قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طلسم عشق الجزء الأول للكاتبة عفاف مغنوي الفصل الرابع عشر

رواية طلسم عشق الجزء الأول للكاتبة عفاف مغنوي الفصل الرابع عشر

رواية طلسم عشق الجزء الأول للكاتبة عفاف مغنوي الفصل الرابع عشر

فور خروجه من صدمة امساكه بمذكرات عادل السرية بين يديه. أخذ معاذ فنجان قهوته الساخن واتجه إلى الصالون الصغير حيث فتح التلفاز وجلس ينظر إلى الكتاب الكبير.
لوهلة شعر برعشة قوية تسري في كامل جسده وكأنه تيار كهربائي. استعاذ بالله من الشيطان الرجيم وأخذ نفسا عميقا قبل أن يفتح أولى صفحات الكتاب ويبدأ بالقراءة باهتمام...
كان الوقت قد أصبح منتصف الليل حين بدأ معاذ يشعر بالملل مع مرور كل صفحة جديدة.

انسان مصاب بجنون العظمة ورغبة شديدة في التملك والسيطرة، لكنه رغم كرهه الشديد له لم يستطع أن يخفي اعجابه بثقافته وعمق تفكيره، والذي ظهر جليا في كل حرف خطه في مذكراته. لابد أنه كان يعاني في صمت والمذكرات كانت وسيلته الوحيدة لتفريغ كل الاحباط الذي يعيشه.

لم تتحدث المذكرات إلى الآن سوى عن علاقته بعمه والتي كانت في أغلب الأحيان جيدة رغم امتعاضه الشديد من طريقة تربيته لابنته والتي كانت تستحق المزيد من التأديب والشدة في التعامل على حسب قوله.

أخيرا توقف معاذ أمام صفحة جديدة. كل الصفحات التي قرأها كانت تتحدث عن حياة عادل واحساسه الشديد بالوحدة والتي ضجت بها حواشي المذكرة ككلمات متقطعة أو معادة بطريقة عصبية. ترجمها معاذ إلى الشعور الطاغي على مشاعر عادل وقتها. احساس ناقص يريد أن يملأه بأية وسيلة.

في هذه الصفحة تحدث عادل بحماس عن هوايات جديدة، أغلبها كانت متوقعة، اهتمام كبير برهانات الخيول، أسواق المال والبورصة، ثم أغربها حبه لكتب السحر القديم.
مقتطف من مذكرات عادل: اليوم أخيرا حصلت على الكتاب الذي أنشده منذ شهور. لست متأكدا من أنه حقيقي. صاحبه في ضائقة مالية كبيرة. وأنا دفعت بسخاء للحصول عليه. لربما هو يضحك من سذاجتي الآن، لكن لا ضير من التجربة. الليلة سأجرب وأقف بنفسي على الحقيقة.

فتح معاذ عينيه وهو يعيد قراءة الجملة التي تلت ما كتبه عادل والذي يبدو أنه كتبت بعد التجربة التي حكى عنها لا دلالة على الوقت أو التاريخ التي كتبت فيه.
كان الخط مائلا مرتعشا لابد أنه كتب هذه الجمل وحالة غريبة تنتابه أو كأن يده متصلبة غير قادرة على ايضاح خطه بطريقة مناسبة...

الليلة فتحت أبواب الجحيم. يا إلهي! أشعر بهم يملؤون الغرفة من حولي لا أستطيع التنفس بطريقة طبيعية. إنهم في كل مكان، على الأسقف وعلى الرفوف. يا إلهي! ما الذي فعلته ما الذي فعلته؟!

أمسك معاذ الكتاب باهتمام وهو يعيد قراءة الجمل التي كانت غير واضحة وتظهر خللا شديدا في تركيبة كاتبها. هل هذه هي الفترة التي أصيب فيها عادل بالجنون هل هي بداية اصابته بالفصام؟! إنه طبيب وأن يقفز تشخيص مماثل إلى ذهنه أمر بديهي للغاية.

الفصام يصيب أشخاصاً كانوا يعيشون بشكل شبه طبيعي بين عائلتهم وفي الغالب هذه العائلة لا ترى أي خطب بأولادها إلى أن يصابوا دون سابق انذار بالجنون. عادل بالطريقة التي بدا يهذي بها. ظهر أنه مريض فصام محتمل منذ تلك اللحظة.
وضع معاذ الكتاب على طاولة القهوة المنخفضة واستل قلمه ليدون بعض الملاحظات باهتمام ليعود إلى الكتاب وقد اختفى النوم من عينيه.

بعد تلك الحادثة أصبحت جمل عادل مقتضبة قليلة مليئة بالأسرار. الكثير من الرسومات والعديد من الكلمات المرسومة بشكل لم يتعرف عليه معاذ في أي لغة يعرفها على الأقل، ثم أصبح الكتاب أشد غرابة مع كل صفحة تمر. إلى أن أصبح الكتاب عبارة عن شيفرة غريبة وكتابات ورموز واختفت اللغة العربية تماما من المذكرات. سوى من تواريخ تعرف عليها معاذ بصعوبة.

وهنا شخُص بصر معاذ وهو يرى ملامح يحفظها جيدا. ورقة كاملة تحتلها قسمات الانسانة التي لم يعشق غيرها في حياته. كانت الصورة مرسومة بدقة وكأنها رسمت على يد فنان التقطت ريشته كل تفصيل صغير في وجهها عيناها تشعان وكأنها حية. ابتسامتها المشرقة شعرها الداكن الكثيف. تأملها معاذ بشبه ابتسامة لتقسو يده بقوة على فنجان القهوة البارد. منار حبيبته التي اختطفها عادل من بين يديه...

تنفس بقوة معيدا تركيزه على الصفحة. هذه المرة كانت الكلمات واضحة.
اسمها منار الصفروي. أنا أريده. هو من أحتاج إليه،
ارتفع حاجب معاذ دون فهم وهو يعيد الكلمات. هنالك خطأ. كان يشير إلى منار بصفة المذكر في كل جملة. هل هو مجرد خطأ في التعبير أم هو الجنون يعود مرة أخرى...
قلب الصفحة محاولا استيعاب السبب الذي يجعل عادل يتكلم عن منار بصفة المذكر قبل أن يخرجه من تركيزه صوت جرس الباب.
- هل أنت مستعد؟

سأل عدنان زياد والذي كان منهمكا في تعقيم يديه. عقله يشتعل من فرط الأدرينالين الذي يضخه قلبه في كامل جسده. هو على بعد خطوات فقط من حبيبته المستلقية باستسلام فوق طاولة الجراحة. هل هو فعلا مستعد للمخطارة التي سيقدم عليها بعد قليل؟ لكن ليس هنالك حل بديل. أن ينقذها أو يترك مصيرها في يد مجموعة من الحمقى سلموا بالفعل أنها مجرد قطع غيار لأشخاص آخرين...

اللعنة! لن يسمح لأحد بلمس سيرين خاصته إلا وهو جثة هامدة!
أنفاسه أصبحت حادة خشنة وهو يحاول استجماع هدوئه والظهور بمظهره البارد والذي اعتاده كل من عاشروه في سنوات الدراسة. أخيرا توقف عن تعقيم يده نظراته الثاقبة تتجول في الغرفة المعقمة إلى أن توقفت على الرجل الواقف قرب طبيب التخدير...

رمى زياد بالمنشفة التي كان يحملها ليقفز بسرعة يداه لازلتا في وضع التعقيم ليركل الباب بقدمه مندفعا نحو الشخص الذي كان ينتظره. بينما رسمت قبضة نادر أثرا واضحا على فكه الذي تلون بألوان قرمزية بشعة...
- بحق الجحيم ما الذي تظن نفسك تفعل هنا؟!
سأل زياد وبوادر غضبه الحاد على وشك الانفجار بينما سارعت احدى الممرضات لتزويده بقفازين معقمين وضعهما زياد بعصبية بينما عيناه لا تزيحان عن وجهتهما.

- لا داعي للقلق. قال رئيس الأطباء. أنا هنا لغرض المساعدة...
ابتعد زياد بخطوات واسعة مقتربا من طاولة الجراحة حيث كانت سيرين نائمة دون حتى الحصول على حقنة تخدير. في ظروف أخرى كان ليضحك بطرافة على الوضع. لكن الوضع كان متوترا بعيدا كل البعد عن الطرافة وهو يرى الخيط الرقيق الذي يمسكه الآن بيده هو ما يحول دون عبورها إلى الجهة الأخرى.

يا إلهي! ساعدني لن أستطيع العيش إذا اختفت من حياتي. رباه بما أقحمت نفسي منذ البداية؟!
عقله يضج بالأفكار نظرات رئيس الأطباء المثبتة عليه تشعره بالمزيد من التوتر وكأنه يسخر منه دون حاجة إلى أن ينبس ببنت شفة.
اللعنة لن يسمح لأحد بأن يسخر منه. من أجل هذه الحالات تغرب لسنوات طوال. ماذا كان سيقول عنه تلامذته ومعلموه لو أنه استسلم من أول جولة؟! عليه أن يثبت أنهم على خطأ! عليه أن يعيدها مهما كلفه الأمر!

أخيرا خرج زياد من الدائرة التي كانت تطبق عليه. تنفس بعمق ليرفع يده نحو الممرضة طالبا مشرطا كبيرا...
وصل معاذ إلى الباب بعد أن وضع الكتاب من يديه مرغما عقله مشغول بالتفكير وقلبه ينبض بقوة وكأنه ركض لأميال. فتح الباب ليفاجئ بآخر شخص تخيل زيارته في منزله وفي تلك الساعة المتأخرة جدا...
- الشيخ الفيزازي؟

ابتسم الشيخ الفيزازي بهدوء كعادته وهو ينظر إلى معاذ الذي شلته الدهشة لثوان قبل أن يرحب به طالبا منه الدخول...
أخيرا وضع معاذ فنجان قهوة حضره على عجل للشيخ الذي كان مهتما بالكتاب الذي تركه معاذ يتصفح أوراقه ليسأله معاذ وقد عاد ليجلس أمامه نظراته مليئة بالتساؤل:
- هل تعرفت على تلك الخطوط في أي شيء درسته؟

عينا الشيخ الفيزازي كانتا مركزتين على الصفحة أمامه. ليرفع رأسه ويجيب بهدوء: - هذه ليست خطوطا إنها الأرامية القديمة. لغة المسيح...
- الآرامية! أعاد معاذ الكلمة دون استيعاب. لكن كيف ذلك؟ ولماذا؟

- الآرامية هي لغة سكان الشرق الأوسط قديما، في العصور القديمة كانت لغة سامية شرقية-أوسطية، انطلقت مع قيام الحضارة الآرامية في وسط سوريا وكانت لغة رسمية في بعض دول العالم القديم ولغة الحياة في الهلال الخصيب، كما كانت تعد لغة مقدسة، تعود بدايات كتابتها للقرن العاشر قبل الميلاد، إلا أنها أصبحت اللغة المسيطرة في الهلال الخصيب بدءاً من القرن الخامس قبل الميلاد بعد هزيمة المملكة الأشورية، وقد كتب بها سفري دانيال وعزرا ومخطوطات البحر الميت. وهي اللغة الرئيسية في التلموذ، من المؤكد أن الآرامية هي لغة يسوع المسيح وبها تأثرت اللغة الفارسية والعبرية واليونانية واللاتينية أيضا.

- لكن ما الذي تفعله هذه الكتابة وسط مذكرات عادل؟ سأل معاذ باستغراب لماذا يستعمل لغة قديمة للكتابة؟
- ببساطة كان يحاول التواصل مع شيء قديم!
رد الشيخ بنفس الهدوء وهو يقلب الصفحة تلو والصفحة إلى أن وصل إلى صفحة توقف عندها قليلا مشيرا إلى مجموعة من السطور أشار إليها. وهو يحاول تبسيط الأمر لمعاذ الذي كان فضوله يزداد مع كل ثانية تمر...
- هذه ليست مجرد كلمات معاذ. هذا الكتاب يحتوي على نصوص تحضير.

- تحضير ماذا؟ سأل معاذ بغباء
- هيَّا. أمازلت تسأل؟ أنت تعرف الاجابة جيدا! قال الشيخ الفيزازي بشبه لوم
- هل تقصد، أن عادل كان يقوم بالتواصل مع كيانات قديمة. لذلك هو يكتب باللغة الأرامية.
- لا. من الواضح أن الذي كتب هذه العبارات لم يكن عادل أبدا! قال الشيخ الفيزازي وهو يعود إلى آخر ما كتبه عادل بخط يده أنظر إلى الكتابة هنا. الخط مختلف تماما. منذ هذه المرحلة لم يعد عادل هو الذي يكتب المذكرات!

- يا إلهي! قال معاذ وعيناه تخرجان من محجريهما. هل تقصد أن عادل كان في حالة استحواذ؟

- أجل. قال الشيخ بتأكيد الكتاب الذي تحدث عنه عادل كبداية لتجاربه كتاب خطير جدا للمارسة السحر لا أعرف كيف حصل عليه ومن أين. فهذه الكتب لا تباع في المكتبات فهي تورث من جيل إلى آخر. يدهشني أن يبيع أحدهم هذا الكتاب لعادل ببساطة! من حظه العاثر أن فتح بابا لم يكن ليستطيع اغلاقه. خصوصا بعد أن صار مستحوذا عليه ولو جزئيا على الأقل. وهذا ما يظهر هنا في آخر الصفحات. توقف الشيخ مجددا عند صورة منار ينظر إليها باهتمام شديد قبل أن يقول اختياره لمنار لم يكن عشوائيا منذ البداية. هو كان يعلم!

- يعلم ماذا؟ سأل معاذ وقد اشتدَّ الغموض عليه لدرجة أنَّه بدأ يشعر بصداع رهيب يفقده التركيز
- أن منار لم تكن طبيعية!
- ماذا؟ لكن هذا مستحيل! لقد عرفت منار قبل ارتباطها بعادل. لقد كانت فتاة طبيعية سعيدة.
- هل حقا عرفتها؟ هل تستطيع التمييز بين أشخاص سليمي العقل وآخرين مصابين فقط من مجرد معرفة سطحية أو مصافحة في الشارع...
- بالطبع لا! قال معاذ بارتباك.

- إذا هل تظن نفسك كنت قريبا منها إلى درجة معرفتك بدواخلها؟
- لا! لكن...
- إذا فأنت لست فعلا متأكدا بأن منار كانت طبيعية حتى وقتها. المس عالم شاسع بحد ذاته، هنالك أشخاص يعيشون حياتهم بشكل طبيعي يعتبرون أن ما يشعرون به مجرد أشياء تحدث ويفسرونها بطريقة علمية بحثه. ومع الابتعاد عن الفروض الدينية وشريعة الله في الأرض تصبح السيطرة عليهم شيئا سهلا ومن تم الاستحواذ الكلي والتام على مراحل كما حصل مع منار...

- هل تظن أن الاستحواذ الذي حصل لها كانت نتيجة لتصرفات عادل؟
- ربما ما فعله عادل قد سرع من وتيرة السيطرة على منار. لكن بالتأكيد مما كتب لم يكن له دخل منذ البداية. منار كانت تعاني من خطب حتى قبل وصول عادل إليها. هو فقط وجدها وسيلته للسيطرة على عالم يجهل عنه الكثير وكان السبب في مقتله في النهاية...
كان معاذ يحاول استيعاب المعلومات الجديدة بهدوء. قبل أن يعلو جرس الباب من جديد.

حين فتحه هذه المرة. لم يفاجئ بأمين الذي ابتسم له قبل أن تتحول ابتسامته إلى رعب شلَّ كل خلايا جسده. ليدفع معاذ في صدره وينطلق هاربا وكأن شياطين الجحيم تطارده...
في المستشفى بطنجة،
أزاح زياد الكمامة عن وجهه ليدفع باب غرفة العمليات. وكما توقع بالظبط كان نادر يجوب الرواق بخطوات أظهرت مدى عصبيته وأرهاقه...

أخيرا انتبه نادر إلى خروج زياد. عيناه مركزتين على غريمه. أنفاسه أصبحت ثقيلة. نبضاته تعلو بضجيج يصم أذنيه تمكن بجهد بالغ من تحريك قدميه ليصل إلى حيث ظل زياد واقفا دون حراك...
- هل ستنجو؟
سأل نادر بلهفة ما أن وصل إلى حيث وقف زياد مغلقا باب غرفة العمليات بقامته الفارعة. يتأمل خصمه بعينين ضيقتين.

- ما زالت حية على الأقل. قال زياد بغموض وارتجفت عضلة في فكه لا إراديا، على كل حال الأيام القليلة المقبلة ستخبرنا عن حالتها...
وضع يده على كتف نادر الذي يبدو أنه لم يذق طعم النوم لأسابيع.
- ما رأيك لو تذهب للحصول على بعض القهوة وربما حمام منعش. تحتاج إلى أن تكون في كامل وعيك حين تستيقظ...
تلك الكلمات البسيطة جعلت قلب نادر يهوي عميقا بداخل ضلوعه. تستيقظ؟ هل لازال هنالك أمل في ايقاظها؟

حرك رأسه باذعان. لم تعد لديه القوة حتى للمعارضة. رؤيتها تذوي وتنسحب من بين أصابعه كالرمل قضت على كل قواه...
تحرك قبل أن تخدله قدماه لمجرد رؤيتها. واتجه إلى الرواق المؤدي إلى الخارج...
أخيرا فتح باب غرفة العمليات. ليخرجوا سيرين الممدة باستسلام قبل أن يطلب زياد منهم ايداعها غرفة العناية المركزة...
- لا أعرف هل سينجو الجنين بعد كل هذا الضغط الذي حصل؟ قال عدنان محركا رأسه بأسف.

- لا يهمني سوى استعادتها! قال زياد بصوت قاس يمكنها الحصول على أطفال آخرين حين تنجو. لكن أنا لا يمكنني الحصول على سيرين أخرى!
ظهرت الدهشة على وجه عدنان لتصريح شقيقه المتهور والغريب. هل يفكر فعلا في أنها قد تعود كما كانت...
أخيرا خرج رئيس الأطباء من غرفة العمليات. نظر حيث وقف زياد يكلم عدنان دون أن ييدو عليه أي انزعاج أو شعور بالقلق، اقترب منهما ليقول بصوت بغيض:.

- لا تفرح كثيرا. النزيف الذي سببته لها في الفص الأمامي قادر على أن يجعلها عاجزة طوال حياتها. هذا ان استيقظت من الأساس. أنت مزقت شريانا أساسيا!
مجموعة من الثخترات الناتجة عن اخفاقاتكم السابقة. صحح زياد بعجرفة
- في كل الأحوال دعني أقلق على ذلك!
قال زياد قبل أن يعطيه ظهره متجها نحو العناية المركزة حيث لازالت سيرين تتشبث بالحياة بأعجوبة.

مرت أربع وعشرون ساعة وسيرين لم تفتح عينيها كما كان متوقعا. مما جعل القلق يسيطر على عقل زياد رغما عنه. نظراته لم تعد واثقة وهو يحرك المصباح يدوي محاولا التقاط أي اشارة، بينما عينا رئيس الأطباء تنظران نحو بتشف لم يحاول اخفائه.
شتم بلفظ بديء ليرمي بالمصباح على الطاولة بعصبية بالغة مسددا ضربة الى الحائط امامه
- اخبرتك قال رئيس الأطباء بتشف.
عينا زياد ركزتا على رئيس الأطباء مشيرا اليه بتهديد.

- لقد فتحت عيناها! قال عدنان
اقترب نادر منها بلهفة: - سيرين. هل تسمعينني سيرين؟
عاد زياد للاقتراب مزيحا نادر ليقرب المصباح اليدوي من عينيها مجددا...
- سيرين هل يمكنك سماعي؟ سيرين.
- هل هي مستيقظة؟ أم أنه فقط رد فعل انعكاسي؟ سأل عدنان بحيرة
- لكل شخص وقت مختلف للتعافي. لا داعي للشعور بالذعر، ليس بعد الان على كل حال. لقد تجاوبت لو بشكل طفيف أضاف محاولا تخفيف التوتر الذي ساد جو الغرفة.

جاء تعليق رئيس الأطباء ليجعل أصابع يده تتشنج: - أتعلم زياد. يقولون أن أصعب نقطة في جراحة الدماغ ليست ايقاظ المريض. أصعب نقطة هي اعادته إلى الوعي. ما الفائدة في ايقاظها إذا لم تعد فعليا...
- من طلب رأيك أو وجودك من الأساس؟ سأل زياد بنزق
- أنا رئيس الأطباء في هذه المستشفى. ولدي كل الصلاحيات اللازمة لأتواجد في أي مكان أريد!
- ليس لوقت طويل!

قال نادر والذي كان قريبا من زوجته. قبل أن يزيح عينه عنها ليثبتهما على الطبيب الذي ابتلع ريقه بصعوبة...
بعد مرور يوم على العملية،
فتح نادر عينيه ليرى زياد واقفا يتأمل مؤشرات سيرين الحيوية باهتمام. حرك كتفه المتصلب محاولا النهوض قبل أن يفاجئه زياد:
- هل استيقظت؟ يمكنك الذهاب والحصول على بعض النوم المريح وأقصد بذلك سريرا ووسادة. حالتك مزرية!

- لا! قال نادر بصوت قاطع لن أتحرك من هنا حتى تستيقظ! سأحصل على مزيد من الكافيين وأعود!
- لا تنسى أن ترتب هندامك! تبدو كمتشرد حقيقي. ومن أجل الذوق العام احصل على حمام قبل أن تعود رائحتك نتنة للغاية!
قال زياد بتهكم. ليعيد تركيزه على مؤشرات سيرين من جديد...

حين عاد نادر أخيرا. كان يبدو عليه التعب هالات عينيه تبدو واضحة بينما خطوط بيضاء من التوتر تغزو فكه، ل كان قد غير قميصه إلى آخر أزرق داكن تناسب تماما مع قتامة أفكاره. شعره لازال نديا من اثر الاستحمام وقد عمل بنصيحة زياد.
- هل من جديد؟ سأل نادر زياد الذي يبدو وكأنه لم يترك مكانه منذ أن غادر
أعاد زياد وضع معطفه الطبي وهو ينهض من الكرسي الكبير حيث كان مستلقيا.

- لا! لا جديد لازال الوقت مبكرا على كل حال...
اقترب نادر منها ليقبل جبين سيرين ويهمس في أذنها بينما تصلبت ملامح زياد بغضب لم يستطع السيطرة عليه...
فجأة صرخ نادر وهو يمسك يدها: - سيرين هل عصرت كفي للتو؟، سيرين هل أنت مستيقظة؟
قفز زياد بسرعة نحو السرير. ليفاجئ بسرين تحاول أن تتنفس من الأنبوب الذي يزودها بالهواء...
- يا إلهي! ما الذي يحصل؟ صرخ نادر دون فهم.

- إنها تحاول التنفس من الأنبوب. هذا شيء جيد هذا يعني أنها بدأت تستيقظ.
ابتعد نادرا مرغما صدره يعلو وينخفض بقوة. غير قادر على التصديق أنها قد عادت إلى الحياة فعلا...
أخرج زياد الأنبوب من حلقها بعناية قبل أن تنتابها نوبة من السعال سيطر عليها زياد بكمامة الأكسجين.
- لا بأس سيرين، أنت بخير، فقط تنفسي.

مع حلول المساء كانت سيرين تتنفس دون مساعدة. الأسلاك التي تغلق فكها كانت تحديا آخر لزياد. فتلك الأسلاك ستبقى لأسبوع آخر وهو ما أوضحه الطبيب المسؤول عن جراحة فكها. بقي هنالك أمل أن تحاول التعبير عن وجودها بأي وسيلة أخرى. وهو ما انتظره زياد بصبر...
حين عاد هذه المرة كانت عيناها مفتوحتان. لكن لا اشارات على تجاوب مع المحيط الخارجي، أمسك زياد بالغطاء ليزيحه عن جسدها قبل أن يجلسها بالقوة...

هب نادر واقفا دون وعي. وهو ينظر نحو زياد: - ما الذي تحاول فعله؟
- إنها طريقة جديدة نستعملها مع المرضى لمساعدتهم على الشفاء في وقت أسرع.
رفعها زياد لتقف على قدميها قبل أن يتعالى أنينها بألم...
- رباه! إنها تتألم! صرخ نادر في زياد طالبا منه التوقف
- هذا مؤشر على الشفاء!

رد زياد مستمرا في دفعها إلى الوقوف رغم حركة رأسها المتخبطة. وأنينها المتزايد، في تلك اللحظة دخل رئيس الأطباء الغرفة للتتسع عيناه بعدم تصديق.
- دكتور زياد. ما الذي تحاول فعله بحق الجحيم؟!
- إنها طريقة التمشية! قال زياد مستمرا في دفع سيرين على المشي.

- هل أنت مجنون! أعد المريضة حالا إلى السرير! هذه المريضة خرجت من عملية هائلة للتو! أعدها إلى سريرها حالا! صرخ رئيس الأطباء في زياد الذي لم يبد عليه اهتمام لأوامره
بينما وقف نادر غير قادر على التحرك. لا يعرف من عليه أن يصدق. لكنه وثق بزياد في المقام الأول وعليه الاستمرار إلى النهاية...
- أخرج!
صرخ نادر أخيرا في رئيس الأطباء الذي ألجمت الصدمة لسانه.
- هل تطلب مني الخروج من الغرفة؟

- أنا أقول أن ترحل من هنا مادمت قادرا على لجم غضبي! قال نادر وهو يكز على أسنانه
حرك رئيس الأطباء رأسه غير مصدق ليقول موجها كلامه لزياد والذي كان مستمرا فيما يفعله.
- إذا عاد دماغها للنزيف مجددا فأنت المسؤول!
خرج رئيس الأطباء أخيرا. ليُجلس زياد سيرين على كرسي قريب. وجهها محتقن. الدموع تنساب من عينيها بغزارة بينما تمسكت يداها بقوة برداء زياد الطبي...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة