قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طلسم عشق الجزء الأول للكاتبة عفاف مغنوي الفصل السادس عشر

رواية طلسم عشق الجزء الأول للكاتبة عفاف مغنوي الفصل السادس عشر

رواية طلسم عشق الجزء الأول للكاتبة عفاف مغنوي الفصل السادس عشر

قبل أيام، .
- رحلت؟! ما الذي تتحدث عنه!
صرخ زياد وهو يتحرك بهياج في الغرفة الفارغة التي احتلتها سيرين لشهور. أخيرا توقف وهو يستوعب بصدمة ورعب حقيقة الكلمات التي تفوه بها شقيقه والذي حاول تهدئته دون جدوى...
- لقد وقع على مسؤوليته وقرر اخراجها من المستشفى. لا يحق لنا منعه. حالتها أصبحت مستقرة وهو يكون زوجها...
- تبا!

صرخ زياد وهو يلعن ويدور وسط الغرفة بعصبية، رفع رأسه لينظر نحو أخيه المندهش من ردة فعله:
- أنتَ لا تعلم عما تتحدث لقد كانا منفصلين لسنوات لم تتحدث عنه ولا لمرة. والآن ببساطة تقول أنه زوجها ولديه الحق في إخراجها دون علمي. أنت لا تعلم شيئا عن علاقتهما في الماضي. لا شك أنه أخرجها من هنا ليحشو عقلها بالأكاذيب. تباً! كان علي توقع ذلك!

- أنت قلت أنها لم تتحدث عنه يوما. إذاً كيف لك أن تقرر نوع العلاقة التي جمعتهما من قبل؟! سأل عدنان وهو ينظر نحو شقيقه والذي بدا كأنه فقد عقله، أنت حتى لم تخبرنا أن لك خطيبة يوما. طوال سنتين وأمي تلح جاهدة في إقناعك بالاستقرار والحصول على عائلة، في كل الزيارات التي عدت فيها إلى المنزل كنت تخبرها بوقاحة أنك غير مستعد بعد. والآن أفاجأ أن خطيبتك التي لم تخبر أحداً عنها في الأصل متزوجة برجل آخر والذي كان له مطلق الصلاحية في إخراجها من المستشفى واصطحابها إلى الوجهة التي يريدها عكسك أنت...

حاول عدنان الاقتراب منه لكن زياد أشاح بوجهه بعيدا عن عيني شقيقه اللتان حملتا الكثير من العتاب والاتهامات وفي الغالب معظمها كان صحيحا حتى لو أنكر. عيناه أصبحتا بركة مظلمة ظهر فيها الألم...
جاهد باستماتة لكي لا تخونه دموعه فتنسكب على حبيبته التي سحبت من بين يديه على حين غرة فقط لو كان وحيدا. لبكى. فقط كبريائه الجريح وشقيقه الأكبر يقف أمامه راميا الحقيقة المرَّة في وجهه ما أعطاه دفعة أخيرة للصمود...

ابتعد بخطوات كبيرة نحو النافذة ينظر إلى شمس الغروب وقد عكست لونها الأصفر المحمر على البنايات البيضاء الشاهقة فظهرت وكأنها رؤوس شياطين تسخر من بؤسه ليأتي صوته متحشرجا وهو يقول:
- أنتَ تعلم أنَّها لم تشفى بعد.

تنفس عدنان بقوة وقد ظهر عليه الاحباط من رؤية شقيقه منهزما وضعيفا: - أعلم ذلك. لكن ليس في يدنا حيلة رئيس الأطباء وقع بنفسه على طلب المغادرة. وأنتَ قمت بكل ما في وسعك في سبيل إنقاذ حياتها وهذا يكفي.
- الوغد السافل! شتم زياد من بين أسنانه قبل أن يسأل بصوت يقطر ألماً لما لم تتصل بي؟
- لقد حاولت الاتصال بك مرارا. هاتفك كان خارج الخدمة. أنا فعلا آسف...

التفت زياد نحو شقيقه وقد تمالك نفسه أخيرا. حدق في السرير الفارغ للحظات ليقول: - لا داعي للأسف. أنا سأجدها وأعيدها إلى هنا مهما كلفني الأمر!
في شقة نادر وسط المدينة،.

وضع نادر كوب الحليب على الطاولة المنخفضة قبل أن يقترب من الأريكة حيث جلست سيرين تنظر إلى الحائط أمامها شاردة لدرجة أنها لم تشعر بوجوده. كان مدركا مخاطر إخراجها من المستشفى دون أن تتعافى بالكامل. حتى هي كان لديها شكوكها الخاصة والعديد من الأسئلة حول طلبه المغادرة بتلك السرعة خصوصا دون موافقة الطبيب المشرف على علاجها.

لكن ما البديل؟! بقائها إلى جانب زياد كان يضيف المزيد من التعقيدات إلى حياته خصوصا وهو يرى غريمه لا يدخر جهدا في سبيل إعادة ذاكرتها. تلك الذاكرة التي ما إن تستعيدها حتى ترسله بتذكرة دون عودة إلى الجحيم...
زفر باحباط وهو يحرك فنجان القهوة التي أعده لنفسه بينما عيناه تسمرتا على ملامحها الشاحبة. تبدو مختلفة عن أي مرة رأها فيها. رغبة قوية في الحماية تملكته.

لكم يرغب في الاقتراب منها وتطويقها بذراعيه. أن يهمس لها أن كل شيء على ما يرام حتى لو كان يعلم جيدا أنه مجرد كاذب منافق...
ارتجفت سيرين فجأة حين شعرت بوجوده وزحفت إلى حافة الأريكة لتضع الوسادة الكبيرة حاجزا بينهما...

اصرارها على فرض القيود على علاقتهما المعقدة يصيبه بالاحباط. هي حتى لا تعرف عن ماضيهما شيئا ومع ذلك لا تشعر بالأمان إلى جانبه هل تراه زياد. هل يكون هو من تسلل من وراء ظهره ليحكي لها عن الماضي مشوها صورته لكن ما الذي يعرفه زياد عن ماضيهما المشترك وما الذي يعرفه هو عن الشهور التي قضتها حبيسة منزله.

رباه! هو حتى لا يعلم عن تلك الشهور سوى ما أخبرته به مريم. يكفي أنه كان بمنتهى الجبن حين قرر التملص والهروب من فعلته ليتركها تعاني من بطش والدته وحيدة.
عصر على أصابع يده بقوة وهو يتذكر وحشيتها في معاملة سيرين. أي أم بل أي امراة قد تنفذ عقابا بتلك القسوة على انسانة مثلها. امرأة حامل...

مسد نادر رقبته بعصبية وقد عادت تلك الذكرى البغيضة لتسيطر عليه وتؤجج الحقد من جديد نحو عائلته ونحو نفسه ثم عادل فعائلتها اللعينة بأسرها. تمنى لو كان وحيدا لصب جام غضبه على كل ما حوله تنفيسا لهذا الغضب الذي ينمو ليصبح كالوحش الكاسر المستعد للالتهام كل من يقترب منه. سيطر على نفسه بقوة فقط لكي لا يزيد من خوفها الذي تحول إلى خوف مرضي. ألم يخبرها أنه زوجها وأنها تحمل طفله. ألا يكفي هذا كي تسقط الحواجز اللعينة بينهما وتتق به...

قرر أخيرا كسر الصمت الذي استغرق أطول من المعتاد ليقول بنبرة هادئة: - عليك أن تشربيه! مشيرا إلى كوب الحليب الموضوع على الطاولة بجانبها
لدقيقة تأملت سيرين ملامحه القاسية المتجهمة متجاهلة طلبه. ما الذي يا ترى أحبته في هذا الرجل المتسلط والبارد؟ لما يربكها حضوره لهذه الدرجة؟ لما ليست سعيدة إلى جانبه؟ هنالك شيء غريب احساس مريب. صوت ضعيف بداخلها يواصل حثها على الهرب والابتعاد.

أعادت نظرها نحو الكوب ومطت شفتيها كطفلة صغيرة: - أنا أكره الحليب لا أحب طعمه وأظن أنني من الأشخاص الذين لم يستهلكوه يوما، ما رأيك أنتَ؟ أخبرني من المفروض أنك زوجي. أنتَ للأسف تعرف عني أكثر بكثير مما أعرف أنا عن نفسي. ما الذي أحب؟ ما الذي أكره؟ كيف أشرب قهوتي؟ متى موعد استحمامي؟ إذاً أخبرني! خرج صوتها محبطا شبيها بالصراخ.

بينما جلس هو يتأملها باهتمام وقد بدا أنه مستعد للانتظار حتى تنتهي نوبة الفزع الجديدة والتي تصيبها منذ أن أخرجها من المستشفى...

تحرك فجأة باتجاهها واستولى الخوف عليها من جديد. عضت على شفتيها وهي تراه يقترب ليمسح المسافة القصيرة بينهما ويركع إلى جانبها لتشتعل عيناه ببريق أخافها بالقدر الذي حرك فيها مشاعر غامضة جعلت بطنها تتلوى. مستمرا في اقترابه المدروس إلى أن طوق مقعدها ليحصرها بين ذراعيه ونبرة صوته العميقة تخترق دفاعاتها الواهية:.

- أنت لا تحبين الحليب هذا صحيح، في الغالب كنت تفضلين القهوة وبالتحديد تحبينها مرة مع القليل من القرفة. تحبين الاستحمام ليلا ثم تقومين بالسطو على قمصاني كسارقة صغيرة. أحب شعرك منسدلا ومتموجا لكن غالبا ما فضلتِ التسريحات المتزمتة وأنا مذنب تماما لأني حاولت استعمال ذاكرتك ضدك لأجبرك على شربه. مذنب وأعترف بذنبي، أليست معلومات وافية ليوم واحد سيرين؟!

همس وعينه تتجولان على وجهها الذي احتقن من الخجل يخترق روحها بنفس الهدوء الذي أسرتها بها نبرة صوته...
شعرت أنها مكشوفة أمامه وأن كل مشاعرها المتخبطة سهلة القراءة لرجل خبير يتعامل مع مراهقة ساذجة. كان قريبا منها بدرجة خطرة حتى من دون ذاكرتها كانت تعلم غريزيا لما يمكن أن يؤول إليه هذا الحوار البسيط إن لم توقف زحفه والآن...

تحركت إلى الخلف محاولة فرض مسافة معقولة مبعدة يديه عنها رافضة تماما السقوط تحت تأثيره الكاسح. ابتسامة انتصار عبرت وجهه وهو يرى مدى تأثيره عليها. مسحورة بجمال هذا الرجل. سمح لها قربه الشديد بتأمل ملامحه بحرية. وجهه البرونزي الوسيم عيناه ببريقهما الآسر. فمه المتغطرس الذي يدعوها بصمت لجولة من القبلات التي من المؤكد ستطيح بعقلها. هي لا تتذكر كيف كانت قبلاته في الماضي هل كانت تذوب تحت وقعها تحت دفء لمساته. حبه.

ليس عدلا أن يكون وسيما لهذه الدرجة!
حركت رأسها فجأة بطريقة خرقاء وكأنها تنفض عنها الخيالات الشبقة التي بدأت تتراقص أمام عينيها من جراء عطره الذي بدأ يدغدغ حواسها دافعا المزيد من الإثارة في شرايينها كرهت هرمونات الحمل اللعينة والتي جعلتها ضعيفة أمام سحره الرجولي لابد وأنه يعلم يرغب بنفس ما ترغب به الآن لكن ما الذي ترغبه هي بالضبط.

ارتعش جسدها من مجرد التفكير بمتطلبات جسدها الخائن والذي اشتعل من الإثارة. إثارة ممزوجة بالكثير من الذنب جعلها تدفع صدره بقوة...
زفر نادر باحباط وسحب نفسه بعيدا مفسرا إيحاءات جسدها بطريقة خاطئة، مسيطرا على مشاعره التي كادت للحظة أن تنفلت من زمامها. آخر ما يريده هو إخافتها في هذه اللحظة. أعاد قناع البرود متجاهلا جسده الذي كان ينتفض برغبة ليأخذ الكوب من على الطاولة ويقربها منها ويهمس لها برقة:.

- إشربيه كاملا. وكترضية قد أقوم باصطحابك في جولة بالمدينة...
في فيلا نادر، .
رن الجرس لمرات عديدة قبل أن تفتح مريم الباب لتنظر إلى الغريبين وتتسمر من الصدمة وهي تتأمل الفتاة الصغيرة التي وقفت بشرود تبادلها النظرات بعينن انطفأ بريقهما...

صرخة شبيهة بالعواء خرجت من حلق مريم التي جمدتها المفاجئة يدها تيبست على مقبض الباب، هل يعقل أنها تتخيل هذا المشهد؟ أم أنها فعلا هي من تقف أمامها بعد كل تلك السنوات...
- ما الذي يجعلك تصرخين بهذه الطريقة وكأنك رأيتِ الشيطان للتو!
قالت الحاجة صفية وهي تعبر الصالة نحو الباب المفتوح حيث تجمدت مريم كالتمثال...

قبل أن تشير الأخيرة إلى الباب حيث وقف كل من معاذ والشيخ الفيزازي نظراتهما لم تكن أقل استغرابا من نظرات مريم ومن هذا الاستقبال الغريب والغير متوقع.

حدقت الحاجة صفية نحو زوارها والذي لم تتعرف عليهم لوهلة أعادت تركيزها نحو الفتاة الهزيلة بشعرها المنسدل الكثيف. وانهمرت الدموع من عينيها سيولا. نبضات قلبها المتسارع تقصف ضلوعها دون رحمة حاولت الكلام لكن صوتها خانها وظلت الكلمات حبيسة حلقها. علا الطنين فجأة وبدأت تشعر وكأنها بداخل دوامة خليط من الأصوات البعيدة تعبر مسامعها وقبل أن تدرك ما الذي يحدث بالضبط كانت تسقط ملقاة على الأرض وصراخ مريم يعلو قبل أن يبتلعها الظلام...

ركع معاذ قرب الحاجة صفية محاولا اسعافها. بينما أمسكت يد الشيخ الفيزازي بذراع منار يسحبها إلى أقرب كرسي حيث جلست بخضوع وكأنها تحت تأثير مخدر قوي. لا حركة تدل على أنها تعرفت على محيطها أو حتى على والدتها التي سقطت على الأرض فاقدة للوعي من هول رؤيتها بعد تلك السنوات...

ظل معاذ يحاول ايقاظ الحاجة صفية من اغمائها إلى أن استعادت وعيها أخيرا. رفعت رأسها بسرعة وكأنها تبحث عن شيء قبل أن تستقر عيناها على الفتاة الضئيلة المنزوية في أحد الكراسي وقد رفعت قدميها عن الأرض تعانقهما بذراعيها وانسدل شعرها الطويل مغطيا ملامحها...
- يا إلهي! إنه كابوس! شهقت الحاجة صفية برعب قبل أن تتحول شهقاتها إلى ما يشبه النشيج وهي تحرك رأسها بعدم تصديق مستحيل! مستحيل!

سحبها معاذ إلى الصالون لتستلقي رغم محاولتها الواهية الإعتراض.
- دعني!
قالت الحاجة صفية وهي تبعد يده محاولة النهوض لكنه تبثها في مكانها ليقول باصرار: - عليك الاستلقاء قليلا سيدة صفية. أعلم أن الأمر صعب عليك. كان من المفروض على نادر اعلامكم بمجيئنا اليوم.
انقبض قلب الحاجة صفية وتغضنت ملامحها الجميلة بحزن عميق. نادر ابنها الوحيد فخرها وفخر عائلة الصفروي تركها ورحل متجاهلا توسلاتها له بالعودة...

تنهدت بحرقة لتمسح دمعة يتيمة نزلت رغما عنها. حاربت الدموع التي كانت تهدد بالنزول كبريائها أبى أن يظهر ضعفها أمام غرباء. عادت لتنظر نحو معاذ بعينيها الزجاجيتين بلونها الأزرق الفريد. كانت المرة الأولى التي يتأمل فيها ملامح الحاجة الصفية وكانت نسخة ناضجة عن حبيبته. للأسف لم تملك منار من قوة وقسوة الحاجة صفية شيئا. قسوة لربما ساعدتها في الوقوف ضد رغبات عادل المجنونة والمريضة...

أزاح معاذ عينيه عنها لينهض مبتعدا وقد طغت عليه الذكريات المؤلمة من جديد. بينما اقتربت رنا التي كانت تراقب المشهد من بعيد لترتمي بين أحضان الحاجة صفية التي حضنتها بدورها بقوة وهي ترتعش...
- لكن. كيف.؟ يا إلهي! كيف يعقل؟ ما الذي أتى بمنار إلى هنا؟ من الذي سمح لهم بإخراجها من المستشفى؟

ظلت الحاجة صفية تنظر نحو الفراغ دون أن تجيب على أسئلة رنا أو تنظر إلى حيث جلست ابنتها. وكأنها بذلك تعزل نفسها عن واقع أنها تركتها وحيدة ونسيتها لسنوات...
- أنا من أعادها!
رفعت رنا رأسها بعد أن كان مغروسا في حضن الحاجة صفية ليقشعر جسدها رعبا وهي تستمع إلى نبرة صوته التي من المستحيل أن تخطئها.

كان يقترب بخطوات متمهلة. حضوره كان طاغيا مدمرا لحواسها عيناه تجاهلتا وجودها تماما وركزتا على والدته التي انهمرت دموع الحسرة والألم من عينيها...
قبل أن يخرج صوتها كالعويل وهي تزيح رنا الذاهلة لتقترب من حيث وقف يتأملها ببرود.
- أهذه هي طريقتك في تعذيبي؟ إحضارها إلى هنا تذكيري بمدى فشلي كأم؟!

تأملها للحظات ملامحه قست فجأة وأظلمت عيناه بكراهية شديدة ليقترب من منار التي كانت تتحرك في كرسيها. ترتل تعويذة مبهمة من بين شفتيها. رفعها نادر من على الكرسي دون جهد ليزيح شعرها الكثيف الذي خبأ ملامح وجهها. ليحضنها بذراعه بينما خاطب والدته بصوت بارد خال من أي مشاعر:.

- أنظري حاجة صفية. ألستِ سعيدة بإحضاري لمنار؟ ابنتك الحبيبة التي بسببها أحرقتِ زوجتي وجعلتها تحاول قتل نفسها هربا من جحيمك! لقد حققتِ أغلى أمنياتك أيتها الوالدة المتفانية! سخر نادر بغطرسة لقد أحضرتها لتكون معك وتعيش إلى جانبك!

أخرست الصدمة لسان الحاجة صفية. لتحرك رأسها نحو معاذ ثم الشيخ الفيزازي واللذان كان يراقبان المنظر من بعيد دون تدخل. أخيرا اقتربت رنا التي خرجت للتو من صدمة رؤيتها لمنار ثم نادر في نفس اليوم لتسأله بهمس:
- ماذا عن المستشفى؟ كيف سمحوا لها بالمغادرة؟ إنَّها متهمة بجريمة قتل!
- دعيني أنا أقلق على ذلك أيتها العزيزة.

التفت نادر ليركز نيران كراهيتة عليها كمن يتمنى ذهابها إلى الجحيم. تراجعت خطوات إلى الخلف بينما ابتسم بسخرية وهو يضيف:
- ربما لو اهتممتِ بشؤونك الخاصة بالقدر الذي تحشرين به أنفك في مشاكل الآخرين لعلمتِ أن مروان قد عاد إلى باريس. ولو كنتِ تملكين القليل من العقل وأنا أشك في ذلك لربما رحلت في أثره قبل أن يطوي صفحتك إلى الأبد!

شعرت بالإذلال وهي تنظر نحو الوجوه التي كانت تتأملها بنظرات اختلفت بين شفقة مريم ونظرات نادر المسلطة عليها بكره لم يكلف نفسه عناء اخفائه. نظرت نحو الحاجة صفية والتي وقفت كالتمثال عيناها مثبتان على ابنتها بشرود وكأن رؤية منار والكلمات السامة التي ألقاها نادر في وجهها أحبطا خططها في الرد أو حتى الدفاع عن نفسها أمامه...

أخيرا اندفعت رنا. خارجا وقبل أن تترك الصالة. رفعت رأسها نحو نادر عيناها مليئتان بدموع الإهانة الجديدة. لتقول بصوت مختنق من البكاء:
- لا أعرف ما الذي أحببته يوما في رجل شرير مثلك؟ أنت لا تساوي حتى حذاء الرجل الذي أحبني بإخلاص!
لم يتأثر نادر بالكلمات الجارحة التي تفوهت بها. على عكس إلتوى فمه بابتسامة ساخرة ليقول:
- جيد إذاً. ربما عليك الذهاب واللحاق بهذا الرجل الرائع قبل فوات الأوان!

- أنت سافل حقير! وأنا أكرهك!
بهذه الكلمات اندفعت رنا نحو السلالم ركضا بينما عاد نادر ليصوب عينيه على والدته بعد أن أشار إلى معاذ والشيخ الفيزازي بالجلوس. وحدها الحاجة صفية من ظلت واقفة في مكانها وكأنها فقدت القدرة على الحركة. عيناها مركزتان على ابنتها ويداها ترتعشان لا اراديا. أخيرا اصطحب نادر منار المنساقة بشكل غير طبيعي لتقف إلى جانبها. ليقول بصوت قوي مليء بالكراهية أعاد الحاجة صفية من شرودها:.

- ألا تريدين التعرف على حالة ابنتك عن قرب. لم تستطيعي زيارتها كأي أم صالحة في الماضي لربما تكفرين عن ذنبك بالاهتمام بها الآن!
تقلبت سيرين في سريرها من دون ارتياح كان جسدها يتصبب عرقا بينما ظهر جليا أنها تصارع كابوسا مرعبا يداها تعصران ملاءة السرير بقوة.

أيادي تعبث بجسدها تتبثها وهي تصرخ دون أن يأتي أحد لانقادها. وجوه كثيرة تنظر إليها أيادٍ قاسية تمزق قميصها ثم شعور بأن جسدها يحترق، استمرت تحاول فك قيدها وهي تتلوى دون جدوى، أخيرا انتفضت بصراخ جعل نادر ينتفض بدوره ليمسك ذراعيها ويسحبها إليه.
- ما الأمر سيرين؟ ما الأمر حبيبتي؟
كانت تنتفض وجسدها يرتعش برعب. ارتخى رأسها على صدره وقد أفقدها كابوسها القدرة على التعبير.

طوقها نادر بحنان مربتاً على رأسها وهو يتلو أية من القرآن إلى أن عادت إلى النوم.
في ظرف أسبوع تكررت كوابيسها بشكل متزايد في كل ليلة كانت تنهض مرتعشة صارخة لتعود للنوم بين ذراعيه. الغريب أنها لم تكن تتذكر أي شيء عن الكابوس. ما أن تصحو صباحا وهو لم يكن يرغب أبداً في مناقشة كوابيسها أو مساعدتها على التذكر. كيفما كانت تلك الكوابيس المرعبة فهي بلا شك عن الماضي وماضيهما لم يكن ساراً بأي حال من الأحوال...

هذا الصباح كان هنالك شيء مختلف وجهها الشاحب. عيناها المسمرتان على شريحة الخبز التي وضعها أمامها ليحتها على تناول الطعام ككل يوم.
رفعت عيناها أخيراً نحوه. كان مشغولا بهاتفه. أجلت صوتها لتقول بشبه همس: - أنا متأكدة من أنك تشعر بخيبة أمل كبيرة. استمرت محاولة دفع خوفها بعيدا يمكنني أن اتخيل شعورك حين تحب شخص لا يمكنه تذكرك. هل تحبني؟ سألت بيأس هل كنت أحبك؟

ارتسم أغرب تعبير على وجه نادر وضاقت عيناه من سؤالها المباشر والغير المتوقع سيطر على مشاعره سريعا:
- لم السؤال؟
سكتت قليلا. أطرقت رأسها تعبث بأدوات المائدة قبل أن ترفع رأسها مجددا. أخدت نفسا عميقا قبل أن تجيب:
- مجرد أحلام تروادني بين فترة وأخرى...
أوقفها نادر وقد بدا عليه الاهتمام: - ذكريات أم أحلام؟

بدا الضياع عليها لوهلة وهي تقول: - لا أدري. ربما أحلام. ربما ذكريات. في جميع الأحوال لن أعرف الفرق أبداً ذاكرتي متوقفة عن العمل...
- أخبريني إذاً وسأساعدك.
جاءت نبرة صوته مشجعة. ليحثها على الإفصاح. توقفت قليلا لا تعرف ما الذي يتوقع منها أن تخبره:.

- أحلم أو ربما أتذكر. أشعر أنني أحببتك كثيرا في الماضي. أرى نفسي مراهقة تنتظر بفروغ صبر وقت قدومك. أشعر بنبضات قلبي تخفق بجنون وأنت تبتسم لي. يا إلهي لا أعلم هل هذه فعلا ذكريات أو مجرد هلاوس...
ابتسم نادر مستمرا في تأمل ملامحها البريئة وهي تصف تلك اللحظات التي ود من كل قلبه لو كانت حقيقية. أحلامها الرقيقة كانت كالملح على جرح مفتوح. تنفس بقوة متجاهلا الألم الذي عصر قلبه دون رحمة ليقول:.

- لم تكوني كتاباً مفتوحا يوما سيرين. لكن على الأقل يمكنني إخبارك بما شعرت به نحوك دائما وأبدا...
حبست سيرين أنفاسها وهي تتنظر الكلمات التي ستخرج من بين شفتيه كانت أول مرة منذ مغادرتها المستشفى تجد نفسها في مصارحة حميمية مع الشخص الأقرب إليها الآن. متعطشة لأي معلومة ولو صغيرة قد تنعش ذاكرتها المتوقفة أصغت إليه باهتمام بالغ...

شعرت بفكه يتصلب وكأنه كان يعود فعلا بذاكرته إلى الوراء: - لقد عشقتك منذ أول لقاء جمعنا سيرين، فقد كنت مميزة فاتنة وكان من الصعب للغاية أن لا أسقط في حبك.
نظراته الدافئة. التي صاحبت كلماته تسربت كالمخدر في عروقها وجعلت نبضها يتسارع بجنون. معدتها ترفرف بقوة من تلك الأحاسيس الجديدة المختلفة تماما عن كل الخوف الذي شعرت به من قبل...
لا مهلا هذا لم يكن مجرد احساس. بل هو تشنج حقيقي اخترق أحشائها!

وجهها تقلص بألم حين باغتها الشعور القوي مجددا.
شعر نادر بالتحول الذي طرأ عليها فجأة. نهض من على كرسيه سريعا وجثى إلى جانبها ليسألها بقلق:
- سيرين. هل أنت بخير؟
حركت رأسها وهي تنظر نحو البروز الصغير في بطنها لتقول بخوف: - هنالك شيء خاطئ. أشعر بتقلصات غريبة لا أظن هذا صائبا. أظن أنني أفقد الطفل.
- توقفي! قال نادر محاولا الحد من الرعب البادي على ملامحها وأخبريني ما الذي تشعرين به بالضبط؟

أمسكت يدها المرتعشة بيده لتضعها على بطنها. مركزا على ما يشعر به لثوانٍ قبل أن تنبسط أساريره بابتسامة. سحبت أنفاسها وجعلتها تنسى الألم للحظة...
- حبيبتي هذا ليس سيئا بالمرة.
- أحقا؟! سألته وعيناها تتوسلانه برجاء
أمسك يدها ليضعها برفق في موضع يده دون أن يتركها وهو يقول: - هذا فقط طفلنا يعبر عن وجوده...
اتسعت عيناها بدهشة فاغرة فمها: - هل أنت متأكد؟!

حرك رأسه ايجابا وعيناه لاتحيدان عن وجهها الذي اختفى القلق منه ما أن شعرت بركلة أخرى من جنينها جعلتها تبتسم. لم يستطع السيطرة على مشاعره وهو يتأمل ملامح وجهها البريء الذي أشرق من السعادة. منذ متى لم يرها مبتسمة هكذا؟!

هذه المرة حين جذبها إليه لم تمانع لقد كانت سعيدة بهذا العناق بهذه المشاعر العميقة التي تختبرها لأول مرة. وانتشر الدفء بكامل جسدها لتشعر بجسدها يتحرق رغبة في عناقه. لقد كانت سعيدة وأغلقت الباب على الصوت الحذر بداخلها توقفت للحظة فقط لتنظر إلى وجهه الوسيم وفتحت فمها مرة أخرى محاولة التأكد من مشاعره نحوها كان هنالك وميض غريب في عيينه شيء مخبأ علمت أنه لن يخبرها عنه على الإطلاق وأغلقت فمها مستسلمة للأحاسيس التي اجتاحتها من جراء قربه.

في اسبانيا، مدريد، .
دخل كالثور الهائج يبحث عن نادية والتي كانت مشغولة في إعداد الطاولات قبل أن تنتزعها يده القوية من مكانها...
- ما الذي تفعله أيها الحقير؟!
صرخت مندهشة من هذ الاعتداء السافر عليها وبداخل مطعمها رفعت رأسها معيدة نظارتها لتتامل مهاجهما دون تصديق:
- زياد. هذا أنت؟ لكن ما الذي تفعله هنا؟ سألته بسذاجة وهي تنظر نحو وجهه الغاضب.

- كفي عن تقمص دور الغبية! و أخبريني لما أخفيتي عني معرفتك بمكانها؟ أنتِ كنتِ تعلمين منذ البداية أنها عادت إليه! قولي الحقيقة! لما كذبتِ؟ بماذا رشاكِ نادر العظيم لتخفي عني مكانها؟ أهذا هو الثمن؟! قال بسخرية مشيرا بيده إلى المطعم إنه فعلا ثمن سخي كمقابل لخدماتكِ!

نفضت يده الممسكة بها لتصرخ في وجهه: - هل أنت مجنون! أتظنني فعلا قادرة على بيع صديقتي مقابل مطعم؟! هل فقدت عقلك زياد! سيرين من طلبت مني التكتم وعدم اخبارك. لقد كنا نعاني لشهور من تراكم الديون والمرابين. كنا سنفقد كل شيء وأنا دفعتها لإخباره.
- لما لم تخبريني بحق السماء؟! كان عليك اللجوء إليَّ لا أن تدفعيها نحوه! صرخ زياد وقد طغت المرارة على صوته أنا كنت لأتكفل بكل شيء!

تنهدت بيأس: - أنت تعلم جواب سؤالك مسبقا. كبريائها العنيد هو السبب ما كنت لتسامحني لو أخبرتك. الأمور تصبح معقدة حين يكون المال طرفا في الموضوع...
- بينما كبريائها العنيد هذا كان على الاستعداد لطلب المساعدة منه هو! تهكم زياد بسخرية مريرة
- كان زوجها!
- تباً! صرخ زياد وقد فقد السيطرة على عصبيته من جديد كان زوجها السابق والذي كانت ستهجره لنتزوج!

- لما لم تفعل إذاً! الجواب واضح إنَّها تحبه لذلك فضلت العودة إليه!
تنهد زياد بألم ليقول: - لا هي لم تعد إليه. سيرين تعرضت لحادث فقدت على إثره ذاكرتها!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة