رواية عذابي الصامت للكاتبة سارة ح ش الفصل الثاني
بداية عشق
مرت السنين. ومضت الايام يوماً بعد يوم. ازددت فيها قرباً من علياء وازدادت هي قرباً مني. مع مرور الوقت ومن كثرة اختلاطها بي وبديما اصبحت علياء اكثر لطفاً واجتماعية نوعاً ما. واصبحت حالات التوتر لا تنتابها ألا نادراً؛ ولكن بالتأكيد امر النوافذ لا يزال عملي الليلي!
بهذه الطفلة شيء مميز يجذبني لمراقبتها دائماً واختيار الاماكن القريبة من مكان لعبها هي وديما كي لا يزعجهما احد؛ فبالطبع منذ بضعة سنين لم يجرأ أحد الاطفال على اذيتها بوجودي. ربما هذا هو السبب الذي يدفعها للنظر إلى بين الحين والاخر لتتأكد اني قريب فتطمئن اكثر. كذلك اصبحنا نخوض الكثير من الاحاديث مع بعضنا لأني علمتها وتعلمت معها لغة الاشارة فاصبح بإمكاني فهم ماذا يدور بأعماق رأس هذه الصغيرة بعض الشيء؛ وكم كنت اشعر بالسعادة عندما تلتجأ إلى راكضة وتسحبني من يدي لتأخذني الى احدهم وتبدأ تشير إلى بيديها الناعمتين الاشارات التي علمتها لها لتوصل إلى الفكرة فأوصلها انا للشخص الاخر؛ كان هذا يشعرني بالتميز عن الاخرين فأنا الوحيد الذي يفهم علياء؛ انا الوحيد الذي تلوذ به علياء لتتحدث؛ لتشعر ان لها وجود؛ لها حديث؛ لها صوت حتى وان كان غير مسموع!
ها قد اصبحت علياء صبية بعمر الزهور. اجمل صبية قد شاهدتها عيناي. بضفائرها الطويلة؛ وبعينيها العميقتين كالبحر وبلونه كذلك؛ بابتسامتها التي تنشط الروح في جسدي. انا قد وقعت في غرام هذه الصبية؛ هذه الطفلة التي تتعلق بي وتزيدني تعلقاً بها. ولكني لم افصح، لم اجرؤ على اخبارها. ولكنها فهمت. مثلما فهمتها انا. فأصبحت مشاعرنا مفضوحة من دون كلام.
رغم انها في 15 الان ألا انني لازالت اعاملها كما لو كانت علياء الطفلة ذات الخمس سنوات وهي تطيعني كما لوكنت، لا اعرف كما لوكنت ماذا؛ هي فقط تطيعني بطريقة عمياء؛ وعندما كان يغضبها شيء ما او تعاند احدهم كنت احدثها مثل ما احدث الاطفال وارضيها. وكم كانت عليائي سريعة الرضا بكلامي!
في احدى مرات عودتي من الجامعة شاهدتها تجلس في الصالة؛ بالطبع انا استغرق عدة ثواني اسرقهن من الوقت احدق فيها قبل ان اعلمهم بعودتي ووجودي. هذه المرة طالت الثواني؛ اكتنف الاستغراب ثنايا عقلي وانا احدق في ذلك الاهتمام والتركيز الذي تمنحه للعمة سمية. هي تحدق بشيء بين يدي العمة ثم تعدل شيء بين يديها هي. انظارها تنتقل ما بين اليدين كي تتقن ما تفعله، لحظة! هل هي تحاول ان تتعلم التطريز؟ هل كبرت اميرتي لهذا الحد فأصبحت تهتم بأمور النساء والفتيات؟ هل بدأوا يعدوها منذ الان لتصبح سيدة منزل ماهرة؟
تأوه بسيط نتيجة دخول الابرة في طرف اصبعها جعلني اكشف وجودي وانا اسرع الخطى اليها واهتف بنبرة جمعت قلق العالم بداخلها:
- أأنتِ بخير؟!
تفاجأت بوجودي واحسست بارتباكها وهي ما بين تحاول اخفاء المكونات من الابر والقماش وما بين ادراكها انه قد فات الاوان على ذلك فأنا قد اكتشفت الامر؛ ولم اعرف حينها لما قد تود اخفاء الامر ولكني احسست بذلك فحسب.
عندما اطمأننت انها بخير وانها سحبت الابرة من يدها جلست على المنضدة التي امام اريكتها وسألتها بفضول ممزوج بابتسامة:
- ماذا تفعلين؟!
اشارت بخجل:
- (أتعلم التطريز. )
أكملت العمة سمية الحوار وقد ارتسمت ابتسامة عريضة فوق محياها البشوش:
- اصرار غريب اجتاحها هذا اليوم بخصوص التطريز وهي منذ الصباح تلح على ان اعلمها ولن تدعني بسلام قبل ان اعلمها اياه باحتراف.
هززت رأسي بتعجب ممازحاً وانا ارمقها بنظراتي التي زادت من توهج بشرتها البيضاء وقلت بضحكة:
- إذاً فعليائي اصبحت سيدة منزل ماهرة!
انا اتعمد بخبث عاشق واصرار مجنون ان اناديها ب عليائي فقد ادركت انها تعشق مثلي تماماً ان اناديها هكذا. واكاد اجزم انها تعشق ذلك لنفس السبب الذي اعشقه. فهذه الكلمة البسيطة تحمل معاني وجمل اعرف انها وصلت اليها من تعابير وجهها؛ وكأنها طلسم مشفر لا يستطيع احد فك رموزه سوانا. اشعر واشُعرها معي انها ملك لي وحدي. عليائي انا فقط. حبيبتي دون غيرها!
لملمت اغراضها على استحياء وهي تنزل ابصارها الخجلة نحو الارض وهربت من عيوني نحو غرفتها. هذا ظلم يا اميرتي. سبع ساعات من الغياب ولا احصل سوى على سبع دقائق من الغوص في تلك الملامح التي احفظ كل تفاصيلها؟!
بعد رحيلها قمت لأرتاح غارقاً وسط فراشي الوثير وجسدي في حالة استرخاء تام على عكس عقلي الذي اصبح في حالة فوضى مشاعر وسعادة وتزاحم افكار وشرود بها واليها؛ منها وفيها؛ لها وعليها. عليائي!
لا انكر انه كان امراً مفرحاً في البداية وانا اراقبها تتعلم التطريز وهي تجد صعوبة بذلك واصبحت استمع كثيراً لزفرات تململها بين لحظة واخرى بجانبي وهي لا تجيد ما تفعله وتسحب الكتاب على غفلة من يدي تتذمر لي تعبها فأبتسم واخبرها ان تترك الامر لتنشغل بغيره ولكنها هذه المرة مصرة- عكس ما كانت عليه - فعزيزتي سريعة الملل وقليلة الصبر في التعلم؛ فأن استصعبت امراً ما انسحبت منه بسهولة وتركته لتنشغل بغيره؛ ولكن هذه المرة رأيت فتاة اخرى؛ رأيت عنيدة، مثابرة، مجدة!
ولكن الامر اصبح مزعجاً لي في الفترة الاخيرة. لقد كثرت عدد الخدوش في يديها بسبب انغراس الابرة فيها وتوجعت كثيرا وًآلمتها عينيها البحريتين من شدة التركيز وعانت تشنجات في الرقبة من كثرة الانحناء هذا من غير تزايد عدد تأخرها في الصباح عن المدرسة نتيجة لسهرها لوقت متأخر من الليل لتحترف التطريز بمهارة اكثر فتستيقظ بتكاسل لتجد ان الوقت تأخر فتقوم راكضة تتعثر بأبسط ما يعيق طريقها لتضاف الآم الكاحل والركبة الى مجموعة الاضرار التي تعانيها.
وها هو صباح اخر من ايام علياء الاسطورية اشاهدها تركض كطفلة بلهاء من هذا المكان لأخر ترتدي فردة جورب وتحاول لبس الاخر فيما تركض فينتهي الامر بسقوطها فترتديه قبل ان تهب مرة اخرى راكضة تربط الشريط الاسود الذي يتخلخل يافطة قميصها الابيض وصوت عمتي سمية يتبعها من هذا المكان لأخر تلومها على اهمالها بينما تضع بعض الشطائر في حقيبتها وتقوم بترتيب شعرها. وانا اقف اكتف يدي امام صدري بانتظار هذه الحمقاء التي ادللها من دون ارادة. فأنا على توصيلها بسيارتي للمدرسة عندما تتأخر وألا لن تصل بالوقت المحدد غير مباليا اًنا بمحاضراتي الجامعية وهي لن تستطيع انتظار سائق العائلة لحين عودته من توصيل الاحفاد نحو مدارسهم وبالطبع هم قد تركوها وذهبوا بسبب تأخرها.
ارمق بين ثانية واخرى ساعتي التي تنبهني لتأخري وقد بحُ صوتي من كثرة صراخي بها ان تنتبه ولا تركض بدل ان تقع للمرة الثالثة فهي تعلم مدى عصبيتي في امور كهذه، واخيرا فقدت سندريلا حذائها لا تعلم اين نزعته اخر مرة فهي ترميه بإهمال فور عودتها من المدرسة لتتوسد الاريكة وتعاود التطريز مجددا وًكأنها تقرأ قصة ممتعة تجذبها اليها حتى في اشد حالات تعبها.
تركض وترتمي بإستعجال فوق ركبتيها لتنظر تحت المنضدة ثم تحبو كالأطفال لتبحث تحت طاولة الطعام لعلها تجده والعمة سمية تبحث معها وبالطبع لم ترحمها من الملامة والتأنيب، وفي الحقيقة هي تستحق ذلك بشدة.
سرت بقلة حيلة وانا المحه تحت الاريكة وسحبته واضعا اًياه عند قدميها وانا اقول لها بملل:
- خلصيني! استعجلي فقد تأخرت.
وهنا ظهرت علياء المتمردة التي اعرفها جيداً. لبست حذائها ووقفت بجمود وهي تحدق بي بنظرات حارقة واشارت:
- (بالمناسبة، انا لم اطلب منك توصيلي)
اجابتها عمتي بتأنيب:
- هذا بدل ان تشكريه ايتها الكسولة فلولاه لاضطررت السير على اقادمك وربما ستفوتِ بداية الحصة الاولى.
رفعت حاجبها بكبرياء وسحبت حقيبتها من العمة سمية التي منحتها قبلة على وجنتيها الناعمتين وسارت قبلي من دون حتى ان تلتفت او تشير هيا بنا...
في الحقيقة رغم مرور السنين، ورغم تغير الامور بيننا، ألا انه لايزال يزعجني ثقتها العمياء بي تلك ومعرفتها التامة ان يوسف الاحمق لن يقوم او يقول اي شيء يزعجها ويغضبها، ولكن، كان امراً مزعجاً بشكل جميل. فبكل حماقة كان هذا يزيد من عشقي لها!
تبعتها ووجدتها تقف عند الباب الامامي للسيارة تكتف يديها امام صدرها وتمط شفتيها بملل وحاجبيها مقطبين. أهي جادة؟ اذ كنتم تلاحظون فأنا الذي سأتأخر عن الجامعة بسبب اهمالها. والان هي من تغضب؟ بالفعل لله في خلقه شؤون!
فتحتُ السيارة وركبت من فورها من قبل حتى ان اركب وقدت عجلة القيادة بصمت تام. لا اعلم سبب غضبها الذي يظهر فجأة احياناً ومن دون سبب وكأنها تحاول من خلاله لومي على خطأ ارتكبته بحقها؛ وهذه المخلوقة الغريبة تصبح اشد غرابة في ايام دوامي في الجامعة ثم تعود لتصبح شخص هادئ ومختلف تماما فًي ايام عطلتي وكأن شبح امرأة مجنونة يتلبسها عندما ارتاد الجامعة وتنتزعه قصراً عنها في ايام العطل. مهما عشقتها ولكن لا انكر انها غريبة بالفعل؛ يصعب على الغوص في تفكيرها لأفهمها بشكل تام.
لازال الصمت هو المسيطر على الاجواء وعليائي تكتف يديها امام صدرها وتشيح وجهها الجهة الاخرى تنظر نحو الشارع من نافذتها. آه لو تعلمون كم احب غضبها! في الحقيقة انا احب كل شيء فيها؛ فما الذي عسى عاشق مجنون مثلي ان يكرهه في حبيبته!
ثواني اخرى والتفتت نحوي بتعجب وانا اوقف السيارة لأتحدث مع احدهم. كانت زميلتي في الجامعة مريم، انزلت نافذتي وقلت بابتسامة:
- متأخرة ايضاً؟!
ضحكت وقالت:.
- اقسم ان الباص هو من تأخر.
- هل هناك عاقلة تذهب للجامعة في الباص؟ هل نحن في الثانوية؟
وضعت يديها على خصرها وقالت بمزاح:
- لسنا جميعنا احفاد ياسين يا عزيزي لنتملك سيارة خاصة او ان نستقل تاكسي فنحن نود ادخار المال.
ضحكت على تعابير وجهها وطريقتها في الكلام فلطالما كانت تمتلك القدرة على اضحاكي من صراحتها اللطيفة وتعليقاتها الممازحة.
انتبهت مريم فجأة على عيون مشتعلة كنت ادير ظهري اليها فأحنت جذعها للأمام قليلًا لتتمكن من رؤيتها بشكل كامل وقالت بابتسامة:
- مرحبا!
التفتت لأرى وجه لا اعلم من اي مصدر احضر هذا القدر من النيران ليصبغ بشرته بهذا التوهج الحارق وعيون لم ارى اقسى منها تكاد تلتهم مريم. وبالطبع قد ظلت ساكنة كالمتجمدة تحدق في وجهها فشعرت بالأحراج من غرابتها اليوم وقلت متلافي ردة فعلها:
- مريم. هذه ابنة عمتي علياء.
ثم التفت نحوها وقلت لعلي اسحبها من الجحيم الذي طوقت نفسها به:
- علياء. هذه زميلتي في الجامعة الانسة مريم.
غريبة الاطوار بقت ساكنة ايضاً ومن دون حركة او ابتسامة وكأنها تتقصد احراجي امام زميلتي ثم رمقتني بنظرة جانبية حادة قد منحت مثلها لمريم وبعدها اعادت وجهها للجهة الاخرى وكأن شيئا لًم يكن، هكذا ببساطة!
انتشلني من التحديق فيها بذهول صوت مريم المتفاجئ:
- اوه. علياء! تذكرتها. أليست.
التفتت اليها فوراً جاحظاً بعيناي احاول تنبيهها فصمتت فوراً وهي تبتسم لي ابتسامة ذات مغزى، فهذه الحمقاء مريم كثيرة الكلام وقد يزل لسانها لتكمل الجملة. فهي تعرف ما أكنه من مشاعر لعلياء بعد ان سألتني كثيراً عن سبب عدم جذب نظري اي واحدة في الجامعة رغم محاولاتهن الكثيرة لنيل انتباهي واخيراً ومن دون ان افهم كيف؟ ولماذا؟ وجدت نفسي ابوح لها ولزميلي الاخر وائل بأمر عشقي وغرامي لأبنة عمتي الصغيرة البكماء التي لم يتخلل احد عقلي غيرها.
مططت شفتي احاول كتم ابتسامي وقلت:
- انتظريني هنا لن اتأخر؛ سأذهب لأوصل علياء الى مدرستها واعود لأصحبك معي بدل وقوفك هنا فنحن قد تأخرنا بما فيه الكفاية عن الجامعة.
فجأة شعرت بنسيم غاضب هب نحوي من التفاتة رأس علياء السريعة إلى وجحوظ عينيها باتجاهي ثم لم اشعر ألا بنزولها وهي تغلق الباب بقوة. نظرت نحوها ببلاهة وهي تبتعد عن السيارة وتسير بخطوات غاضبة. نزلت من بعدها بسرعة وانا اهتف خلفها دون ان تجيب فسرت مسرعاً وامسكتها من مرفقها وادرتها نحوي فسحبت يدها بقوة ونفور وهي تحدق بي بغضب فهتفت بها بانفعال:
- الى اين تظنين نفسكِ ذاهبة؟!
اشارت بغضب:
- (الى المدرسة. ).
- وماذا افعل انا؟! اخذك الى السوق مثلاً؟ ألسنا ذاهبين الى المدرسة؟
اشارت وصوت انفاسها يرتفع وانا واثق لو وضعت عود ثقاب بجانبها لأشتعل من نيرانها:
(لا داعي! أذهب لتوصل زميلتك فهذا اهم، فلا يجوز ان تتأخر عليها).
ثم تركتني وسارت فهرولت مجدداً خلفها وامسكتها من يدها ولكنها سحبت يدها بغضب من دون ان تستدير واكملت سيرها فسحبتها مجدداً بقوة اجبرها على النظر إلى ولكنها دفعتني من صدري بقوة اكبر ورأيت بعض الدموع تتراكم داخل عينيها لا اعرف سببهن مما اخرسني فوراً لا املك القدرة ان اعلق بشيء ما فأشارت لي بذات غضبها:
- (اخبرتك ان تذهب فأنا لن اركب معك مهما فعلت ولن تجبرني على غير ذلك).
وسارت مجدداً وقبل ان اركض خلفها لمرة اخرى كنا قد ابتعدنا مسافة عن السيارة فسمعت صوت هتاف مريم يناديني:
- يوسف. أستترك السيارة هكذا مفتوحة في وسط الشارع؟
التفتت بحيرة ما بين مريم الواقفة قرب سيارتي التي قد يلاحظها شرطي المرور ويقوم بمحاسبتي وما بين علياء التي تكاد تزلزل الارض من تحتها من شدة غضبها. مررت يدي من بين خصلات شعري بحيرة وشددت عليهن بقسوة وتفكيري يكاد ينفجر من هذه العلياء. عدت بقلة حيلة نحو السيارة وركبت مريم بجانبي لننطلق نحو الجامعة.
لاحظت مريم مدى استيائي وغضبي الذي ينعكس بوضوح في سرعتي الجنونية وانا اقبض على المقود بكلتا يدي اكاد انتزعه من مكانه ففضلت الصمت في الوقت الحالي. صمتها ذاته قد اكتنفن طوال الطريق وطوال اليوم. لم اركز بشيء سوى بتلك العنيدة وردة فعلها الغريبة. بالطبع لم افهم اي شيء من المحاضرات وكل ما كان يشغلني هو مراقبة الوقت لأتمكن من الخروج في الوقت المناسب والذهاب اليها للمدرسة واصطحابها بنفسي قبل عودتها مع السائق.
وبالطبع من غبائي واستعجالي وصلت قبل موعد خروجها من المدرسة بنصف ساعة. لم يكن تضايقي وغضبي يسمح لي بالصبر والانتظار بالسيارة فنزلت نحو المدرسة اود أن استإذاً المديرة من اجل اخراجها مبكراً ففاجأتني استاذتها هناك بإصرارها على التحدث الي.
جلست السيدة نرمين استاذة علياء خلف مكتبها تستند بمرفقيها عليه وتحدق بي بتردد من خلف نظاراتها الطبية فبادرتها انا بالسؤال لأستعجلها بالحديث الذي تريد خوضه:.
- أهناك مشكلة بخصوص علياء سيدتي؟!
اجابتني بحزم:
- اجل في الحقيقة.
ثم اكملت قبل ان استفسر:
- سيد يوسف. نظراً لسلوك علياء الجيد ومستوى درجاتها العالية فنحن قد رضينا على استقبالها في المدرسة. فكما تعلم نحن لا نستقبل الطلاب ذوي الاحتياجات الخاصة فهم لديهم مدارس مؤسسة خصيصاً لهم.
كلمة ذوي الاحتياجات قد استفزتني رغم حقيقتها وودت لو انقض على تلك ال نرمين بلكمة متناسياً انها امرأة. فأنا لا اريد من احد ان يطلق هذه العبارة عليها. فهذا يشعرني وكأنهم يقللون من شأنها.
عدلت من وضعية نطارتها الطبية بإحراج بعد ان شاهدت تجهم وجهي وزفيري الحاد الذي اطلقته:.
- بالطبع انا لا اقصد التقليل من شأنها او ما شابه ولكن هذا هو الواقع سيد يوسف. انها حالة نادرة وافقنا على استقبالها بسبب ذكائها ومستواها الدراسي الممتاز.
فأجبت باقتضاب:
- إذاً ما المشكلة؟!
- التطريز.
- انفتح جبيني المقتضب ببلاهة وقلت باستغراب:
- عفواً؟
- في الفترة الايام الاخيرة لاحظنا تراجع ملحوظ في مستواها الدراسي ولأكثر من مرة نكتشف انها تقوم بالتطريز اثناء الدرس وفي احدى المرات نامت اثناء الدرس وعندما وجهنا انذار اليها وسألنها عن السبب قالت لنا انها تفتقر الى النوم لأنها تسهر مطولاً تحاول تعلم التطريز. كانت صريحة بشكل مثير للأعجاب. ولكن غريب ايضاً.
رفعت كلا يدي حوطت بهما وجهي متأففاً فقد تجاوز الامر حده فعلًا مع تلك العلياء، لم اعلم بماذا اجيب السيدة نرمين سوى باعتذارات وواعدًا اياها ان الامر لن يتكرر مجدداً وطلبت اليها استدعاء علياء. بالطبع علياء قد تفاجأت بحضوري وتفاجأت اكثر عندما شاهدت كل ذلك الاستياء المرسوم على وجهي.
جلست بهدوء في السيارة في المقعد المجاور لي وانطلقت بأقصى سرعة مما جعلها تحتضن حقيبتها اكثر الى صدرها بشكل لا ارادي.
من دون اي مقدمات او استجواب هتفت بها بأعلى صوتي وملوحاً بيميني بتهديد وقابضاً بيساري على المقود بقوة:
- ستعودين الان وستتخلصين من كل ادوات التطريز. هل فهمت؟
التفتت إلى بتفاجئ ممزوج باستنكار ورفعت يديها لتشير لي بشيء ما ولكني قاطعت حديثها الصامت بنبرة اعلى واشد غضب:.
- لا اريد اي اعتراض. لا اريد رؤيتك تطرزين مجددا، وثانياً ما الذي يجذبك بالتطريز لهذا الحد لتهملي دراستك وتؤذين نفسك بهذا الشكل؟ اي شيء يعجبك بهذه السخافة؟
هذه المرة اميرتي انزلت يديها ولم تشر بشيء ولكنها بقيت تحدق نحوي بخيبة امل وتقوست شفتيها المرتجفتين نحو الاسفل تنذر بصواعق رعدية وامطار غزيرة فأكملت انا بغضبي ذاته:
- لقد حذرتك يا علياء. ان شاهدتك تمسكين ابرة وخيط مجدداً فلن ارحمكِ برد فعلي.
كتفت يديها امام صدرها وادارت وجهها نحو يمينها لتحدق من نافذتها وتبكي بصمت؛ امر لا يمكنني ابداً احتماله فهتفت بها مجدداً:
- توقفي عن البكاء حالاً!
ولكن شهيقها الصامت ودموعها الغزيرة قد ازدادوا. ضربت المقود بقوة ومررت اصابعي بغضب من بين خصلات شعري القصيرة ومن ثم مروراً على وجهي وبعدها اوقفت السيارة فجأة من قبل حتى ان نصل للمنزل والتفت اليها اريد محادثتها؛ ولكنها لم تسمح لي؛ فتحت الباب وكادت ان تنزل ولكني امسكتها من معصمها فحاولت التملص من يدي وازاحتها بيدها الاخرى فأمسكتها من كلا معصميها وادرتها الي.
استدارت بجسدها ولكنها اشاحت بصرها الباكي جانباً. قلت بنبرة هادئة وعطوفة:
- عليائي. انظري الي.
كلمة كنت اعرف انها ستضعفها؛ ولكنها لم تضعف كثيراً؛ نعم هي قد نظرت إلى ولكن نظرت بحدة؛ وبلوم ؛ وهي محقة في الحقيقة فأنا قد بالغت بغضبي ؛ ولكن غضبي كان من خوفي وحرصي عليها فحسب. أتراها فهمت هذا؟
قتلتني تلك الدموع التي تجري وهي تنظر بعيني. يا ليتني لم اطلب منها ان تنظر؛ و يا ليتني لم احضر لاصطحابها؛ ولم اجرحها هكذا. تنهدت بألم وقلت لها بندم وانا لا ازال اتمسك بمعصميها ارفض افلاتها من بين يدي:
- انا اسف. سامحيني.
حاولت التملص مجدداً والنزول فشددت قبضتي اكثر وانا اقول:.
- انا قلق عليكِ عليائي. امر التطريز هذا يضرك اكثر مما ينفعك؛ انت تسهرين؛ ومستواكِ الدراسي يتراجع بالإضافة الى الالام التي تعانيها. ما الذي يجبرك على كل هذا؟!
حدقت بعيني بحدة؛ ولكن بجمود. انها ترفض الافصاح عن شيء ما؛ وسأعطيها الحرية بكتمانه فقد ضغطت عليها بما فيه الكفاية. اكملت بذات النبرة العطوفة ومزجت معها بعض الترجي وانا اقول:
- انا اتوسل اليكِ ان تتركيه!
بكت اكثر ومنحتني نظرات توسل وهي تهز رأسها بالنفي. هي مصرة على تقطيع اجزاء قلبي ببكائها وجعلي اضعف امامها. وكأنني قد كنت قوياً يوماً اًمامها لأضعف الان! تنهدت بقلة حيلة وانا اقول:
- حسنا. لساعة واحدة فقط في اليوم ستطرزين.
منحتني نظرات متوسلة اكثر فختمت النقاش قائلًا:
- اما ساعة واحدة او تنسي فكرة التطريز بشكل نهائي.
انزلت ابصارها بخيبة امل فتركت احدى معصميها ووضعت اصبعي تحت ذقنها لأرفع رأسها نحوي وانا اقول:
- انا افعل هذا من اجلك عليائي. لا اريد رؤيتك تتأذين.
لم تعقب بشيء ورضخت لأوامري بقلة حيلة. تضعفني وتطيعني! اشياء متناقضة هي من تجمعنا. لا اعرف ما الذي يدفعني لعشقها بهذه الطريقة!
لطالما كانت عليائي تطيعني بشكل تام ولا ترفض من اوامري شيء. ولكنها هذه المرة كانت عنيدة بشكل غريب؛ عنيدة بشكل اثار غضبي. كنا قد اتفقنا انها لن تطرز سوى ساعة واحدة في اليوم بعد ان تنهي واجباتها المدرسية وظننتها التزمت بهذا الوعد لحين اكتشفت انها كانت تخدعني. وتكذب علي! امر لا يمكنني تقبله ابداً لا سيما منها هي.
كانت الساعة توشك ان تصبح الواحدة ليلاً. عدت للمنزل متأخر بعد سهرة طويلة قضيتها في المكتبة مع صديقي لندرس من اجل الامتحان. لم يكن احد يعلم بتأخري والجميع اعتقدوا اني عدت مبكراً وذهبت الى غرفتي لأنام. ومن ضمن الجميع كانت علياء من ظنت هذا ايضاً.
بالطبع قلبي لم يسمح لي ان اغفو ليلتي من دون الاطمئنان على عزيزتي اولاً. انها الواحدة ليلاً وبالتأكيد ستكون نائمة الان فغداً لديها مدرسة وهي قد وعدتني ان تنام مبكراً. كان يكفيني ان اقف امام باب غرفتها الموصد لأهمس له ليلة سعيدة وكأني اهمسها لها كي اتمكن من النوم براحة؛ ولكني تفاجأت ببعض النور ينساب خلسة من تحت الباب ينبهني ان اميرتي لاتزال ساهرة. كنت واثقاُ بطاعتها لأوامري لدرجة اني عندما طرقت الباب ظننت انها ستفتحه لي وهي تمسك بين اصابعها قلماً او تمسك بيدها كتاباً او ورقة او اي شيء اخر يدل ان سبب سهرها هو لأنها تدرس. لم اظن انها ستفتح لي الباب وهي تمسك بيدها قطعة القماش الحريرية التي تقوم بتطريزها!
لحظات مرت علينا لم يستوعب فيها الاخر ما يرى فعلاً؛ لا هي استوعبت رؤيتي امامها وقد كان اعتقاده اني نائم؛ ولا انا استوعبت وجود ادوات التطريز بين يديها. بعد لحظات التحديق الابله هذا شهقت علياء بفزع بعد ان استوعب عقلها ما رأى وخبأت يديها خلف ظهرها بشكل لا ارادي فوراً. عليائي لم تصبح شابة ناضجة فحسب. بل اصبحت تتقن الكذب ايضاً على ما يبدو!
كززت على اسناني بغيظ؛ والصراحة على شكرها لأن التعب والنعاس قد انسحب كله من جسدي وانتصبت خلاياي وتنشطت من العصبية. دفعت الباب بعنف لأفتحه اكثر فأرعبها هذا وعادت بضع خطوات خائفة الى الوراء فلم اسمح لها بالابتعاد عني وامسكتها من معصمها بقسوة وسحبت يدها التي تحوي قطعة القماش المطرزة والتي على ما يبدو قد كانت منديل. جحظت بعيني بقوة وهززت يدها بعنف وانا اقول:
- ما هذا يا علياء؟
قوست شفتيها للأسفل وبدأت ببكاء صامت فهززتها بعنف اكبر وانا اقول بغضب جامح:
- لا اريد بكاء هل فهمتِ؟ منذ متى تعلمتي الكذب علي. ها؟ ألم أخبرك ان لا تطرزي مجدداً سوى ساعة واحدة في اليوم؟ منذ متى وانت تسهرين سراً لتطرزي؟ منذ مت وانت تكذبي على بهذا الخصوص؟
كل هذا وهي صامتة من دون اشارة تجيبني بها؛ وكيف ستجيبني وانا احجز احدى يديها بقسوة داخل قبضتي؟ كل ما كانت تفعله هو بكاء صامت وهي تنزل ابصارها ارضاً. سحبت منها المنديل المطرز بعنف وهذا ما افزعها اكثر وحاولت استرجاعه ولكني لم اسمح لها. دخلت الى الغرفة بغضب وحملت صندوق خشبي صغير كان فوق سريرها يحوي ادوات التطريز فحملته مع المنديل وعدت اليها حيث تقف تبكي وتعبث بأصابعها بارتباك وهي تراقبني فوقفت امامها مجدداً انا اقول بذات عصبيتي:.
- لا يوجد تطريز بعد اليوم؛ لا ساعة ولا حتى خمس دقائق، ان وجدتك تطرزين فسأجعلكِ تندمين يا علياء؛ هل فهمت؟!
قلت كلمتي الاخيرة بنبرة قوية ففزع جسدها وانتفض مع هتافي وهي تبعد ابصارهما الخائفة والغارقة بالدموع عني فاقتربت منها خطوة اكثر وقلت: - اذهب الان نحو سريركِ لتنامي وغداً لا تلومي إلا نفسكِ ان تأخرت عن المدرسة يا علياء.
ثم تركتها صافعاً الباب خلفي بعنف وذهبت نحو غرفتي. دخلت غرفتي بخيبة امل واحباط اكثر من كونه غضب. اكثر الاشياء التي حرصت تعليم علياء عليها منذ الصغر هو عدم الكذب ابداُ؛ فعلياء لم تكن طفلة عادية؛ لا بالنسبة لنا ولا للحكومة. لذلك كنت اريد ان اعرف كل شيء وكل فكرة تدور بعقل هذه الصغيرة لأبقيها بعيداً عن كل شيء يضرها. ولكن تلك الطفلة الصغيرة خطت خطوتها الاولى اليوم داخل عالم الكذب واتقنت فعل الامر باحتراف من غير ان اكشفها إلا مصادفة؛ هذا الامر كان كافياً ليدخلني بحالة من التوتر والغضب طوال الليل لينتهي بي الامر اني انا من تأخرت عن الجامعة في اليوم التالي.
اول ما فتحت عيناي نزلت بسرعة نحو المطبخ بوجه مقتضب حيث سأجد عمتي سمية هناك كعادتها تشغل نفسها بأعداد الفطار الشهي ولا تعتمد على الخدم في هذه المهمة وتكتفي منهم بمساعدة بسيطة؛ وقفت عند باب المطبخ وقلت وحاجبي لا استطيع فتحهما من احتدامهما:
- صباح الخير
التفتت إلى بابتسامة وهي تقول:
- صباح الخير عزيزي ؛ أراك متأخر في النوم؟!
اجبتها باستعجال:
- اجل تأخرت في الدراسة. اين علياء؟
- ذهبت نحو مدرستها.
واردفت بتعمد:
-غريب امرها اليوم؛ استيقظت مبكراً وذهبت مع المجموعة الاولى للمدرسة.
سكت ولم اعلق بشيء ولكن صدري كان يرتفع بقسوة وينزل. كل شيء بداخلي يدفع لساني ان ينطق ويطمئن على حالها وما ان كانت حزينة او لا؛ ولكن عقلي يرفض ذلك؛ وكبريائي يشجعه؛ وغضبي يحققه، ولكن عمتي استمعت لتوسلات قلبي فأكملت:
- ألا تعرف ما بها يا يوسف؟
اجبتها فوراً:
- ما بها؟
رمقتني عمتي بنظرة لوم وهي تتقدم نحوي بخطوات ثابتة وتجفف يديها بمنشفة مطبخ صغيرة وتقول:
- علياء كانت حزينة جداً هذا الصباح ومن الواضح انها قضت ليلتها تبكي؛ وربما حتى لم تنم، ألا تعرف السبب؟
قطبت حاجبي ولم اجب بشيء؛ ولكن قلبي ينقبض وانا اتخيل منظرها. تقدمت عمتي اكثر مني ولم يعد يفصل بيننا سوى خطوتين فقالت بنبرة عطوفة ولكن بملامح جادة:.
- علياء هي اغلى ما املك يا يوسف؛ انها الابنة التي لم احظى بها؛ واي شيء يؤذيها يؤذيني. هل كلامي واضح؟
زفرت بضيق وانا اتكأ على حافة الباب. عمتي محقة؛ بالتأكيد كانت اميرتي بحالة مزرية لتقلق عمتي عليها بهذا الشكل. مررت يدي ذهاباً واياباً بسرعة فوق فروة شعري بتضايق ثم التفتت لعمتي وانا اقول:
- وانتِ تعلمين اني لم اكن سأؤذيها يا عمتي.
تبسمت بحنان وهي تربت على كتفي وتقول:.
- اعلم ذلك صغيري؛ لذلك انا مطمئنة عليها بوجودك. واعلم انك لن تؤذيها بشيء وستفعل كل شيء من اجل مصلحتها؛ ولكن حتى وان كان من اجل مصلحتها فلا اريدك ان تجرحها بالكلام؛ فهي ستتحمل ان يجرحها الجميع. ولكن جرحك انت يختلف...
قالت جملتها الاخيرة بابتسامة لم افهم معناها ونظرة تتشابه مع هذه الابتسامة ثم عادت لتكمل عملها تاركة اياي في عالم من الحيرة.
صعدت نحو غرفتي لأغير ملابسي كي اذهب نحو جامعتي قبل ان يفوتني موعد الامتحان. وقفت امام المرآة اغلق اخر ازرار قميصي. ومن دون ارادة مني أوقع ابصاري جبراً فوق ذلك الصندوق الخشبي الذي سلبته من عزيزتي الأمس ويرتمي فوقه ذلك المنديل الذي سهرت ليلها من اجله. تركت ما بيدي وتلمست المنديل بأطراف اصابعي ورفعته نحو انفي لأستنشق عطره؛ فهو كان بين يدي غاليتي. ابعدته لأنظر اليه؛ لأرى ابداعات حبيبتي الصغيرة. و يا ليتني لم افعل!
مررت نظري فوقه ببطء، عقلي لا يستطيع ان يستوعب ما يراه. لا؛ هو يستوعب. انه انا من يرفض ان يصدق. اعتصر قلبي بقوة وارتجف. لأول مرة اشعر بضميري يأنبني لدرجة ان اشعر بغصة قوية ترتكز فوق حنجرتي ستدفعني للبكاء. ارتخت قدماي وتراجعتا من تلقاء نفسهما الى الوراء وانا اقبض على المنديل بكل قوتي وكأني أتمسك به ليبقيني واقفاً واحدق فيه بصدمة. أتعلمون ما كان مطرز فوقه؟!
(كل عام وانت بخير يوسف، عليائك).
جملة جعلتني اود الموت قبل ان اقبض على يدها الرقيقة بتلك القسوة؛ واهتف بها بذلك الغضب. اليوم هو عيد ميلادي؛ اليوم الذي لم يخطر ببالي حتى قد خطر ببالها هي وكانت تستعد له منذ ايام؛ وتعلمت التطريز من اجلي؛ وسهرت لياليها من اجلي؛ واهملت دراستها من اجلي؛ وعانت الالم من اجلي؛ فقط لترى تلك النظرة بعيني وهي تقدمه لي؛ فقط لترى سعادتي في يوم عيد ميلادي وهي تهديه لي منتظرة ان ابدي اعجابي به!
تباً لي ولًحماقتي؛ لو انها قالت لي فقط انه من اجلي؛ لو انها فقط لمحت. ألم يكن سيكون افضل مما نشعر به كلانا الان؟ هي خائبة الامل وحزينة وهذا من حقها؛ وانا اشعر اني وغد؛ فلا اجد عبارة اخرى لاصف بها تصرفي.
جلست فوق سريري للحظات وانا احوط رأسي بكلتا يدي وانزله للأسفل. هل جسدي من يلتف من تلقاء نفسه ام ان الغرفة هي من تدور بي؟ علياء. ارغب بشدة برؤيتها الان، تباً للوقت الذي يمنعني.
قدت سيارتي بسرعة مجنونة نحو الجامعة. ليس من اجل الامتحان فعقلي لم يكن معه من الاساس. ولكن كلما تذكرت ما فعلته بها. وتذكرت صراخي بها؛ ودموعها. دموعها التي تدمرني، كلما ضغطت على البنزين اكثر مع كل دمعة اتذكرها تتساقط من عينيها.
لم اصدق ان الوقت انقضى اخيراً وسأعود للمنزل الان. عدت بسرعة اكبر من السرعة التي اتيت بها. وصلت ابحث عنها. عنها فقط، واخيرا وجدت اميرتي الصغيرة. كانت تجلس كعادتها في الحديقة، امام تلك الطاولة التي كنت استخدمها للدراسة وهي تأتي لتزعجني برسوماتها. أتذكروها؟ كانت تقطب حاجبيها وتقرأ كتابا كًان بين يديها من الواضح ان عقلها ليس معه على الاطلاق. فمن عساه يعرف عليائي اكثر مني؟
تبسمت واقتربت منها فانتبهت لوجودي فورا وًاشاحت بصرها بعيدا عًني وهي تزيد من اقتضاب وجهها، وانا ازيد من ابتسامتي النادمة. سحبت كرسيا وًالصقته بجوار كرسيها فتلامست اكتافنا مما دفعها ان تحمل الكرسي لتجلس على الجانب الاخر من الطاولة. أتظنون اني اصبحت عاقلًا مع تصرفها هذا؟ لا. بل اصبحت اكثر جنونا!
حملت الكرسي وجلست ملاصقاً لها مجدداً. زفرت بضيق والتفتت إلى فوراً بحدة واشارت:
- (أريد ان ادرس لو سمحت. ).
اجبتها ساخراً:
- أحقاً؟ تريدين اقناعي انكِ كنتِ تدرسين؟
وبغفلة منها سحبت الكتاب من بين يديها وقلت:
- هيا إذاً. اقرأ لي ما حفظت؟
ارتبكت في جلستها وهي تقطب حاجبيها اكثر بتوتر ثم اشارت:
- (بدأت للتو، لم احفظ شيء بعد)
- اها. حسناً. عن ماذا يتحدث الموضوع بالضبط؟
سحبت مني الكتاب بعنف وقامت تريد الرحيل فأمسكتها من معصمها وأعدتها لتجلس وانا اقول:
- عليائي؟
نعم. هذه الكلمة هي نقطة ضعف كلانا؛ وانا استغل هذا بشدة! اغمضت اميرتي عينيها وانسابت دموعها بقسوة، قسوة ادمت قلبي الذي لا يضعف ألا معها. أدرت وجهها إلى وانا امسكها من ذقنها فدفعت يدي عنها بعنف ونظرت إلى بحدة فقلت فوراً:
- انا حقير. اعلم بذلك.
لم تكف عن بكائها. ولم تتخلى عن وجهها المقتضب. فأكملت انا اعتذاري الذي اكاد ابكي معه كالطفل المذنب:.
- تعلمين كم اكره الكذب اميرتي. ومنذ صغركِ علمتكِ ان لا تكذبي على ابداً. هذا ما اغضبني يا عزيزتي فحسب. لم أشأ ان تكذبي علي. ولا اريد اي شيء ان يشغلكِ عن دراستك حتى وان كان انا.
لم تعلق بشيء وانزلت ابصارها للأسفل وانا لا ازال امسك معصمها فمسحت على شعرها برفق وانا اقول:
- انها اجمل هدية حصلت عليها طوال حياتي.
نظرت إلى بتشكيك فتبسمت وقلت لها:
- اقسم لكِ انها اغلى واجمل هدية حصلت عليها.
سحبت يدها بهدوء واشارت:
- (لم انهيها بعد. هناك زهرة لم اطرزها بعد)
تبسمت اكثر وقلت:
- أتركيها كما هي. انها رائعة الجمال هكذا ولا ينقصها شيء.
واخيراً انفرجت شفتيها بابتسامة، يا إلهي. كم اعشق سرعة رضاها مني! فهذا يشعرني انني ايضاً نقطة ضعفها مثلما هي نقطة ضعفي، الان فقط ارتحت وتوقف قلبي عن النزيف، هذه المخلوقة الغريبة تتحكم بكل شيء بي. هي الوحيدة التي تتمكن من اغضابي وتهدئتي في اللحظة ذاتها. تحزنني وتضحكني متى شاءت. وكأن امري كله بيدها.