رواية عذرا لكبريائي للكاتبة أنستازيا الفصل السابع والأربعون
سمعت السيد جوش يسرد قائمة المواقع التي أمر في البحث فيها ولكنه لم يجد ما يسره، الفنادق و النُزل، الشقق السكنية المحتملة وعند جميع المعارف والزملاء.
لا أحد رأى السيد كريس.
لا أحد يعرف عنه شيئاً.
حتى هاتفه لا يمكن الوصول إليه.
لويت شفتي بضيق شديد وبعد انتهائي من الغرفة اتجهت إلى التي تليها، أعتقد بأن الجميع سيعود بعد ساعة أو أقل، إنهم في المشفى وأراهن على أنهم يجبرون أنفسهم على الإبتسام والضحك. وبالرغم من هذا فكل منهم يرغب في الحصول على فرصة واحدة لينفجر فيها.
السيد ستيف بارع جداً في الضحك هنا وهناك، منذ البداية كان يجيد إسعاد الجميع من حوله ليتخطوا هذه الأزمة بالرغم من شعوره بالذنب تجاه ما وقع لخاله، الآنسة شارلوت تبذل جهدها كذلك طوال الوقت وبالكاد تنام عندما تعود للمنزل، . السيدة كلوديا لم تذهب اليوم برفقتهم إلى المشفى وها هي تعتكف غرفتها كما كانت تعفل طيلة هذه الفترة رافضة حقيقة ما حدث.
السيدة كلوديا خسرت الكثير من وزنها، ترفض تناول الطعام وقد حاول السيد جوش إخراجها من حالتها هذه ولكن بلا جدوى، شحب وجهها وقد ذبل تاركا على ملامحها الهموم والحزن الذي فشلت في تجاوزه. الآنسة تيا حالها سيء جداً ولا تكف عن التشاؤم بشأن كريس، وبالرغم من محاولة شقيق شارلوت إيثان للتخفيف عنها إلا أن جهوده لم تأتي بأي نتيجة ترجى.
آلمني قلبي على حال الجميع وعلى ما يمرون به، وتمنيت لو يمكنني إفادتهم ولو بشيء بسيط!
فحتى عائلة الآنسة شارلوت وقفوا بكل جهودهم وبكل ما يملكون إلى جانب هذه العائلة، بل وأن شقيقا شارلوت لم يفقدا الأمل في البحث بشكل يومي عن السيد كريس الذي انقطعت عنه كل السبل بشكل مريب وكأنه قد اختفى من العالم بالفعل!
تأتي الآنسة جينيفر بشكل يومي إلى المشفى وإلى هنا وتغطي أي بقعة تذهب إليها بالهالة المرحة والمفعمة بالحيوية وقد نجحت تقريباً في شرح صدورهم، وهي أيضاً لا تزال تبحث عن السيد كريس الذي أرجو أن يكون بخير بعد اختفائه المريب هذا.
فتحت باب مكتب العمل الذي غير مصرح فيه لدخول أيِ من الخدم عداي أنا وشخص آخر.
أغلقت الباب خلفي وبدأت بالترتيب وإزالة الغبار مفكرة بسخرية القدر، يا لغرابة الأمر. كان هذا المكتب يعج يوميا بالعمل ولوقت متأخر بل وأحيانا يغفو فيه السيد كريس، أراهن على أن السيد جوش يعاني في الشركة والوضع متأزم! إنه تحت ضغط فظيع وأصبح يعمل مكان كريس مؤقتا بمساعدة السيد فابيان الذي بات يأتي إلى هنا كثيراً لأجل مناقشة العمل العصيب.
تنهدت بأسى وأنا أفتح النافذة وأنظر إلى السماء متأكدة جيداً ما إن كان هناك أي أثر للغيوم حتى لا تدخل زخات المطر وتفسد المكان المحيط بالنافذة، تركتها مفتوحة وأزلت الغبار عن طاولة العمل والحاسوب المكتبي مفكرة بأنني غير قادرة البتة على لوم السيد كريس في اختفائه، فبالرغم من أنني كنت أمضي كل وقتي مع جيمي وأرى ندرة جلوسه مع والده إلا أنني أكثر من تعلم أن في الدرج الأول لهذا المكتب يحتفظ السيد كريس بصورة لجيمي. بل عدة صور في مراحل مختلفة.
قبل مجيء الآنسة شارلوت وعندما كنت أرافقه غلى غرفته لأقصص عليه بعض القصص ثم ينام، كنت في طريقي للخروج من غرفته أرى كريس متجهاً إليه ويمضي وقت طويل في غرفته وأحيانا يغفو هناك ويستيقظ مبكراً، كما رأيت الهدايا والألعاب التي يشتريها بكثرة ويضعها في غرفته دون أن يشاركه اللعب أو يفتحها معه، ومع ذلك كان من الواضح أنه يحاول أن يتجاوز عقبة الحاجز بينهما.
دمعت عيناي قليلاً ولكنني أسرعت أسيطر على مشاعري وحاولت أن أنتهي من المكتب لأهرب من هذه الخوالج التي بات من الصعب التأقلم معها.
كيف تأزم الوضع هكذا. كيف انقلبت الأحوال في ظل وجود الجميع في المخيم بغية الإستمتاع وتغيير الأجواء قليلاً!
خرجت من المكتب وانا أدفع العربة لأسمع خطى تصعد الدرج وبدت لأكثر من شخص، كنت محقة إذ رأيت ستيف وسام الذي يضع الهاتف على اذنه بتركيز ويومئ برأسه إيجاباً، تحركا إلى اليسار نحو الجناح الآخر ولكن سام وقف للحظة وبدى يركز في المكالمة، كان ستيف يحدق إليه بأمل وتمعن وعندما قال الآخر بهدوء: حسناً فهمت. شكراً جزيلاً.
أغلق الهاتف فسأله ستيف بلهفة فوراً: هل أخبرك بشيء مفيد؟
نفي سام ممرراً يده في شعره الأسود: لا شيء، ولكنه سيعلمني فوراً عندما يصله أي جديد، أنا أثق بهذا الرجل، إنه موهوب في التقاط الصور للصحافة وبشكل سري ويعلم الكثير عن رجال الأعمال، كما أثق جيداً بتحفظه على الأمر، أخبرني بأنه سيبحث عنه بطرقه الخاصة ويعلمني في حال إيجاده لمكانه أو حتى سماعه عن موقع قد يتواجد به.
هاذان الإثنان. لقد عادا قبل الآخرين!
بالتفكير بالأمر، ستيف وسام قد تقربا إلى بعضهما كثيرا في الآونة الأخيرة بسبب البحث عن كريس ويبدو أنهما في انسجام تام بالرغم من كثرة شجارهما.
آمل أن يسمعوا بأي خبر جيد عن مكان تواجده.
سمعت ستيف يزفر بضيق ثم قال بإنزعاج: هل هناك مكان قد غفلنا عنه؟ بحثنا في كل مكان اعتاد الذهاب إليه بلا جدوى! هو لم يأخذ معه ملابسه أو أي شيء، اللعنة بدأت أقلق أكثر.
تحرك الآخر ليتقدمه متمتماً: لا ينقصني سوى أنت، لم أصدق تخلصي من تشاؤم أمي ووالدتك طوال الوقت لتأتي الآن وتزيد من صداع رأسي، أنصت. لسنا نحن من نبحث فقط فلقد طلب والدك من بعض أفراد الشرطة مساعدتنا ولكنك سمعت يا يقوله.
امتعض ستيف بشدة وهو يتبعه بغضب: ذلك الشرطي اللعين سألكمه في المرة القادمة، كيف يجرؤ على أن يقول بأن كريس ليس في خطر ليطلب من رجاله البحث عنه! هل يجب أن يقول وبكل وقاحة أنه شخص بالغ ولم يترك خلفه شيئاً مريبا يدل على خطورة وضعه؟! نعلم بأن الأمر ليس خطر ولكننا بحاجة إلى مساندتهم!
رفع سام كتفيه: إنه محق نوعاً ما، كريس ليس صغيراً هذا أولاً، كما لم يرد للشرطي ما يدل على كونه في خطر وهذا صحيح، أخبرتكم أنه اختفى لينطوي على نفسه ويستوعب ما حدث ولكن لا أحد منكم يستمع إلي. ولا سيما أنت الذي يحلق بأفكاره هنا وهناك.
اللعنة على ثقتك هذه، ومع ذلك أرجو أن تكون محقاً، شقيقتك أيضاً بدأت أشعر بأنني سأعزلها لمزاجها في الآونة الأخيرة، ظلت تكتم ما يحدث في قلبها حتى باتت تتصرف الآن بمزاج سيء يجعل أمي في حالة أسوأ. الجميع سيفقدون عقولهم وأنا بالكاد أتمالك نفسي.
شقيقتي المسكينة صبرت على اختفاء كريس ولكنها لم تعد تستطيع التحمل أكثر، وليكن في علمك أنها أخبرتني بأمر يؤرقها أكثر، قالت أنها وقبل الحادثة تصرفت مع كريس ببعض البرود والتجاهل وتخشى ألا يسامحها على ذلك في وضعه هذا.
أعلم، لم تأتِ بشيء جديد، لاحظت تصرفاتهما قبل تلك الحادثة اللعينة.
أضاف متنهداً بعمق: لنجلس في غرفتي قليلاً وإياك والتحدث عن الأمر. وصلت إلى حدودي!
أتمنى أن يساعدهما ذلك الشخص في إيجاد مكانه في أسرع وقت.
أخفضت عيناي للأرض بحزن قبل أن أرفع رأسي وأخذ شهيقا عميقاً لأضرب كلتا وجنتاي وأخرج نفسي من هذه الحالة الكئيبة.
جوش:
مررت يدي على جبيني بإرهاق ونزعت نظارة العمل لأرميها على طاولة المكتب بعيداً عني، بل وأدرت الكرسي ليواجه ظهري المكتب وأحدق إلى النافذة بإنهاك شديد.
من الصعب حقاً أخذ منصب كريس ولو مؤقتاً، عانيت في الفترة التي كان طريحاً فيها في المشفى بسبب براد والآن قد اختفى تماماً بلا جدوى.
أشعر بالمسؤولية وضرورة مراقبة سير عمل الشركة في ظل غيابه مهما حدث، لم أترك طريقة إلا وبحثت فيها عنه ولكن لا خبر مفيد! أشعر بالقلق بشأنه وبالتعب بسبب هذا العمل.
أظنني أمضي أكثر من نصف يومي هنا في الشركة.!
وقفت مرهقاً ونزعت ربطة العنق أحدق من خلال النافذة إلى الفراغ، أين عساه ذهب، متى سيعود، يا ترى هل هو بخير حقاً؟ متى سيفيق من صدمته. هل سيطول الأمر؟!
لا يمكنني لومه أو عتابه ولكن.
يوجد من ينتظر عودته بفارغ الصبر.
أعلم في قرارة نفسي جيداً، وفي أعماقي. أن كريس ليس شخصاَ ضعيفاً ليصيب نفسه بالأذى، أعلم أنه قادر على تخطي الأمر وأثق به ولكن. انتظاري قد طال!
رأيته منذ أن كان طفلاً يحمل في قلبه الكثير ويتجاوز الأمور والأوضاع السيئة مهما كانت، جعلني هذا أدرك أنه قوي وقادر على تخطي ما يمر فيه الآن. ولكنني أعترف أنني مؤخراً بدأت أتوجس بسبب طيلة غيابه!
كما أنني قلق على كلوديا التي ساءت حالتها كثيراً، لا أدري حقا ما على فعله!
لا أدري كيف أتصرف.
أنا متعب. مشتت وخائف!
تفضل.
قلتها بلا حيلة عندما طُرق باب المكتب، لم يكن سوى فابيان الذي دخل ممسكاً بأحد الملفات السوداء ونظر إلى ببرود، تقدم نحو المكتب ليجلس على الكرسي المقابل واضعا قدما على الأخرى ومد نحوي الملف فأخذته فوراً وقلت متنهداً: أقدر عملك يا فابيان، لا أدري كيف سأتخطى كل هذا وحدي لولا مساعدتك.
نظر بعيداً بلا اكتراث: لطالما قلت بأنه مجرد طفل لا يستحق هذا الكرسي ولكن لا أحد كان ينصت إلي.
أضاف بتهكم يرمقني بتفحص: للمرة الثانية. يختفي في عزاء عليه أن يكون أول المتواجدين فيه، ليكن في علمك يا جوش. أنا لا أثق به ولا أطيقه ولكنني مجبر على التزام الصمت طوال الوقت.
من فضلك يا فابيان لنتجاوز هذا الأمر! يكفي ما يمر فيه.
يكفي؟
أومأ بتهكم وقد وقف مشيراً إلى المكتب بحدة: أنظر إلى الأزمة التي نمر فيها نحن بسبب غيابه! لم أتعب في حياتي أكثر من هذه الآونة بسبب تراكم الأعمال وتدقيق الشركات المعاونة بشأن تأجيل الإجتماعات والعقود واهتمامهم بسمعة العمل، ألا تدري كم أبذل جهداً في التستر على غيابه بحق الإله وقد اختلقت آلاف الحجج؟
أعلم. أنا أقدر وبشدة جهودك ولكن. كريس مرغم بالفعل على التصرف بهذه الطريقة، لا يمكنك تخيل صدمته يا فابيان! ضع نفسك مكانه على الأقل وسنرى كيف ستكون قادراً على تخطي ما يحدث من حولك!
لن أضع نفسي مكان ذلك الشاب، ولازلت لن أعترف بإستحقاقه لهذا المنصب.
لا تنكر جهوده وكل ما حققه منذ استلامه له!
لا يهم. فالشخص الذي اختفى في عزاء والدته فيما مضى فعل الأمر ذاته الآن، ولو كان الأمر بيدي لحققت بشأنه بدقة.
من فضلك يا فابيان، توقف عن هذا! يكفي ما أمر به أنا أيضا لم أعد قادراً على إحتمال المزيد من كل ما يحدث من حولي فلقد ضقت ذرعاً.
أشار بيده ببرود واستدار ليخرج من المكتب، عندما أغلق الباب انهار جسدي على الكرسي مفكراً بأسى ومتسائلاً إلى متى ستدوم هذه الحرب الباردة بينه وبين كريس.
ليس وكأن كريس غافلاً عن حقيقة ما يشعر به هذا الرجل والكره الذي يكنه نحوه، هو فقط يجيد إغلاق أذنيه جيداً ليمضي قدماً.
اللعنة. المشكلة أن لهذا الرجل جهود من الصعب الإستغناء عنها وجحدها، له فضل من الصعب إنكاره!
أعترف بأنه من يعاونني ويلعب دوراً في مساعدتي بإحترافية ولكن سماع كلماته هذه سيفقدني صبري وهذا ما أخشى حدوثه.
تيا:
نظرت إلى شاشة التلفاز، بحيث استخدم عيناي بلا أي هدف أو جدوى.
مجرد محاولتي لإلهاء نفسي وقضاء وقتي لعلي أرحم عقلي قليلاً، ومع ذلك.
ها هما تدمعان مجدداً!
أنا حقاً قد وصلت إلى أعلى مرحلة من اليأس!
لا يمكنني التوقف عن التفكير بإختفاءه، أتصل به في الليلة الواحدة أكثر من عشرون مرة ولا فائدة ترجى، أذهب مع الجميع إلى المشفى لأجل الزيارة ويزيدني هذا تعباً وعذاباً.
مسحت دموعي وبللت شفتاي بتوتر يجتاحني طوال الوقت ومن الصعب تخطيه مهما حاولت، لا أدري إلى متى سيستمر الحال العصيب هذا، ولا أعلم كيف سأحتمل أكثر من هذا.
ليلة واحدة بعد.
وسأفقد عقلي حتماً!
سمعت خطاه خلفي ليخرج من المطبخ، تقدم بوجه هادئ ووضع الطبق على الطاولة أمامي، نظر إلى بتمعن ثم جلس بجانبي وقال بتحفيز: هيا. لا تقولي الآن أنكِ لستِ جائعة أيضاً.!
لم أعلق، اكتفيت بالنظر إلى التلفاز بعين دامعة.
تنهد بعمق شديد واقترب مني ليمسك بيدي بين يديه يتأملني بلا حيلة.
نظر بعينيه الخضراء إلى الشاشة لمهية ثم نحوي وقد هز قدمه قليلاً بإضطراب وهمس بجدية: تيا. أنتِ لم تتناولي عشاءك في الأمس، ولا فطورك صباحا، ما الذي تنوين فعله بنفسك تحديداً!
انتزعت يدي من يده وقد استمرت عيناي بذرف الدموع دون توقف، ليس وكأنني أتعمد فعل هذا ولكن لم أعد أشعر برغبة في تناول أي شيء، لم يعد لشهيتي أي تواجد يُذكر!
كيف سأفعل هذا وأنا لا أعلم إن كان كريس بخير، إن كان يتناول طعامه أو لا!
عاود يمسك بيدي ويرفعها نحو شفتيه، وما أن قبّل يدي وفي خضرتيه نظرة مواسية حتى أغمضت عيناي بقوة وبكيت بخفوت.
أظنه اعتاد على هذا الوضع، لست أرغب في أن أشغل فكر إيثان أو أجعله يقلق بشأني ولكن كل هذا يحدث رغماً عني!
جذبني نحوه ليعانقني ممرراً يده في شعري ومربتا على رأسي: يكفي. ما تفعلينه لن يساعدنا على إيجاد مكانه، لماذا تتشاءمين إلى هذه الدرجة بحق الإله؟
أسندت رأسي على كتفه وهمست ببكاء وقد خرج صوتي المبحوح: إيثان. ربما كريس في خطر! ربما يحاول إيذاء نفسه أو حتى.
قاطعني بشيء من الحزم: توقفي عن غزو عقلك بهذه الأفكار حالاً! الستِ من قالت في البداية أنه قوي ولن يلجأ لهذه التصرفات؟!
ولكنه غاب طويلاً!
أنا أثق بكلمات سام. أثق بأن كريس يريد ان ينعزل قليلا وينطوي على نفسه ليستوعب ما حدث.
ابتعد عني ينظر إلى بتفحص، رفع يديه يمسح دموعي وابتسم بهدوء وهو يعيد خصلات شعري القصير خلف أذني، حدقت إليه بضياع وإنهاك وكأنني أرجوه بكلتا عيناي أن يكذب على حالاً ويسعدني بأي خبر كاذب لأرتاح قليلاً!
أنا لن أحتمل فكرة أن يكون كريس. ماذا؟! أن يكون ماذا!
أنا حتى لا أجرأ على قولها ولو في عقلي!
إنه يعني لي الكثير، وأن يمسه سوء فهذا كالجرح المميت لأنزف حتى تفارق روحي جسدي!
اطبقت شفتاي بإستياء وأنا أتشبث بقميص إيثان وأسند رأسي على صدره، لأقول بصوت محاولة أن أبقيه موزوناً: إلى متى سننتظر؟!
لن يطول انتظارنا أكثر، لا أقول لكِ هذا لتهدئي مؤقتاً صدقيني، لذا كوني أقوى يا تيا وانفضي عنكِ هذه الأوهام! أنا واثق أنه سيظهر قريباً جداً.
مرر يده على ظهري مواسياً: على الجميع أن يتماسكوا ليبقى كلُ منا قادراً على الوقوف على كلتا قدميه بنفسه، أنظري إلى كلوديا والسيدة أولين! إنهما تلجأن إلى الإنتحار البطيء دون وعيي بسبب كثرة التفكير أيضاً! الا تريدين أن نساعدهما على التعقل لنستطيع التفكير جميعنا ونجده؟!
ولكنه كان يبدو غريباً قبل أن يختفي! تصرف مع الجميع وكأنه شخص لا يعرفنا، بدلاً من الإبتئاس أو تنفيس القليل من حزنه تصرف بشكل مريب واختفى!
أعقبت بتوجس أحدق إلى عينيه برجاء: ما الذي علينا فعله؟ لقد ترك ابنه ينتظره حتى هذه اللحظة في المشفى يا إيثان! جيمي لا ينكف يسأل عنه في كل حين، ما الذي يعنيه كريس بفعلته هذه بحق الإله؟ هل. تخلى عنه؟!
الا يعني هذا أنه لم يعي ما حدث بعد! ألا يعني أنه بحاجة إليكِ إلى جانبه؟ توقفي إذاً عن فعل هذا بنفسك أولاً لتكوني قادرة على إسناده جيداً. انتبهي لصحتك على الأقل وتوقفي عن إهمال وجباتك! هو أب يا تيا ولن يتخلى عن ابنه، ربما فقط.
سكت قليلاً مفكراً ثم تنهد ووقف يمرر يده في شعره: ليس وكأنني قادر على تخمين أي شيء.
أكمل هامساً بنبرة غريبة: بصراحة أنا أيضاً لا أدري ما الذي علينا فعله تحديداً، ولكن الجميع يبحث في كل مكان لذا سنجده ولا داعي للقلق!
مسحت دموعي بطرف أكمامي بحركة سريعة وأنا أعقد حاجباي بقنوط شديد، لقد نلت كفايتي مما يحدث. أنا حتى لم أعد قادرة على زيارة جيمي في المشفى بسبب الحالة التي أمر فيها من خوف ويأس!
همست دون شعور بذعر: إذاً كريس من المحال إيجاده! تخلى عن ابنه. وتركني خلفه أيضاً! ألن نراه مجدداً؟
نفي بسرعة وهو يقترب نحوي بحزم ويجبرني على الوقوف وهو يسحب يدي وبيده الأخرى يحيط كتفاي، أجبرني على دخول حمام غرفتي لأقف أمام المغسلة، فتح الصنبور وملأ يده بالماء وهو يغسل وجهي وعلى وملامحه تعبيراً من التشتت والضياع.
عليكِ التوقف حالاً عن ذكر هذه الأفكار السلبية، أنتِ حتى لا تتوقفين عن قولها أمام شارلوت وكلوديا وأولين يا تيا.
أغلق المياه ووضع كلتا يديه على وجنتاي، بدت عيناه الخضراء ترجوني لأتعقل قليلاً وكم رغبت في الصراخ والبكاء لأخبره أنني لم أعد قادرة على استخدام عقلي في ظل غياب صديق طفولتي وأخي بهذه الطريقة.
لقد تعب إيثان كثيراً بسبب ما أهذي به! وبسبب طهوه للطعام يوميا في شقتي ورفضي لتناول ما يعده أو حتى ما يطلبه من المطاعم في الخارج. تعب من محاولة زرع الأمل في قلبي أنا والأخرين ومن محاولة تشجيعنا.
أنا. أريد أن أتشجع وأتحفز. أريد أن أستجيب ولكن. ولكنني خائفة جداً!
ظل يحدق إلى حتى حثني على أن نخرج من الحمام وأجبرني على الجلوس على السرير، ليتجه إلى خزانتي ويقول: علينا أن نخرج إلى أي مكان، لا يجب أن يستمر الوضع هكذا.
وها هو ذا. تعب من محاولة إخراجي من هذه الهالة الكئيبة.
حملقت به وهو يخرج لي ملابساً ومعطفاً مفكرة فيما قد أكون عليه الآن لو لم يكن بجانبي طوال الوقت، لو لم يكن رافضا لمغادرة الشقة حتى يتأكد من خلودي إلى النوم بعمق.
تقوست شفتاي بلا شعور ولكنني أسرعت أحاول بكل جهدي وطاقتي أن أخرج ولو قليلاً من هذا السواد الذي بدأ يسيطر علي.
علي الأقل لأجل إيثان.
لأجل جهوده ومحاولاته.
ابتسمت بصعوبة بالغة وأنا أحرك الخاتم حول إصبعي بطريقة دائرية، ارتجفت شفتاي وكأنها تنذرني أنها غير قادرة على الإبتسام أكثر فأسرعت أمحوها من على ثغري.
وضع الملابس على حجري يحثني على الإسراع: غيري ملابسك بسرعة.
بعثر شعري مشاكساً: وإلا أنجزت المهمة بنفسي.
رفعت عيناي نحوه بذبول وهمست: انتظرني قليلاً.
أولين:
كتمت الكثير في قلبي قبل وفاته.
كنت أعيش أصعب مرحلة بينما الجميع يبتسم ويضحك. كنت أتمنى لو أمكنني قول كلمة واحدة ولكنني قطعت عهداً والتزمت به لآخر لحظة.
ومع ذلك.
فشعور بالندم والذنب ينهشني، لو تحدثت متجاوزة الوعد الذي قطعته له لما حدث ما حدث. لو تجاهلت ما طلبه مني لكان الآن يجلس بيننا، ولما اختفى كريس بهذه الطريقة تاركاً خلفه الجميع وعلى رأسهم هذا المسكين الصغير.
نظرت إلى عينيه العسليتان الواسعتان اللتان يحركهما في الفراغ بمرح وهو يحدث شارلوت وجينيفر وشقيقها شارلي، لتقول شارلوت التي تجلس بجانبه على السرير بعدم تصديق موجهة حديثها إلى شارلي: لا تخبرني أن ذلك المدعو كيفن سيأتي أيضاً!
أومأ شارلي بثقة: نعم سيأتي برفقة هنري غدا أو بعد غد. ولكنني حذرته من افتعال أي شجار معي أو مع جيمي وإلا طردته من المشفى.
مد جيمي يده باحثا عن كوب الحليب الدافئ على الطاولة لتسرع شارلوت بأخذه وتناوله إياه بين كلتا يديه فاعتصر قلبي حزناً وألماً محاولة بكل ما أملك من قوة منذ ولادتي أن أحافظ على هدوئي أمامهم.
ارتجفت شفتاي بأسى وقد اهتزت كل أوصالي ومنعت بجهد بالغ خروج تلك الدموع من وكرها، تنهدت جينيفر التي تجلس على الكرسي المجاور لي واضعة قدما على الأخرى وقالت بمكر وهي تفيء شعرها الأسود: ذلك الطفل كيفن. سأنتظره ريثما يبلغ وسأفكر بالإرتباط به لاحقاً.
نفيت شارلوت بلا حيلة: من فضلك توقفي عن هذا التفكير المميت، أرى جيداً لماذا أنتِ معجبة به.
أردفت وهي ترتب المكان من حول جيمي: لأن لسانه سليط وحاد الطباع، وإن كان شقيقك يتصرف كرجل بالغ فذلك الكيفن يبدو ككبير عائلة.
علق جيمي مبتسماً محدقاً إلى الفراغ بمرح: أمي، ولكن بالرغم من معاملته لي دائماً إلا أنني تفاجأت بمجيئه لزيارتي! إنه طيب بعد كل شيء. اليس كذلك؟
تجاهلت ذلك الحوار وقد انتابتني رغبة في إغماض عيناي وأرحل بعيداً عن هنا. أرحل وأفقد ذاكرتي تماماً.
لأنسى ما حل بهذا الصغير، وأنسى فقداننا لأحد أفراد العائلة، وأنسى غياب كريس عن الأعين. يا ترى هل يتناول طعامه ويدفئ جسده؟ هل ينام جيداً؟! هل المكان الذي استقر به مريح؟ متى سيعود؟ جيمي لا يتوقف عن السؤال عنه.! متى سيستوعب ما حدث؟!
ومع ذلك لا يمكنني لومه. لن أنسى طالما حييت ردة فعله والدهشة التي ارتسمت على ملامح وجهه عندما تحدثنا إلى الطبيب فور إسعاف جيمي.
فللأسف.
أسعفنا جيمي من جهة، لنتلقى فوراً خبر وفاة ماكس من جهة أخرى.
شعرت بألم في قلبي ما أن تذكرت أمره! ليتني أستطيع معاتبة نفسي بطريقة أو أخرى لأتخلص من شعوري بالذنب!
عندما تعرض هذا الصغير لتلك الحادثة فقد كريس عقله فعلياً! فلقد تشاجر مع جوش وسام وهما يحاولان تهدئته وقد فقد أعصابه كلياً! ظل كالمخبول يحدق إلى جيمي بل وأراد مرافقته إلى غرفة العمليات لولا محاولاتنا الجاهدة لمنعه.
وأظنها كانت أول مرة منذ زمن طويل جداً. أراه فاقدا للأمل فيها بل ومنكسراً ليقف بلا حيلة.
شحب وجهه وهو غير مستعد نفسياً لأي خبر قد يسمعه فور خروج الأطباء. وبالفعل. لم يكن قادراً على إحتمال ما قاله الطبيب بشأن ما حلّ بجيمي.
فكريس لم يغضب. لم ينفعل. ظل يطبق شفتيه يحدق إلى الطبيب بعدم استيعاب طوال الوقت!
وما زاد الطين بلة. عندما تلقينا خبر وفاة ماكس الذي اكتشفنا أن حالته قد ساءت ما أن سمع بإختفاء جيمي في المخيم.
انشغلنا كلنا.
فقدنا عقولنا بحثاً عنه.
بينما كان ماكس يعاني من اعتصار قلبه الشديد وقد لفظ آخر أنفاسه في الكوخ ولم نستطع إسعافه.
لأننا كنا في الحقيقة.
نتواجد جميعنا في المشفى القريب من المخيم. ننتظر خروج جيمي، غافلين عن غياب ماكس وقد سهونا فزعين بدماء هذا الصغير وغيابه عن الوعي تماماً.
يؤلمني قلبي كثيراً كلما فكرت في لحظاته الأخيرة! يتعذب فؤادي ويعتصر واشعر بثقل في صدري عندما أتخيل بقاءه وحيداً وهو يحتضر ولا أحد منا حوله.
فشلت في السيطرة على نفسي عندما أفقت من أفكاري على رؤية يد جيمي الذي يبحث بهما عن قارورة الماء ليشرب وتسرع شارلوت لتمدها إليه وتضعها بيده بإحكام وقد شحب وجهها لتفشل هي الأخرى في إبقاء ابتسامتها على ثغرها.
فقدت أعصابي ووقفت لأخرج من الغرفة فوراً، لا أستطيع.
هذا كثير جداً!
سأنفجر وسيذيب هذا الإنفجار قلبي تماماً.
أشعر باللوعة والحرقة على كل ما يحدث.
ليتني نكثت بوعدي لك يا ماكس، ليتني تصرفت وفعلت شيئاً. ليتني تابعت الأطفال وهم يلعبون وأبقيت عيناي على جيمي وقتها، وليتني راقبت كريس جيداً لأكتشف عزمه على الرحيل وأمنعه فوراً...
تحركت في الممر باكية بصمت ووصلت إلى نهايته حيث يوجد نافذة مطلة على حديقة المشفى، وفي كل خطوة أخطوها كنت أشعر أنني أسير عكس التيار. أسير ولا أدري ما الذي أريده حقاً او ما الذي أخشاه تحديداً في وضع كهذا، اسندت مرفقاي وقد مررت يدي اليمنى على جبيني بألم وإنهاك شديد.
أعود بذاكرتي إلى الوعد اللعين الذي تسبب في كل هذا تقريباً!
حيث طلب مني ماكس أن نتحدث قليلاً في مكتبه في الأعلى، طرقت الباب ودخلت فوراً لأجده يقف ويمرر أنامله النحيلة على طاولة المكتب مبتسماً بشرود، أغلقت الباب وتقدمت بحيرة بينما رمقني بنظرة سريعة ثم عاود يحدق في المكان من حوله بتأمل وقال: أولين. إنه يعمل بجد بالفعل، أنظري إلى كمية الملفات التي أنجزها وحده. فابيان عاجز عن الإعتراف بجهود كريس بسبب خلافهما الدائم في كل شيء، ولكن من الواضح أنه يخفي حقيقة مهارة ابني في العمل بسبب كبريائه.
ابتسمت مؤيدة: استغل الوقت جيداً يا ماكس، كريس محل ثقة في العمل بلا شك. أما فابيان فدعك منه لن يتوقف عن معاداته في كل شيء.
يوجد ما ألاحظه كلما قرأت التقارير التي كتبها بنفسه في الملفات هنا، أشعر بأنه يستخدم اسلوب مشابه لخاصتي كثيراً!
ولما لا! لقد تدرب على يدك في النهاية، اليس هذا طبيعي؟
بلى. طبيعي.
قالها بشرود وأعقب متنهداً بعمق: سيصعب على شرح السعادة التي تنتابني لمجرد أن أرى عمله الذي يكاد يطابق ما كنت أفعله دائماً. أرى أنه يجدني مصدر خبرة ليستفيد وقد حدث هذا بالفعل، أتساءل متى سأكون غير ذلك.
ابتسمت أخفي استيائي: من مصدر خبرة إلى أب هاه؟ من يدري يا ماكس. أشعر أن هذا سيكون قريب جداً.
جلست على الأريكة واسترسلت بإهتمام: أخبرتني أنه يوجد ما تريد التحدث بشأنه قبل ذهابنا إلى المخيم، ما الأمر؟
أومأ بهدوء تام وهو يجلس على كرسي المكتب الجلدي والمتحرك، اسند كلنا مرفقيه على مسند الكرسي وأعاد ظهره للخلف براحة واسترخاء لينظر إلى السقف وبدى وكأنه يرتب أفكاره قليلاً ليقول دون أن ينظر نحوي: لدي أمر أخفيه يا أولين. وأنتِ الأنسب لسماعه.
عقدت حاجباي باستغراب واعتدلت في جلستي بإهتمام أصغي إليه بتركيز، ليكمل على وضعيته تلك: ولكن أريدك أن تعديني أولاً، أن يبقى هذا الأمر بيني وبينك. لا ثالث بيننا يا أولين.
ما هذا فجأة!
نبرته الجادة هذه، وطلبه الغريب. ما الذي يجول في خاطره؟ وإن وعدته قبل أن أعلم بحقيقة ما يريده. الن أندم؟
ترددت كثيراً ولكنني أخفيت هذا وانا أتساءل برزانة: ما الأمر؟
ابتسم بضمور: لم تعديني بعد!
لست واثقة من ضرورة قطع وعد بشأن إخفاء أمر مهم يا ماكس، على أن أعلم بما يدور حوله حديثنا أولاً!
نفي مبتسماً وهو يدير الكرسي قليلاً: لستِ بحاجة إلى ذلك، هذا الوعد ستكونين مضطرة للحفاظ عليه لأيام قليلة، إنها مسألة وقت على أي حال.
لا يمكنني إنكار كم أشعر بالقلق الآن!
نظرت للأرض أطرف بعيني بجدية وببطء ثم رفعت مقلتاي نحوه: تبدو مصراً، أعدك إذاً.
سلكت الراحة طريقها نحو ملامحه وقد ارتخت كثيراً، طرف بعينيه البندقية ومرر يده في شعره الداكن الذي تتخلله الخصلات البيضاء قبل أن يفتح الدرج الأول للمكتب وينظر إلى ما بداخله ثم يعاود إغلاقه معلقاً بمشاكسة: يحتفظ لجيمي بصور مختلفة كثيرة، هو حتى لا يجرؤ على وضعها فوق الطاولة. يا له من أب خائب.
ابتسمتُ بهدوء فأكمل متنهداً: أولين. سأختصر الأمر.
ولّيته كل إهتمامي ونشّطت حواسي وخوالجي أحدق إليه ولا شيء آخر في المكان، لمحته يزدرد ريقه قبل أن يغمض عينيه لمهية ثم نظر إلي: وقعتُ على إذن الخروج من المشفى، لم يسمح لي الطبيب بالخروج، ولكنني فعلت ذلك بناءً على مسؤوليتي الخاصة وتركت برهاناً على الأوراق الرسمية في المشفى أن خروجي لا أحد يتحمل عواقبه غيري.
فغرت فاهي قليلاً أردد كلماته في عقلي بعدم استيعاب! وما أن أدرك عقلي كل ما شدد عليه من حروف حتى تحرك لساني بصعوبة وقلت بقلب مقبوض: ماكس! ما الذي تقوله بربك؟ خرجتَ على مسؤوليتك الخاصة؟ عندما قيل بأنه قد تم السماح لك بالخروج أخيراً. هل كان ذلك كذب!
أومأ بهدوء عكس الأعاصير الهائجة في داخلي وابتسم بلطف: أخبرني أن عضلة القلب لدي ضعيفة جداً.
قاطعته بحزم: نعلم جميعنا بهذا!
أسرع يهدئني: رويدكِ يا أولين!
أضاف ينظر بعيداً: عندما رأيت شارلوت للمرة الأولى في المشفى، تعرفت على ملامحها فوراً. لا أنكر أنني تذكرت أمر ستيفاني مباشرةً ولكنني أعرف شارلوت منذ أن كانت طفلة والشبه الكبير بينها وبين والدتها كفيل بإعلامي بعلاقتهما، وعندما أخبرتني أنها زوجة كريس. تأكدت دون الحاجة إلى سؤالها عن هويتها التفصيلية. لقد كنت أعلم أنه سيقدم يوماً على فعلة كهذه.
تنهدت وقد كانت شفتاي ترتجفان لأنفي برأسي بإضطراب: لماذا تتشعب في الحوار يا ماكس؟ أكمل ما قاله الطبيب من فضلك!
لست أتشعب. دعيني أخبرك بما يجول في خاطري أولاً، وأعدك أن أكمل ما قاله لي.
يا الهي. تصرف كهذا ويبذر منه شخصياً! من الصعب استيعاب ما يحدث الآن حقاً.
كيف أنصت إلى كلماته بينما أنا قلقة! خرج من المشفى على مسؤوليته مما يعني أن الطبيب حذره من خطورة العودة إلى المنزل!
انتشلني صوته من بين تلف أعصابي المشدودة: ولكنني أدرك جيداً أنه لم يتزوجها لأي سبب قد يتفوه به بنفسه، أعلم أنه لم يكن يحاول الإنتقام من عائلتها وما شابه. أولين، لطالما كنت أفهم ما يكنه ابني لهذه الفتاة. منذ أن كان طفلاً وأنا أدرك جيداً اشتياقه لها لمجرد قضائها لليلتان فقط في منزلنا، لذا مهما حاول تزييف الأمر. سيظل في النهاية قد تزوجها لأنه لطالما أرادها.
أتذكر شارلوت جيداً، وأتذكر كم كانت تلتصق بكريس في الليلتان اللتان قضتهما هنا، تحدق إليه بإعجاب وبراءة وترجو والدها لتبقى هنا أكثر. أتذكر كم كان يتظاهر بالإنزعاج منها ولكنه لم يتوقف عن السؤال بشأنها!
وقع في حبها منذ زمن بعيد جداً بالفعل! حب طفولة باقي حتى الآن!؟
بربك يا كريس.
أعلم هذا جيداً ولكنني أنتظر وضوحه وصراحته كما تنتظره شارلوت.
ابتسمت دون شعور، في حين أكمل: عندما علمت بالطريقة التي يعاملها بها وقد صارحتني هي بدورها قليلاً في المشفى، أدركت أنه لن يتوقف عن هذه المعاملة حتى يجد رادع قوي أو صفعة يفيق بها، ليرى أن الفتاة التي لطالما كان يتوق إليها تقف أمامه أخيراً. ولكنه متملك جداً ويعتقد أنه وبطريقته قد حصل على ما يريده! كرهت أن أقف مكتوف الأيدي وأنا أسمع ما يحل بتلك المسكينة فأردت رؤية ما يحدث بنفسي، كما أنني سئمت من تقصيره في حق جيمي طوال الوقت، وتعبت من خلافه مع إيثان! وشيئاً فشيئاً بدأت أفكر بعمق. متى سيحين الوقت الذي أصارحه فيه بشأن ما حدث مع باتريشيا!
أخفضت رأسي بحزن وتنهدت بأسى: لن ينصت إلينا يا ماكس، صدقني حاولت مرارا وتكراراً إيصال الفكرة له، لا يمكنك تخيل كم يكذب على نفسه! عندما كانت باتريشيا لا تزال على قيد الحياة كان بارعاً في التظاهر بحبها حتى مع نفسه ولكن ما أن توفيت حتى اختلف الأمر.
أردفت بحزن: عندما لم يستطع إظهار ملامح الحزن على وجهه في عزائها قرر الإختفاء مؤقتاً! شعرت بأنه يرغب في.
بترت كلماتي بتردد ليكمل عني مبتسماً بإستياء: بالإحتفال بدلاً من الحزن. لا يمكنني لومه، ولا يمكن لأي كائن عتابه، احتمل الكثير ولم يقضي طفولته كأي طفل كان. أنا نادم جداً على هذا.
لقد حاولت لأجله يا ماكس! فعلت الكثير لتبقيه إلى جانبك.
هذا ما أنوي إيضاحه له، عندما وقع طريحاً في المشفى بسبب براد، شعرت بطريقة ما أنني أرى بصيص أمل ليتقبل والدا شارلوت وقد كنت محقاً، عندما استمع إليهما بدى يائساً بعض الشيء ولكنه استطاع إخفاء هذا، لذا أشعر أنه قادر على تصديقي أخيراً والتوقف عن تجاهلي ولو لمرة.
أعقب وهو يقف ويتحرك ليستقر أمام النافذة محدقاً إلى الحديقة: ولهذا قررت بعد تفكير، لأراقب علاقته بشارلوت، ولأرى كيفية سير الأمور مع ابنه، ولأخبره بما يجول في خاطري منذ زمن بعيد. كان على الخروج من المشفى بأي طريقة والتوقف عن إهدار الوقت أكثر من ذلك.
عقدت حاجباي بعدم تصديق ليكمل شابكاً كلتا يديه خلف ظهره ويتمتم بنبرة هادئة مسترخية: خرجت وقد فضلت قضاء وقتي مع الجميع بدلاً من قضاءه في المشفى وحدي، مللت تأمل سقف المشفى طوال الوقت، يئست إنتظار زيارته لي، عوضا عن الإنتظار قررت الخروج والعودة إلى الجميع مرة أخرى. لا أريد الموت وحيداً.
اتسعت عيناي وانا أقف نافية برفض تام: لهذا خرجت من المشفى بحق الإله؟
اقتربت منه بإنفعال فالتفت نحوي ينظر إلى بهدوء، عضيت على شفتي قبل أن أصيح به بحدة: هذا هراء يا ماكس! تعرض نفسك للخطر مقابل البقاء مع الجميع فقط؟ تريد أن تفقد حياتك! ألا تخاف على نفسك من الموت؟! لا يمكنك أن تكون جاداً!
أنا لا أخاف الموت يا أولين بقدر خوفي من الحياة، الحياة أكثر إيلاماً وشدة. الحياة تجيد توجيه الصفعات المحسوسة بمهارة، وقد نلت كفايتي من هذه الصفعات واحدة تلو الأخرى حتى امتلأت نفسي المحطمة بالخيبات المتتالية. لا زال لدي أمل في رؤية ابني سعيد في زواجه ويحسن علاقته بابنه وكذلك يوطد علاقته بستيفاني ومارك متوقفاً عن لومهما، لا زلت أريد رؤيته وإشباع عيناي بتأمله بدلاً من الإستلقاء على سرير المشفى وحدي!
فرغت فاهي بعدم تصديق وقد ضاقت عيناي، شعرت بالدماء تغلي في عروقي لأهمس بضعف تام: أنا عاجزة عن تقبل حرف مما تتفوه به، أنت تتهور! أنت تخاطر بحياتك دون أدنى إهتمام! لم نكد نفرح لخروجك سالماً. لتخبرني الآن أنك خرجت على مسؤوليتك ببضعة تسويغات! هذا كثير. لا بد وأنك لم تعد تستخدم عقلك يا ماكس!
رفع يده يربت على كتفي بلطف: استخدمته طوال حياتي. ولم يأتي بنتيجة تُرجى، دعيني استخدم الجنون قليلاً فقط! ألم تريي إلى ما قادني إليه هذا الجنون؟ كريس نادى بي بأبي بدلاً من إسمي وهو غاضب بشأن الملف. شكرت جنوني بكل ما أوتيت! وهذا ما يجعلني أدرك أنني في كل مرة أصل إلى النهاية أفهم أنني لا زلت في البداية، دعيني أبدأ من جديد إذاً.
أغمضت عيناي بتعب وإنهاك وقد أُرهقت أذني بما أسمعه من مطالب مجنونة من شخص مثل ماكس اعتدت على تأنيه في أفكاره واختياراته، مررت يدي على جبيني بوهن فواصل تربيته على كتفي لأهمس بحزم وبصوت مرتجف: سمعت ما يكفي، سأذهب حالاً وأخبر جوش بضرورة أخذك للفحوصات، لا يجب أن ألتزم بوعد كهذا لا يترتب عليه سوى فناء روحك لأدنى خطأ قد يقع!
استدرت مبتعدة ولكنه همس برجاء: أولين. لا زلت أطمع برؤيته يسترد أخوته مع رين، أريد رؤية علاقتهما تتحسن وتعود كما كانت! من فضلك. التفكير بالعودة إلى المشفى مرة أخرى يشعرني بالإختناق، إنها مسألة وقت ولن يحتمل قلبي أي ضغوطات أخرى لذا دعيني أمضي آخر أوقاتي ولحظاتي هنا! مع ابني وحفيدي حتى وإن ظل كريس يرفضني!
أكمل مبتسماً بأمل: كما أنني اتصلت بجينيفر وأخبرتها بكل شيء، طلبت منها المجيء إلى المخيم، انا أثق بها يا أولين، وأعلم أنها قادرة على تصحيح مسار الأحداث. لا يوجد ما نقلق بشأنه!
دمعت عيناي وبللت شفتاي أنظر لليسار نحو الملفات والمكتب بيأس شديد، سحقاً لنبرة الضعف في صوته! سحقاً لرجائه.
التفت نحوه أحدق إليه بتأمل وأنا أمسح دموعي، ليقترب مكملاً برجاء وفي مقلتيه البندقيتان رجاء حار: لذا عديني أن تحفظي هذا الأمر بيننا. وافعلي ما شئت في حين حدوث أي أمر لي! ولكنني أريد منكِ معروفاً، إن فارقت الحياة لسبب أو لآخر طالما أنها مسألة وقت. إياكِ وابعاد عيناك عن كريس أو جيمي. كريس ليس قوياً كما يظن الجميع! إنه مجرد شاب ذو كيان مهزوز وكلمة واحدة كفيلة بكسره وتهشيمه من الداخل. نال ما يكفيه من بؤس هذه الحياة، لذا. اهتمي دائماً بصحته النفسية وحاولي تقريبه إلى شارلوت أكثر. تلك الفتاة تحبه بصدق وعاجزة عن كبح مشاعرها، إنها مستعدة للبقاء إلى جانبه مقابل التخلي عن أمور كثيرة. كريس أضعف بكثير مما نعتقد، ولن أصدق يوماً أنه ارتكب تلك الحادثة برين دون مبرر. لن أقتنع أن ابني ليس سوى شيطان بليد، نتفق على أن ما فعله فظيع ولكنني لا زلت آمل أن لديه أسبابه. رأيت في عينيه البراءة يوماً ولن تختفي منه حتى آخر لحظة. البراءة التي وُلد بها ستظل ساكنة في داخله كما هو حال الناس جميعهم! إنه فقط في حاجة إلى أن يتوقف في كبت كل شيء في نفسه، أريده أن يجد من شارلوت مخرجاً لم يشعر به، أتمنى رؤيته مدركاً لضرورة البوح ولو قليلاً بما يجول في خاطره، لا اريده أن يكره الحياة بأكملها بسبب باتريشيا ويفقد ثقته في الناس.
أضاف بأسى: لا أريده أن ينظر إلى الحياة بنظرته تلك. ليبدو كشخص حرق منزله بأكمله متخلصاً من عقرب قد اخترق حيزه، عليه أن يدرك أن باتريشيا كانت مجرد مرحلة قد انتهت ولا يجب أن تدوم نتائج هذه المرحلة إلى الأبد.
عدت إلى الواقع وقد شعرت بيد تربت على كتفي بلطف!
أسرعت أمسح دموعي وأتنحنح محاولة التخلص من بحة صوتي إثر الغصة التي تجتاحني.
نظرت إلى حديقة المشفى بينما أتى صوتها بإستياء: سيدة أولين. توقفي عن الضغط على نفسك.
قلت دون أن أستدير نحوها: لا بأس يا شارلوت، أنا بخير.
شعرت بضيقها فنظرت إليها من فوق كتفي مبتسمة لها بلطف بقدر استطاعتي، وضعت يدي على يدها التي لا تزال على كتفي، لأقول أحدق إليها بضعف: الأمر ليس بيدي. لازلت أشعر بالذنب لما حل بماكس.
أخفضت عينيها الخضراوين بيأس: توقفي عن لوم نفسك، لطالما تساءلنا عن سبب تغيرك في الآونة الأخيرة قبل وفاته، اتضح أنكِ كنت تكبتين كل شيء في نفسك، بينما كان يبتسم و يستمتع بكل لحظة يقضيها مع الجميع.
أعقبت وهي تقترب مني أكثر وتعانقني لتتغير نبرتها إلى الحزن: فعلتِ ما بوسعك، احتفظت بذلك الوعد لأجله، احترمتِ رغبته لأخر لحظة وأنتِ تحرقين نفسك من الداخل. ولكن. أن يفكر بتلك الطريقة وكأنه يضحي بما تبقى له من عمر مقابل رؤية الجميع سعداء عوضاً عن الموت وحيداً. يجعلني أستاء كثيراً، فيا لسخرية القدر. لقد مات وحيداً في الكوخ بينما كنا منشغلين بأمر جيمي.
شعرت بدموعها التي بالكاد تسمح لها بالخروج وهي تحاول التماسك أمام جيمي طوال الوقت، بدت وكأنها تريد أن تنفجر باكية ولكنها تمالكت نفسها بسرعة، مررت يدي في شعرها البني وأنا أخرج تنهيدة من أعماقي وهمست: توقفي أنتِ أيضا عن التظاهر بالقوة هكذا يا ابنتي، رفهي عن نفسك قليلاً وعبري عما تشعرين به لئلا تنفجري في وقت خاطئ قد تندمين عليه فيما بعد!
ولكنها نفيت مبتعدة وقد جفت دموعها لتبتسم بهدوء: أنا بخير.
شردت عيناها وهي تنظر من خلال النافذة لتسترسل: الأمر فقط. بأنني لم أعد أحتمل رؤية ما يمر فيه جيمي، التحديق إلى عيناه اللتان تسبحان في الفراغ دون وجهة محددة يجعلني أرغب في البكاء بصوت عال، أظنني أفهم قليلاً سبب صدمة كريس.
ثم ابتسمتْ وهي تطأطأ رأسها قليلاً: هو على ما يرام. أنا واثقة من ذلك، سيعود قريباً جداً لأجل جيمي ولا داعي للقلق.
الكذب واضح في صوتها، في ملامحها وفي كل تحركاتها!
هي ليست قلقة بشأنه وحسب، إنها خائفة من حدوث أي زعزعة بينها وبينه وقد أخبرتني أنها تصرفت معه بشيء من التهرب والجمود عندما علمت بحادثة رين، هي خائفة أن يخرجها كريس من عالمه ويتركها خلفه.
خائفة أن يمسه سوء أو أي ضرر، هي حتى ليست واثقة ما إن كان على ما يرام وقد اختفى تماما!
وفي كل مرة أتذكر كلمات ماكس بشأن حقيقة ضعف كريس. أتوجس أنا أيضا ولا أنكف أفكر ليلا ونهاراً.
إنه يحرق قلبي بغيابه الطويل هذا.
ربت على كتفها مواسية فابتسمت لي بهدوء وقد تراجعت بضع خطوات للوراء ثم استدارت لتعود إلى غرفة جيمي، لمحتها تقف قليلاً أمام الباب وتأخذ نفسا عميقاً قبل أن تدخل.
لم تكف عيناي عن ذرف الدموع منذ وفاة ماكس وإصابة جيمي، ولكن يوجد من يتظاهرون بالقوة لأجل مساندتنا، لأجل أن يكونوا الكتف الذي نستند عليه ونتماسك. وعلى رأسهم شارلوت وستيف الذي لا يتوقف عن لومه نفسه بما حلّ بخاله.
ظل يردد في البداية أنه السبب، ظل يقول بأنه لو لم يبقى معه لما حدث ما حدث.
لا اظنه قادر على تجاوز الأمر والتوقف عن عتاب نفسه بالرغم من أنه من يجيد التخفيف عن الجميع ولا سيما كلوديا التي انتكست حالتها تماماً بعد وفاة شقيقها الوحيد.
شارلوت:
أغلقت الباب خلفي مبتسمة بهدوء وأنا أنصت إلى ما تحكيه جينيفر لجيمي وشارلي من مواعظ ونصائح.
حسنا يفترض أنها نصائح.
جلست بجانب جيمي الذي تركته للحظات لأتفقد السيدة أولين، وكما توقعت، لا تزال تشرد بذهنها كثيراً. وقد توقفت مؤخراً فقط عن ترديد تلك الجملة أمامنا ليتني أخلفت بوعدي لماكس .
اشتقت إلى السيد ماكس كثيراً، زيارة قبره كفيلة بهز أوصالي وتجمد مجرى دمائي تماماً.
أتوق إلى كريس، قلقة عليه وأخشى أن يكون مكروهاً قد أصابه!
لم نترك مكانا وقد بحثنا فيه عنه، لتأتي كلمات سام التي تصبرني على ما حدث ويقول بأنه يريد أن ينطوي على نفسه قليلاً.
أي انطواء بحق الإله.
أي عزلة يا كريس.
أظهر نفسك ودعني أتأكد من كونك على ما يرام على الأقل ثم عد من حيث أتيت!
أنا عاجزة عن النوم ليلاً، عاجزة عن مضغ لقمة صغيرة من الطعام، أنا يائسة ولم أعد أحتمل.
أنا أيضاً أريد تفريغ طاقتي، أريد أن أظهر ضعفي كما يفعل الجميع!
ولكن هذا محال.
لم يعد ممكناً في ظل ما يمر فيه هذا الطفل البائس.
إن خارت قواي أنا أيضاً وتغلب ضعفي على فممن قد يستمد قوته هذا المسكين؟!
رأسي لم يعد يحتمل التفكير الذي يلازمني طوال الوقت وفي كل مكان.
كما أعترف أنني بدأت أيأس حتى وإن واصل سام ترديد كلماته بشأن كريس. بدأت أفقد الأمل!
عندما ضحك جيمي بسعادة نفضت الأفكار من رأسي مؤقتاً وشاركته الضحك بالرغم من أنني لا أعلم ما يدفعه للتبسم أو الضحك حتى.
رمقتني جينيفر بعينيها الزرقاء بنظرة سريعة ثم عاودت تتابع حديثها، وجودها مهم جداً. أقر بهذا!
لولاها لما استطعت الصمود حتى الآن، بل أنها من ساندت أولين وكلوديا والجميع بشأن وفاة ماكس وحاولت جاهدة تلطيف الأجواء ولا زالت تفعل ذلك.
لولا جينيفر لواصل ستيف كذلك لوم نفسه طوال الوقت، ظل بائساً تعيساً في العزاء وعزل نفسه في غرفته مرددا أنه السبب فيما نمر به.
ومع ذلك فهو الآن أكثر من يحاول الوقوف إلى جانب والدته، كلوديا من الصعب حقاً إنتشالها من وضعها هذا. السيد ماكس يعني لها كل شيء!
أتساءل إلى متى سيستمر الوضع هكذا.
سألت جيمي وشارلي بإهتمام: هل أشتري لكما أي شيء؟ شطائر أو شراب ساخن؟
نفي كلاهما فابتسمت بهدوء ونظرت كما فعل الجميع بإتجاه الباب الذي طُرق، لم تكن سوى الممرضة التي أتت لإلقاء نظرة على جيمي لتطمئن، حدقت إليها وهي تبعثر شعره بلطف ثم تنظر إلى ساقه وتسأله: حسناً يا جيمي، هل تشعر بتحسن اليوم؟
أجابها مبتسماً: أنا بخير. ولكن متى سأستطيع التحرك دون هذه الجبيرة!
زميت شفتاي في حين أجابته بدورها: ستفعل هذا قريباً جداً، هل خرجت اليوم إلى حديقة المشفى؟
أومأ: نعم فعلت هذا مع أمي وشارلي.
جيد، ستكون وجبة غدائك جاهزة بعد قليل، تناولها كلها وإلا منعت الهدايا والزهور التي يحضرها لك الجميع، مفهوم؟
قالتها متظاهرة بالوعيد فأسرع يقول: حسناً.
نظرت الممرضة إلى ثم ابتسمت لي قبل أن تعاود النظر إلى ساق جيمي التي يحيط بها جبيرة بيضاء لتضبط عظمة الساق التي تعرضت للكسر عند إصابته، هذه الجبيرة طويلة وتعيق حركته، بدءاً من أسفل ركبته حتى نهاية قدمه، مما يجعلني أجلسه على كرسي متحرك ليخرج من الغرفة قليلاً إلى الحديقة لبضعة ساعات ثم يعود إلى الغرفة مجددا.
وليت الأمر ينحصر على كسر ساقه، فهذا الكسر سيشفى خلال أشهر قليلة على الأقل.
ارتخت ملامحي بحزن رغماً عني وأنا أراه يمازح الممرضة التي تقف على يساره، في حين تحدق عينيه العسليتان إلى الأمام بعيداً عنها وينصت إليها بتركيز.
هذا ما جعل كريس غير قادر على تجاوز ما حدث، عندما انتهت عملية جيمي أتى خبر الطبيب ليشير إلى أنه فقد بصره بسبب قوة إرتجاج رأسه آنذاك مما أثر على المركز العصبي والبصري لكلتا عينيه.
ولم يكد يمر على ما قاله الطبيب عن ابنه لحظات حتى أتت الطامة الأخرى بشأن توقف نبض قلب السيد ماكس تماماً الذي كان في الأساس قد خرج من المشفى على مسؤوليته الخاصة كما أخبرتنا أولين، بل وأنه خرج بينما يعاني من ضيق في جزء من الشريان التاجي. ويبدو أن هذا ما جعله غير قادر على الصمود أمام خبر إختفاء جيمي.
لا أدري حقاً بما كان يفكر تحديداً وهو يعرض نفسه للخطر.
أعلم.
أعلم جيداً ما كان يشعر به فما قالته السيدة أولين كان كفيلاً بإخراس الجميع، ولكن لا زلت لا أدري كيف كان يفكر حينها! أراد قضاء آخر لحظاته بين الجميع وهو يعلم أن الأوضاع متأزمة أصلاً. إلى أي درجة كان السيد ماكس يشعر بالوحدة التي تحثه على الخروج من المشفى بأي طريقة؟!
بطريقة ما. لا يمكنني عذل كريس على صدمته التي تضاعفت بخبر وفاة أبيه، وقد أبدو لئيمة جداً لقول هذا ولكن.
لم أكن لأتخيل أن يتأثر إلى هذه الدرجة بوفاته!
ظننت في نفسي أنه لن يتأثر كثيراً طالما أن علاقتهما كانت سيئة ولكن كريس اختفى تماماً ولم ينطق بكلمة واحدة!
لم يلتفت إلى أحدنا!
سمع بخبر إصابة جيمي وبما حصل له، ثم بخبر وفاة ماكس. وبعدها غاب عن أعيننا تماماً!
ما الذي يجول في خاطره تحديداً! إلى متى سيواصل الإختفاء هكذا؟ ماذا عن جيمي؟ ماذا عن زيارة قبر ماكس على الأقل؟ يا الهي لا أدري حقاً ما الذي يحدث من حولي. ولا أعلم كيف أتصرف!
أين عساه يكون وما الذي يفعله الآن!
جيمي لا يتوقف أو ييأس من السؤال عنه مما يجعلني أفكر في حجة مختلفة قبل الخلود للنوم أجيبه من خلالها بشأن غياب والده.
هذا كثير يا كريس.
من فضلك عد واطفئ نار الإنتظار في قلب هذا المسكين الذي يسأل عنك في كل حين.
اللعنة على كل شيء. وعلى اللحظة التي ظننا أوليفيا قد غادرت بها ليتضح أنها عادت أدراجها رغما عن الجميع لتأخذ بيد جيمي الذي لا أدري كيف كانت تراه كما لو كان كريس بشحمه ولحمه.
تعالى رنين هاتفي الذي أعادني للواقع لأدرك أن الممرضة قد خرجت قبل ثواني فقط، أسرعت أجيب على أمي: مرحباً؟
أتى صوتها ذو النبرة الهادئة: شارلوت. هل من خبر من سام؟ أتصل به ولكن الخط مشغول!
ليس بعد، كان قبل فترة قصيرة يجلس معنا هو وستيف ولكنهما عادا إلى المنزل على الأغلب، لو عثر على أي شيء فأنا واثقة بأنه سيخبر الجميع لذا لا تقلقي.
سمعتها تتنهد بعمق ثم تمتمت بضيق: كلوديا. ألا تزال تجلس في غرفتها وحدها؟
أخفضت عيناي بحزن ولكنني حاولت أن أبدو طبيعية، لأجيبها بهدوء: سيكون كل شيء بخير، سنحاول إخراجها من عتمتها هذه، إنها بحاجتك أنتِ أيضاً يا أمي.
أعلم. سأزورها غداً وأرى ما يمكنني فعله لأجلها.
أعقبت بيأس: والدك متأثر كثيراً بوفاة ماكس يا شارلوت، لا أدري حقاً ما ينبغي لي فعله معه. على كل حال سآتي في الغد لأجل جيمي وكلوديا، إن أخبرك سام بأي شيء فأعلميني فوراً.
سأفعل.
وتوقفي عن الضغط على نفسك يا شارلوت، تصرفي على سجيتك من فضلك ولا تكبحي رغبتك في التنفيس عما تشعرين به وإلا ندمتِ على هذا لاحقاً. في أي وقت تشعرين فيه بالضيق أعلميني وحسب. اتفقنا؟
ابتسمت بهدوء: اتفقنا.
كدت أكمل كلماتي لولا انتزاع جينيفر للهاتف من يدي لتقول بثقة: مرحباً ستيفاني.
لا أدري ما قالته لها أمي ولكنني رأيت جينيفر تغمض عينيها مبتسمة ثم ترمقني بخبث: لا تقلقي إنها تحت وصايتي، سأجعلها تعبر عن كل ما يجول في خاطرها لذا اتركي كل شيء لي.
أكملت هامسة لئلا يسمعها جيمي: إنها فقط مشتاقة إلى زوجها وتشعر بالحنين إليه.
قلبت عيناي بلا حيلة وتجاهلت ما تقوله، فعلى كل حال هي محقة.
في هذه الأثناء دخلت أولين وقد عادت مرتدية قناع وقارها وهدوئها ومحت من على وجهها الحزن والأسى، جلستْ بجانب جيمي فنظرت بدوري إلى جينيفر التي أخذت هاتفي ووقفت متحدثة مع أمي بل وخرجت من الغرفة!
استغربت ذلك كثيراً وتبعتها بخطوات هادئة، فتحت الباب لأراها تبتعد إلى نهاية الممر حيث كانت أولين تقف قبل لحظات، وضعت يدي على خصري وضيقت عيناي بشك.
جينيفر لن تكف عن استخدام كلمات جريئة، وكما توقعت سمعتها تقول ضاحكة دون أن تعي وجودي خلفها: لا تقلقي يا ستيفاني إنها بخير، ولكنها تشتاق فقط إلى.
قاطعتها فوراً وأنا أخذ الهاتف وأقول متنهدة بلا حيلة: كما توقعت.
أضفت أضع الهاتف على أذني: أمي. إلى اللقاء.
أغلقت الهاتف ونظرت إليها بعتاب: متى ستتوقفين عن إحراجي!
ابتسمت بثقة واحاطت كتفي بذراعها هامسة بمكر: لم أكن لأقل شيئاً سيئاً!
ما الذي كنتِ تنوين قوله لأمي؟
لا شيء! كنت سأقول لها كم أنتِ مشتاقة إلى كريس وقبلاته اللطيفة. أوأنها لم تكن لطيفة حقاً!
أغمضت عيناي بصمت فسمعت ضحكاتها الخافتة، ومع ذلك. تفاجأت بحرارة وجنتاي بالفعل فأسرعت أفتح عيناي لأنظر بعيداً لأتمتم بضعف رغما عني: جينيفر. أنا حقاً مشتاقة إليه. قلقة بشأنه كثيراً ولا أدري ما الذي على فعله!
ارتخت ملامحها قليلاً ومررت يدها في شعرها الأسود، تحركت وهي تمسك بيدي تحثني على أن نجلس على أحد مقاعد الإنتظار في الممر، تابعنا حركة الممرضين والزوار من حولنا قبل ان نكسر هذا الصمت وقد كانت من بادرت: شارلوت، ما قاله ماكس بشأن ضعف كريس صحيح. هو ليس ذلك الشخص القوي الذي تعتقدينه! إنه فقط يختبئ خلف غطرسته وعجرفته التي يعلم جيداً في قرارة نفسه أنها قادمة من فراغ.
أطرقت برأسي بإستياء فربتت على كتفي وارجعت بأناملها خصلات شعري خلف أذني: ولكن ماكس ربما غفل عن نقطة واحدة. صحيح بأن كريس ضعيف ومهزوز من الداخل ولكن. لديه جانب قوي يا شارلوت، وللأسف هذا الجانب القوي ليس جانباً إيجابياً حقاً.
عقدت حاجباي بعدم فهم فأسرعت تنظر للأرض مفكرة قبل أن تتمتم على مضض: لا أعلم كيف أشرح هذا. ربما سيأتي يوماً قريباً جداً تفهمين ما أعنيه، هذا أمر أنا واثقة منه تماما. لديه جانب قوي وفي المقابل سيء. لا أخفي عليكِ أنني قلقة بعض الشيء بسبب هذا الأمر.
علقت محاولة فهم ما ترمي إليه: أتقولين بأنه في حالة أراد أن يستمد القوة سيلجأ إلى الجانب القوي السيء، ما هذا فجأة يا جينيفر!
لطالما كانت هذه طريقته في إخفاء ضعفه وطمس حاجته إلى شخص ما.
ولكنني. أريد أن أكون الشخص الذي يلجأ إليه! الست زوجته؟! ألا أستحق هذه الفرصة؟ لماذا يصر على أن يبدو ذلك الرجل الجامد الذي لا تهزه الريح؟ أنظري إليه الآن قد اختفى وتوارى عن الأنظار رافضاً أن يظهر ضعفه.
أنتِ مخطئة.
هاه!
هو لم يتوارى عن الأنظار ليخفي ضعفه كما تظنين أو كما يعتقد الجميع.
استرسلت بهدوء مشيرة إلى رأسها: إنه يقوم بإعادة برمجة عقله يا عزيزتي.
نفيت بلا حيلة: تواصلين التحدث بالألغاز!
رفعت كتفيها متنهدة ثم أسندت مرفقها على كتفي متمتمة: لنتجاوز كل هذا الآن، سيعود زوجك المحبوب الوسيم وسيغمركِ بقبلاته أعدكِ، ولكن دعينا الآن نتفق على حاجة الجميع لتغيير الأجواء ولا سيما كلوديا التي عليكم بتركِ أمرها لي، أعطني فوراً رقم شقيقك إيثان أريد الإتصال به. وبالنسبة لسام فلدي رقمه مسبقاً. سنخرج لتناول العشاء مساءً في أحد المطاعم وأجبر الجميع على تناوله لو كلفني ذلك تعيين كل موظف هناك ليراقبكم. أسرعي هيا!
ضيقت عيناي هامسة بإمتعاض: سأتجاهل كلماتك الجريئة وأرى ما يمكنك فعله.
وهذا ما سارت عليه الأوضاع فلقد تحدثت جينيفر إلى سام وإيثان لتخبرهم بضرورة أن نخرج معاً لتناول الطعام، وقد أخبرت ستيف أن يحاول إقناع كلوديا بشأن الخروج ولو رفضت فستذهب بنفسها إلى المنزل وتجبرها على ذلك.
وهذا ما حصل!
فعند الساعة السادسة كنت أجلس مع جيمي في المشفى ولا أحد برفقتنا سوى أولين، بينما جينيفر أخبرتني أن أنتظرها ريثما تحضر الجميع معها ليأخذوني في طريقهم إلى المطعم.
قررت أن أمضي وقتي مع جيمي حتى يحين موعد عشاءه في المشفى لأطمئن عليه قبل أن أخرج لساعة أو ساعتين ثم أعود إليه مجدداً.
وضعت الملعقة في الحساء وقربتها من فاهه مبتسمة: هيا. افتح فمك.
تناول الحساء ثم طلب مني تناول الأرز ففعلت فوراً، وبينما هو يمضغ الطعام ويحدق بعسليتيه في الفراغ تساءل: أمي. ألا يزال أبي في رحلة عمل؟
تبادلت النظرات المتوترة مع أولين التي أجابت بدلاً مني: نعم يا عزيزي، سيعود قريباً وسيكون هنا في المشفى.
ولكن ظهر عدم الإقتناع والرضى على وجهه ليهمس: هذا ما تقولونه دائماً. ألم يخبرني أننا سنكون أقرب إلى بعضنا؟! لماذا ذهب في رحلة عمل إذاً بينما أنا في المشفى؟ هل هو حقاً في رحلة عمل؟
استرسل وقد تقوست شفتيه وتغيرت نبرته: أم أنه لا يريد رؤيتي ويلومني على إصابتي! إنه غاضب مني. اليس كذلك؟ لو لم أركض وهو يناديني لما أصبت. ولكنني كنت خائف جداً يا أمي. أخبريه أنني لن أكررها. هذا وعد.
رفعت يدي لأمسح دموعي، اعتدت تقريباً على هذا الحوار كل يوم ومع ذلك. فالألم في داخلي يتجدد وكأنني أسمعه يقولها للمرة الأولى.
ما الذي على قوله الآن؟
حملقت بالسيدة أولين بإستنجاد فتنهدت بدورها وقالت مقتربة لتجلس مقابلي وتمسد على رأسه: توقف عن قول أمور مماثلة يا بني، والدك يحبك كما تعلم! ولكن. رحل جدك يا جيمي وعليه تحمل مسؤولية كبيرة جداً، إنه مشغول!
نفي وقد توردت أطراف عينيه وأنفه: لماذا لا يتصل بي إذاً؟
ازدردت ريقي متمالكة نفسي ولكن الاندفاع ورغبتي في محو هذا البؤس من على وجهه قد حركاني لأنسى ضرورة وزن كل حرف يخرج من فاهي وقلت بصوت جعلته مرح: أيها الطفل الحساس المزعج! لا تريد تصديقنا هاه؟ حسناً إليك هذا. ماذا لو اتصل بكَ خلال بضعة أيام لأجعله يتفرغ من العمل ليحدثك؟
جادلني بحزن: لن يفعل.
نفيت برأسي دون شعور: سيفعل يا جيمي. أمهله خمسة أيام فقط وسيتفرغ لأجلك صدقني!
اتسعت عينا أولين وأدركت فوراً المصيبة التي أوقعت نفسي فيها!
سحقاً! أردت أن أطمئنه بشتى الطرق ولجأت إلى التهور. بل الجنون!
علي التراجع فوراً. لا يجب أن أغمره بوعود كاذبة يأمل تحققها.
ارتجفت يدي التي أمسك بها الملعقة وأسرعت أحرك لساني بغية تدارك ما تفوهت به ولكن ألجمتني كلماته البائسة: حقاً؟ سيتصل بي خلال خمسة أيام؟ هل سيعود من رحلة العمل أو يتفرغ لأجلي؟ أمي أنا حقاً مشتاق إلى أبي. لقد صبرت كثيراً وأنا أنتظره ولكنني أشعر بأنه لم يعد يريد النظر إلي، هل هو غاضب لأنني فقدت بصري؟ أخبريه أن الطبيب قد قال بأنني بحاجة إلى إجراء عملية فقط، اليس هذا صحيحاً؟!
أعقب بأمل: ولكنني لن أكون مزعجاً وسأخبره بذلك بنفسي لو عاد من عمله. أعدك بهذا، سأنتظره.
نظرت إلى أولين بتوتر شديد أطلب النجدة بصمت أعض على شفتاي بندم، ولكنها أخفضت رأسها قليلاً وأخذت نفساً لتبتسم: نعم يا جيمي. سيتصل بك خلال خمسة أيام أو سيعود لأجلك وحينها أخبره بكل ما تشاء بنفسك.
فغرت فاهي بعدم تصديق فأومأت برأسها بصمت وكأنها تخبرني أن نؤجل هذا الموضوع.
يا الهي. ما هذه الورطة الآن؟!
كيف أتهور هكذا!
خفق قلبي وقد شعرت بأوصالي ترتجف بسبب الذنب الذي يعتريني، ولا سيما وأنا أرى بصيص الأمل يلمع في مقلتيه مما أحرقني من الداخل أكثر وجعلني أتمنى العودة بالزمن، ماذا لو قلت له الآن انني كنت أمازحه؟
حينها سيعود العبوس إلى وجهه، وسيختفي الأمل تماماً.
ضاق الحال بي وحتى عندما وصلت جينيفر لتتصل بي وتخبرني أنها في انتظاري في الخارج، أخبرتني أولين أن أذهب معهم ثم أعود وتترك أمر جيمي لها.
كنت أخرج من غرفته أمشي بخطى متثاقلة وكأنني لا أرغب في المضي قدماً بعد الآن! أريد التراجع عما قلته للتو.
لم أشعر بنفسي وأنا أرغب في التخفيف عنه فتهورت، نحن حتى لم نصل إلى مكان كريس فكيف عساني أحضره في غضون خمسة أيام؟!
هذا محال.
عندما دلفت إلى المصعد رأيت إنعكاسي الذي لم يظهر سوى وجه شاحب وتعبير يأس بدى وكأنه انتظر حتى يخرج ويرفه عن نفسه قليلاً بدلاً من الإختباء خلف قناع المرح والصبر أمام جيمي.
لا أدري حقاً كيف أتصرف، أشعر بأنني ضقت ذرعاً.
إلى متى سأتصرف وكأن شيئاً لم يكن! عندما أعود إلى المنزل أحاول جاهدة مواساة كلوديا، وعندما أكون في المشفى أضحك وأساير جيمي لئلا يشعر بالنقص أو الملل.
أتساءل متى سأحظى على فرصة أصرخ فيها وأبكي بأعلى صوتي راجية كريس أن يظهر نفسه ويتدارك ما يحصل من حولنا.
لقد كذبت على جيمي. ولم أعد أستطيع الهرب! لماذا قامت أولين بمجاراتي. يا الهي.
أفقت من أفكاري وقد وجدت نفسي في الخارج أمام المخرج وسمعت صوت جينيفر التي تلوح لي وقد أنزلت نافذة السيارة، يمكنني رؤية سام بجانبها، ستيف يجلس في الخلف وحده مما جعلني أتيقن في نفسي أن جينيفر لم تكن قادرة على إقناع كلوديا بالمجيء.
وصلت إلى السيارة وفتحت الباب الخلفي لأجلس بجانب ستيف بصمت.
التفت سام لينظر إلى بصمت وكذلك ستيف الذي رمقني بطرف عينه ولم يعلق، بالطبع لن يفعلا.
فالتعبير المرتسم على وجهي والهالة التي تحيط بي الآن كفيلة بخلق مساحة خاصة حولي لئلا يخترقها أياً يكن.
علقت جينيفر ترمقني بنظرة سريعة وقد حركت السيارة: أخبرني إيثان بأنه سيصطحب تيا معه ويلاقينا في المكان الذي نحدده فهما في الخارج على أي حال، وبالنسبة لكلوديا فلقد صرخت على وأخبرتني أن أخرج من غرفتها فانفطر قلبي الصغير وتركتها أجر خيبتي معي.
أضافت بحيرة: أين نتناول العشاء؟
رفع سام كتفيه: لا مكان محدد لدي ولا أعرف مواقع هذه المدينة كثيراً.
قال ستيف متنهداً وهو يتكتف سانداً رأسه على النافذة: المكان لا يشكل أي خلاف، نحن بحاجة إلى تغيير الأجواء قليلاً والتفكير في حل جدي مع اختفاء ذلك المأفون. لم أعد أحتمل ما يحدث من حولي أكثر وعزلة أمي تزيد من الوضع سوءاً.
تمتم سام بهدوء يريح ظهره على المسند: ولكنها أفضل مقارنة بالأيام السابقة، حتى زيارتها لقبر السيد ماكس قد قلّت، مما يعني بداية إعتيادها واستيعابها، لا بأس إنها مسألة وقت.
ستيف:
ما خطب شارلوت اليوم!
صحيح بأنها كانت تنتكس فور خروجها من غرفة جيمي وتشعر بالراحة لقدرتها على إظهار القليل مما تشعر به ولكن، هذه المرة تبدو مختلفة!
هي حتى لم تعلق ولو بكلمة حتى الآن.
احتضنت جينيفر ذراع سام وقالت بحماس: عزيزي سام، فاهك يجيد التفوه بحكم رائعة أنت الوحيد الذي يجيد ضبط أعصابه!
تدخلت بذعر: انتبهي للطريق أيتها المجنونة.
حاول سام ابعادها بإنزعاج: ابتعدي عني وارحمي ذراعي قليلاً!
ومع ذلك ظلت شارلوت هادئة تنظر من خلال النافذة بصمت تام، لا يبدو أنها على ما يرام، هي حتى لا تحاول التفاعل مع محيطها!
أرجو أن لا شيء سيء قد حدث في المشفى.
بينما كانت جينيفر تقود السيارة وعندما وقفنا في إحدى الإشارات المرورية، تحدثت شارلوت بهدوء وهي تنظر إلى مكان ما: ذلك المطعم.
التفتنا نحوها باستغراب فوجدنا مقلتيها الخضراوتين تحدقان إلى أحد المطاعم على يميننا، لتكمل بصوت منخفض: إنه مطعم السيد إدوارد، تناولت الطعام ذات مرة هنا مع كريس.
ارتفع حاجبا جينيفر: هكذا إذاً، لما لا؟ لننزل ونتناول العشاء هناك إذاً بدلاً من البحث في الأرجاء، سأتصل بإيثان وأخبره أن يأتي إلى هنا.
وهذا ما حدث، فلقد اتجهنا إلى هذا المطعم، متذكراً ذكرها لإسم إدوارد.
تذكرته. إنه رجل ذو علاقة سطحية مع كريس إن لم تخني الذاكرة، لديه مطعمه الخاص ويوجد فرع آخر في جنوب هذه المدينة كذلك، أظن كريس كان يؤجر لديه تلك الشقة. للأسف بحثنا فيها ولم يكن هناك أيضاً.
تنهدت بعمق رغماً عني وحاولت طرد الأفكار من رأسي مؤقتاً، نزلنا جميعنا لنتحرك وندخل المطعم، في حين كنت أحدق إلى المكان من حولي أتأمل تصميم المكان لفت انتباهي شرود ذهن شارلوت وهي تنظر إلى إحدى الطاولات في المطعم.
مما جعلني أدرك أنها لا تحدق إلى من يجلسون عليها بل إلى ذكرى قد راودتها، أنا واثق أنها تتذكر أمر كريس!
يا الهي. هذه النظرة في عينيها تجلب الضيق إلى نفسي، متى سيظهر نفسه بحق الإله هذا كثير جداً.!
ألا يوجد ما أستطيع فعله لأجلها؟!
عندما استقر الوضع بنا على إحدى الطاولات التي تنتصف المكان اتصلت جينيفر بإيثان لتصف له المكان، لم يكن المطعم مكتظاً مما جعله مناسباً.
ظلت هادئة وقد أسندت وجنتها على كفها تنظر إلى قائمة الطعام بصمت، فتحت فاهي محاولا تغيير الأجواء ولكنني تراجعت عندما تساءل سام بإهتمام: شارلوت. هل أنتِ بخير؟ هل حدث شيء ما في المشفى؟
أردف يعقد حاجبيه: هل جيمي على ما يرام؟!
ولكنها لم تعلق وإنما ابعدت عينيها عن القائمة ونظرت لليمين حيث لا شيء وكأنها تريد تجاوز سؤاله!
استغربنا ردة الفعل تلك كثيراً وتبادلنا النظرات حتى اشارت جينيفر أن نصمت عن الأمر قليلاً حتى يحين الوقت المناسب، لم تكن سوى ربع ساعة حتى وصل إيثان ممسكاً بيد تيا التي لم يعد العبوس شيئاً جديداً على وجهها.
لو كان الأمر بيدي. لواصلت لوم نفسي أمام الجميع وقد لا أكف عن هذا، ولكنني عندما ارى الحالة التي يمرون فيها أتراجع فوراً وأفضل محاولة اسناد كل منهم بدلاً من العتاب الذي لن يأتي بنتيجة.
ولكنني لن أهرب من تلك الحقيقة.
في ذلك اليوم كنت قادراً على تغيير مسار الأحداث لو بقيت إلى جانب خالي الذي كان يعاني وحده.
ولكن جزء متناقض في داخلي يخبرني أن ذلك لم يكن ليتغير حتى!
ربما لأنني بدأت أقتنع شيئاً فشيئاً.
أن لا شيء سيغير مسار القدر الذي يدير هذه الأحداث.
جلست تيا وبجانبها إيثان الذي ابتسم بهدوء: مرحباً.
أومأ له سام وأشار له أن يجلس بسرعة: هيا اجلس وأنظر إلى شقيقتك التي تتجاهل الجميع الآن، هذا ما كان ينقصني.
لم يكد يسألها وهو ينظر إليها بإهتمام حتى انتفضنا لصوت جينيفر ذو النبرة المفعمة بالحماس: ها أنتَ ذا.
عقدت حاجباي باستغراب وكذلك الجميع، لنرى إلى ما تتجه نحوه زرقتيها، لأفتح فاهي بتعجب وأقول بعدم استيعاب: ما الذي. يفعله هنا؟
ولكنها وقفت متجهة إليه في حين ظل يحدق إلينا باستغراب هو الآخر، ليقول ببرود فجأة: هكذا إذاً.
احتضنت ذراعه بقوة بل وأسندت وجنتها على وجنته: هيا يا رين، لا يوجد ما تفعله على أي حال، الستُ محقة؟
لويت شفتي وعلقت بتهكم: لو كنت أعلم بأنه سيكون هنا لفضلت تناول العشاء في المنزل.
رمقني بجفاء: إطمئن فأنا أيضا لم أكن أعلم بأنكم هنا. أنا راحل.
حاول إبعادها عنه بينما أسرعت أقول أكتم حنقي بصعوبة: بالطبع سترحل، فالأزمة التي نمر فيها حدثت بسبب شقيقتك التي لو رأيتها فلن أضمن ما قد أرتكبه من جريمة في حقها، تلك اللعينة المخبولة بسببها فقد جيمي بصره وبسببها لم يعد خالي بيننا بل واختفى كريس تماما بلا اثر. أرجو أنها سعيدة في العيادة التي تتلقى منها العلاج.
قلت كلماتي هذه بنبرة غاضبة وقد فقدت أعصابي دون أن أعي!
كنت أتنفس بسرعة وأدركت أنني وقفت دون شعور وأنا أتحدث، نظرت تيا إلى بعين واهنة ولم تعلق بل اكتفت بالنظر إلى الطاولة بفم مطبق، بدى إيثان غير راضِ عن الوضع تماماً وكذلك سام الذي هدأني بكلتا عينيه لأجلس، جلست بالفعل بقوة على الكرسي وزميت شفتاي مقتضباً.
عقدت جينيفر حاجبيها بإنزعاج مغلف بالعتاب: توقف عن هذا يا ستيف! لا شأن لرين بما فعلته هي لذا من فضلك توقف عن الخلط بين الأمور و.
ولكنها بترت كلماتها عندما حاول إبعادها عنه بوجه حازم وهو يقول يرص على أسنانه: أخبرتني أنكِ ستتحدثين معي في موضوع مهم، ربما ما كان على أن أصدق كلمة تقولينها.
من فضلك توقف أنت الآخر عن عنادك ولنجلس! إن كان وجود ستيف يزعجك فسأتصرف معه لا تقلق.
رمقتها بطرف عيني بحدة فأعقبت مقربة وجهها منه برجاء: هيا اجلس.
مع أن نبرتها كانت راجية ولكن عينيها لم تكونا كذلك! كان تهديدا وتحذيراً واضحاً.
همست شارلوت بإنهاك وهي تمرر يدها في شعرها: ما الذي على فعله. عقلي عاجز عن إيجاد حل مناسب!
نظرنا إليها بعدم فهم فاستغلت جينيفر ذلك وجرت رين معها بقوة فزفر بغضب وهو يحاول انتزاع ذراعه، أجبرته على الجلوس بجانبها وقد دفعته بقوة ليجلس، رتب مظهره بملامح ممتعضة وحين التقت عيناه بعيني قلت بحدة: ماذا؟
صدقني. أنت خصيصاً من لا أمانع خوض شجار عنيف معه لذا اصمت وحافظ على ما تبقى من كبريائك امام الجميع، لقد تجاوزت ما فعلته في العزاء ولكنني لن اصبر أكثر على حماقتك أيها الطفل المغفل!
اتسعت عيناي للحظة قبل ان يترجم عقلي كلماته حتى اشتعلت غضباً ووقفت لأنقض عليه ولكنني تفاجأت بإيثان الذي أمسك بيدي فجأة بقوة ولا أدري كيف وجدت نفسي أجلس مجدداً!
نظرت إليه بعدم استيعاب فقال بجدية وتحذير: يكفي يا ستيف، نحن هنا للخروج من هذه الأجواء وليس لزيادة الوضع سوءاً، الشجار لن يحل أي شيء.
أضاف بكلمات أخرستني: ما تفعله لن يعيد لك خالك أو بصر جيمي. هل تفهم هذا؟!
أومأت جينيفر بهدوء: ستيف. لا نريد أن نكون قساة معك، ولكنه محق! في البداية لم تتوقف عن لوم نفسك، والآن تغضب بسرعة لأي سبب، من فضلك حاول أن تتعقل قليلاً. أعلم أن ما تمر به من الصعب تجاوزه ولكن صدقني. لا أحد منا يلومك! أنت من يعاتب نفسه بإستمرار وتلجأ إلى العنف لتفريغ طاقتك.
أضافت ترمق رين بنظرة سريعة: ثم هو لم يتورط بأي شكل من الأشكال بفعلة شقيقته ولا ذنب له.
بادلها النظرة بإنزعاج: لست بحاجتك للدفاع عني. لم أطلب منكِ المعاونة، ما الذي تريدينه مني على أي حال.؟
أنا أعلم أنني أصبحت مزاجياً وعصبياً ولكنني.
كيف أسامح نفسي بسهولة؟ صحيح بأنني في قرارة نفسي اقتنعت بأن ما وقع كان قدر لا بد منه ولكن.
لا يُخفى أن للأقدار أسباب.
كنت السبب في موته عندما تركته يتلوى من الألم وخرجت دون أن التفت إليه!
قالت السيدة أولين أنه تمنى الموت بين الجميع ولكنني تركته ليموت وحيداً!
شعرت بالغصة والغضب من كل شيء فأسرعت أطرق برأسي، شعرت بدفعة على كتفي ولم يكن سوى سام الذي رمقني بنظرة مواسية ثم ضرب ظهري بخفة.
ازدردت ريقي بصعوبة وحاولت الحفاظ على رباطة جأشي، أعترف أن رين لم يخطئ بشأن الحادثة ولكن. كلما رأيته تذكرت تلك اللعينة التي لن أسامحها طالما حييت.
حسناً. على أن أكون هادئاً مؤقتاً، فشارلوت تبدو منزعجة واجمة أيضاً ويوجد ما يشغل تفكيرها.
نظرت إليها وقلت متسائلاً: شارلوت. ما الذي قصدته بكلماتك للتو؟
كانت شاردة الذهن تقريباً وعندما وجهت سؤالي أفاقت وقالت نافية بلا حيلة: كذبت على جيمي.
رمقها سام بعدم فهم: كذبت عليه؟
أوضحت وهي ترمقنا بنظرات متوجسة قلقة: أخبرته أنني سأجعل كريس يتصل به خلال أيام عدة، صدق ذلك فوراً ورأيت في عينيه بصيص أمل. لقد وعدته بذلك!
اتسعت عينا جينيفر: لماذا قلتِ هذا!
اندفعت وهي تجيبها بخوف: لا أدري! شعرت بأنني لم أعد أطيق النظر إلى ذلك البريق اليائس وتحدثت من تلقاء نفسي، لا أدري حقاً كيف أتدارك ما حصل، لا أعلم كيف أتدارك الأمر الآن!
لوى إيثان شفته مفكراً: لا ننكر أنكِ تهورت ولكن لا يمكننا لومك، والآن؟
نفيت برأسها: لا أعلم شيئاً. لا أدري ما الخطوة التالية أنا حقاً متعبة من التفكير!
همست تيا بشرود وهي تريح ظهرها على الكرسي: ربما كريس قد قرر ألا يعود.
أضافت وفي عينيها التركوازية لمعة الحزن: ربما قرر أن يتركنا خلفه ويمضي قدماً بعيداً عنا.
تنهد إيثان بعمق وهو يغمض عينيه: توقفي عن هذا التشاؤم يا تيا. توقفي وإلا أجريت غسيلاً لدماغك حالاً.
حاول جعل نبرته ممازحة قدر المستطاع فأطرقنا برؤوسنا حتى أتى النادل ليأخذ طلباتنا، رمق رين جينيفر وسألها بجفاء: ما الذي من المفترض أنني أفعله هنا؟
أجابته بحيرة: لا شيء محدد!
عذرا؟
أردتك هنا فقط!
ما السبب بحق الإله؟!
لا سبب. شعرت برغبة في رؤيتك هذا كل شيء.
طرف بعينه والغضب على وجهه ولكن شيئاً فشيئاً عقد حاجبيه بإستنكار وقد تناول كأس الماء ليشربه بنفاذ صبر، تدخل سام متثائباً بملل: انتبهي لفمك جيداً فمن يسمع كلماتك سيظنك واقعة في حبه.
نظرنا إليه بصمت وتأييد بينما ارتفع حاجبيها باستغراب وهي تنظر إلى رين بجانبها ثم تقول بحيرة: هل من الخطأ أن أكون واقعة في حبه؟
بصق رين الماء من فمه بينما طرفنا بأعيننا بعدم استيعاب نحدق إليها!
هل قالت.
هذه المجنونة! أراهن على أنها تتفوه بهذه الكلمات دون أن تزن ما يخرج من فاهها!
ابتسمت شارلوت بشيء من الضعف وهي تقول: جينيفر. لا أدري حقاً ما على قوله لكِ، الجميع قد حلق بأفكاره بعيداً بسبب المصطلحات التي تستخدمينها.
لوت جينيفر شفتيها بإنزعاج: ما خطبكم جميعاً! إنها الحقيقة. حسنا لن أبالغ ولكنني أظنني أشتاق لرؤية رين مؤخراً وأتصل به كثيراً لأزعجه في منتصف الليل دون سبب، كما أنني زرته في مكان عمله الجديد ثلاث مرات حتى الآن واشتريت له بضعة هدايا رغم أنه تخلص منها كلها بل واهديته باقة حمراء ولم أعلم ما دفعني وقتها لشرائها له.
اكملت لتتكتف مفكرة: وعندما مررت بجانب عرّافة تقرأ حظ كل ثنائي لا أدري لماذا طرى على ذهني فجأة! ألا يعني هذا أنني أحبه أو معجبة به على الأقل؟
اتسعت عينا سام برعب في حين ظل رين يحدق إليها بعدم استيعاب!
هل هي جادة؟!
ضحك إيثان بخفوت: كيف من المفترض أن تكون ردة فعلي الآن؟! إما أن صراحتك مرعبة أو تجيدين التزييف بمهارة.
بدت تيا تحاول جاهدة انتزاع نفسها من ذلك المزاج السيء وهي تبتسم بهدوء: أظنكِ لا تفهمين ما تعنيه تلك الكلمة حقاً.
أغمض رين عينيه وبدى جفنه يرتجف قليلاً ثم امتعض وهو يقف: نلت كفايتي من هذه التُرهات.
ولكنها أجبرته على الجلوس وقد كادت تخلع ذراعه، بل وقربت كرسيها منه وقالت بحزم موجهة حديثها إلينا: لماذا استنكر الجميع ما أقوله؟!
أجابها سام بإستخفاف مقلباً عينيه وهو يأخذ قطعة صغيرة من المقبلات ليتناولها: لفارق العمر بينكما مثلاً؟
جادَلته بثقة: وما المشكلة؟ إنها سبعة أعوام فقط كما أن مظهري يوحي بأنني أصغر سناً أيها الوقح المتجاسر!
تدخلت ألوي شفتي بتهكمية: ربما للفرق الكبير بين شخصيتكما؟
نفيت برأسها بعناد: لا أحد منكم يعرف شخصيته الحقيقية! لقد كانت علاقتنا رائعة جداً منذ زمن بعيد.
ابتسمت شارلوت مفكرة بهدوء: بصراحة. بالتفكير بالأمر لا يبدو هذا صعباً، بطريقة ما أشعر بأنكِ أكثر من قد تفهمه حقاً!
زفر رين وأبعدها عنه ووقف فوراً قبل أن تمسكه مجدداً وابتعد عن الطاولة: أهدرت وقتي بالمجيء إلى هنا. إياكِ وأن تتصلي بي مجدداً أيتها العجوز الخرفة.
شهقت جينيفر بذهول، شهقة جعلت كل من في المطعم يلتفت إلينا فتظاهرت بأنني مندمج في تناول الطعام، ولم يكن سوى رقاقات البطاطا المقلية التي لجأت إليها بسرعة.
ظلت تلاحقه بعينيها وقد همستْ بعدم تصديق وهي تضع يدها على صدرها: هذا اللعين المتطاول كيف يجرؤ! شعرت فجأة بألم في قلبي، هل هذا طبيعي؟
أومأت شارلوت: إنها الصدمة العاطفية.
أخفضت جينيفر زرقتيها ثم ابتسمت بشرود وقد تورد وجهها ليمحي أثر الدهشة: ألا يجعله هذا جذاباً أكثر! أيعقل أنه قد شعر بالخجل؟
اتسعت عينا سام بذعر وهو ينظر إلينا بعدم تصديق مبعدا كرسيه عنها، في حين وقفت هي وقالت على عجالة: أرجو المعذرة، حسناً فعلت ما يمكنني فعله في تجميعكم هنا ولكنني مضطرة للذهاب.
أضافت وهي تضع الحقيبة على كتفها وتسرع في خطاها: أنا ذاهبة للنيل منه.
لم نكد نتبادل حرف واحد حتى عادت ونظرت إلينا بحماس وتساءلت تطرف بعينيها بسرعة: أخبروني، هل على التأكد من مشاعره نحوي قبل أن أخطو خطوة واحدة؟
ما الذي تقوله! هذه المرأة. بلا عقل!
لم يجبها أحدنا بسبب التعجب الذي يعترينا فأكملت بتردد وتوجس: ماذا عن هذا؟ سأقبله وأرى ردة فعله! أو أنها مرحلة متقدمة وعلى أن أصبر قليلاً! يا الهي لا يمكن. لقد كنت أرفض الإرتباط بأي رجل بالرغم من تهافت الجميع علي، يبدو أن قدري كان مرتبطاً برين الا تظنون هذا؟
القت سؤالها هذا ولم تنتظر إجابة أحدنا إذ غادرت مسرعة لتخرج من المطعم!
تبادلنا النظرات المتفاجئة بصمت ليهمس سام بعدم تصديق: هذا المرأة مستحيلة! إنها تخيفني.
ابتسمت شارلوت معتدلة في جلستها على الكرسي: بربكم جميعاً! إنهما مناسبان حقاً فهي لا تكف عن إزعاجه في كل مكان. كما أنني لاحظت كم تبدو مفعمة بالحيوية أكثر عندما يكون في الأرجاء، قبل أسبوع ونصف أتى ليلقي نظرة سريعة على جيمي في المشفى وصادف أنها كانت هناك أيضاً، لا أحد منكم رأى كم أصبح معدل الثرثرة لديها أضعافاً مضاعفة وكأنها قد وصلت إلى المؤشر الأقصى للطاقة.!
ثم نظرت إلينا ولا سيما إلى وأكملت بلطف: ستيف. من فضلك لا تقحم رين بما حدث، إنه بالفعل لا ذنب له بما حدث! حاول أن توطد علاقتك معه فأنتم في النهاية أسرة واحدة، صدقني هو ليس شخص سيء! إن كنت قادراً على التعامل مع كريس بكل سهولة فأجزم لك أنك قادر على ذلك مع رين أيضاً.
أشحت بوجهي بإنزعاج: هه. أقحمته في الأمر أو لا. وجوده يزعجني كثيراً ولا يمكنني التوقف عن تذكر شقيقته المخبولة.
ولكنها ظلت تبتسم مشجعة فلم أعلق، ليس وكأنني سأفعل هذا في يوم وليلة. فهو لم يكف في السابق عن اختلاق المشاكل معي في كل مكان ومحاولة استفزازي!
صحيح بأنني اجتماعي ولا أمانع التعامل مع جميع أنواع الشخصيات ولكن.
لا أدري حقاً.
إن كانت شارلوت تقول هذه الكلمات.
فربما لا ضرار من المحاولة حقاً، ولكنني لن أكون من يبادر بهذا أبداً.
بعد لحظات قليلة طلبنا طعام العشاء، وكما توقعت فشارلوت عادت فجأة إلى حالتها التي بالكاد خرجت منها قبل لحظات فهي الآن تمضغ الطعام ببطء وتحدق إلى طبقها بشرود وعلى وجهها أمارات التعاسة وعدم الحيلة.
لا أعذلها فأن تعد جيمي بعودة والده الذي لا نملك أدنى فكرة عن مكانه شأن وورطة من الصعب تخطيها، أما تيا فتبدو أفضل حالاً فهي على الأقل تتناول أطراف الحديث مع سام وإيثان بالرغم من وضوح لجوئها للمجاملات والمسايرة.
لقد كنا قادرين على تقديم بلاغ جدي بشأن اختفاء كريس ولكن أبي طلب ألا نتعجل ونتريث لنبحث عنه بصمت وهدوء، ذلك أن الكثيرون في مجال العمل يبحثون عن الزلة ليقوموا باستغلالها في وجه كريس.
لهذا طلبنا من أحد أقسام الشرطة البحث بسرية ولكنه لم يروا أي جدية في الأمر فقاموا بجحدنا.
بعد تناول العشاء احتسينا شراب ساخن ولكنني اعتدت على أن يكون سام هو من يسير في الإتجاه المعاكس فهو الوحيد الذي طلب القهوة المثلجة.
نظرت شارلوت إلى الساعة حول معصمها وارتشفت من الكوب متمتمة: إيثان، أوصلني إلى المشفى في طريقكما للعودة، أتت جينيفر بي وفرت هاربة كما ترى.
ابتسم يومئ بهدوء: لا أخفي أنني حزين على رين، أراهن على أنها تحوم حول رأسه.
أيده سام بإمتعاض: تماماً، كالنحلة التي لا تنفك تحوم بكل نشاط دون تعب أو كلل!
أضاف ينظر إلى ذراعه بابتسامة حزن و شفقة: ولكن هذا لصالحي فهي لا تكف عن التعلق بذراعي في كل حين إلى درجة شعوري بالخدر فيها، لقد كنت يائساً حقاً ولكنني الآن شاكر لوجود ذلك الأشقر ومع ذلك لا أنكر شعوري بالشفقة عليه.
همست شارلوت محدقة إلى الكوب بابتسامة ضمور: لقد كان معجباً بها منذ زمن بعيد على أي حال. من يدري ربما يوجد بين الإثنان خطوط قدر وهمية متشابكة.
قطبت جبيني مستغرباً ذلك بينما ارتفع حاجبا إيثان بإستخفاف: جدياً؟ وكم كان عمره آنذاك؟ ثلاثة أعوام؟ أربعة!
ضحكت شارلوت بخفوت: كفاك سخفاً، لم يكن صغيراً إلى هذه الدرجة.
تنهدت بملل وأنا أنظر من حولي وأرتشف من الكوب متمتماً بتفكير: فليكن. بينما أمي تعزل نفسها في غرفتها يسهر أبي لوقت متأخر ككل يوم في الشركة. هل يوجد ما يمكننا فعله حقاً! لو كانت أمي بخير لساعدت أبي في أعمال الشركة قليلاً، اختفاء كريس خلّف فوضى بالفعل. أشعر بأننا سنفلس قريباً وسيكون كل شيء تحت الرهن ونغادر الحي بأكمله ليتم تسريح الخدم وكل من يعمل في المنزل! لا تخبروني أنني سأعيش فقيراً ثم أموت على سرير متهالك! أو ربما ما يحدث في القصص المأساوية، سيأتي السيد مايكل أوأحد الطباخين ليقوموا بمساعدتنا. يا إلهي.
زفر سام: لا يدهشني العدوى التي أصابتك من شارلوت بشأن الخيال السخيف والواسع، ثم هل هذا ما يشغل تفكيرك! حري بك أن تفكر بأمر الجامعة التي فاتتك فيها فرصة التسجيل للمساقات الأخيرة أيها الأحمق.
ابتسمت بثقة وراحة: لا تقلق، أحد أصدقائي المخلصين تعمد الرسوب في ثلاث مساقات لندرسها معاً، ولكن لنقل ان أحد الثلاث مساقات لم يكن ليتخطاه فعلاقته بالبروفيسور أسوأ مما يكن.
نظرت شارلوت إلى بشيء من البلاهة في حين نفي إيثان برأسه بلا حيلة، أما سام فرمقني بطرف عينه ممرراً يده في شعره بتهكم: لنقل أنه فعل هذا بنية الصداقة من جانبه ولكنك نذل لئيم وقد أظهرت سرورك بما فعله!
ضربت قفاه مبتسماً بلا اكتراث: لن تفهم هذا حتى تقرأ جيداً في كتاب الصداقة، قسم الإخلاص، باب التضحية بين الأصدقاء تحت بند الوفاء والعرفان.
ثم وقفت أمدد جسدي وقلت مبتعداً: سأذهب إلى دورة المياه ثم سأدفع النقود لنغادر، لم أستفد شيئاً من القدوم إلى هنا سوى رؤية ذلك المشهد العاطفي المبتذل قبل لحظات.
اسند سام مرفقه على ظهر الكرسي ورمقني بسخرية دون أن يعلق، أسرعت إلى دورة المياه لأرتب مظهري وشعري وأتمضمض قليلاً، نظرت إلى نفسي للحظة وقد كان ما يسيطر على ملامحي هو الوجوم فقط.
علي أن أتخطى هذه المشاعر السلبية بأي طريقة تكن، على أن أتعقل لأجل الجميع، سأبحث عن حل مناسب لأجل جيمي وشارلوت، وسأحاول إخراج أمي من عتمتها.