطالع والده إلى أن غاب عن ناظره.

انتظر قليلا بعد أن هاتف شخصا ما يطلب منه أن يسرع قليلا فهو يريد أن ينهي هذا الأمر قبل أن يطلع النهار فأخبره الشخص أنه لن يتطلب منه الأمر أكثر من ربع ساعة ليصل..
توجه (مهران) إلى البيت حيث كان الجميع نيام إلا (ناتالي) التي استقبلته بحفاوة باعتبارها كانت تعلم بعودته، بعد أن اطمأن عليها ترك معها الشخص الذي كان قد هاتفه سابقا مع بعض رفقائه و (كامل) برفقتهم لتقوم بتوجيههم ثم توجه نحو غرفته، نحو بدارة.

بعد أن أنهت صلاتها وقرأت وردها اليومي انسحبت مجددا إلى سريرها، قد بدأت تشعر مؤخرا بوهن ودوار لا يحتمل فتقضي معظم الوقت مستلقية، دخل (مهران) بخطوات ثابتة واستلقى بجانبها وهو يطالع وجهها تحت ضوء المصباح الشحيح، ابتسم وهو يتعجب كيف لم تشعر بوجوده بعد، شعر برغبة في النوم فاستسلم له وهو يحتضنها.

فتحت (بدارة) عينيها فوجدت (مهران) يغرق في النوم بجانبها، كانت قد شعرت بوجوده بقربها لكنها كذبت شعورها وظنته مجرد وهم كما اعتادت، لكزته على ذراعه لتتأكد من تواجده فعلا ثم صرخت:
مهران!
هب (مهران) جالسا من نومته لايدري ماذا أصابها، راح بفزع وهو يقول:
ايه، إيه، مالك يابدري إنتي موجوعة اخدك المشفى؟

لكنها طالعته بصمت وعلى وجهها ابتسامة بينما تهز رأسها يمينا وشمالا إجابة على سؤاله، فبادلها ذات النظرات وذات الابتسامة بعد أن استوعب أنها تفاجأت من تواجده بقربها، طبع قبلة على وجنتها وقال:
يسعد صباحك يابدري!
انكبت عليه تعانقه وهي تردد بفرحة:
إنت عاودت يامهران، كنت خايفة ماعشوفكش تاني، الحمد لله، الحمد لله!
أمسك وجهها بين يديها بعد أن ابتعدت عنه متجهمة وهو يقول بابتسامة:.

والله ماحد رجعني غير خوفي عليكي يا بدارة.
فقالت:
يعني مارجعتش عشان نوار!
فقال:
رجعت عشان نوار كومان بس اللي ماتعرفيهوش أني طلجت نوار جبل ما أسافر يعني نوار بنت عمتي وبس، إنتي اللي مرتي وأم أبني اللي شايلة إسمي يابدري، يمين بالله مافيش غيرك يستاهل جلبي واسمي وجربي..
طالعته (بدارة) باستنكار فأردف:
جومي معايا عاملك مفاجأة!
استقامت لتقف حتى عاودها الدوار فعادت لتجلس وقالت:
المفاجأة ماعتنفعشي من غير ما أجوم!

فقال (مهران) بخوف:
انتي تعبانة أكلم محمد ياجي يشوفك؟
فأجابته نافية:
لاه أنا زينة، لما جمت بسرعة دخت شوية.
فحملها بين يديه وقال بابتسامة:
طبعا تنفع من غير ما تجومي!
حدقت به كأنها غير مصدقة من تواجدها بجانبها وأن السعادة التي تملأ قلبها الآن ماهي إلا حلم ستستفيق منه بعد لحظات..

صعد بها (مهران) إلى الدور الثالث الذي كانت غرفه الأربع جميعها شاغرة، وضعها لتقف وأسندها إلى كتفه فنظرت إليه بحيرة فقال وهو يفتح أول غرفة على يمينه وأغمض عينيها بيديه وقال:
ادخلي جلبي برجلك اليمين يا بدري!

دفعها لتسير أمامه وهو خلفها يقودها فتوقف وتوقفت وأزاح يديه عن عينيها فراحت توزعها على الغرفة الكبيرة التي جهزها من أجلهما وكان قد طلب من (كامل) قبل أن يعود أن يعيد طلاءها وترتيبها و (ناتالي) قامت بفرشها صباحا بمساعدة العمال، جعل من جدرانها بيضاء اللون تتمركز على إحداها صورة كبيرة مؤطرة ل (بدارة) و فرشها عصري بسيط خال من المبالغة والزيف، ستائر رمادية فاتحة على النوافذ الواسعة و سجاد وثير باللونيّن البني الفاتح والأبيض وأضويّة خافتة منتشرة بكل أرجاء الغرفة وهناك جانب آخر سارت نحوه (بدارة) كالمسحورة ودموعها تنهمر على وجنتيها المتوردتين بعد عدة شهور من الشحوب..

التفتت نحو (مهران) الذي كان يسير وراءها والإبتسامة لا تفارقه وقالت:
ده عشان بنتنا!
أومأ لها برأسه وأردف:
زهرة جالتلي إنها بنت! أنتي اديتيني كل حاجة من غير ماأطلبها يابدارة، أنى لو جلت إني محظوظ في الدنيا دي يبقى بس عشان انتي بحياتي، ربنا ما يحرمني منك ويجومك بالسلامة يابدري..

بدعي ربنا عشان مايكونش جلبك شايل مني وتسامحيني، أهملتك كاتير، وجرحتك وزعلتك كاتير، ربنا يجدرني وأعوضك على كل اللي عمالته فيكي..
قبل يدها وأجلسها على الكرسي الهزاز وردي اللون الذي يتوسط سجادة دائرية بيضاء وأردف:
هتجعدي اهنا عشان تنيمي بتنا وأنا أوجف اهنه وأهز بيكم إنتو التانين..
ولمن تنام أشيلها عنك وأحطها بسريرها (الخشبي الأبيض الذي تغطيه ناموسية زهرية وتتدلى منه دمى موسيقية من القماش)..

ولمن تكبر شوية هنلعب معاها بالعرايس دول كلاتهم - وقد أمسك بيده بمجموعة من الدمى الجميلة - وأسرحلها شعرها الناعم اللي شبه شعر مامتها..
وقتها أمسكت بدارة بشعرها الأبيض وقالت:
يارب مايطلع شعرها زي أمها!
اقترب منها (مهران) وقد شعر برغبة في لعن عمته وقال:
شعرك الأبيض مش منجص من جمالك بالعكس مخليكي منورة زي الجمر بتمامه يعني بدري بصوح..
ابتسمت وقد شعرت بتزايد نبضها فوضعت يدها على قلبها بتعب، فأردف (مهران):.

من اهنا ورايح دي اوضتنا بعيد عن الكل، كنت جلتلك من جبل أني نفسي أخدك مكان بعيد يستاهل جلبك الطيب، بس للظروف اللي احنا فيها مالجتش أبعد من اكده..
شدت (بدارة) على يده وقالت بتفهم:
المهم تكون مرتاح وماهعوزشي حاجة تاني..

أمسك يدها واتجه معها نحو الطاولة التي تتمركز وسط الغرفة التي جهزت فيها (ناتالي) الافطار من أجلهما فسحب لها الكرسي جلست وجلس قبالتها وأخذ يطعمها بيده وعلى هذه اللحظات السعيدة تناست كل ألامها التي عاشتها لأشهر متواصلة.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة