رواية عذابي الصامت للكاتبة سارة ح ش الفصل العاشر
احبك ولكن...
(علياء).
بعد سبع سنوات مضت سأرى طيفه قادم بأتجاهي. يمنحني ابتسامة عريضة فوق وجهه الوسيم ويفتح لي ذراعيه. ستنزل دموعي الضعيفة دون ان املك السيطرة على كبحها وسأركض بأتجاهه لأرتمي بين احضانه واتمسك به بقوة ولن اسمح له ابداً بالتخلي عني مجدداً، سأجعله يحميني من واقعي ويأخذني لعالم الاحلام الوردي الذي كنت اعيشه معه في الماضي ويمنحني السعادة الابدية، سأنسى ألمي. سأترك حزني. سأطفئ نيران الماضي، حلم جميل. أليس كذلك؟ فهذا كله لن يكون اكثر من حلم يترأى لي كل ليلة ما ان اغرق رأسي داخل وسادتي. فواقعي لن يقبل بخرافات كهذه. ويوسف لن يعود. ونيراني لن تنطفئ. ستحرقني وستحرق كل من حولي. لذلك. سأبتعد عنه، سأنساه. سأكرهه. سأجعله يكرهني، كي أحميه مني، لأني وببساطة، لازلت اعشقه بجنون.
مضى اسبوع كامل على رحيله، كنت ادعو الرب في السبع سنوات التي مضت ان اراه ولو لمرة واحدة كي تهدأ نيراني. لم اكن اظن ان رؤيته ستفجر كل البراكين التي بداخلي وتجعلني ادمن وجوده مرة اخرى! بدأت الساعات تمضي ببطئ بالنسبة لي، واصبحت الايام مملة وخالية من اي معنى، فلاركوب الخيل استطاع تخفيف آلمي لفراقه ولامزاحات فؤاد اعادت بعض الحيوية لروحي بعد رحيله. كل شيء اصبح وكأنه باللون الاسود والابيض، انا حقاً اشتاق اليه بشدة!.
انها الخامسة بعد الظهر. تركت غرفتي ونزلت للطابق السفلي علّي اجد شيئاً مااقتل به وقت فراغي. ولكن لاشيء. فعلى مايبدو المكان هنا اسوأ من غرفتي. ساكناً لاروح فيه، خرجت العمة سمية والعم كمال قبل ساعة واصطحبا معهما سهى من اجل شراء بعض الحاجيات من السوق. وجدي نادراً مايخرج في هذا الوقت من غرفة المكتب فهو ينجز اعماله ولايحب ان يزعجه احد، ولم يتبقى سوى التلفاز لأفرغ فيه شحنات مللي.
رميت بثقل جسدي فوق الاريكة وسحبت جهاز التحكم وبدأت بتقليب القنوات علّي اجد شيئاً مسلياً او مثيراً للأهتمام. ولكني استمررت بالبحث دون ان اصل لغايتي. التقطت اذناي صوت طرقات على باب الدخول. حولت بصري بعدم اهتمام وتقاعست عن القيام لفتحه لاسيما وان سهى غير موجودة لتفتحه. ولكني قررت النهوض في اللحظة الاخيرة بعد ان خمنت لربما يكون الطارق فؤاد. فالغرباء يبقون عند البوابة الخارجية ولايدخلون ألا بعد ان نسمح للحارس بإدخالهم...
وبما ان حماقتي لم تجعلني اضع تخمينات عديدة في عقلي واكتفيت بتخمين واحد وهو لربما انه فؤاد فأني لم اعدل من هيئتي شيء ولم اتطلع في المرآة حتى!
فتحت المقبض وتجمدت فوراً في مكاني كالبلهاء دون ان اقوم بأي حركة اخرى وانااحدق فيه، يوسف! شعرت بتيرات كهربائية غريبة تنبعث من قلبي وتصعقني في كل انحاء جسدي مسببة لي الشلل التام وفمي اصبح جافاً تماماً بالكاد تمكنت من ازدراد ريقي، احسست اننا فقط من نقف في هذا الكون الواسع ولاشيء حي غيرنا. لم اعد اسمع الاصوات. ولم اعد ارى سواه، بهيئته الانيقة. بطوله الفارع. ببشرته القمحية وعينيه العسليتين، بالفعل الرب قد ابدع في خلق هذا الكائن الذي اعشقه!
كان يدير وجهه يتطلع في الحديقة يطوي ملف في احدى يديه بينما يمسك في الاخرى مفتاح السيارة واول ماسمع انفتاح الباب التفت إلى بحاجبين مقطوبين وملامح منقبضة من التعب. فكما علمت انه يحضر اسبوعياً من الشركة الى هنا مباشرةٍ ليجلب الملفات من دون ان يرتاح قليلاً لذلك من حقه هذا الاجهاد الواضح على هيئته، ولكني تخيلت انه سيتخلى على الاقل عن نظرته اللامبالية تلك ليمنحني نظرة مميزة عن غيري مثلما يفعل دائماً او حتى ابتسامة كعادته. ولكنه لم يفعل. وكأن سهى من فتحت له الباب وليس انا، يبدو ان موضوع فؤاد لم يمحى من عقله بعد ولايزال غاضباً مني بسببه.
سألني ببرود وحاجبيه لايزالان مترابطين: مرحباً، هل جدي هنا؟
حسناً. على الاقل قال مرحباً، فاومأت له ب نعم من دون ان اشير بشيء فتخطاني ودخل دون ان يقول هو ايضاً شيئاً اخر. وكأنه اراد التأكد من وجود جدي ليدخل ولن يفعل ان لم يكن هنا...
اغلقت الباب بهدوء وقلبي يتراقص فرحاً وسرت خلفه وانا احدق بحب. لاانها كلمة بسيطة. بل بعشق وهيام بهيئته. كانت تفصلنا بضع خطوات عن بعضنا فرفعت ابصاري لأحدق في فروة رأسه من الخلف. كانت شعيراته مرتبة وناعمة واقصر من المرة السابقة. يبدو انه حلقهم مؤخراً، استنشقت نفساً عميقاً وانا ابتسم. لايزال يستخدم العطر ذاته منذ سنين، انه حقاً عطراً مميزاً ورائعاً كنت اعشقه بشدة. فرغم هدوء رائحته ألا انها كانت تنتشر بسرعة في المكان الذي يدخل اليه مما كان يجعلني اعرف بوجوده فوراً قبل حتى ان التفت، بدأت ابتسامتي تتسع اكثر فأكثر مع ذكريات الماضي التي بدأت تتقافز داخل مروج عقلي...
اقتربنا من الصالة وتوقف فجأة والتفت الي. فتح شفاهه ليتحدث ولكنه صمت لثواني ثم قال بأستغراب: ماالمضحك؟
مع جملته هذه فقط حتى انتبهت على ان تلك الابتسامة البلهاء لازالت عالقة فوق ثغري وانا احدق به ولم اخفيها بعد. قمت بأغتيالها فوراً وانا اشعر ان وجهي اصبح الان شعلة حمراء من الخجل والارتباك، قطبت حاحباي مدعية عدم الاهتمام وانا اشير: -(لاشيء، لقد كنت اتابع برنامجاً مضحكاً قبل قدومك ولازلت مبتسمة بسببه. ).
التفت بهدوء نحو شاشة التلفاز واطال النظر ليجبرني ان انظر ايضاً، يسارع قطيع الاسود للأطاحة بالغزال المسكين ثم يبدأون بأفتراسه بوحشية ياله من برنامج مضحك حقاً ايتها الغبية الحمقاء! ألم يكن بمقدوري ايجاد عذراً اخر؟
هذه المرة لم يكن وجهي شعلة حمراء فقط، بل عبارة عن نيزك ناري ملتهب اشعر بالحرارة تنبعث من كل جهاته، التفت إلى مرة اخرى وهو يرفع حاحبيه بأستغراب وانا احدق فيه بأرتباك، ظننته سيسخر مني ويسألني اين المضحك بالضبط في افتراس غزال؟ او انه سيقوم بالتبسم ليحرجني. ولكنه لم يفعل! بل قال ببساطة وهو يعيد حاحبية لحالة الالتحام مجدداً:
هلا اخبرتي جدي بوجودي لو سمحتِ؟ اريد ان انهي عملي واعود دون ان أتأخر.
ماهذه الرسمية المبالغ فيها التي يحادثني بها بحق السماء؟ هل انا سكرتيرة جدي هنا؟ وثانياً. الى ماذا كان يلمح بالضبط عندما قال انه لايريد التأخر هنا؟ هل قالها بعفوية؟ ام انه يريد ايصال فكرة انه لايريد البقاء في المكان ذاته معي طويلاً؟ لحظة، لما انا متفاجئة ان كان كذلك! فالذي تركني لسبع سنوات هل سأتعجب ان اراد تركي الان؟
تركته من دون ان اشير له بشيء وذهبت نحو مكتب جدي. طرقت الباب ودخلت فرفع ابصاره من فوق الملفات المتراكمة امامه وتبسم فور رؤيته لي فبادلته ابتسامته وهدأت ثورات ارتباكي الداخلية فوراً واشرت له:
(يوسف هنا. )
اغلق الملف الذي بين يديه وهو يقوم من مكانه ويقول:
حسناً عزيزتي انا قادم.
تركته ليخرج واتجهت انا نحو السلم لأصعد نحو غرفتي ورغم مروري من امام الصالة ألا اني لم امنح يوسف ولو حتى نظرة خاطفة، وضعت قدمي على بداية السلم وتوقفت فوراً وانا اسمع جدي يقول:
عزيزتي علياء نريد فنجانين من القهوة.
التفت اليه وتركته لينهي سلامه مع يوسف حتى اشرت له بعد ان نظر الي:
(ولكن سهى مع عمتي سمية جدي).
إذاً حضّريها انتي.
ماهذا؟ أهو يوم المصائب العالمي؟ قد تظنون ان امر صنع القهوة لايحتاج الى براعة وببساطة يمكن لأي احد فعلها. حسناً. قد تكونون محقين. ولكن ليس بشأني، دعوني اخبركم بعدد المرات التي اعددت فيها قهوة، صفر، عدد المرات التي اعددت فيها اي طعام، صفر، عدد المرات التي شاهدت فيها طريقة تحضير القهوة. مرة واحدة وبالصدفة.
لوكانت القهوة لجدي فقط ماكنت سأقلق كثيراً فهو يعرف جيداً اني حمقاء بأي شيء يخص المطبخ. ولكن المصيبة ان يوسف سيشربها ايضاً وسيكون امراً محرجاً حقاً ان يأتي بعد سبع سنوات ليجدني لاازال حمقاء لااجيد فعل شيء! ولكن بالتأكيد انا لن اخبرهم اني لااجيد اعدادها. سوف اجرب حظي. لعله يرأف بي هذه المرة!
(يوسف)
لم املك السيطرة على نظراتي دون ان تتبعها خلسة الى ان اختفت في المطبخ.
ماان ابتعدت عني حتى عادت بقية حواسي للعمل مجدداً بشكل طبيعي وتمكنت من الاستماع لحديث جدي والتركيز معه. لحظات حتى اصبحت المنضدة التي امامنا عبارة عن اوراق وغرقنا داخل العمل، الى ان انتشلني من تركيزي رائحة القهوة التي ملأت ارجاء المنزل، ليست بالطبع رائحة القهوة المميزة والشهية سيداتي وسادتي، انا اعني هنا رائحة القهوة المحترقة، يومكِ لايبشر بخير ياعلياء!
رفعت ابصاري قليلاً من فوق الاوراق وانا اشاهدها تحمل القهوة وتقترب منا. استقمت بظهري الذي احنيه وسحبت بعض الاوراق كي افسح مجالاً للأكواب، وماان وضعت الصينية حتى علّقنا ابصارنا انا وجدي داخل الفناجين، امراً غير قابل للتعليق اطلاقاً! جلست على الاريكة المقابلة لي وكأنها تنتظر منا الخمسة نجوم على قهوتها، مددنا ايدينا بتردد وسحب كل واحد منا فنجانه وارتشفنا رشفة صغيرة. تباً لكِ ياعلياء. اظن اني فقدت حاسة تذوقي تماماً بسبب هذا الشيء! سبع سنوات ولاتزالين مدبرة منزل سيئة ياحبيبتي!
اعاد جدي الفنجان فوراً نحو الصينية ونظر اليها بقرف بعد ان شرب كوب الماء دفعة واحدة وقال:
ماهذه؟
اشارت له ببساطة:
(قهوة! )
بالله عليكِ؟
انا حقاً وددت الانفجار بالضحك حالياً. ولكن لااعلم كيف سيطرت على نفسي. نطرت اليها نظرة خاطفة فوجدتها تحدق بي بترقب، انها تنتظر ردة فعلي انا الاخر! وكيف بالله عليكم ستكون ردة فعلي؟ هل تظنون انه بأستطاعتي ان اجعل حبيبتي الصغيرة تشعر بالاحباط؟ بكل تأكيد لا!
ابقيت الفنجان في يدي وعدت بأبصاري نحو الاوراق. ورغم صعوبة الامر ولكني قاومت ورفعت الفنجان نحو شفتاي مجدداً لأرتشف رشفة اخرى، تذوقت اشياء سيئة كثيرة في حياتي. ولكن هذه القهوة اسوأها، ولكن رغم ذلك استمتع واتلذذ بشربها. وكيف لا ويدا حبيبتي اعدّتها؟
نظر إلى جدي بأستغراب وهو يقول:
هل ستشربها حقاً؟
نظرت له بهدوء وانا اجيب وكأن الامر ليس مهماً جداً:
اجل، انا احب اعدادها بهذه الطريقة نوعاً ما.
تحب القهوة المحترقة؟
ليست محترقة انما...
وصمتُ دون ان اكمل. فأن اكملت سيكون الامر مبالغ فيه حقاً، ليست محترقة؟ انها تكاد تكون رماد لوبقيت لحظات اخرى فوق النار كيف اطلق صفة عدم الاحتراق على هذا الشيء الذي بين يدي؟
اكملت بعد اجزاء الثانية:
انها ليست سيئة جداً.
وايضاً استرقت نظرة خاطفة ناحيتها فوجدت ابتسامة سعادة وراحة تحتل وجهها، اااااه يااللهي! ربما سأقوم بأحتساء قهوة جدي ايضاً لأقوم بأرضائها ولابأس ان نقلوني بعدها للمستشفى...
مضت علينا 20دقيقة اخرى ونحن غارقين وسط العمل. وعليائي لاتزال تجلس امامنا مشغولة بتقليب قنوات التلفاز وانا استمع لزفرات تململها بين لحظة واخرى، لاتزال قليلة الصبر كما كانت وسريعة الملل!
انتشل انتباهنا جميعاً صوت انفتاح الباب ودخول العمة سمية يتبعها كمال وسهى، بالطبع اتجهت سهى فوراً نحو المطبخ والاثنين الاخرين نحونا. قمت لألقي تحية خاصة على كمال فأنا لم التقي به في المرة السابقة وجلسنا لنتحدث معاً بينما جلست العمة سمية بجوار علياء بعد ان عانقتني عناقاً طويلاً. يااللهي كم هي حنونة هذه المرأة!
بعد تحية طويلة وسلام مميز التفتت العمة سمية نحو علياء وكأنها تذكرت الامر للتو وقالت:.
عزيزتي. سيارة البريد تنتظرك في الباب.
ماان انتهت العمة من جملتها حتى نهضت علياء فوراً من مكانها مسرعة وخرجت من المنزل، التفت بأستغراب نحو عمتي وقلت لها متسائلاً:
البريد؟ ألا يزال احدهم يستخدمه مع كل هذه التكنلوجيا؟
في الحقيقة لم اكن مستغرباً بقدر ماكنت فضولياً اريد ان اعرف من عساه سيرسل رسالة لحبيبتي انا؟
فتبسمت عمتي وهي تجيبني وكأنها استشعرت سبب سؤالي:.
انه ليس رسائل أوماشابه بل علياء مشتركة بنادي قراءة او شيء من هذا القبيل انا لااتذكر اسمه بالضبط.
ارتحت قليلاً بعد ان اغتلت ظنوني واكملت تساؤلي:
نادي قراءة؟ وكيف يكون هذا؟
انهم حوالي عشرون شخصاً يتداولون فيما بينهم كتب وروايات مستعملة كل واحد فيهم يقوم بكتابة رأيه الخاص فوق الكتاب او يحدد المقطع الذي يعجبه داخل الرواية او ينتقده وبذلك الجميع سيعرف رأي الاخرين في هذه الرواية، انها تستمتع بالامر كثيراً.
حسناً. الامر جميل. ولكن غريب! انها المرة الاولى التي اسمع بوجود نادي كهذا. ولكن لربما هو موجود هنا فقط او لربما هو حديث الانشاء لذلك لم اسمع به، لم اعر الامر اهمية في لحظتها وظننته امراً اعتيادياً، وكم ندمت لاحقاً كما سترون!
(علياء)
ماان قالت عمتي ذلك حتى خرجت بأسرع مايمكنني. رغم ان الامر لايثير اي شكوك ولكن قلبي ينبض بقوة وجسدي يرتجف كلما حضر هذا البريد الاسبوعي. اشعر ان الجميع يعلم، والجميع سيكتشف الامر. ولن يفارقني الخوف ألا بعد ان يحضر البريد في اليوم التالي ويأخذ الكتب...
اسرعت الى البوابة الخارجية ليقع بصري على ذلك الرجل الممشوق القوام ذو البدلة الرمادية والقبعة الحمراء. انه الزي الخاص بخدمة التوصيل وظننته الموظف المعتاد. ولكني ارتعبت فوراً عندما اقتربت ورفع الموظف بصره الي. شاب في ال 35 من عمره ذون شعر اسود حالك وذقن دقيق وجبين عريض. عادل! لحظة، عادل حضر بنفسه؟ لابد ان الامر جاد اكثر من كل مرة!
حدق بي من خلف نظارته الطبية وقال بهدوء وهو يسلمني الصندوق الصغير:.
مرحباً انسة علياء.
اومأت له من دون ان اشير فسلمني السجل كي اوقع استلام الصندوق وماان امسكت القلم حتى همس لي بنبرة عميقة:
اياكِ ان تتحامقي صغيرتي!
شعرت بكل خلية بجسدي ترتجف وانفاسي تضطرب، عادل لايهدد ويحذر من فراغ!
نظرت له بنظرات مرتبعة وانا اومئ له بطاعة واخذت الصندوق ورحلت من امامه فوراً قبل ان يدرك وجود يوسف هنا. رغم اني لست واثقة من انه لم يدرك ذلك بعد!
دخلت الى المنزل رصعدت نحو غرفتي فوراً احمل الصندوق بين يدي دون ان احدث احداً فيهم.
ماان دخلت غرفتي حتى اقفلت الباب وجلست على الكرسي خلف المكتب الذي ادرس عليه وفتحت الشريط اللاصق الذي يحيط بالصندوق واخرجت الكتاب الاول، رواية الكبرياء والاجحاف للراوية جين اوستن. فتحت المدرج الاول من المكتب واخرجت دفتر صغير وقلم...
فتحت الصفحة الاولى من الكتاب لأجد ملاحظة صغيرة تبدو لأي احد اخر يقرأها وكأنها رأي احد القراء في الرواية. ولكنها ليست كذلك.
لطالما كانت قصص الحب جميلة. ولكن ليس جميعها تنتهي بعاشو بسعادة الى الابد. فهذه الجملة تسرد في القصص الخيالية فحسب. اما الواقع. فلاشيء به ابدي .
انقبض قلبي فوراً وتمنيت ان لاتكون الرسالة حول من اظن.
فتحت الرواية وبدأت بفك الشيفرا، أقلب صفحات الكتاب بيدي اليسرى وادون الحروف في ذلك الدفتر الصغير بيدي اليمنى.
الامر بسيط ومعقد في الوقت ذاته. فهذه الرسائل سرية جداً ولايجب على احد غيري ان يعرف اطلاقاً على ماذا تحتوي. دعوني اشرح لكم كيف يشفرونها، كلمات كثيرة داخل الرواية تحتها خط احمر او اخضر او ازرق. قد يبدو لمن يقرأها ان المستعملين السابقين لهذا الكتاب كل واحد اشار تحت كلمة تعجبه او جملة اثارت اهتمامه وبالتأكيد بعضهم استخدم الوان مختلفة فليس من المعقول ان الجميع استخدم اللون ذاته، ولكن الامر ليس كذلك. قبعة موظف التوصيل اختاروها حمراء. اذاً الكلمات التي تحوي اسفلها خط احمر.
سأخدها كلها، والكلمة التي تحوي خط اخضر سأخذ منها الحرف الاول فقط. والكلمة التي تحوي خط ازرق اسفلها سأتركها واخذ الحرف الاخير من الكلمة التي تليها. اما ان تجاورت كلمتان كلاهما اسفلهما خط اخضر فأني سأخذ الحرف الثاني من كل كلمة واعرف ترتيبهم في الحروف الابجدية واجمعهما معاً والناتج سيكون رقم الحرف الاصلي في جدول الحروف الابجدية، على سبيل المثال كلمة(اتيت لأجلك)، اين يقع ترتيب حرف التاء من ضمن الحروف الابجدية؟ الثالث، ننتقل لحرف الالف من الكلمة الثانية وسنجد ان ترتيبه الاول. اذاً اصبح لدينا رقمين(3)، (1). نقوم بجمعهما 3+1=4. اذاً الناتج اربعة، من هو الحرف الرابع في الحروف الابجدية؟ الثاء، اذاً الحرف الحقيقي الذي سأكتبه هو الثاء...
انتم لاتعرفون عما اتحدث بالضبط أليس كذلك؟ أعدكم انكم ستفهمون لاحقاً.
انحنيت فوق الكتاب لأقرأ واكتب وانعزلت تماماً عن العالم من حولي حتى اني نسيت وجود يوسف في الطابق السفلي. مضت على ساعات وساعات وانا على الوضع ذاته استخرج الحروف المطلوبة لأنشأ منهم الكلمات المرسلة الي، ضربات خفيفة فوق نافذة غرفتي جعلتني ارفع رأسي لأحدق بقطرات المياه تلك التي التصقت بزجاج النافذة وبذلك الظلام الذي ابتلع الشمس التي تركتها تزهو في كبد السماء قبل ان انحني فوق الكتاب، يااللهي انا بالفعل لم اشعر بالوقت! يوسف! أيعقل انه ذهب الان؟
أعدت ابصاري نحو الدفتر لأنظر نحو الورقة التي امضيت ساعات وساعات من اجل كتابتها. وضعت القلم جانباً من يدي ورفعتها لأدلك بها رقبتي المجهدة بينما الاخرى احمل بها الدفتر لأقرأ المكتوب:.
لولم تقع سلوى في حب مازن لكنتِ الان في احضانها. لأنها ماكانت ستتزوجه. وماكانت ستتبع طريقه من دون تفكير. وماكانت ستدخل السجن، وماكانت ستعدم، حينها لم تكن ستترككِ، لكانت امكِ حية الان وبجواركِ. أليس كذلك؟ فقط لو لم تتبع قلبها ولم تقع بالحب!
ولكنها ميتة الان. ونهايتك ستكون مثلها ان اتبعتي مشاعركِ السخيفة تلك، لن اسمح لكِ بهدم كل مابنيناه. وان شعرت انكِ تتبعين قلبك. وان شعرت ان يوسف عاد ليغيركِ، عندها سأعرف كيف اعيدكِ لرشدكِ، فلاتنسي ياصغيرتي. انكِ صاحبة دم ملوث وهو صاحب دم نقي. ومن المستحيل ان يجمعكما غير التناقض.
احسست بكامل جسدي يرتجف واعجز حتى عن التنفس. يوسف! سأموت ان أذو شعرة منه، قمت بأنتفاضة وعنف من فوق الكرسي فأنقلب للخلف وسرت بجنون في ارجاء الغرفة اقطعها ذهاباً واياباً افكر بحلاً ما وانا امرر اصابعي من بين خصلات شعري تارة واقضم اظافري بين اسناني تارة اخرى من شدة توتري.
من اخبره؟ كيف عرف؟ متى؟ ولماذا؟
فجأة توقفت وتجمد جسدي فوراً، فؤاد!
لبست معطفي المطري كي لااصاب بالزكام فكما تعلمون الامطار غزيرة في الخارج ووضعت القلنسوة فوق رأسي وخرجت راكضة من المنزل غير مبالية بندائات عمتي من خلفي ودون حتى ان اتأكد ماان كان يوسف موجود او غادر...
وبالطبع وجهة واحدة في عقلي سأتجه اليها من دون غيرها، منزل فؤاد...
وصلت الى مزرعتهم وفتحت البوابة الخارجية بعنف ودخلت الى الحديقة دون ان التفت حتى لتحية حارس بوابتهم وطرقت بابهم الداخلي بشكل متواصل ونزلت المدرجات لأبقى بعيدة عن الباب كي تفهم الخادمة انني اريده خارجاً ولن ادخل فهي لم تكن تفهم لغة اشارتي. وماان راتني حتى دخلت لتنادي فؤاد، ثواني حتى خرج إلى مسرعاً ليجدني بأسوا حالاتي. مبللة بالكامل. غاضبة تماماً. ولايستطيع التمييز أهو البرق من يضيء المكان من حولنا في كل ثانية ام انها شرارات عيناي البركانية.
نزل المدرجات ليقف امامي وقبل ان يتفوه بكلمة واحدة دفعته من صدره بعنف وانا اشير له:
(كيف تجرؤ! لقد ظننت اننا اصدقاء قبل ان نكون شركاء! )
نظر إلى بتفاجئ ونحو تلك الدموع التي تخفيها للامطار فوق وجهي وقال بعدم فهم:
مابك علياء؟ وماهذه السخافة التي تقوليها؟ بالطبع نحن اصدقاء. اهذا شيء تشكين به؟
قطبت حاجباي بغضب اكبر وانا اشير:
(مامعنى كلام عادل إذاً بخصوص يوسف؟ ماذا اخبرته بالضبط؟! )
فهتف بي بغضب:.
هل فقدتِ عقلكِ ايتها الحمقاء؟ هل ظننتِ اني سأذهب واخبره انكِ لاتزالين واقعة بغرام يوسف يامجنونة؟ أتظنين انه كان سيبقيه حولكِ ان تيقن من ذلك؟ ولو ان عادل شك به فحسب فيوسف سيختفي من عالمكِ ياعلياء.
(إذاً ماذا كان يقصد بكلامه؟ ).
لااعرف بالضبط ماذا قال لكِ ولكني بالتأكيد لم اخبره بالحديث الذي دار بيني وبينكِ ولاحتى بأمر ضرب بوسف لي. انتِ تعلمين انه على ان اوصل له المعلومات عنكِ وعن منزلكِ وان قصرت قليلاً في عملي سيضع غيري فوراً في هذه المهمة. وان كنت انا اساندك واخفي عنه بعض الاشياء فغيري لن يفعل. لذلك اخبرته فقط ان احد افراد العائلة قد عاد وعندما سألني من يكون اخبرته انه يوسف. حقق معي حول رد فعلكِ ورد فعله فاخبرته انكما كنتما اعتياديان ولاشيء يدعو للشكوك وان السبع سنوات كانت كافية لتنسيا بعضكما الاخر، لذلك ربما اراد تهديدك فقط كي لاتفكري في المستقبل ان تعودي لحب يوسف...
توقف فؤاد عن الكلام وانفاسه تتسارع بعد هذا التبرير الطويل الذي اضطر ان يرفع به صوته بسبب صوت الامطار من حولنا والذي يشوش الرؤيا والسمع علينا...
حدقت فيه بصمت وعيناي لاتزال تحمل بعض الشك، فيوسف بالنسبة إلى هي الحدود الحمراء التي لن اسمح لأحد بلمسها مطلقاً وسأفعل المستحيل من اجل حمايته حتى لو اضطررت للتخلي عن اقرب الناس لي. بل وحتى ان اضطررت للتخلي عن نفسي في سبيل ابقائه سالماً...
نظر إلى فؤاد بخيبة امل من ظنوني به وهز رأسه بخذلان لاني لم اعلق بشيء على كلامه لأبين له اني اصدقه او حتى ان اعتذر فعصر قبضته بأستياء وقطب حاجبيه بغضب ثم تركني ودخل، وهذا من حقهة صراحة، ولكنه يوسف! ويوسف شيء غير قابل للنقاش فكيف لفؤاد ان يغضب مني بسبب شيء كهذا. من المفترض انه اكثر شخص يفهم هذا.
ماان دخل وتركني حتى شعرت بفراغ كبير يحتل صدري. فؤاد شخص مهم جداً بالنسبة لي وقد فعل المستحيل من اجل حمايتي ولايستحق شيئاً كهذا مني، ولكني تائهة بين عالمين حقاً. ولدت بالعالم الخاطئ. وسحبني يوسف نحو عالمه النقي، ولكني سأبقى صاحبة الدماء الملوثة. وعلى في يوم ما ان اعود نحو عالمي مهما حاول يوسف ابقائي بعيدة عنه وابقاني بجواره، ففي النهاية هذه هي حقيقتي، وان نسى عقلي. فجسدي لن ينسى وسيذكرني بماضيّ كلما حدقت بالمرآة.