رواية عذابي الصامت للكاتبة سارة ح ش الفصل الأول
الخرساء والوحوش
(يوسف)
علي بعد 60كم من المدينة تكمن مزرعتنا التي تحوي منذ سنين طويلة افراد اسرة ياسين مجتمعين معاً.
انا يوسف خالد بالمناسبة؛ اليوم بلغت العاشرة دون ان ينتبه احد افراد اسرتي البالغ عددهم 17 فرد الى ذلك. اجل لا تستغربوا، اخبرتكم اننا ومنذ سنين طويلة نعيش معاً وهذا يشمل الجد وابنائه وزوجاتهم وبناته وازواجهم وبالتالي احفاده. نحن ذلك النوع من الاسر الكلاسيكية الذي يبقى فيه افراد الاسرة معاً.
انشغل الجميع عن تهنئتي بموضوع اكبر من مجرد عيد ميلاد سخيف؛ انه موضوع العمة سلوى الذي اعيد فتحه بعد سنين من ارشفته بطي النسيان.
العمة سلوى كانت تلك الطفلة تعيسة الحظ التي ماتت جدتي وهي تلدها فحظيت بمعاملة خاصة من جدي وباقي الابناء فأصبحت تلك المدللة التي لا يقال لطلباتها لا ؛ افرطوا في دلالها لدرجة أصبحت تنفذ ما تقرره دون ان يتمكن احد من صدها؛ حتى حين وقعت بغرام سائق العائلة مازن. ذلك الشاب الطموح الذي تتخطى احلامه سنه الخامسة والعشرين؛ وتتخطى طموحاته مجرد كونه سائق؛ لقد كان يطالب بحرية في مجتمع تمت ولادته مقيد؛ مجتمع يسير افراده على مبدأ (لا اسمع لا ارى لا اتكلم) كي يتمكنوا من العيش سالمين. كان جدي يراه نكرة للمجتمع بأفكاره الساذجة عن التحرر والتعبير عن الرأي؛ بينما عمتي سلوى شاركته سذاجته هذه وامنت بأفكاره ليكلل هذا الحب في النهاية بالزواج!
كان قرار ارتباطها بمازن سبب اكثر من كافي لتندلع الانتفاضة في ارجاء المنزل كي تعدل عن رأيها؛ ولكنها لم تفعل، حينها وقع جدي بأكثر خطأ فادح حين طرح امامها الخيار؛ اما ان تختارهم او تختار مازن.
وبالطبع عمتي الساذجة كانت تحت حمى عواطفها المزمنة ففضلت اختيار مازن عليهم؛ وبالتالي كأي اسرة ارستقراطية كانوا يعتبرون ارتباطها بمازن عار يحاولون بشتى الطرق التخلص منه؛ لذلك تم نفيها من الاسرة واصبحت اسم غير معترف به بينهم فعاشت حياتها بعيداً عنهم.
ظننا ان موضوع العمة سلوى صفحة ومزقناها من حياتنا؛ ولكن هذه الصفحة فرضت نفسها علينا وبقوة قبل عدة ايام مع الخبر الصاعق الذي حل علينا؛ لقد ماتت العمة سلوى وزوجها مازن. لقد تم اعدامهم بعد ادانتهم بالتحريض على الثورة. وعار اخر اضيف الى سجل العائلة بسببها.
لم يتوقف الامر عند هذا الحد؛ لقد ماتا تاركين خلفهما ابنتهما الصغيرة علياء ذات الخمس سنوات.
دخل المنزل في حداد مفجع ولكن بدموع مخفية وصرخات مكتومة؛ فبالنسبة للجميع سلوى هي المذنبة التي لم يغفروا لها خطيئتها بعد؛ ولن يحزن عليها احد؛ لقد جلبت العار لأسرتها المعروفة والمحترمة؛ بالنسبة لهم فلا يليق بأسرة ياسين ان تعدم ابنتهم او ان تسجن؛ لذلك لم يجرؤ احد افراد الاسرة ان يظهر حزنه امام الاخر وكلًا بكاها بسرية متواريا عًن الانظار؛ فهي بالنهاية سلوى؛ مدللتهم الصغيرة؛ كيف لا يمكنهم ان يحزنوا؟
الوحيدة من بين الجميع التي تجرأت ان تظهر هذا الحزن بشكل علني وتتشح بالأسود حداداً على فقيدتهم هي عمتي الوسطى سمية ذات 34 عاما؛ كانت مقربة جداً من العمة سلوى وكانت الاشد تأثراً برحيلها والان اشد حزنا لًفقدانها.
سرت في ارجاء منزلنا المضطرب بهدوء لا يتناسب مع هذا الاجواء؛ شاهدت زوجات اعمامي في احدى اركان غرفة المعيشة يجلسن معاً متقابلات لدرجة ان اقدامهن تتلامس مع بعضها لكي يمنعن صوت تهامسهن من الخروج؛ كن يتحدثن بانفعال وقد برزت شرايينهن من تحت بشرتهن المحتقنة بدماء الغضب ؛ انهن يتناقشن حول امر ما -او بصيغة اصح- انهن يخططن لشيء ما؛ لابد انهن قد سمعن بقدوم علياء الينا هذا اليوم.
اوه صحيح ألم اخبركم؟ لقد ذهب جدي ليحضر الطفلة علياء التي تمكث منذ ثلاثة ايام في مركز الرعاية بعد وفاة والديها؛ انهى كل الاوراق والاجراءات المطلوبة من اجل احضارها؛ قد تظنون ان امر استلامها امر سهل كونه جدها وقد لا يحتاج سوى لبطاقته الشخصية ليثبت هذا؛ ولكن بحالة علياء الامر مختلف؛ بالنسبة للدولة هي ابنة ثوريين وقد تسلك اتجاه والديها في المستقبل لذلك هناك اجراءات وتعهدات عليهم اتمامها ليضمنوا ان هذه الطفلة لن تكون ثورية ولن تفكر بسلك هذا الطريق ابدا؛ ومع الاسف لم اكن اعرف بأقسى اجراء اتبعوه معها ألا بعد اشهر من وجودها عندنا؛ لقد حطموها؛ ودمروها؛ لم يعاملوها كطفلة بالكاد بلغت سنها الخامسة؛ ولا حتى نحن فعلنا هذا.
كنت اقف في الحديقة اراقب اختي ديما وهي تلعب بدميتها وتهبني ابتسامتها بين الحين والاخر؛ سمعت صوت بوابة المنزل الحديدة الضخمة تفُتح وتدخل سيارة جدي السوداء الفخمة الى الممر الحجري لتقف عند الباب الخشبي الذي يقود لداخل المنزل؛ راقبت بفضول لربما كان اشد من فضول ديما حتى؛ بدأ عقلي ينسج لي صوراً وهمية فظننت اني سأشاهد ملاك صغير كباقي الاطفال ينضم لأسرتنا؛ تخيلت ان تنزل الان من السيارة طفلة مرتبة ومحبوبة؛ ربما ستركض من فورها الينا تشارك ديما اللعب؛ او ربما ستكون خجولة بعض الشيء؛ او قد تك، فجأة توقف عقلي عن التخيل؛ فالواقع قد صفعه بشدة ولم يتمكن من رسم صوراً اخرى في مخيلتي. او على الاقل يجمُل لي الصورة الواقعية؛ فما رأيته برفقة جدي لم يكن ملاك. بل شبح!
انا لا انكر ان ملامحها كانت جميلة؛ فقد ورثت عينا والدتها الزرقاوين وبياض بشرتها وسواد شعر ابيها؛ ولكن هيئتها كانت مخيفة؛ كان شعرها اشعث يبدو انه لم يتم تمشيطه منذ ايام ويبدو ايضاً كمن خاضت شجار لينتفوه لها بهذا الشكل؛ ملابسها متسخة ووجها مليء بالخدوش وفمها يرتجف ككسارة الجوز؛ كانت تجحظ بعينيها كمن يعرضون امامها فيلم مرعب.
سارت بخطوات بطيئة ومتعبة وهي تمسك بيد جدي ولكن لم يكن يبدو انها معنا في هذا العالم. كانت تسير بجواره بقدميها العارية وتركز نظرها بنقطة معينة امامها دون حتى ان تطرف بعينيها؛ انها تبدو كالمنومة مغناطيسياً.
نظرت اليها باستغراب وتقزز وانا احدق بهيئتها الرثة؛ هيئة اليتيمة الذليلة؛ لم ابعد نظري عنها ألا عندما شعرت بيد ديما تضغط على يدي خائفة من تلك المخلوقة الغريبة التي دخلت لتوها منزلنا؛ قالت ديما بصوتها الناعم:
- أخي. أهذه هي؟
فأومأت برأسي ثم قلت بتشتت:
- لابد ان تكون هي. دعينا ندخل.
دخلنا الى الصالة لنجدهم اصبحوا كأصنام قريش جميعهم عدا العمة سمية التي شعرت ان بداخلها روح وليس كومة من الحجر؛ كانت تبكي بمرارة وهي تضم الصغيرة اليها بينما الاخرون يحدقون فيها ببرود. هم لا يرونها علياء، لا يرونها جزء من سلوى، انهم يرونها مازن. يرونها سبب العار في هذه العائلة.
رأيت الشر يكمن في نظرات اغلبهم؛ ان لم يستطيعوا معاقبة والديها فسيعاقبون هذه الطفلة عما فعله والديها؛ سيعاقبونها على ذنب لم ترتكبه.
اما جدي فأنا لا ألومه على حالة الانكسار التي هو فيها؛ فالمصائب لم تطرق بابه بأدب وتدخل واحدة تلو اخرى عليه؛ بل جميعها اقتحمت حياته فجأة دفعة واحدة. عانى في الايام السابقة كثيراً ويمكنني ان اجزم انها اسوأ الايام في حياته - ماضياً ومستقبلًا - فمن جهة موت ابنته الصغيرة؛ ومن جهة اخرى العار الذي جلبته للعائلة والذي لن يغلق الناس افواههم عن الثرثرة به لسنين طويلة؛ ثم واخيراً هذه الطفلة التي تركتها.
كلها امور جعلتني اعذره الان وهو يحني ظهره ويتكأ بجبينه فوق كفيه اللتان تعانقا رأس عكازه. انسابت بعض الدموع الضعيفة من بين جفنيه ولكنه سارع لمسحها؛ فهذا الوقت ليس وقت الضعف؛ ليس وقت اظهار المشاعر؛ انه وقت القوة؛ عليه ان يحمي هذه الطفلة مهما كلفه الامر فهي الجزء الوحيد والاخير الذي تبقي لديه من ابنته؛ لذلك ان سمح للضعف ان ينساب اليه فستنهش الذئاب لحمها وتختطفها منه.
الطفلة! دعوني اخبركم قليلًا عن الطفلة - او بمعنى اكثر دقة -عن ذلك التمثال الذي كان على هيئة طفلة. كانت لاتزال بين احضان عمتي سمية ولكنها لم تكن تتحرك ولم تبادل عمتي عناقها بل ولم تبكي حتى؛ كانت كالمتجمدة؛ لاتزال تحدق بنقطة وهمية امامها ولا ازال ارى اصطكاك اسنانها وارتجاف شفتيها وجحوظ عينيها.
يا إلهي! بدأت اوقن حقاً انها ليست معنا في هذا العالم؛ او ربما هي تعاني من مرض نفسي او فصام في الشخصية؛ انها بالفعل طفلة غريبة الاطوار!
غبت لساعات قليلة في غرفتي وخرجت لأجد هيئة هذه الطفلة قد تغيرت قليلًا. لقد عدلت العمة سمية من هيئتها ومشطت لها شعرها، فكونها لا تملك اطفالًا تعلقت بها فوراً. ولكن منظرها ومنظر ارتجافها لايزال يخيفني وكأن الشيطان قد تلبسها؛ امر هذه الصغيرة بالفعل لا يريحني؛ حتى انها رفضت - حسب ما سمعت همس عماتي - ان تغير لها العمة سمية ملابسها او تحممها وملأت ارجاء المنزل بصراخ مزعج الى ان رضخت عمتي للأمر في النهاية وجعلت الصغيرة تغير لنفسها.
اقترب وقت المساء وتهيأت مائدة العشاء بأبهى اصناف الطعام؛ وبالطبع الجميع قد باشر بالأكل عدا تلك المخلوقة الغريبة علياء؛ كانت تجعد وجهها وكأنها على وشك البكاء ولكنها لم تبكي؛ تقوم بتكوير احدى قبضتيها وتعصرها بقوة وتحشر اظافر يدها الاخرى داخل فمها لتقوم بقضمهم. هذه المرة لم تكن تحدق بنقطة وهمية بل كانت تحرك عينيها بسرعة بالاتجاهين وتطرف بهما كثير وكأن هناك شيء غير قادرة على استيعابه. تنفسها سريع وجسدها يرتجف؛ كنت احدق فيها ب. لنرى. اممم. باستغراب؟! لالا، نها كلمة بسيطة؛ ربما كانت نظراتي مذهولة؛ او ربما اكثر من ذهول.
رفعت الملعقة الى فمي ولكني اوقفتها بمنتصف الطريق وانا احدق فيها وهي بتلك الهيئة والتصرفات الغريبة. ما بها بحق السماء؟!
لاحظت العمة سمية ان علياء لا تمد يدها للطعام فالتفتت اليها لترى هذا التوتر يحتلها فمدت يدها بقلق تريد ان تمسح على شعرها وهي تقول:
- عزيزتي ما بكِ؟
وما كادت عمتي ان تلمسها حتى انتفضت علياء وقامت من الكرسي بسرعة متهربة من يدي عمتي وشرعت بالصراخ بشكل هيستيري ارعب الجميع فتوجها اليها فوراً جدي وعمتي ليقوما بتهدئتها او حملها ولكنها ضربت يديهما وهي تصرخ وقامت بخدشهما بأظافرها كي لا يقتربا منها؛ ولكنها لم تنطق بحرف. كانت تصرخ فحسب.
نهض الجميع عن المائدة وهم ينظرون نحوها بتوجس والكل احتضن طفله ليبعده عن هذا الشيطان.
حاولا جدي والعمة سمية تهدئتها بأي شكل من الاشكال ولكن لم ينفع. استمر صراخها بذلك الشكل والتلويح بيديها لإبعادهما عنها لعدة ثواني، الى ان دوى ذلك الصوت في الارجاء. صوت جعل بدني يقشعر!
كان صوت صدى خدها الرقيق وهو يتلقى صفعة قاسية من عمي الاوسط حسام. صفعة جعلتها تفزع فوراً وتشهق وكأنه ايقظها من نوم عميق. توقفت فجأة عن الصراخ وتجمدت عينيها عن الحرك؛ قوست شفتاها للأسفل وارتجفت ثم شرعت ببكاء صامت!
ادارت بصرها بين الجميع وكأنها تبحث عن شخص ما لتلتجئ اليه؛ او ربما كانت تبحث عن امها في وجوهنا وعندما لم تجد غايتها غطت عينيها بكفيها وجلست القرفصاء وهي تضم ركبتيها الى صدرها. تريد ان تشعر نفسها ببعض الامان الذي لا تشعر به بيننا.
كان الجميع مذهول مما حصل ويحدقون ما بين برود واشفاق بجسد تلك الصغيرة الضئيل وهي تضم اجزائه لبعضه وتبكي بشهقات مكتومة.
التفت جدي بعنف نحو عمي حسام ودفعه من صدره وصرخ به قائلًا:
- هل فقدت عقلك؟ كيف تمد يدك وتضربها؟
فهتف به العم حسام محاولاً تبرير موقفه القاسي والساذج:
- ألم ترها يا ابي؟ ألم ترها كيف تصرفت؟
اقترب جدي بضع خطوات منه بوجه مقتضب وهمس له بشيء لم نسمعه ثم عاد خطوتين للوراء وهو يحدق بعينيه بغضب وقال بصوت مسموع:
- وسنرى حينها كيف ستتصرف!
لانعرف ماذا قال جدي له ولكنه شيء جعل وجه عمي حسام يصفر ويشحب فوراً ثم ترك الغرفة وخرج بينما حملت العمة سمية علياء الصغيرة نحو غرفتها لتبعدها عن هؤلاء الوحوش...
وهذا كان اليوم الاول الذي تقلب فيه هذه الصغيرة حياتنا رأساً على عقب. ومع الاسف لم يكن الاخير. اسيما حياتي انا!
مرت ثمانية ايام وعلياء تنتابها نفس نوبات الجنون. تجدها صامتة في لحظة ثم فجأة تبدأ بضرب رأسها ونتف شعرها حتى تقتلع منه بعض الشعيرات وتعض يديها الى ان تخرج الدماء منها او تقضم اظافرها بشكل سريع ومخيف وكأنها تحاول استخراج شيء ما من بينهن؛ او ان هذه الاظافر كاللعنة يجب ان تتخلص منهن.
بالطبع طفلة كهذه لم تحظى بحب احد سوى جدي وعمتي سمية وزوجها كمال؛ اما بالنسبة لباقي الافراد فكانت منبوذة ومكروهة يرونها انعكاس لمازن الذي لن يسامحوه ابداً. واما بالنسبة لأحفاد العائلة فكانوا لا يحبون اللعب معها مطلقاً وكانوا يتعمدون اذيتها وتسميتها بتسميات عديدة ليستفزوها مثل غريبة الاطوار ؛ المجنونة ؛ الخرساء، اها بالمناسبة. انها خرساء!
هي لم تولد خرساء ولكنها فقدت النطق فجأة بعد وفاة والديها. لا اعلم لماذا ولكنهم يقولون ان ما تمر به هو صدمة نتيجة موت والديها ولكني لا استطيع فهم هذا الشيء، فهناك الكثير من الاطفال فقدو والديهم ولكن لم تكن حالتهم هكذا. انا اظن ان هذه الطفلة هي مجنونة من الاساس؛ فها هي ذا تقف في وسط الحديقة من دون حركة تنظر امامها الى ال لا شيء...
كنت اراقبها بصمت من فوق صفحات كتابي. اتى سامي ذو ال 7 سنوات ابن عمي رامز ودفعها بقوة فسقطت ارضاً ثم قامت بهدوء واكملت تحديقها الى الامام دون ان تلتفت اليه. دفعني هذا الشيء للاستغراب ولكنه دفع سامي للضحك. انضم اليه بعد ثواني باقي الاحفاد ليتنمروا عليها، عدا ديما بالتأكيد التي كانت تستنكر اشياء كهذه، ربما كانت هي الطفلة الوحيدة من بين الاطفال التي تشفق عليها.
كوَن الاحفاد حلقة حول علياء وجعلوا يدورون حولها ويشتموها أو يدفعوها. بدأت تضطرب وتنزعج. تارة ترفع كتفيها كرد فعل طبيعي يقوم به جسدها وهي ترى يد احدهم تمتد لتضربها وتارة اخرى تخفي وجهها تحت يديها او تغلق أذنيها وهي تبكي وتصرخ بهم تحاول ابعادهم. ولكن كلما صرخت كلما ضحكوا اكثر وارتفعت اصواتهم اكثر.
وانا ارقب بصمت دون ان ابالي بالأمر او اهبّ لمساعدتها. اراقب ببرود. وبشعور غريب بداخلي لا اعرف بالضبط ما هو؟
شعور يدفعني ان ابقى جالساً وصامتاً لا امنعهم مما يفعلوه وغير مباليا بما يفعلوه. ولكنه في الوقت ذاته يمنعني من انزال بصري نحو كتابي لأكمل درسي مجدداً ان كنت بالفعل غير مهتم بضربها.
جلست علياء القرفصاء كما تفعل دائما عندما تخاف او تبكي واحتضنت ركبتيها بقوة الى صدرها وخبأت رأسها بينهما وهي تغلق اذنيها بيديها وبدأت بالصراخ بينما اصوات الاطفال تعلو بالشتائم وايديهم تتطاول عليها بالضرب وتلويث رأسها بالطين. كانت تبكي بقوة وتحاول ضم شفتيها لتنطق كلمة ماما ولكن صوتها لم يخرج!
رفعت يديها الصغيرتين لتحمي جسدها الضئيل من ضربهم ولكنها كانت ضعيفة جداً لمواجهتهم.
وانا؟ انا الاحمق كنت لا ازال اراقب فحسب دون ان افعل اي شيء، رأيتها بين تارة واخرى تدير بصرها في الارجاء منتظرة ظهور اي احد لينقدها. او ربما هي كانت تنتظر احد والديها فالوالدين هم اول شخصين يفكر بهما الطفل في حالات كهذه. واخيراً نقلت بصرها فورا خلفها عندما سمعنا انفتاح باب المنزل الداخلي.
هرب الاطفال مسرعين كي لا يتعرضوا للتوبيخ اذ كان من سيخرج هو جدي او عمتي سمية او حتى زوجها كمال؛ فعدا هؤلاء الثلاثة لم يكن احد يبالي او يعترض على امر ضربها ان شاهدوهم؛ ولكن من خرج لم يكن احد هؤلاء الثلاثة. كانت زوجة عمي حسام ندى.
اول ما خرجت ورأت منظر علياء الباكية والملوثة بالطين سارعت الخطى اليها؛ رفعت علياء يديها كرد فعل طبيعي من طفلة وكأنها تستنجد بها وتطالبها بحملها كي تبعدها عن الاذى كما يفعل الاطفال في حالات كهذه؛ ولكن ندى لم تكن مشفقة لبكائها بل قامت بلوي اذنها بقسوة وهتفت بها بغيظ:
- لماذا لوثتِ نفسك بالطين؟ ألم ترتبكِ سمية قبل قليل؟
ثم بدأت بأسماعها وابل من الشتائم:.
- ايتها الطفلة الغبية المهملة ؛ايتها الخرساء المجنونة! ماذا سنترجى من ابنة السائق؟
ثم انهت كلامها بصفعة على خد الصغيرة وهي تقول:
- ادخلي فوراً لتغتسلي؛ هيا بدل ان يراك جدكِ ويتهمنا بالتقصير.
لم يكن هذا ما فاجئني؛ فمنذ قدوم الطفلة وانا معتاد على رؤية قسوتهم معها؛ بل ما فاجئني ان هذه الصغيرة ادارت عينيها الدامعتين باتجاهي لتلتقي ابصارنا بشكل مباشر لأول مرة منذ قدومها وقوست شفتاها ببؤس وكأنها تلومني. وكأنها كانت تدرك طوال الوقت مراقبتي لها ولم اتدخل؛ أتلومني على هذا؟ لأنني لم اساعدها؟ لم ادافع عنها؟ لم اخبر الخالة ندى بما حصل بالضبط؟ ماذا سيفرق ان عرفت؟! كانت ستضربها بكل الاحوال!
إذاً لما نظرات الاستغاثة هذه باتجاهي؟ منذ متى دافعت عنها لتلومني الان لأني لم افعل؟ انا لا اطيقها. لا اريد وجودها. ولا ابالي بها انها غريبة الاطوار ولا تعجبني ابداً. فلتلومني كما تشاء.
عدت لمطالعة كتابي بينما الخالة ندى تسحب الصغيرة بقسوة من يدها لتدخلها نحو المنزل.
استغرقت داخل سطور الكتاب مجدداً وتناسيت ما يدور وما دار من حولي ونسيت امر الصغيرة بعض الشيء. ولكن فجأة شعرت بحركة فوق الطاولة التي انثر عليها كتبي واوراقي لأدرس. رفعت بصري وتفاجأت بعلياء تقف على اطراف اصابعها وترفع قدماها قليلًا عن الارض كي تتمكن من رؤية ما موجود فوق الطاولة ومدت يدها لتلتقط احد اقلام الرصاص خاصتي.
كانت قد غيرت ملابسها وغسلت الطين عنها. توقفت يدها في منتصف الطريق عندما شاهدتني احدق فيها بملامح خالية من اي تعبير؛ شحب وجهها فجأة وظنت اني سأضربها كما يفعل الجميع معها؛ ولكني لم افعل ولا تسألوني لماذا؟ فشجعها هذا ان تمد يدها اكثر باتجاه القلم لتأخذه وانا احدق فيها. وقع بصري فوق خدها الذي لايزال متوهجاً من صفعة الخالة ندى قبل قليل؛ شعرت بقلبي ينقبض فجأة لمنظرها هذا دون ان اعرف السبب. لأول مرة احس بالألم الذي تعانيه كونها يتيمة. وبالذلة التي تعيشها مع الاسف وسط اسرتها؛ وكأنهم اصحاب فضل كبير عليها كونهم سمحو لها البقاء هنا وليس وكأن هذا من حقها؛ ربما كانت شفقتي هي السبب في صمتي وانا اراقبها تعبث بأدواتي من دون ان اعترض كما افعل مع بقية الاحفاد لو تجرأ احدهم وازعجني اثناء دراستي او عبث بأدواتي.
كدت ان امد يدي لأمسح برفق على مكان الضربة الذي لايزال يؤلمها. ولكني لم افعل!
بقيت احدق بعينيها الزرقاوين البريئة وهي تحدق في القلم بعمق؛ شيء ما مميز بعينيها اتمنى حقاً لو انكم تروه؛ شيء يجعلكم تودون الاستمرار بالتحديق لأطول فترة ممكنة كما افعل انا الان تماماً. لولا ان انتشلني من خيالي مشاهدتها وهي تسحب الكرسي المقابل لي وتجلس عليه ثم اخذت ورقة فارغة من دفتري وبدأت بالرسم وكتابة عبارات غير مفهومة.
يا لوقاحتها وجرأتها! ألم تخف ان اضربها كما يفعل الباقون؟ لوكان احد الاطفال غيري جالس هنا ما كانت لتتجرأ وتجلس معه او تعبث بأدواته. فلما هي مطمئنة لي هكذا من انني لن أؤذيها؟ طفلة حمقاء بالفعل.
وبعد هذه الافكار والاحاديث الباطنية التي خضتها مع نفسي أنزلت بصري من جديد نحو سطور كتابي دون ان اهتم كثيراً لأمرها وتركتها تلعب بأدواتي فلم ارى ضرراً من ذلك. ولكن بصري كان يخونني بين لحظة واخرى ويرتفع باتجاهها وكأنه يطمئن انها لاتزال جالسة وبخير. حاولت قدر المستطاع منع نفسي من هذه الشفقة التي بدأت تنساب الى قلبي باتجاهها، فأنا سأصبح يوماً ما المسؤول عن هذه الاسرة كوني اكبر الاحفاد ولا اريد ان انحاز لهذه الطفلة فأصبح مكروهاً من بقية الافراد، لذلك احاول قدر الامكان ان ابقى بعيداً عنها؛ ولهذا كلما انسابت بعض الشفقة حاولت طردها؛ كلما تأسيت لحالة اليتم والخرس والقسوة التي تمر بها هذه الطفلة كلما سارعت لطرد هذه الافكار عن رأسي؛ فأنا سأصبح السيد الموقر؛ وهي ستبقى اليتيمة المنبوذة.
مرت دقائق عديدة والصغيرة تنزل رأسها داخل الورقة دون ان ترفعها؛ ثم فجأة بدأ صوت انفاسها يعلو كمن تستعد للبكاء وعصرت القلم بقوة بين يديها وبدأت بتحريكه بشكل عشوائي فوق الورقة لترسم خطوط مبعثرة وكثيرة فوق رسمتها وكأنها تحاول محوها او تمزيقها؛ حالة اخرى من حالات الهيسترية التي تجتاحها فتوترني؛ حدقت فيها باستياء واستغراب الى ان نفذ صبري فهتفت بها بعنف:
- كفي عن ذلك!
رفعت وجهها نحوي بملامح باهتة ووقعت بعض الماسات من عينيها في الحال جعلتني اصمت فوراً. كانت تبدو كالمذهولة لأني صرخت في وجهها فأنزلت رأسها بإحباط وخيبة امل لم افهمها ثم رفعت رأسها بقوة ورمت القلم بعنف فوق الطاولة وركضت بعيداً!
بقيت جالسا في مكاني فاغراً فمي بدهشة. أهي جادة؟!
لما تتعامل معي هذه الطفلة كما لوكنت لطيف معها؟ او المسؤول عنها؟! فأنا لست كذلك على الاطلاق، لا اريد ان اكون كذلك؛ لا اريد. لا احبها. لا اطيقها. انها مزعجة. يا ليتهم يطردوها؛ يا ليتها تعود من حيث اتت. لن اكون لطيفاً معها. لن اكون. لن اكون لطيف.
بقيت اردد هذه الجملة حتى بعد ان استلقيت فوق فراشي في المساء وبدأت جفوني تنسدلان شيئا فشيئا لًتسحباني بعيدا عن واقع علياء المزعج الى واقع احلامي المريح. بدأت عضلات جسدي ترتخي ورأسي يتثاقل اكثر فأكثر. بدأت اهلوس. اتوهم. امزج ما بين الحلم والواقع. واخيراً اغمضت عيناي وبدأت استسلم للنوم...
ولكن فجأة انتعشت كل خلية بجسدي وتنشطت. انفرجت عيناي بقوة وتنبهت كل حواسي، هناك طرقات خفيفة على باب غرفتي، من هو المزعج المستيقظ الى هذا الوقت من الليل ويصحيني من نومي؟!
قمت بغيظ لأفتح الباب؛ ان كان الطارق من البالغين فسأكتفي بالتذمر فقط؛ وان كان احد الاحفاد فأني سأعاقبه بشدة.
فتحت الباب بانزعاج ولكن في الحال ارتخت عضلات وجهي المتقلصة من الغضب وانفتح جبيني المقتضب وتباعد حاجبي المتعانقين. انها علياء. لحظة. علياء؟! ما الذي تفعله هنا؟!
كانت عينيها تلمع تعلن انذار هطول الامطار؛ وشفتيها مقوستان للأسفل ببؤس؛ اردت من صوتي ان يخرج غاضباً وجافاً عندما احدثها؛ ولكنه مع الاسف خرج هادئاً وناعساً وانا اسألها:
- ماذا تريدين يا علياء؟!
رفعت يدها دون ان تنزل انظارها من انظاري واشارت بسبابتها جهة اليمين. مددت رأسي في الممر فلم اجد شيئاً؛ لقد كان خالي وهادئ. فعدت ببصري اليها وانا أسألها باستغراب:
- ماذا؟!
فلم تلمح لشيء وبقيت تشير فحسب؛ زفرت بضيق وقلت:
- اذهبي لتوقظي العمة سمية. لا شأن لي بكِ.
أليس كذلك؟ ألا توافقون الرأي؟ ما علاقتي انا بها؟!
هممت بأغلاق الباب ولكني توقفت في اخر لحظة. لقد كانت لاتزال تقف ببساطة هناك تنتظر خروجي. وكأنها كانت واثقة تماماً من انني سأخرج معها؛ ولكن صدقوني هذا الفتاة ترى المستقبل، لأني قد خرجت معها بالفعل!
تنهدت بقلة حيلة وعدت لفتح الباب مجدداً وانا اقول:
- أرني!
سارت من فورها بخطواتها الطفولية الناعمة وانا اتبعها بخطواتي المتململة الناعسة حتى وصلنا الى غرفتها التي لا تفصلها عن غرفتي سوى غرفة واحدة. لقد كان بابها مفتوح فوقفت علياء عنده والتفتت نحوي بنظرات مرعوبة وخائفة واشارت بأصبعها المرتجف نحو نافذة غرفتها المفتوحة؛ فقلت بتضايق واستغراب:
- ماذا؟! أتريدين ان اغلقها؟!
فأومأت ب نعم ؛.
لقد كان قفل النافذة عالي نسبياً لا تستطيع بجسمها الضئيل ان تدركه لذلك كانت بحاجة لشخص اطول منها؛
كان هناك اكثر من 10 اشخاص اطول مني في هذا المنزل ولكن هذه المزعجة لم تختر سواي؛ دخلت الى الغرفة وانا اتذمر قائلًا:
- ألا يمكنك ان تنامي والنافذة مفتوحة؟ حتى ان هذا صحي لهواء غرفة نقي؛ أكان يجب ان تزعجيني وتوقظيني من نومي؟!
اغلقت لها النافذة وعدت لألتفت اليها؛ جذبت نظري لأول مرة قلادة كانت ترتديها برقبتها؛ لم استطيع رؤية شكل الميدالية لأنها كانت دائما ترتديها وتخفي الميدالية تحت ثيابها؛ واما الان فقد اخرجتها من تحت ملابسها ورفعت يديها امام صدرها وشابكت اصابعها ببعضهم والميدالية بين كفيها المتعانقين؛ كان لدي فضول شديد لأعرف شكل القلادة فمن منظر الصغيرة كانت كالخائفة تلتاذ بها لتطلب بعض الامان كما يعانق المسيحيون صلبانهم؛ ولكني لم ادقق كثيرا في الامر في لحظتها فقد كنت شديد النعاس فقررت العودة نحو فراشي؛ و يا ليتني دققت في لحظتها ولم اتجاهل الامر؛ يا ليتني عرفت ما تحوي تلك القلادة في يومها!
سرت في الممر عائداً من حيث اتيت حتى وصلت نحو باب غرفتي والقيت نظرة عابرة خلفي فوجدتها لاتزال تقف حيث تركتها ؛استغربت؛ ولكني لم ابالي. لتفعل ما تشاء.
عاد جسدي ليسترخي من جديد على سريري وعاد الخدر ليدب في اوصالي مرة اخرى؛ ولكن قبل ان يكون هناك اي مجال لأحظى بالنوم سمعت الطرقات ذاتها فوق بابي!
سحبت الوسادة من تحت رأسي بعنف وضربتها في الارض بغيظ وذهبت مسرعاً نحو الباب وانا انوي توبيخها او حتى ضربها. ولكن لا اعلم لما اضعف فجأة عندما اراها. وارى تلك العيون الخائفة:
- ماذا بعد؟
سألتها بعصبية فأشارت إلى الى الجهة ذاتها فزفرت بضيق وقلت:
- ألم اغلقها لكِ؟
فلم تنزل اصبعها فتنهدت وعرفت انه لا حل اخر سوى ان اتبعها لأحظى بنوم هانئ!
سارت وسرت خلفها مرة اخرى الى ان وصلنا الى احدى نوافذ الممر المفتوحة واشارت إلى ان اغلقها؛ ما مشكلة هذه الصغيرة مع النوافذ المفتوحة؟! نظرت نحوها باستياء وانا اقول:
- انها ليست في غرفتك فما شأنك بها؟
وبالطبع العنيدة لم تنزل اصبعها. وبالطبع الاحمق قد أطاع امرها. فأغلقت النافذة والتفت اليها وانا الوح بأصبعي نحوها مهدداً:
- ان ايقظتني مرة اخرى فأني سأضربك يا علياء.
ولكن لم يظهر أياً من ملامح الخوف على وجهها من تهديدي بل وكانت تستمع إلى كما لوكنت اقدم لها نصيحة، ألا تخاف هذه الحمقاء مني؟ انها تخاف من ظلها في هذا المنزل فلما انا الوحيد الذي لا تخاف منه؟
كززت على اسناني بغيظ وذهبت نحو غرفتي. لم انم، ولم ادع مجالًا لعضلاتي ان تسترخي وانا متأكد انها ستتنشط بعد دقائق. فتلك العنيدة بقيت واقفة في مكانها ولم تعد نحو غرفتها. هذا يعني انها ستبحث عن نافذة اخرى مفتوحة!
لم تمضي سوى خمس دقائق اخرى وسمعت الطرقات مرة اخرى فوق بابي؛ قفزت من فوق فراشي فوراً وتكاد قدماي تطبع اثرها فوق الارض من شدة غضبي وخرجت اليها منتفضاً وانا انوي ان انفذ تهديدي؛ فتحت الباب بقوة ورفعت يدي فوراً انوي ضربها وانا اقول:
- ألم اقل لكِ ان لا تأتي؟!
ولكن يدي بقت معلقة في الهواء وانا احدق بعينيها الخالية من اي خوف من يدي التي تهدد بضربها بل ورفعت اصبعها مجدداً تشير لي باتجاه اخر هذه المرة!
يا إلهي انها بالفعل لا تخاف مني؟!
سارت خطوتين واشارت لي ان اتبعها فأنزلت يدي المرفوعة والتي لا اجد لها اي فائدة مع هذه الطفلة واغلقت شفتي المذهولة وعقلي لايزال لا يستوعب ما الذي يحصل بالضبط؟ وما هذا التناقض الذي يربطني بها؟!
تبعتها على مضض فأنزلتني الى الطابق الاول من المنزل، حتى في الطابق الاول يا علياء؟! هذه الفتاة بالفعل لديها مشكلة غريبة مع النوافذ المفتوحة!
اغلقت النافذة ولكني لم اعد هذه المرة نحو غرفتي بل اخذتها وقمت بجولة تفتيشية على جميع نوافذ المنزل الكثيرة حتى اتأكد واجعلها تتأكد ايضاً انه لا توجد نافذة اخرى مفتوحة لارتاح واحظى بالنوم اخيراً.
استمرت الجولة مدة 15 دقيقة ثم اعدتها اخيراً نحو غرفتها وتأكدت من نومها في السرير وخرجت. عدت نحو غرفتي منهكاً نحو سريري حتى اني نسيت الوسادة فوق الارض ونمت من فوري من دونها.
وبالطبع هذه لم تكن اخر ليلة. ففي كل ليلة قبل نومي اخذ العنيدة علياء واجعلها تتأكد ان جميع نوافذ المنزل مغلقة كي تجعلني انام بسلام.
مرت الايام ومن دون ادراك مني وجدت نفسي اراقب علياء واطمئن عليها بين لحظة واخرى؛ لا اعرف ما الجدوى من الاطمئنان عليها فأنا عندما كنت اجدهم يؤذوها لم اكن ادافع عنها؛ كنت اراقب ببرود؛ وبذات الشعور الغريب الذي بداخلي والذي لم اكن اعرف تفسيره؛ أهو عدم مبالاة ام هو مبالاة شديدة؟
كانت اختي الصغيرة ديما هي الطفلة الوحيدة التي تستلطف علياء وتحب في اوقات كثيرة الجلوس معها او مشاركتها اللعب على الرغم ان علياء لم تكن تلعب وكانت تجلس تراقب ديما بصمت ولا تشاركها اي شيء. بالطبع انا الوحيد الذي كانت تشاركه اقلامه واوراقه لتتسلى بهم وترسم واخيراً تقوم بتخريب ما رسمته؛ بالبداية كنت ازجرها ولكن في الآونة الاخيرة لم اعد افعل لأنها تفعل هذا في كل مرة فما الفائدة من زجرها في كل مرة؟
كنت ذات مرة خارج من باب المنزل نحو الحديقة فسمعت صرخة ديما؛ ديما كانت مدللتي الصغيرة ولم اكن اسمح لأحد بمس شعرة منها حتى امي وابي لم اكن اسمح لهما بتوبيخها وادافع دوما عنها واتحمل انا مسؤولية اخطائها كي لا تتعرض للتأنيب واحقق لها كل ما تريده حتى في احيان كثيرة كنت اترك دروسي لألعب معها ان ارادت فهي لم تكن تحب ان تلعب مع بقية الاحفاد ؛سوى مع علياء بالطبع التي لا تحب ان تلعب.
ركضت فور سماعي لصرختها؛ لمحتها من بعيد تقف مع علياء وكانت علياء تسحبها بعنف من يدها وكأنهما تتخاصمان على لعبة ما؛ هتفت بها من بعيد بأعلى صوتي فتركت ديما فوراً ونظرت نحوي بذات الذهول الذي تنظر به عندما ازجرها؛ ولكنها لم تتراجع هذه المرة بل عادت لتسحب ديما من يدها بعنف. استشطت غضباً وودت قتل علياء في وقتها. وكم كنت احمق ومتسرع!
وصلت اليهما ومن دون ان افهم الامر قمت بدفع علياء بقسوة عن ديما وعيناي تلهبان شرراً وانا اشاهدها تمسك يد اختي المدللة بهذه الطريقة؛ وقعت علياء فوق الارض اثر دفعي لها فلم يكفيني هذا بل زجرتها بأعلى ما املكه من صوت:
- كيف تجرؤين على اذيتها ايتها الغبية الخرساء؟!
ارتجفت شفتاها وتقوست للأسفل وهي تطالعني ببؤس وخيبة امل وانا انظر لها بذلك الغضب والقسوة. قامت من مكانها وهي تطأطأ رأسها نحو الاسفل وتبكي بصمت منتظرة مني ان اكمل توبيخي؛ فلم ابخل عليها بذلك. رغم محاولات ديما العديدة لإسكاتي عن طريق جذب يدي ألا اني لم اسكت؛ واستمررت بأسقاط وابل من الشتائم وجم غضبي فوق هذه اليتيمة؛ واخيراً ختمت كلامي وانا اسألها:
- لما كنت تدفعيها بذلك الشكل؟!
رفعت اصبعها ببطء فلاحظت مدى ارتجاف يدها وهي تحاول بشدة كتم شهيقها من وسط دموعها واشارت الى يد ديما وهي تحدق بي بنظرات احباط؛ ادرت بصري نحو ديما وانزلته نحو يدها؛ ويا ليتني لم افعل!
شعرت بسكين تنغرس في صدري فجأة تلعن غبائي وحماقتي لتنتزع قلبي وترميه ارضاً؛ فمن هم مثلي لا يستحقون وجود قلب بالفعل. سمعت همسة ديما الخافتة وهي تحاول تبرير خطأها:
- انا اريد رؤيتها فحسب اخي؛ لقد سقطت منها.
أتدرون ما كانت؟ كانت قلادة علياء العزيزة التي ترفض ان يراها او يلمسها احد؛ ولكن ليس هذا ماقتلني؛ف هل تدرون ماذا كانت تحتوي؟ ؛ كانت تحتوي ميدالية بداخلها صورة لوالديها رحمهما لله؛ صورٍة جعلتني اشعر بحقارتي وعدم اختلافي بشيء عن البقية!
سحبت القلادة بصدمة من يد ديما وتطلعت قليلاً في الصورة وانا استمع لنحيب علياء المكتوم؛ ادرت بصري نحوها فوجدتها تنظر نحوي بخيبة الامل ذاتها؛ قدمت لها القلادة بندم وقد عجز لساني عن نطق اي حرف وكأني لست الشخص ذاته الذي اسمعها اقسى الكلام قبل قليل؛ اصبحت اخرس فجأة لا افرق عنها بشيء؛ اخذت القلادة من يدي بعنف وركضت؛ خرجت عمتي سمية في الوقت ذاته من المنزل فرمت علياء بنفسها في حجرها عندها فقط ارتفع صوت صراخها المكتوم وازداد شهيقها وبكائها. مسحت عمتي برفق فوق شعرها وهي تقول بقلق:.
- ما الامر صغيرتي؟ ما بكِ؟!
استمرت علياء بالنحيب دون ان ترفع رأسها وهي تتمسك اكثر بثوب العمة تشدها اليها وكأنها تخاف تركها؛ فنظرت عمتي نحوي تطالب بتفسير فالصغيرة ليس من عادتها ان تنهار ببكاء كهذا عندما يؤذوها بقية الاحفاد؛ ولكني لم اشرح لها اي شيء وبقيت احدق فيهما بألم وودت لواني اذهب نحوها واعتذر لها عن حماقتي واعانقها وامسح على رأسها كما تفعل العمة سمية الان؛ ولكني لم افعل. سحبت ديما بصمت من يدها ورحلت تاركاً علياء تبكي بين احضان العمة.
جلست بصمت لا شيء يسُمع مني سوى صوت زفيري الحاد الدال على استيائي وديما تجلس بجانبي لا تنطق بشيء خوفا من ردة فعلي. هدأت قليلاً فأنا لا اريد ان اصب جام غضبي على ديما ايضاً ثم التفت اليها محاولاً قدر الامكان ان احافظ على صوتي هادئا وانا اخاطبها:
- ديما. لما اخذت منها القلادة؟ ألا تعرفين ان هذا سيزعجها؟
التمعت عيناها بالدموع وعبس وجهها وهي تجيبني:.
- انا اسفة اخي لم اكن اقصد. اردت ان اراها فحسب ولكنها لم تسمح لي
- لأن هذا شيء يخصها ومادامت لم تسمح لكِ برؤيتها فلا يجوز ان تأخذيها بإجبار
فنظرت نحوي بخيبة امل علياء ذاتها وهي تلومني قائلة:
- ولكنك كنت قاسياً معها. هي لم تؤذيني.
حتى انتِ يا ديما؟! وكأن ضميري لا يمزقني بشكل كافي لتجعلي الامور اسوأ بملامتك؟
اشحت وجهي جانباً دون ان امتلك الجرأة لأعلق بشيء على كلامها.
حل المساء وانا لا ازال اتقلب في فراشي قد هرب النوم مني؛ هذه الليلة لم اسمع الطرقات الناعمة فوق باب غرفتي؛ أهي غاضبة مني لهذا الحد؟! لما عليها ان تكون كذلك؟! اغلب الافراد يؤذوها هنا؛ بل ويضربوها ايضاً؛ ولكني لم اضربها -ليس كما يفعلون على الاقل- فلما هي تنهار هكذا عندما اقسو عليها قليلاً؟! لما تشعر بهذا القدر من الطمأنينة بجواري وتصاب بخيبة الامل ان خذلتها؟! عقلي سيتوقف من شدة تفكيري بها.
نمت ليتلي تلك في انتظار الطرقات التي لم اسمعها، أيعقل انها نامت من دون ان تتفقد النوافذ وتغلقها؟ هذا مستحيل! انه امر لا يمكنها فعله ابداً. إذاً أين هي؟!
استيقظت صباحاً ولايزال هذا الامر يشغل تفكيري. ولكني وجدت جوابه. بهمس قادم من الصالة حيث عمتي سمية وزوجها كمال يجلسان هناك.
كانت عمتي تحبس انفاسها بين كفي يديها التي تحيط انفها وفمها لتنزل دموعها بهدوء فتغمض عينيها لتتخلص من تلك الحرارة التي تحرق لها جفونها؛ اوقفتني عبارة العم كمال فجأة وهو يسألها بأسي:
- ولما تخاف من فتح النوافذ بهذا الشكل؟!
وبما اني املك تاريخاً عريقاً مع نوافذ علياء المفتوحة فقد فهمت الامر في الحال. مسحت عمتي دموعها الكثيفة لتحتل اخرى مكانها وقالت وقد بح صوتها من كثرة النحيب:.
- وهذا ما جعلني اسهر لوقت طويل في الليل ومنعني من الرقاد وانا افكر به بعد ان اتت إلى لأغلق لها جميع النوافذ؛ ولم افهم الامر ألا اليوم صباحاً من ابي.
- وماذا قال لكِ؟
عادت عمتي لتحيط هذه المرة رأسها وتمرر اصابعها من بين خصلاته التي شاهدت من بينها بعض الخصلات الفضية التي بدأت تغزو شعرها البني؛ بكت بقوة اكبر هذه المرة وهي تجيب:
- اقتحموا منزلهم بهذه الطريقة يا كمال.
قطب العم كمال حاجبيه فوراً وهي يعدل من جلسته ويقول:
- من تعنين؟
رفعت رأسها اليه بقوة وهي تقول:
- ومن يكون غيرهم يا كمال؟ اولئك الاوغاد من القوات الخاصة للجيش.
ثم عادت كما كانت وهي تكمل:
- دخلوا عليهم على غفلة في الليل بعد ان كسرو النوافذ وقبضوا على عزيزتي سلوى ومازن وصغيرتي علياء ليزجو بهم في السجن؛ ليبدأ تعذيبهم ومن ثم اعدامهم.
خرجت الحروف مبعثرة من وسط صوت كمال المهزوز وهو يسألها:.
- أ أتع. أتعنين ان علياء. في ذلك السجن قد.
فأومأت عمتي ب نعم وهي تعصر عينيها بقوة وتعض شفتيها لتكتم صرختها ثم قالت:
- يبدو انها تعرضت للتعذيب ايضاً يا كمال؛ لذلك ترفض من احد لمسها او رؤية جسدها؛ منذ اول يوم اتت الينا وهي ترفض ان ادخل معها للحمام كي احممها او ان اغير لها ملابسها؛ كانت تصر ان تفعل ذلك بنفسها؛ فقلت لربما انه لا تريد من احد غير امها ان يفعل ذلك.
ثم انزلت رأسها وهي تخفيه تحت يديها وقالت من وسط الشهقات المتتالية:
- لم اكن اظن انها تريد ان تخفي شيء عني تحت ثيابها تلك؛ لذلك تبقى دوماً بعيدة عنا؛ لذلك تقوم بالصراخ فجأة ان لمسها احدنا؛ لذلك تخاف ان تبقى النافذة مفتوحة؛ تخشى ان يدخلوا عليها مرة اخرى.
- ألهذا السبب هي خرساء؟ بسبب التعذيب؟
- ربما! فنحن لا نعلم ما رأته في ذلك السجن لتصبح حالتها هكذا؛ لتمتنع عن الاختلاط بالأخرين؛ عن الابتسام؛ عن اللعب؛ وعن التكلم!
شعرت ان كياني انهار شيئاً فشيئاً مع كل كلمة وحرف تنطقه عمتي؛ مع كل صورة ينسجها لي عقلي؛ مع كل شعور اشعره وانا اضع نفسي مكانها؛ مكان تلك الصغيرة ذات الخمس سنوات؛ مكان تلك الزهرة التي اغتالها الشتاء قبل ان تجد الوقت لتتفتح وتتمتع بربيعها. ظننت ان ما مررت به كان صدمة؛ لم اكن اظن ان القادم اسوأ!
خرجت الى الحديقة بروح مسلوبة لم اعد اشعر انها موجودة في داخلي ولاتزال التخيلات تغزو عقلي من دون رحمة؛ كيف شعرت في يومها؟ هل ارتعبت؟ كيف عذبوها؟ أتخشى ان يدخلوا مرة اخرى عليها من نافذة مفتوحة ليأخذوها نحو تلك السجون؟! ما الذي مرت به في يومها من عذاب لتسبب لها النوافذ المفتوحة كل هذا الرعب؟
توقفت فجأة وانا المحها تجلس في احدى اطراف الحديقة قرب بقعة منزوع عنها العشب ورطبة مما سمح لها ان تعبث بطينها بعود خشبي صغير وترسم؛ فلم تعد تريد ورقتي واقلامي. اقتربت منها بخطوات مترددة وبقلب مقبوض؛ اخشى ان لا تتقبل ندمي واسفي الذي اقدمه قربان لمحراب غفرانها.
شعرت بحركة خلفها فالتفتت نحوي بعيون لم استطع تفسير نظراتها؛ دامعة ؛غاضبة؛ ومتألمة. كلها اجتمعت فيها؛ ولكن ليس مني. تقدمت نحوها وجلست القرفصاء كما تفعل هي ومنحتها ابتسامة لطيفة وانا اقول:
- ماذا تفعلين عزيزتي؟
أعادت نظرها نحو الطين واكملت ما تفعله دون ان توضح شيء. شاركتها التحديق برسمتها بينما تضيف بعض اللمسات الاخيرة عليه وركزت فيها جيدا؛ كانت رسمة اطفال لذلك بالتأكيد لن تكون مفهومة بسرعة. ركزت جيداً احاول استيعاب ما ترسمه؛ كان هناك خط افقي مستقيم؛ ينزل منه خطان عموديان وفي كل من هذين الخطين هناك دائرة مسحوب منها خط متفرع الى خطين صغيرين من الوسط والنهاية؛ لحظة. هذين. أهما جسدين؟! وهذه الخطوط أهي حبال؟! إذاً هذا المستقيم. أيعقل انه منصة الاعدام؟!
مع هذه الفكرة انتفض جسدي فأرتعش قلبي بخوف واتسعت عيناي بذهول فقمت مفزوعاً من مكاني ولم اشعر بشيء سوى بماء ساخن ينزل على وجنتي؛ لأول مرة ينزل من جفناي منذ سنين طويلة. هذا ما كانت تمحوه الصغيرة من الاوراق؛ هذا ما كانت تمنعني من رؤيته؛ هذا ماكنت ازجرها عليه؛ هذه الطفلة. هذه الطفلة رأت كيف يقتلون والديها؟! هل جعلوها تشاهد؟! لم يبعدوها؛ لم يبثونها الخبر لاحقاً؛ جعلوها تشاهد بعينيها؛ جعلوها تشاهد منظر ربما كان البالغين سيشيحون ابصارهم غير قادرين على مواصلة النظر اليه؛ هم جعلوها تشاهده للنهاية.
يا ايتها السماء ارحميني! الان عرفت ما معنى ان اشعر بالصدمة. رفعت الطفلة بصرها نحوي بألم؛ جعلتني اشاهد ابشع شيء؛ جعلتني ادخل نفق الرعب معها؛ اشعر بما عانته؛ ثم فوق ذلك ضربنا لها ومعاملتنا السيئة؛ استنجدت بنا؛ بي؛ بأي احد؛ ليخفيها بين احضانه؛ ليجعلها تنسى؛ لتشعر بالأمان فلم نمنحها اي شيء؛ بل واصبحنا نذكرها بمأساتها كل يوم.
من دون وعي مني وقعت على ركبتاي قربها وسحبت الصغيرة إلى وعانقتها بقوة؛ بقوة شديدة.
شعرت بدموعها على صدري وشعرت هي بدموعي فوق خصلات شعرها الناعمة. اكاد اقسم ان ضلوعها ستتكسر بين يدي من شدة ضمي لها بتلك القوة؛ ولكنها لم تتألم، ولم تبتعد، هي كانت بحاجة لهذا -بحاجة اليه بشدة- فلم ابخل عليها ابداً.