قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية عذرا لكبريائي للكاتبة أنستازيا الفصل الثامن والأربعون

رواية عذرا لكبريائي للكاتبة أنستازيا الفصل الثامن والأربعون

رواية عذرا لكبريائي للكاتبة أنستازيا الفصل الثامن والأربعون

ضيق عينيه بتركيز بل ووقف ليتقدم قليلاً وقد ترك ما بيده متسائلاً: من تكون؟ هل أنت أحد زبائننا؟ لديك شكوى بشأن الموظفين أو الخدمات؟ يمكنك التحدث بكل أريحية لا تقلق.
رفعت يداي وقد نفيت: لست هنا لتقديم شكوى وما شابه، أتيت للحديث معك شخصياً، كما توقعت أنت لا تتذكرني.
أضفت لأتقدم وأقف مقابله مباشرة: أنا ستيف، كريس الذي استأجر منك الشقة المطلة على أسواق الشاطئ يكون ابن خالي. قابلتك مرتين على الأكثر.

اتسعت عيناه محدقاً إلى بتمعن وقد رفع سبابته مميلا إيجاباً: آه نعم تذكرتك، محق. قابلتك مرتين بالفعل ولكنك كنت أصغر سناً، لقد تغيرت كثيراً!
أعقب بصوت محتار مهتم: كيف هو كريس الآن؟ ألا يزال يرفض العودة للمنزل؟ هل هو بخير!
عقدت حاجباي مستنكراً كلماته كثيراً!
كيف يكون على علم بمغادرته؟ ظننت أننا تحفظنا على الأمر بيننا!

ازدردت ريقي بصعوبة وأجريت حواراً سريعاً مع نفسي دار حول ما ينبغي أن تكون عليه ردة فعلي أمامه الآن، جملته تلك أثارت في نفسي الحيرة الشديدة، بل وأضمرت في نفسي نار الشك، كما شعرت بأنني أرى طريقاً قد يقودنا إلى مكانه مما جعلني أتمالك نفسي في المقابل وأقول مسايراً بهدوء إذ لا يجب أن أشعره بضرورة التراجع عن كلماته: نعم. لا زال يرفض العودة إلى المنزل، كما لم يكن على ما يرام، فلقد غادر في الوقت الذي يحتاجه فيه ابنه سيد إدوارد.

عقد حاجبيه بإستنكار: لماذا؟ ما الذي حدث!
هو لا يعرف ما حدث حتى! قد يساعدني هذا على انتزاع الكلمات منه بسهولة.
هذا لصالحي.
نفيت بلا حيلة: العائلة تمر ببعض الأزمات، توفي والد كريس قبل شهر ونصف وفي الليلة نفسها وقع ابنه طريحاً للفراش.
اتسعت عينيه وأخذ الإهتمام مجراه على ملامحه، مما أوضح لي غفلته عما وقع تماماً، بل واقترب أكثر ليسألني بحذر: كيف هذا! لم يبدو عليه التأثر يا.

بدى وكأنه يحاول تذكر إسمي حتى أضاف بسرعة: لم يبدو عليه التأثر يا ستيف!
هلا وضحت أكثر؟

ظهرت تقطيبة بين حاجبيه وقد تربعت الجدية والريبة على وجهه ونبرته التي باتت أعمق: أتى بكل هدوء وبرود وطلب مني مفتاح الشقة، وعندما أعطيته إياه رفض وقال بأنه يريد الشقة الأخرى. سألته عن السبب ولكنه لم يجبني بأي شيء واكتفى بأخذ المفتاح ليغادر بوجه غير مكترث! فكيف بدى بهذا الهدوء في حين والده قد توفى وابنه طريح الفراش. يا الهي من الصعب إستيعاب هذا حقاً!

اردف يبلل شفتيه بتوتر وعيناه تغوصان في الفراغ: صحيح! لقد شعرت بغرابة الأمر ذلك اليوم وأنا أسمع بعض الرجال المهتمين بالأعمال التجارية والعقارية يتبادلون حواراً بشأن وفاة أحد عمالقة المجال في المطعم، لقد كان ماكس إذاً! هذا حقاً مؤسف. كيف حدث هذا!
كريس. في شقة أخرى! هذا الرجل يعرف مكانه بالفعل؟!

اتسعت عيناي بعدم تصديق ولم أشعر نفسي وقد أمسكت بقميصه منفعلاً بإضطراب: من فضلك أعطني العنوان بسرعة! نحن بحاجة لإيجاد موقعه في اسرع وقت، أمضينا هذه الفترة في البحث عنه دون جدوى.
ولكن. طلب مني ألا أخبر أحداً بمكانه!
من فضلك.
لقد وعدته ولا يمكنني ت.
أنا أرجوك سيد إدوارد!

قلتها أرخي يدي وقد انشرح صدري لأكمل بجدية مشددا على كلماتي: ابنه بحاجة إليه، الجميع مشغول تفكيرهم بشأنه لذا حاول مساعدتنا وسأكون ممتناً لك، لو كنت أعلم أنك تملك فكرة عن مكانه لاختصرنا الوقت منذ البداية! نحن بحاجتك حقاً ولا ندري ما علينا فعله. لا فكرة لديك عما نعانيه سيد إدوارد! هو لا يجيب على إتصالاتنا بل وأحياناً يغلق هاتفه تماماً رافضاً أي وسيلة يمكننا الوصول فيها إليه. بل ويتعمد عدم استخدام البطاقات الإئتمانية لئلا نعلم بالمواقع التي يزورها، ابنه جيمي طريح الفراش في المشفى لا يمكن أن يتركه طوال هذه المدة لذا من فضلك تعاون معنا، أعطني العنوان فقط وأقسم لك أنني لن أخبره بأنك من أعطيتني إياه.

شعرت بتقطع أنفاسي التي نسيت أخذها أثناء كلماتي السريعة المضطربة، لا يمكنني تصديق هذا.
هذا الرجل يعرف مكانه حقاً! ليتنا خرجنا منذ زمن وأتينا إلى هنا ببساطة لَما استغرقنا كل هذا الوقت في البحث والسؤال عنه.
لما اضطر كل من حولي لاستخدام سلاح التشاؤم مؤثرين على بعضهم البعض.

أخفض عينيه بتردد وأسى ثم نظر للفراغ يفكر حتى تراجع خطوات للوراء وجلس على كرسي مكتبه ومرر سبابته وإبهامه بين حاجبيه نزولاً إلى منتصف أنفه بتشتت وقد استغرق في أفكاره!
هل سيرفض!
أطبقت شفتاي بقوة وقد تغلب مني القلق والوجوم ولكنني سرعان ما استبشرت خيراً وأنا أراه يأخذ بورقة ملاحظات صغيرة ملونة أمامه ويمسك بالقلم ليكتب شيئاً.

ابتسمت بأمل واقتربت دون شعور لأقف أمام المكتب مباشرة أنظر إليه تارة وإلى الورقة تارة أخرى، أرجو أنه قد قرر مساعدتي لأنه لو رفض فسأبيت في هذا المطعم ولن أبارح مكاني حتى يستسلم.
لا مزيد من الوقت لنضيعه، لا يجب أن يطول الوضع هكذا تحت ظل توتر الجميع ويأسهم وسماع أفكارهم السوداء طوال الوقت!

مد نحوي الورقة وهو يقول بهدوء يجوبه أسى: إنه عنوان الشقة، لا يمكنني الرفض بعد ما قلته لي. هذا يشعرني بالمسؤولية الكبيرة على عاتقي.
اتسعت ابتسامتي بعدم تصديق وأنا أتناول الورقة لأنظر إليها بسعادة، وكأنني سجين حصل على إذن الخروج من زنزانته أخيراً! ولكنني سرعان ما عقدت حاجباي باستنكار مكرراً العنوان في عقلي!
نظرت إليه بتعجب فبادلني النظرة بشيء من الإستغراب!
بادرت أسأله بتلعثم: سيد إدوارد، هذا الحي.!

أومأ بسرعة ضاحكاً بخفوت ينتابه شيء من الإحراج: آه، إن كنت مستنكراً فلا ألومك. نعم إنه حي متواضع وربما أقل من المستوى المتواضع. هل سيكون هذا صعباً عليك يا بُني؟
أشار في جملته الأخيرة لكوني قد أواجه صعوبة في التعامل مع هذا النوع من الأحياء! مما جعلني أستقيم في وقفتي دون شعور وأنفي فوراً: إطلاقاً، لم يخطر لي أن كريس قد يذهب إلى مكان من الصعب أن يستقر فيه.

لم أتواصل معه منذ أن أخذ المفتاح لإنشغالي بأمور المطعم والفرع الأخر، ومع ذلك أظنه بخير ولا داعي للقلق.
أومأت بإمتنان: أشكرك على مساعدتك. لا أعلم ما كنا سنفعله لولاك! على المباشرة بالتحرك فوراً والذهاب إليه.
ابتسم بلطف وهو يتناول القلم مجدداً ويكتب على ورقة صغيرة شيء ما متمتماً: لا بأس عليك أن تسرع بالفعل، إنه رقمي في حال احتجتني في أي أمر.

أخذت الورقة والراحة تغمرني ليردف مقترباً ومربتاً على كتفي: لا تتردد في الإتصال بي في أي وقت.
نظرت إلى الورقة بسرور أطبق شفتاي بقوة وقد أحكمت قبضتي الأخرى حتى تنهدت واضعا الورقة في جيبي بسرعة: سأذهب الآن إذاً، أنا ممتن لك حقاً.

أشار لي أن أسرع فتراجعت للوراء خطوتان قبل أن أستدير وأخرج من مكتبه، وقفت أمام باب الغرفة وقد شعرت بإنزياح قدر كبير من الهوم عن صدري! بل وشعرت بإنفراج أساريري ورغبة في الركض إلى الجميع بسرعة لأخبرهم عن عنوانه حالاً! بل أخبر كل من في المطعم بذلك أيضاً.
القلق الذي كنا نعيشه يومياً سيختفي بمجرد معرفتهم بمكانه! الخوف الذي سيطر على كل تحركاتنا سيزول تماماً ويغسل ما خلفه غيابه من فوضى!

أشعر كمن لو كنت طفل تلقى خبراً سعيداً ومستعد لنشره في كافة أرجاء المكان ليصرخ معلناً الخبر بأعلى صوته!
بل كمن لو كنت في محتوى رسمة فنية قديمة لشخص جلس شهوراً أمام عتبة باب منزله منتظراً ساعي البريد ليبشره بخبر يتوق لسماعه! وأخيراً يمكنني لقاؤه ورؤيته وحتى معاتبته على غيابه!
ظننت أنني وبسؤاله قد أصل إلى معلومة مفيدة ولم أضع في الحسبان حصولي على العنوان حتى! هذا أكثر مما تمنيت حقاً.

تحركت بسرعة لأعود إلى الطاولة حيث الجميع، وبينما أمشي نحوهم رأيت إيثان الذي وقف وكذلك شارلوت التي تنظر إلى الساعة حول معصمها، اقتربت مبتسماً بسعادة حتى واجهني سام بسؤاله المتذمر: قلت بأنك لن تتأخر!

أومأت له بسرور وفتحت فاهي لأتفوه بما يحثني عليه جسدي وعقلي وكأن كل أعضاء جسدي والأجهزة الداخلية قد أخذت إستراحة لتترقب لحظة خروج ذلك الخبر من فاهي ولكنني استنكرت تلك النظرة في عينيه الداكنتين فجأة! نظرة محذرة؟ لا أدري إن صح التعبير ولكنها. لم تكن نظرة عادية!
ارتخت ملامحي بشيء من القلق والإستغراب في حين قالت شارلوت متنهدة: على أن أعود إلى المشفى الآن.

كانت تودعني أنا وسام في اللحظة التي كنت أحدق إليهم وعقلي في مكان آخر!
أنا لم أكن أتخيل.
سام حذرني بكلتا عينيه لسبب ما. وكأنه يدرك أنني أحمل نبأً سار!
أوصل رسالته هذه بصمت ولكن بوضوح تام.
وهذا ما يشعرني الآن بالقلق والإضطراب من ردة فعله.
أفقت على سؤال تيا بنبرة منهكة: ماذا عنكما! هل ستعودان للمنزل؟ هل نوصلكما في طريقنا؟

نظرت إليها باستيعاب وقبل أن أكلف نفسي بإجابتها قال سام مباشرة بملل وفتور: ربما سنتمشى في الأرجاء أولاً وبعدها سنرى ما سنفعله، فنحن لا ننوي العودة بهذه السرعة على أي حال.
رمقني بنظرة سريعة وجدت نفسي على إثرها أقوم بمجاراته: تماماً، ربما سنذهب إلى المركز التجاري بالقرب من هنا فأنا لا أنوي التوغل في الكآبة التي تسيطر على أجواء المنزل الآن.

أضفتُ متنهداً بيأس: كما أن أمي لن تكتفي بتفريغ طاقتها السلبية بي.
نظرت شارلوت إلى بهدوء ثم شردت بذهنها، سألتها بإهتمام: هل تحتاجين أي شيء من المنزل؟ يمكنني إحضاره لكِ إلى المشفى إن أردت!
نفيت برأسها مبتسمة بلطف: شكرا جزيلاً يا ستيف. لا تقلق بشأني سأعود غداً إلى المنزل وستبقى السيدة أولين مع جيمي، لقد أصرت على عودتي ولو ليوم واحد لأرتاح قليلاً.

ثم نظرت بعينيها الخضراء إلى الفراغ بأسى حاولت السيطرة عليه، شعرت بإنقباض قلبي ورغبة عارمة في التخفيف عنها، تمالكت نفسي وأبعدت ناظري عنها قليلاً حتى قالت ملوحة بيدها: لا يمكنني الإطالة أكثر. إلى اللقاء.
كانت قد تحركت برفقة تيا لتبتعدا، نظر إيثان إلينا ثم قال بهدوء مشيراً بإبهامه إليهما: على الذهاب، سام اتصل بي فوراً إن وصلك أي جديد. وأنت يا ستيف لا تتردد في إخبارنا بأي أمر تحتاجه والدتك.

قلت له مربتاً على كتفه بتشجيع: إياك والتفكير كثيراً، أنا إلى جانبها دائماً. أسرع خلفهما.
رسم على ثغره ابتسامة هادئة مسايرة وقد استدار ليخرج هو أيضاً، لم أنتظر ثانية واحدة أخرى إذ نظرت فوراً إلى سام الذي تفاجأت به يحدق إلى بتمعن!
عقدت حاجباي بشك: ما خطبك بحق الإله! لماذا أوقفتني عن الحديث فور عودتي؟
رأيتك تذهب إلى مكتب المدير. اليس السيد إدوارد الذي كان كريس قد أجر منه تلك الشقة؟!
إذاً!؟

هل أنت أحمق! تريد أن نخبر تيا وشارلوت بمكانه دون أن نتأكد من الأمر بنفسنا؟ لا يمكنك أن تكون جاداً!
هاه!
ماذا لو لم يكن هناك؟ هل ستعطي الجميع أملاً خائباً؟ وماذا لو وجدنا كريس في حالة من الصعب التعامل معه فيها؟! الن يكون هذا بائساً حقاً! علينا أن نلقي نظرة بأنفسنا أولاً ثم نخبرهم بمكانه. دعني أذكرك بالحالة التي كان فيها قبل غيابه.
لماذ كلماته منطقية هكذا!
ولكنه.
محق!
كريس كان هادئاً بشكل غريب بالفعل.

يا ترى هل سيظل هادئاً؟ أو تراه سينفجر ويتصرف بطريقة غير معهودة؟!
هل سيطول انتظارنا؟ بعد الصبر على اختفائه على سنكون مضطرين إلى انتظار خروجه من تلك الهالة الغريبة مثلاً؟!
أرجو ألا يحدث هذا. صبرنا بما فيه الكفاية.
سألته بجدية: لدي عنوان المكان، هل سترافقني؟
ابتسم بثقة: يا للسؤال الغبي.
قالها وهو يضرب ظهري بقوة وقد تقدمني ليعقب: تحرك. ما الذي تنتظره؟

مررت يدي على ظهري وأنا أتبعه بسرعة، أخرجت الورقة من جيبي وقلت أسير إلى جانبه وقد خرجنا من المطعم: إنه حي بعيد من هنا بعض الشيء، صحيح بأنني لم أقم بزيارة الحي مسبقاً ولكنني أعلم أن مستواه أقل من المتواضع وهذا ما يفاجئني قليلاً.
رمقني بطرف عينه بإزدراء: اخرس قليلاً أيها الثري الأحمق، أنا أفكر الآن بما على قوله له ليأتي معنا دون إعتراض.

أردف بهدوء: شخص قد غاب لشهر ونصف في ظل هذه الظروف. كيف من المفترض أن أقنعه بالعودة؟ أي نبرة على أن أستخدم معه. أعترف أنني وبطريقة ما لست مرتاحاً لذهابنا إليه فجأة.
وضعت يداي في جيبي متمتماً: لست قلقاً لكل هذا بقدر خوفي مما قد أراه بكلتا عيناي.
ما الذي تقصده؟
رفعت كتفاي: لا أعلم حقاً. ولكنني أخشى رؤيته في حالة تُصعّب علينا التعامل معه.

رفع حاجبه الأيسر باستغراب وبدى بأنه تجاوز السؤال فقط، مشينا معاً حتى أوقفنا سيارة أجرة، أعطيناه العنوان وحدق كل منا عبر النافذة بصمت، وكأن كل واحد منا يرسم في مخيلته الحوار أو المشهد الذي سيكون في انتظارنا.
وكأن كل منا يرغب في تخطي كل شيء بسرعة ويجد نفسه أمام الشقة فوراً ليرضي رغبته في الإطمئنان، وكذلك الفضول.
وكيف لا أشعر بالفضول والإهتمام للحياة التي كان يعيشها طوال هذه الفترة وحده؟!

ما الذي كان يقضي وقته فيه؟ وما الذي كان ولا يزال يجول في خاطره؟
ليس وكأنه سيشعر بالسعادة لرؤيتنا.
إنه يرفض التواصل معنا بشتى الطرق. مما يعني أن لقائنا به قد لا تحمد عقبى نتائجه.
أغمضت عيناي بهدوء عندما دخل سائق الأجرة إلى الحي، أو ربما تظاهرت بهذا الهدوء.
بصراحة أنا قلق.
أريد للحظة أن أكون ممن ينتظرون في المنزل خبراً سعيداً بشأن إيجاد مكانه. بدلاً من ذهابي بنفسي!

فلقد تعبت هذه الفترة من كوني شخص يولي كل ما حوله الإنتباه المفرط كمتعدد المواهب الذي حظى بالعيون الخفية في قفاه. كمن لو كنت مسؤول عن حراسة وتأمين هذا العالم والتأكد من الأمن والسلام! أريد أن أكون ممن وُكل عليهم الحراسة لأن ما أشعر به مؤخراً أثقل عاتقي إلى درجة إبطاء خطاي.
نظرت إلى سام بطرف عيني، لأجده متكتفاً ومستغرقاً في أفكاره.

حدقت إلى الحي من خلال النافذة ثم تساءلت دون النظر إليه: ما الذي تبدو غارقاً في التفكير به؟
تنهد بعمق: برأيك لماذا ترك كل شيء خلفه؟ بسبب صدمته بشأن ما حل بابنه؟ أو وفاة السيد ماكس فجأة!
الإثنان معاً.
علاقته لم تكن قوية بوالده!
ولكن كريس.

لويت شفتي بإنزعاج وتمالكت نفسي وأنا أكمل: كان ينوي توطيد علاقته به، لقد كان لديه استعداد لتغيير مسار علاقته بخالي. عندما تنوي التقرب إلى شخص ما ليختفي فجأة فلن يكون من السهل إستيعاب ما حدث بسرعة. كما أنه لا يعلم حتى الآن أن خالي خرج من المشفى بناءً على مسؤوليته الخاصة، أريد التحدث معه لأفهم سبب غيابه طوال هذه الفترة. كنت سعيداً بإيجاد عنوانه ولكن ما قلته لي جعلني أعيد التفكير بالأمر.

لم أكن أريد منك إعلام الجميع بمكانه قبل أن نلقي نظرة بأنفسنا. لدي شعور سيء حيال ذلك.
رمقته بشيء من التوجس وطرفت ببطء، كلماته منطقية ولكنه يقلقني أكثر.
تمنيت أن أزف الخبر في المطعم ولا سيما لتيا وشارلوت! أرجو أنني سأفعل هذا عندما أعود للمنزل برفقة كريس الذي سيستسلم ويعود لرشده مدركاً ما نتج عن غيابه.

لم أعي الوقت وأنا أحدق من خلال النافذة إلى المنازل المتجاورة والتي لا يفصل بينها سوى الممرات الضيقة، تصميم المنازل يتشابه تقريباً ولكن لكل منزل بساطته ولمساته الخاصة.
يوجد من يتحدثون أمام المنزل ويوجد من يضعون عدة الشواء ويجلسون في الإضاءة الخافتة يتبادلون الأحاديث وتحيط بهم هالة من الأجواء السعيدة الدافئة والعائلية.

اللعنة. مجرد التفكير بأمر الشواء يعيدني إلى ما حدث قبل شهر ونصف عندما سيطرت تلك الشقراء المختلة على مجريات الأحداث. أظنني كرهت الشواء والتخييم وكل ما يقترن به.
نظرت إلى السائق لأسأله: هل وصلنا؟
القى نظرة سريعة على الورقة التي أعطيتها إياه ويمسك بها، ثم أجابني وهو يركز في النظر من حوله: نعم. أظننا وصلنا إلى العنوان.

لحظات وأوقف السيارة أمام أحد المنازل، لم تكن إضاءته مُنارة، كما أنه ذو تصميم مماثل للمنازل السابقة ولكن لم يكن بقربه سوى منزل واحد فقط وقد كان لا يفصلهما سوى حديقة المنزل المجاور، مجرد حديقة صغيرة بزهور مختلفة الألوان أمام الواجهة.
تساءل سام بحيرة: هل هذا هو المنزل؟
أومأ السائق وهو يمد الورقة نحوي للخلف فتناولتها منه وقلت لسام: لننزل.

فعل ذلك في حين فتحت الباب وانا اخرج النقود من محفظتي وأعطيتها للسائق ثم تبعت سام الذي نظر للمكان من حوله بتمعن.
حدقت إلى المنزل وقلت بهدوء: لا يوجد أي إنارة!
لم يعلق وإنما صعد الدرجات الثلاثة أمام الباب ونظر إلى النوافذ المجاورة للمولج والتي كانت الستائر مُسدلة عليها، القى على نظرة خاطفة متمتماً: لا أسمع أي صوت في الداخل، لا يبدو أنه هنا!
أعقب كلماته برفعه ليده وهو يطرق الجرس.

اقتربت أنا أيضا لأقف إلى جانبه مترقباً خروجه في أي لحظة.
ولكننا لم نسمع أي صوت لخطوات تقترب، عاودت بنفسي طرق الجرس ثم الباب ولكن النتيجة نفسها.
تبادلنا النظرات السريعة دون أي تعليق.
هو ليس هنا. أين عساه قد ذهب ومتى سيعود؟
تنهدت وانا استدير لأجد نفسي أجلس على الدرجة ما قبل الأخيرة واضعا يداي في جيب معطفي: لننتظر عودته.
هذا ما حدث.
بل أن انتظارنا قد طال. لنصف ساعة ثم لساعة ونصف.

وقف سام بضجر وبعثر شعره ثم مدد جسده بكسل: أتراه يعلم بأننا هنا ونفد بجلده مثلاً؟
هذا ليس من طباعه أيها الأحمق، لو رآنا هنا فسيخبرنا مباشرة أن نغرب عن وجهه فوراً بدلاً من تجنبنا.
من يدري. فلقد اختفى فجأة دون أي تمهيد مسبق ولعله سيفعل المستحيل ليتجنبنا.
امتعضت قليلاً محاولا تجاهل كلماته التي تقلقني أكثر.

عندما مرت لحظات أخرى ننتظره فيها سمحت لنفسي بالشرود قليلاً وأنا أقول بهدوء: عندما أتذكر عدد المرات التي كنت ألجأ فيها إلى كريس في حاجتي تنتابني غصة قوية. أعترف أنني كنت مزعجاً بملاحقته في كل مكان. تقليده في كل ما يقوم به حتى الملابس التي يقتنيها.
ابتسم بسخرية: يا لك من مزعج.
اخرس.

استرسلت بغيض لأخفي انزعاجي والحزن الذي ينتابني: كما أقر بهذا. أشعر بالغيرة الشديدة لرؤية العلاقة بينك أنت وشارلوت وإيثان. حينها لا أنفك أفكر عن إكتفاء أمي بإنجابي أنا فقط! هذا حقاً يغيظني.
ربما رأت وجهك وقررت الإكتفاء فوراً حتى لا تتعب أكثر.
أتراك تحاول أن تكون ظريفاً بينما أحاول كسر الصمت؟
هيا يا ستيف.
قالها متظاهراً بالحنان والحبور وهو يضع ذراعه على كتفي بقوة: أنا هنا لأجلك!

اتسعت عيناي بإشمئزاز: أيها المقرف!
ابتسم هازئاً قبل أن يبعد ذراعه ويتمتم ولا تزال الإبتسامة تحافظ على موقعها: يا رجل قد يكون هناك من يحسدك أيضاً، فأنا هنا أعاني من التمييز العائلي دائماً، فإيثان هو المحبب إلى أمي وشارلوت هي الفتاة الأفضل في العالم في عينا أبي. أنظر. لا موقع مميز لدي!
أضاف يكتم ضحكته: ومع ذلك فهذه ميزة جيدة لأصرف انتباه أمي وأبي عني وقتما أشاء.
لتتستر على الكوارث التي ترتكبها مثلاً؟

شيء من هذا القبيل.
نحن نثير الشفقة لخوضنا حديث سخيف كهذا لنشغل وقت انتظارنا.
بالفعل.
ماذا الآن؟
وما أدراني.
التزمنا الصمت المطبق وقد جلس على الدرجة التي تلي تلك التي أجلس عليها، حتى لفت انتباهنا صوت على يميننا لم يكن سوى صوت فتح باب المنزل المجاور.
زفرت بإحباط وأنا أحدق إلى العجوز ذات الجسد الهزيل قصيرة القامة والتي تمسك بصندوق كرتوني متوسط الحجم.

شعرت بثقله عليها فوجدت نفسي أقف ولكن سام قد استعجل ووقف بسرعة ليتجه إليها، حمل عنها الصندوق مبتسماً بلطف: دعيني أساعدك يا خالة.
خالة؟ هذه العجوز!
حُري به استخدام جدتي مثلاً ليكون أكثر واقعية.
وكما توقعت فالعجوز تنظر إليه كما لو كان فارس مغوار الآن!

أسندت وجنتي على كف يدي بضجر وأنا أحدق إليهما، وضع الصندوق بجانب الدرج مقابل الحديقة الصغيرة لمنزلها لأسمعها تقول بإمتنان بصوتها المرتجف المبحوح: شكراً جزيلاً لك أيها الشاب الشهم.
نفي لها برأسه: إنه واجبي.
هذه العجوز. إن كانت مالكة هذا المنزل فلا بد وأنها تملك فكرة عن كريس على الأقل!

وجدت نفسي أتجه إليهما لأبتسم بهدوء ممهداً لطريق المسايرة ومستخدماً كلمة السر: مرحباً يا خالة، هل هذا الصندوق فقط ما تحتاجين لنقله؟ يمكننا مساعدتك!
ارتفع حاجبيها محدقة إلى بعينيها الزرقاء الواسعة والتي أحاطت التجاعيد بها من كل صوب، لتبتسم مشيرة إلى الداخل: في الواقع أنا أعيش وحدي هنا لذا أظنني سأواجه صعوبة في نقل الصناديق. هل يمكنكما مساعدتي؟

أضافت فوراً تقلب عينيها بيني وبينه ومشيرة بيدها مقترحة: مقابل تناول البعض من الكعك الذي أعددته للتو!
ابتسمت رغما عني وقد أومأت: لا مانع طالما سنتذوق الكعك خاصتك.
كم أنتما لطيفان! حمداً لله لا زال هناك شبان طيبون ودمثون مثلكما.
أردفت وقد تجهم وجهها محدقة إلى المنزل المجاور: على عكس من لا يجيد مجرد إلقاء تحية لطيفة وينظر إلى الناس من طرف عينه كمن ثنى عطفه بتكبر.

رمقني سام بجدية بطرف عينه فبادلته النظرة ذاتها.
لا يعقل أنها تشير إلى كريس!
أشارت نحو الباب وقالت مبتسمة بحب: تفضلا وأرجو ألا أثقل عليكما بطلبي هذا.
نفي سام ينحني قليلاً نحو قامتها الضئيلة: وكيف ذلك! أتوق لتناول الكعك حالاً.
هذا الخطل البقباق. عليه أن يتذكر أنها امرأة عجوز على الأقل.
ولكن هذه العجوز قد تأثرت بالفعل وابتسمت بسعادة وهي تسبقنا لتفسح لنا المجال لندخل ففعلنا.

ظننت أن ما تعكسه الأفلام والدراما مجرد هراء، ولكن منزل هذه العجوز أشعرني بالدفء فعلاً!
منزل متواضع ذو أثاث بني يميل إلى تدرجات أفتح بقليل. بالإضافة إلى اللمسات اليدوية التي أراهن على أنها من أنجزتها بنفسها، كبعض الأشياء الصوفية ذات الحياكة التقليدية أو السلال المصنوعة بكل تواضع وبساطة على أحد الرفوف في الخزانة المجاورة للمدخل.

كما يوجد لوحات تعكس الطبيعة أو شخصيات تاريخية قديمة معلقة على الجدران، إضافة إلى الساعة القديمة المزعجة التي يتحرك بندولها يميناً وشمالاً. ومع ذلك فهي تترك حِساً مواسياً في المكان لمجرد إصدار صوت كهذا، على الأقل يذكرها أن الوقت يمضي رغم وحدتها.
أتساءل لماذا تعيش وحدها هذه العجوز!

كتمت فضولي وقد أفقت عندما رأيت سام يتبعها فأسرعت خلفهما ولكن سرعان ما لفت انتباهي الكائن ذو العيون اللامعة والمختبئ تحت الأريكة في غرفة المعيشة!
ظلت عيناه حذرة حتى أصدر صوت المواء الخافت. في النهاية خرج من أسفل الأريكة وظل ينظر إلى بحذر مستقرا في مكانه.
حسناً يبدو أن تربية القطط كفيلة بكسر الوحدة أيضاً!

تحركت القطة ذات اللون الأبيض الممزوج بالبني لتلحق بالعجوز فأكملت طريقي لأحمل الصندوق كما حمل سام الآخر، يوجد أربعة صناديق. يمكنني سؤالها بشأن كريس بعد حملهم.
أخرجت الصندوق لأضعه فوق الآخر في الخارج، وفي اللحظة التي خرج سام ليضع الصندوق همست له بهدوء: هل سمعت ما قالته؟
أتراها تقصده؟
هذا ما أفكر به الآن. لنسألها على الأقل إن كانت تملك أدنى فكرة عن وقت عودته.
أومأ بجدية: لننهي المسألة إذاً بسؤالها.

دخلنا لنكمل حمل الصناديق الأخرى، وعندما انتهينا عدنا للداخل لنسمع صوتها ذو الرجفة المبحوحة من مكان قريب: لقد أخرجت الكعك من الفرن قبل لحظات. من الجيد أنه قد برد قليلاً.
اتجهنا إلى مصدر الصوت لندخل المطبخ ونراها تضع قطع الكعك في طبق أبيض عريض، إنه تارت! لقد أعدته كقطع صغيرة بدلاً من إعداده في صينية كاملة بالطريقة المتعارف عليها.
ارتفع حاجباي معلقاً: تارت المربى؟
أجابتني مبتسمة: بل تارت التفاح.

اقترب سام ليغمض عينيه مستنشقاً الرائحة: يا لها من رائحة شهية. يبدو لذيذاً.
نظرت إلينا لتبدي حماسها بلطف: الكعك هو أكثر ما كنت ولا أزال أجيد صنعه. أنا أصنع الكعك لبعض طالبات المدرسة اللواتي يطلبنه مني رافضات أخذه مجاناً.
فشل لساني في السيطرة على نفسه وقد سألتها دون شعور: هل تعيشين هنا وحدك؟

نظرت إلى بتأمل فتوترت وشعرت بضرورة سحب سؤالي، تحرك فاهي ليتراجع ولكنها أجابت متنهدة: لدي حفيد مقارب لعمركما. كان يعيش معي بعد ان توفي ابني وزوجته في حادث منذ زمن بعيد، ولكن حفيدي يدرس الآن في إحدى الجامعات خارج هذه المحافظة.
تداركت الأمر بإحراج: أعتذر على وقاحتي.
لا تقلق يا بني.

ثم أشارت لنا أن نجلس على طاولة الطعام الصغيرة ففعلنا، لتضع الطبق أمامنا وتتجه إلى غلاية الماء وتجهز كوبين دائريان على الطبق الصغير المخصص للتقديم متمتمة: من الصعب التوقف عن التفكير بحفيدي عند رؤيتكما، هو أيضا لطيف جداً ويزورني نهاية كل أسبوع ويستغل معي كل لحظة لنخرج هنا وهناك للتنزه والتبضع. إنه لا يحرمني من أي شيء قد أحتاجه، بل واشترى تلك القطة لي منذ أن كانت حديثة الولادة. لا فكرة لديكما كم تؤنسني في ظل غيابه. اسمها لوسي. اخترت هذا الإسم بعشوائية دون سبب محدد ولكنني أشعر بأنه يناسبها كثيراً.

ابتسم سام بهدوء وهو ينظر إلى القطة التي تدور في مكانها مُلاحقة ذيلها بحماس حتى ارتطم رأسها في طرف الحائط وأسرعت لتركض إلى غرفة المعيشة، ثم قال متذوقاً التارت: يبدو أنه يحبك كثيراً.
لقد كان متعلقاً بي كثيراً إلى درجة أنه رفض الدراسة في الجامعة ليظل إلى جانبي، ولكنني أقنعته بعد محاولات لا تعد ولا تحصى أن يدرس في الجامعة ويحقق أحلامه.

أومأ لها بدماثة وسلاسة: لا بد وأنه فخور لكونك جدته، بالمناسبة هذا التارت لذيذ حقاً، مع أنني لست من محبي نكهة التفاح ولكنكِ جعلتِ لها لذة خاصة مميزة بالفعل.
أيدته وقد مضغت قضمة صغيرة: محق. إنه لذيذ جداً. أظنني أفهم لماذا تصر طالبات المدرسة على طلب الكعك منك.

ابتسم سام معلقاً بشيء من الحماس: ألا يبدو هذا وكأنه يترجم لنا ما يعنيه البعض بقولهم أن نكهة الحب والدفء هي ما تطهو الطعام الذي لا ينسى المتذوق طعمه!
ضحكت العجوز بسرور وبدت البهجة قد تربعت على وجهها وقد انشرح صدرها بإطرائه، لتقول وهي تقترب ممسكة الكوبين: أرجو انني لن أزعجك بهذا ولكنك أيها الشاب تبدو معسول اللسان وهذا واضح منذ أن وقعت عيناي عليك وهذا لن يكون لصالحك مستقبلاً.

وضعت الكوب على الطاولة أمامي وأمامه، نظرت إلى أوراق النعناع التي بدت طازجة من عبق رائحتها القوية مستقرة في وسط الشاي الذي يبدو أنها تعمدت جعل لونه فاتحاً وكأنها أرادت إضافة نكهة بسيطة منه فقط.
أيدتها وأنا أرتشف من الشاي: محقة، هذا الأحمق لا يكف عن المغازلة في كل مكان حتى أن من يرونني برفقته يظنونني من النوع نفسه.
ضيّق عينيه: هل تنكر أنك تفعل هذا مع بعض النساء!
ولكنني لا أفعل ذلك مع أي امرأة عابرة!

هذا لا يغير الواقع.
نفيت العجوز بلا حيلة: كما توقعت. شبان هذه الأيام فاشلون في وزن كلماتهم ولا يفقهون جدية الأمر لذا عذرا على قولها بهذه الطريقة القاسية ولكن. الشبان يظنون كبار السن مجرد كائنات مهذارة في الحديث تجسد الحُمق، في حين يؤمن كبار السن أمثالي أن الشبان حمقى بالفعل!
شعرت بسهم مصداقيتها يخترق جبيني وجبين سام بعنف فابتسمت بتوتر: هذا قاسي يا خالة!
ولكنها قالت بحزم مشيرة إلي: ما اسمك؟

أجبتها: ستيف.
أشارت إلى سام وتساءلت السؤال نفسه: وأنت؟
ليجيبها باستغراب وإعجاب: هذا الشاي لذيذ بطريقة غريبة! اسمي سام.
أمالت برأسها بجدية: سام وستيف. إياكما وإلقاء الكلمات المعسولة اللطيفة على أي امرأة! صدقاني قد تندمان على هذا لاحقاً.
ظهرت السخرية على وجه سام: أندم على هذا؟
بلا شك! ولا سيما عندما تجد الفتاة التي تناسبك حقاً، ستحرمها من أهم شيء يا بني!

أضافت تسند كلا مرفقيها على الطاولة: ستحرمها من سماع الكلمات التي من حقها أن تشعر بأنها قد قيلت لها هي فقط، لتشعرها أنها مميزة في نظرك، هل تفهم ما أحاول قوله؟
أومأ باستغراب: ولكنني لست جدياً بقولها يا خالة! أقصد.

قاطعته بنبرة عتاب: احتفظ بالكلمات اللطيفة لإمرأة واحدة فقط يا سام. وأنت يا ستيف الأمر سيان بالنسبة لك! أن تكونا مجرد شابان مهذاران في الكلمات المعسولة سيفقد كل حرف فيها قيمتها. عليكما فهم هذا جيداً.
ابتسمت كاتما ضحكتي، هذه العجوز. عتابها لطيف حقاً!
يا الهي هذا الشاي. وهذا التارت. أشعر وكأنني أستمد منه شعور نادر جداً! لا أدري كيف أصف هذا ولكن.

أشعر للحظة بالأمان الغريب، بالدفء وبرغبة في أخذ قسط من الراحة لأنام في هذا المنزل قليلاً!
يا للعجب. هذا أمر نادر بلا شك!
أنا حتى لا أعرف هذه المرأة. ولكنني أشعر بصدق كلماتها وعتابها.
أشعر أنها مرجع قد يكون لأمور كثيرة، كخيبات الحياة والدروس العظيمة التي خاضتها بناءً على سنها الكبير، أو مرجع لقائمة عريضة طويلة من المشاعر الدافئة وكأنها تحمل مفتاحاً لكل باب من أبواب السعادة يختلف عما يسبقه.

إنها صريحة ولكن صراحتها تحمل في طياتها المراعاة السلسة أيضاً!
هل آن الأوان لأسألها عن كريس واسمع ما ستقوله؟ أم تراها ستقول ما لا يعجبني حقاً؟
كان هذا ما يجول في خاطري عندما سمعت سؤال سام: يا خالة. لقد كنا نجلس على درج المنزل المجاور لكِ قبل قليل.
ارتفع حاجبيها باستنكار: صحيح. لاحظت هذا يا بني، ما الذي تفعلانه هناك؟ هل تنتظران شخص ما؟

تدخلت بهدوء مبتسماً بحبور: تماماً، هل تعرفين الشخص الذي يعيش بجانبك؟
تجهم وجهها وظهر الشك في عينيها: ذلك الشاب الوقح عديم الأخلاق.
أخفيت دهشتي ببراعة وكذلك سام الذي بادر يستوضح منها ما تعنيه: عديم الأخلاق؟
أغمضت عينيها قليلاً قبل أن تسألنا بإهتمام: الشاب الذي انتقل إلى هنا قبل فترة قصيرة. ما هي علاقتكما به؟
أجابها سام: إنه أحد الأصدقاء، نريد زيارته ولكننا ننتظره منذ أكثر من ساعة ولم يظهر بعد.

ابتسمت العجوز بتهكم وانزعاج: بالطبع لن يظهر في وقت مبكر كهذا.
هاه! بدأت أشعر برغبة في عدم سماع ما ستقوله!
ومع ذلك عقدت حاجباي بعدم فهم وتوجست خيفة وأنا أسألها: ما الذي تقصدينه؟

لوت شفتيها دلالة الإزدراء وقالت بشيء من عدم التصديق: هذا الشاب يعود في وقت متأخر من الليل، إما ثملاً برفقة امرأة من الحانة القريبة من هنا أو يعود منسلخاً من كل ذرة من المراعاة والإنسانية ليرفع صوت التلفاز أو المسجل بأعلى درجة ليزعجني طوال الليل.

اتسعت عيناي في حين أطبق سام شفتيه بقوة متمالكاً نفسه، لتكمل بدورها معترضة ومتذمرة: عندما رأيته لأول مرة استقبلته بحفاوة وقد اعددت له الكعك وبعض الطعام، لن تتخيلا النظرة الوقحة التي القاها على كما لو كنت مجرد حشرة أو كائن عديم القيمة على هذه الأرض! أخذ الكعك والطعام والقى به على الأرض بلا اهتمام، غضبت منه كثيراً ولكنني تحملت تصرفه ذلك وتجاوزت الأمر ولكن. هذا كثير جداً فهو لا يتوقف عن التصرف بتكبر وغرور.

سألها سام ببطء: على سبيل المثال؟
علي سبيل المثال رجل توصيل الطعام الذي أتى ليتم إهانة كرامته في الحي! ذلك الشاب المتجاسر والمتطاول قد القى بالنقود على وجهه بدلا من منحه القليل من الإحترام. لا أدري إن كان يرى نفسه كائن قد هبط من السماء أو يرى الناس كقمامة تستحق الركل. لا يمكن أن يكون صديقاً لكما!

كريس. سيفعل هذا حقاً؟ سيلقي بطعام هذه المرأة أمامها ويرمي النقود على عامل التوصيل؟ سيرفع صوت التسجيل أو التلفاز دون مراعاة لمن يسكن إلى جواره!
ر. ربما ليس كريس! قد يكون شخص آخر، نعم. أظن أن من تعنيه هذه المرأة هو رجل آخر.
بلا شك!
ولكن سام قد حطم آمالي وهو يسألها: هل يمكنك وصفه؟ كيف يبدو مظهره!

رفعت عينيها تنظر للسقف: ذلك الشاب. بصراحة لا يبدو أنه من المفترض أن يقطن هنا، شعرت ومن الوهلة الأولى أنه لا ينتمي إلى حي متواضع وبسيط كهذا.
أعقبت تعقد حاجبيها: لديه نظرة غرور وتعجرف مخيفة في عينيه، حسنا كيف كان مظهره. إنه طويل القامة ذو عين عسلية تميل إلى الصُفرة. أظن شعره كان يدمج تدرج بني وعسلي كذلك. ملامحه كانت جامدة وباردة إلى مدى من الصعب تصديقه!

اللعنة. هذا الوصف ينطبق على كريس! شخص بعيون عسلية وشعر كهذا. لا يمكن!
ازدردت ريقي بصعوبة بالغة في حين قال سام مخفياً غضب قد سيطر عليه: هل تقولين بأنه يأتي في وقت متأخر ثملاً برفقة النساء؟ هل النساء يقضين وقتهن في منزله؟!

بدت تفكر وهي تقول بنبرة منخفضة قليلاً: كيف أقول هذا يا بني. بصراحة لا أدري. فحتى النساء لا يبدين وكأنه بحاجتهن، ولكنني في إحدى المرات عندما كنت أطل من نافذة غرفتي رأيته قد عاد برفقة إحداهن ولكنها لم تكد تدخل معه حتى دفعها ليطردها بعيداً! تلك المرأة ظلت تشتم بصوت عالي بأسوأ الكلمات ونعتته بالنكرة ومصطلحات بذيئة ثم غادرت. أظنها إحدى نساء الحانة القريبة.

سألتها بتوجس وقد أحكمت قبضتي على الكوب دون أن أعي: أيكون الآن في الحانة مثلاً؟
رفعت كتفيها: و من يدري ما قد يفعله شخص مثله الآن سوى الإله.

ساد صمت مطبق في المكان، سيطر الهدوء على عرش هذه الأجواء سوى من صوت جرس قلادة القطة التي لا تتوقف عن اللعب واللهو إضافة إلى بندول الساعة الذي بات يغضبني حقاً ويتلف أعصابي!، أنا. عاجز عن التفكير! لماذا يفعل كريس كل هذا بحق الإله؟! وإن كان هذا ما شهدته العجوز بنفسها فقط فهل فعل ما هو أسوا؟! لا يمكن.

لا يمكنني تصديق هذا! أتذكر جيداً الشخصية اللعينة التي تقمصها يوما ما بينما لا ازال صغيراً، كان هذا قبل أن يتغير وأبدأ بالإلتصاق به أينما ذهب. تحديداً قبل لقاءه بتيا بفترة قصيرة!
كان في تلك الحالة الغريبة بسبب والدته. لماذا قرر أن يعود إلى ما كان عليه فجأة؟!
لقد أضرمت كلماتها نار الخوف والوجوم في قلبي، في حين بدى في عينا سام شيء من الغضب والتوعد!
أعلم.
أعلم كيف يشعر.

إنه يفكر في تفريغ طاقته في كريس إن كان قد لجأ إلى هذا في الوقت الذي ننتظره فيه ولا نتوقف عن البحث عنه! الوقت الذي يثمل فيه ببساطة بينما جيمي في المشفى.
والوقت الذي يعامل الجميع فيه بإحتقار في حين شارلوت تأمل أنه بخير دون أن تعرف أنه يستمد طاقته من تصغير حجم من حوله!
اللعنة.
اللعنة على كل شيء!

أشعر بصراع في نفسي، وكأنني الآن أرغب في العودة إلى المنزل وأتجه إلى غرفتي تحديداً لأنسى كل ما قالته هذه العجوز!
كيف قد تكون ردة فعل شارلوت إن علمت بعودته ثملاً مع النساء! حتى وإن كان يطردهن رافضا وجولهن إلى المنزل فهذا لا يغير الواقع.
كيف قد تكون ردة فعلها إن رأته على تلك الحال!؟
ولكنني. لا أزلت أريد رؤيته مباشرة! على لقاؤه مهما حدث.

نظرت إلى سام وقد شعرت بشيء من التعب والتشتت فجأة كمن تلقى خبر تعيس في اللحظة التي كان يحتفل فيها بأمر مبهج.
ليرمقني بهدوء ولا يزال غضب دفين مسيطراً على بريق عينيه، حتى بادر وقال بهدوء: سؤال أخير من فضلك يا خالة.
أومأت برأسها بلطف: لا بأس اسأل ما شئت يا بني.
هل تحدثت معه وخضت أي حوار؟
لوت شفتيها فوراً: أوه أرجوك لا تذكرني. فعلت ذلك وقد ندمت لأعض على أصابعي.

أبعدت ناظري عنها غير قادر على توقع ما ستقوله، لتكمل بإنزعاج: بعد تجاوبه السيء مع استقبالي له برميه للطعام ذهبت إليه في إحدى المرات لأطلب منه التوقف عن رفع صوت الأغاني أو الأفلام التي يتابعها بعد منتصف الليل. ظل يحدق إلى بطرف عينه ولن أنكر خوفي منه. ذلك الشاب في عينيه نظرة لن تجدها سوى في عينا أسوأ المجرمين وأنا لا أبالغ! أخبرني بكل وقاحة وبرود ألا أطرق بابه لأي سبب من الأسباب وأنه قد يتنازل ليشتري لي سدادة أذن تمنع الصوت من إزعاجي ليلاً، إنه عديم المشاعر حقاً. بل وتمادى معي ليقول أنه ظن بأن حاسة السمع لدى العجائز ضعيفة ولا يفترض أن يصلني الصوت.

ثم حدقت إلينا بتمعن: ما الذي دفعه للتصرف هكذا تحديداً؟ أم تراه ذو شخصية كريهة منذ ولادته؟!
تجاوزت النظر إليها وقد سيطر على الضياع أكثر، بل أنني عجزت عن استخدام عقلي لأفكر قليلاً.
بدأت الآن أفهم ما سيؤول عليه الحال إن رآنا هنا، بدأت أصبح قادراً على تخيل ما سيفعله في حال محاولتنا لإقناعه بالعودة!

ولا أنكر أنني في لحظة يأس كهذه قد شعرت بالظلام يحيط بي، حدث هذا ولم أقابله بعد فلا بد وان الظلام سيلتهمني عندما أراه.
لماذا شعرت للحظة أن وضع كهذا. يحتاج وجود شارلوت!
لما لا وقد تغير كثيراً منذ دخولها إلى حياتنا. لما لا وقد تقدم خطوات مثيرة للإعجاب في علاقته بجيمي قبل الحادثة؟!
بل وأراد تحسين علاقته بخالي.

ولكن شارلوت لن تكون سعيدة بتغيره ولن تتقبل هذا الوضع بسهولة! أنا حتى لا أدري كيف ستكون ردة فعلها.
ابتسم سام بهدوء: أتينا للقائه بالفعل يا خالة، يوجد بعض الظروف المتعسرة التي نمر فيها ونحن بحاجة إلى الحديث معه ليعود معنا، كان الكعك لذيذ جداً أشكرك حقا على استقبالك اللطيف.
نظرت إلينا بشيء من الرجاء: لا تترددا في زيارتي مجدداً في أي وقت! كنت سعيدة في الحديث معكما.

قلت لها وقد حاولت أن اسطير على نفسي: لم نعرف اسمك حتى الآن يا جدتي!
أومأت لنا بلطف: إسمي هيذر، أحببت كلمة خالة أكثر من جدتي إنها تشعرني بأنني أصغر سناً، احترما رغبة كهلة مثلي مؤقتاً.
قالتها ضاحكة وممازحة فضحكت مسايراً: حسناً إذا خالتي هيذر، قد نعود هنا مجدداً لذا لا تترددي في طلب المساعدة إن احتجتها.

بعد لحظات أوصلتنا إلى الباب لتخرج برفقتنا حتى نهاية الدرج، وكم كنت أبذل جهدي في التبسم والضحك لأخر لحظة بالرغم من شعوري برغبة أخذ أعمق شهيق قد أخذه في حياتي كلها حتى أهلك رئتاي!
كل كلمة قالتها عن كريس كانت كفيلة بخنقي ومنع الهواء من الوصول إلى صدري!
أراهن بكل ما أملك أنني لو سمعت أمراً واحداً أكثر لكنت ركضت كالمخبول إلى الحانة التي تتحدث عنها وتصرفت تصرفاً لا يحمد عقباه.

عندما دلفت العجوز هيذر إلى الداخل رص سام على أسنانه وهدر غاضباً: قد يموت ابن خالك على يدي يا ستيف إن رأيته في وضع حرج أنا جاد فيما أقوله الآن! لقد عاش الجميع في حالة من القلق والخوف بسببه في حين كان يحتسي النبيذ هنا وهناك!
غضبت لأجادله مفرغاً طاقتي: ليس وكأنه سيحتسي كوب من حليب الفراولة في وضع كهذا. أنا قلق من لقائه ولا فكرة لديك كم أرغب في اقتحام تلك الحانة اللعينة حالاً.

نظرنا إلى بعضنا البعض بغضب من الحال التي وصلنا إليها، ثم زفرنا في الوقت آنه ليقول مشيراً إلى المنزل: لن أبرح مكاني حتى أراه اليوم.
لم أعد أجيد التحدث حتى. التفكير بما فعله سيفقدني صوابي.
اتجه ليجلس على الدرج بإنزعاج شديد ممررا يده في شعره محاولاً أن يستمد الهدوء من أي شيء على ما يبدو، في حين وقفت لأسند ظهري على الحائط خلفي وقد تكتفت بصمت.

كيف يكون هذا ممكناً. أن ينتظر المرء أمراً لا يتمنى رؤيته! أن ينتظر شخص يعلم جيداً أنه سيترجم على ملامحه رفض تواجدنا هنا! بل وقد يمضي كريس ليدخل عبر باب المنزل ليعاملنا كذرات الهواء التي لا تُرى. تماماً كقطار عَبَر محطة الإنتظار ولم يأبه بالمتواجدين!
أشعر بضيق في صدري. وكأنني أمام مسؤولية أنا مجبر على التكتم عليها!

ما قاله تلك العجوز عن تصرفاته يعني شيء واحد فقط. كريس أخذ من اللامبالاة بمن ينتظرونه حجة لينسلخ عن كل شيء، أراهن على أنه الآن لا يشعر بأي شيء! لا شيء وبكل ما تعنيه الكلمة من معنى.

لا يشعر بمن هم في انتظاره ولا بأهمية تواجده إلى جانب ابنه، لا يشعر بالسموم التي تحملها كلماته على الناس اللذين لا ذنب لهم من حوله، لا يشعر بضرورة عزل مشاكله الشخصية عن الآخرون، ولا يشعر أنه الآن مجرد كائن على قيد الحياة فقط كل ما يجيده هو التنفس وحسب!
كيف من المفترض تحديداً أن اتصرف معه الآن؟!
كيف أعامله!
عدم اكتراثه ولا مبالاته هذه ليست قسوة منه فقط وإنما اصابت نفسه وروحه بشلل كُلي!

غير معقول ما يقوم به.
نفض رنين هاتفي غبار الأفكار فأسرعت لأخرجه، إنها أمي.
تنهدت قبل أن أجيبها: مرحباً.
أتى صوتها الذي ذبلت حيويته مؤخراً لتسألني بهدوء: ستيف. أين أنت؟ لما لم تعد إلى المنزل بعد!
عندما قالت ذلك نظرت إلى الساعة حول رسغي لأجدها تشير إلى العاشرة.
هي لا تعلم أنني قد أعود بعد منتصف الليل حتى بسبب انتظار كريس، على التسويغ بسرعة.

أجبتها: أمي أنا برفقة سام، إنه يشتري ما يحتاجه لعدة التصوير وما يلزم في مدينته لذا قد نتأخر في العودة.
حسناً أنا مضطر للكذب.
إن عدتما أخبر سام أن يقضي الليلة في منزلنا بدلا من اضطراره للعودة إلى منزله وقطع مسافة طويلة، ولكن. أنت لم تخرج بالسيارة، كيف ستعودان إن تأخرتما قد لا تجدان سيارة أجرة.!
لسنا طفلين صغيران يا أمي، لا تقلقي بشأننا. هل تناولتِ عشاءك؟

عندما لم تعلق علمت الإجابة مسبقاً فزاد ذلك من الضيق الذي يعتريني.
استأنفت الحديث بلوم: أمي توقفي أرجوكِ عما تقومين به! توقفي عن تذكيري بأنني السبب فيما حدث لخالي ودعيني أنسى ذلك مؤقتاً حتى تعود الأمور إلى مجراها الطبيعي ثم قومي بعتابي كما تشائين.
تغيرت نبرتي إلى الضعف فأسرعت ابتلع ريقي وأحافظ على رباطة جأشي لتقول بدورها بيأس: ستيف أنا لا ألومك على اي شيء. ولكنك لن تفهم ما أمر به أبداً!

نظر سام إلى بترقب فأشحت بوجهي وأنا أقول مختصراً الأمر: هذا ما يردده الجميع. لا أحد سيشعر بي ولا أحد سيتفهمني هاه؟ وكأن الآخرون مجرد إضافات للزينة في هذا العالم، وكأنني لن أفهم ما يعنيه أن يفقد المرء أخيه الوحيد. أمي. كريس بالنسبة لي أكثر من ابن خال كما تعلمين. تدركين جيداً أنه بمثابة أخي أيضاً. ليس وكأنني لا أعي ما تمرين به! ولكنكِ تتجاهلين أيضاً أنني.

توقف لساني عن الحركة عندما سمعت صوتاً خافتاً يدل على محاولتها لكبت بكائها وقد فشلت.
آلمني قلبي ونظرت للأرض بأسى.
كنت سأقول لها أنكِ تتجاهلين أنني بحاجة إليك أنا أيضاً. كنت سأقول لها أنني بحاجة إلى من يخرجني من عتمة شعوري بالذنب فهو يأكلني دون رحمة أو توقف.
أجبرت نفسي على استخدام النبرة اللطيفة: أمي. سأغلق الآن.

أغلقت هاتفي فوراً دون انتظار ردها لأسمع سام قد علق بهدوء: عليك أن تكون حذراً. أنت تلجأ دون شعور لتفجير سيل من الكلمات لتفرغ طاقتك المكبوتة مع أشخاص غير مناسبين لذلك. ناهيك عن مزاجك السيء مع الأغلبية.
أعلم. دعني وشأني الآن فقط أنا حقاً في ذروة اليأس.
ظننت أن انتظارنا سيدوم لساعة أو حتى ساعتين. ولكننا جلسنا ننتظره على هذا الحال حتى أشارت الساعة إلى الثانية عشر والنصف.

أسند رأسه على قدميه التي يثنيها نحوه في حين أرجعت رأسي للوراء أنظر للسماء بتعب وقد أسندت مرفقاي على الدرجة التي التي أجلس عليها أفرد قدماي متمتماً: أصبح الحي هادئاً جداً. هل سنبقى هنا طويلاً؟
أجابني بصوت خافت ناعس: أرغب في تدفئة جسدي قليلاً. بدأت أشعر بالنعاس، أتراه لمحنا واستدار ليعود أدراجه؟
لم أعد استبعد أي شيء.

الحي بات مظلما، إذ أغلق الكثيرون الإنارة ما عدا تلك الصادرة من بعض الغرف إضافة إلى أعمدة الإنارة الصفراء التي تبعد كل أخرى عن التي تليها مسافة ليست بصغيرة لتكتفي كل واحدة بمد نورها إلى المنطقة التي تحيط بها فقط.
حدقت إلى السماء المرصعة بالنجوم بشرود وقد شعرت بإرتخاء جفنا عيني.
قد يكون هذا حقارة ولؤم. ولكن النظر في عتمة السماء جعل صورة شارلوت تخترق مخيلتي فجأة.
نعم أنا لا زلت أكن تلك المشاعر نحوها.

لا زلت أحبها.
كما توقعت. الحل الوحيد هو فقدان الذاكرة فقط.
يا للدناءة. أفكر فيها بينما كريس غائب عنا، أفكر في زوجته بطريقة لا يحق لي تجاوزها أو حتى اللجوء إليها.
هذا أمر قد جعلني أسأل سام: أخبرني.
ظل يدفن رأسه أسفل ذراعيه اللتان يضم بهما قدمه ليقول بصوت منخفض: ماذا.
هل حقاً لم تقع في الحب حتى الآن؟

لست مستعجلاً بشأنه لأقع فيه. أترى الظلام هنا أجبرك على الغوص في أفكار عاطفية؟ أفق أيها المغفل نحن في انتظار ابن خالك.
عندما تقع في الحب. لن تكون من يختار الفتاة التي ستحبها صحيح؟
أنا مؤمن أنني سأقع في حب الفتاة التي سأرى فيها يوماً جانباً يجذبني إليها وحسب بغض النظر عن مظهرها، أظنني سأحب فتاة أجد فيها أمراً أفتقره لأشعر بأنها جزء مكمل لي. وكذلك العكس.
ماذا لو وقعت في حبها فجأة دون سبب محدد؟

هذا وارد أيضاً. هل هناك من تحبها يا رجل؟! اعترف بسرعة.
قالها وقد أبعد رأسه والنعاس باد على وجهه، نظرت إلى السماء متمتماً: كنت أتساءل فقط.
نعم صدقتك.
أضاف ممازحاً وهو يتثاءب: هل هي العجوز هيذر؟
هل تريد تذوق طعم رصيف الحي؟
اللعنة إنني أمازحك أيها المأفون.
ثم مدد جسده بكسل وقد علق: يمكنك أخذ نصائحي بين الحين والآخر. صدقني ستكون نصائح قيمة على طبق من ذهب!

نعم. نصائح قد تتحول إلى الذهول إن أدرك أنني واقع في حب شقيقته، زوجة ابن خالي تحديداً.
أنا أؤدي دور الخائن الغادر جيداً.
وهذا أكثر ما يؤرقني.
التفت كلانا لجهة اليسار عند سماع صوت خافت من بعيد، بدى كصوت ضحكة نسائية أو شيء من هذا القبيل.
تجاهلت الأمر ولكن سام ظل يحدق في تلك الجهة حتى تمتم بحيرة: إنهما شخصين. بطريقة ما ظلهما يترنح وكأنهما ليسا بوعيهما. أنظر.

نظرت بلا حيلة وقد اقترب الصوت، اتضح الكيان أكثر لأرى امرأة تقترب من بعيد ولم تكن واضحة بسبب الظلام، ولكنني رأيت بجانبها شخص أطول قامة منها وبدى جسدهما ملتصق ببعضهما، بل ويدفعان بعضهما دون قصد.
وعندما اقتربا أكثر كان من الواضح أنها تسنده ليمشي بإعتدال.
اعتدلت في جلستي أحدق فيهما جيداً حتى همس سام عاقداً حاجبيه بتركيز: ستيف. تلك الهيئة مألوفة جداً.

اتسعت عيناي وقد اقتحم التوتر هالتي الخاصة عندما ترجم عقلي تلك الهيئة!
م. محق!
هذا الشخص هناك.
يبدو وكأنه كريس!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة