قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طلسم عشق الجزء الأول للكاتبة عفاف مغنوي الفصل الحادي عشر

رواية طلسم عشق الجزء الأول للكاتبة عفاف مغنوي الفصل الحادي عشر

رواية طلسم عشق الجزء الأول للكاتبة عفاف مغنوي الفصل الحادي عشر

الدار البيضاء مستشفى الأمراض النفسية:
فتح معاذ باب مكتبه أمام الممرضين اللذان تكلفا بحمل مروان الفاقد لوعيه ووضعه على السرير المخصص للمناوبات. لحقه نادر الذي لازلت الصدمة مؤثرة على حواسه بالكامل لا يتخيل للآن أنه خاض تجربة مماثلة. وأنه كان شاهدا على ذلك الكم من الجنون. ألقى نفسه على أول أريكة دافنا رأسه بين يديه يحاول التماسك دون جدوى...

مرت دقائق ومعاذ يتأمل حالة زائريه قبل أن يقرر كسر الصمت ليسأل: - ألا ترغب بمعرفة ما الذي حصل هناك؟
رفع نادر رأسه يستوعب كلمات معاذ ببطء محاولا العودة إلى الواقع.
- وهل هنالك من تفسير منطقي لذلك؟ رد نادر بصوت أجش غلب عليه التأثر
عقد معاذ يديه على صدره ينظر إلى نادر محاولا رؤية تأثير كلماته عليه: - تفسير منطقي؟ لا. علمي؟ هو أبعد من أن يوجد. لكن تفسير روحاني بلى...
ارتفع حاجب نادر بدهشة.

- ما الذي تقوله بحق السماء؟
- أعرف أن ما سأخبرك به ضرب من الجنون. رباه!

فقد معاذ تركيزه وهو ينهض من على كرسي مكتبه حاملا حاسوبه المحمول نحو نادر. قبل أن يفتحه بيد مرتعشة. التصوير الذي احتفظ به من جلستها مع الشيخ الفيزازي كان الدليل الوحيد على الخطأ الجسيم الذي ارتكبه، خطأ قد يجعل نادر قادرا على طرده بسهولة من المستشفى بل منعه من مزوالة مهنة الطب إذا ما وصل إلى الأشخاص المناسبين، لكنه كان مضطرا لذلك فحالة منار المتدهورة تستفز كل حواسه. لمساعدتها لاخراجها من هذا الظلام الذي يحيطها حتى ولو كان الثمن خسارة مهنة يعشقها فليكن. منار أهم من أي شيء في الوجود...

لدهشته حين فتح نادر التسجيل ليظل ساهما يحدق في ما حدث. عيناه شاخصتان على المشهد أمامه عضلاته متصلبة ظاهرة حتى من تحت قميصه الحريري الأزرق الداكن. حرر نفسه من ربطة عنقه راميا إياها إلى جانب السترة التي تخلص منها منذ لحظات. ليمسح العرق المتصبب عن جبينه بيد مرتعشة...
- يا إلهي ما هذا!، ما الذي فعله بها السافل؟! كز نادر على أسنانه بعصبية مكبوتة.

بينما استمر معاذ في النظر نحوه متوقعا ثورته العنيفة في أية لحظة. لدهشته حين رفع نادر عينيه نحوه ليقول بصوت أجش غلب عليه التأثر رغما عنه:
- أشكرك.
حتى في أكثر خيالاته غرابة لم يتخيل معاذ أن يقوم شخص بغرور نادر واعتداده بنفسه بأن يشكره. ربما انتظر لكمة أخرى على فكه أو ثورة عنيفة لا تقل عن سابقاتها أما أن يشكره فهذا كان حتى أغرب من حضور الكائن المظلم إلى غرفته ليلا...

تنحنح محاولا ايجاد صوته وقد عطلت الدهشة حواسه لثوان: - حسنا. أنت رأيت التسجيل بنفسك. ما الذي تريد فعله؟
أطرق نادر برأسه للحظات وكأنه يفكر. التفت ينظر إلى صديقه المكوم فاقدا للوعي. ليرفع رأسه نحو معاذ ويقول بصوت حازم:
- أريد رؤية الشيخ الفيزازي...
في حي قديم متهالك وسط المدينة العتيقة،.

جلست امراة كاهلة في سن الخمسين بوجه مغضن يشوبه السواد تحرك أمامها قطع فحم كثيرة بينما تنثر بخورا تتصاعد روائحها لتصيب الجالسة باختناق شديد...
- ما الذي أتى بك إلى هنا يا سارة؟ ألم تتعبي بعد من حب اليهودي؟
ارتعشت يدا سارة وابيضت ملامحها بشدة وهي تنظر نحو المرأة التي كانت تتأملها بعينين مخيفتين. كيف لها أن تعلم بأفكارها فقط بمجرد النظر إليها. وكأنها تعلم بكل ما يدور بداخل ذهنها.

رباه ما كان علي المجيء! لعنت غبائها الذي جعلها تثق بصديقتها والتي نصحتها بالمرأة مدعية أنها تعرف كل شيء. قادرة على جلب البعيد وفك السحر والقيام بسحر يجعل أمين يستيقظ. مستشهدة بتجارب عديدة لصديقات تزوجن على يديها وأخريات تمكن أخيرا من الانجاب بعد أن أدَّين الفروض وذبحن الذبائح...

هي لم تأت اليوم لكي تجعله يحبها. فهي فقدت هذا الأمل منذ سنوات وهي تراه يمرح ويمزح في أرجاء الطابق دون أن يعيرها اهتماما وكأنها شخص غير ملموس. هي اليوم تحاول مساعدته بالطريقة التي كان العلم يرفضها بالمرة. أكان لديها خيار آخر وهي تعرف أن حالة منار هي السبب أيا كان من يعيش هناك معها؟

. تلك الحالة التي يرفض الأطباء الاصغاء إليها. منار المسكونة التي يعرفها كل من في الطابق ويعلم الجميع بحقيقة مرضها. حتى لو حاولوا الانكار متحججين بكل الحجج الواهية التي يحاولون فرضها على عقولهم فقط ليستطيعوا الدخول إلى تلك الغرفة دون المجازفة بفقدان عقولهم. طبيباها فقط اللذان لم ينزلا يوما من برجهما العاجي للتعرف على العالم الحقيقي. مؤمنين بالعلم وحده والذي يجبرهما على عدم تصديق الخرافات. وهل الخرافات تستوطن كتبا مقدسة يا ترى؟ هل العلم قادر على أن يشرح كل ظواهر الحياة خصوصا الغريبة منها؟..

بلعت ريقها أخيرا محاولة التركيز على الهدف من زيارتها لتقول باضطراب شابه الخوف: - يقولون أنك. قادرة على معرفة السحر. وطرق ابطاله...
- يقولون!
وقهقهت المرأة بصوتها البشع معيدة نظراتها نحو الفتاة التي كانت تلعن غبائها الذي جعلها تأتي وحيدة إلى المرأة المجنونة...
صرخت فجأة من الألم وهي تشعر بصفعة غير مرئية على وجهها. جعلتها تتلفت يمينا ويسارا محاولة معرفة ما حدث، لتنظر نحو المرأة التي قالت بهدوء:.

- أنصحك بالتزام الأدب وأنت في مجلسي. أفكارك الغبية التافهة احفظيها خارج أبواب منزلي! فأنا مطلقا لن أسامح من يقلل من احترامي!
سرت رعشة باردة على طول عمود سارة الفقري.
يا إلهي! هل هي قادرة على سماع ما أفكر به؟!
بالطبع هي قادرة على ذلك جاء الصوت من أعمق أفكارها الوجلة. استجمعت الباقي من قوتها قبل أن تنهار لتقول دون مقدمات:
- لقد جئت كي.

رمت المرأة المزيد من البخور وسط الفحم لتزيد من توهجه برائحة جعلت أنفاس سارة تتلاحق لتقول مقاطعة إياها:
- طلبك ليس عندي يا صغيرة. لا أستطيع المساعدة.
- لكن. لكن.
- لكن ماذا؟ أنت تريدين مساعدة اليهودي على الخروج مما يعانيه. سيخرج لو قدم النية لكنه لن يفعل، عقابه أن يبقى متخبطا في جنونه إلى الأبد!

- أرجوك. أتوسل إليك. اقتربت سارة غير عابئة بالنتائج. وهي تستشعر الخطر المحيط بالرجل الوحيد الذي أحبته. سأقوم بكل ما يتوجب فقط ساعديني أعيديه إلى الحياة.
- هل أنت قادرة على مجاملتهم؟ على هداياهم؟
- كل ما يطلبون. قالت سارة بلهفة
- مطالبهم غالية جدا. قالت المرأة بعينين تشتعلان
- فليطلبوا. لا يهم ماداموا قادرين على اخراجه من حالته...
- إذاً فليكن.

قالت المرأة وهي تنتزع ريشة من ذيل الغراب المعلق إلى جانبها والذي نعق بصوت مخيف جعل أطراف سارة ترتعش، لتخط العديد من المربعات والأشكال الغريبة على جلد ماعز بحبر أحمر باهت وسط دهشة سارة التي توسعت عيناها بغرابة لمشهد لم تر مثله سوى في الافلام...
خلطته بالعديد من البخور جمعتها وسط قطعة الجلد الصغيرة ختمتها بشمع أحمر وأسلاك من النحاس لتضعها في يد سارة المرتعشة...

- ضعي هذه الصرة تحت رأسه واجعليه يغتسل بماء المطر وسيعود إلى حالته الطبيعية بشرط...
- ماهو شرطك؟
- ليس شرطي! قالت المرأة بحدة هي شروطهم لستُ سوى مرسال. إن عاد إلى غرفة الفتاة حكم عليه بالجنون إلى آخر يوم في حياته! والآن ارحلي من أمامي! قالت وجسدها يرتعش بقوة وعيناها تفقدان لونهما تدريجيا.

نهضت سارة بخوف ظاهر وهي تمسك بالحجاب الذي أعطتها إياه المرأة. لتخرج ركضا من الغرفة. نقدت الواقفة على الباب ما اتفقتا عليه ورحلت عن المكان بقدمين بالكاد حملتاها نحو سيارتها لترتمي على المقعد بجسد يرتعش رعبا.

لم تشعر سيرين بالفريق الطبي الذي حملها إلى المستشفى. ولا حتى شعرت بهم يحركونها راكضين بها بين الأروقة محذرين بالحالة الخطرة التي ينقلون ولا حين أدخلوها غرفة العمليات لساعات طويلة ليصلحوا الضرر الهائل الذي لحق بها...
بذل أطبائها أقصى جهد محاولين الحد من الأضرار التي لحقتها. أصلحوا فكها المكسور ووضعوا جبيرة لكتفها وتركوا ضلوعها المهشة لتتعافى تلقائيا. وانتظروا بصبر استيقاظها الذي لم يحدث لأيام.

خرج الطبيب أخيرا من غرفتها بالعناية المركزة نظر إلى الوجوه التي التفت حوله تنتظر اجابات لم يكن يحملها.
- أخبرني أيها الطبيب. كيف حالها اليوم؟ سألت صفية بصوتها البارد بينما تنظر إلى حركات الطبيب بتمعن
أزاح الطبيب الكمامة التي علت وجهه. ليقول بارتباك: - هي لم تستيقظ بعد. لا أخيفك سرا سيدة صفية. يجب عليكم التأهب للأسوء...

حركة بسيطة من عدم الارتياح عبرت ملامح الحاجة صفية لتسيطر عليها بسرعة. بينما علا نحيب مريم التي كانت تستمع للطبيب بلهفة:
- مستحيل! هي تحمل طفلا لابد لها من الاستيقاظ. انتحبت مريم بقوة وهي تتمسك بيد الطبيب متوسلة
نظرت الحاجة صفية نحوها بقسوة جعلتها تبتعد لتلتقطها يدا دادا حليمة تربث على كتفيها بحنان، بينما عادت الحاجة صفية تحدق إلى الطبيب لتسأله بجمود:
- ماذا عن الطفل الذي تحمله.؟

- ليس هنالك من جديد. في الغالب هو بخير للآن. حياته تعتمد على مقدرة والدته على التشبث بالحياة. في جميع الأحوال سيأتي طبيب متخصص ليشرح لكم وضع الجنين بالتفصيل...
بهذه الكلمات الغير مشجعة ترك الطبيب الحاجة صفية في الرواق تنظر عبر الزجاج إلى الفتاة الراقدة بسلام...

انتظر نادر لأيام حتى تمكن من مقابلة الشيخ الفيزازي والذي كان مشغولا بحالات لا تختلف في حدتها عن حالة منار. رغم كل تحذيرات مروان الذي لم يستطع تقبل طريقة نادر في معالجتها متهما صديقه بالجنون ومهددا باحالة معاذ إلى اطبائه المباشرين للنظر في قواه العقلية...

- اللعنة نادر! هل تصدق هذا الجنون؟ هل لهذا تركت عملي وعدت معك؟ لكي أتمكن من حضور الحضرة التي تريد اقامتها؟ هل فكرت للحظة أن كل ما رأيته هناك راجع ببساطة لكونها مريضة فصام عنيفة لا أكثر وأن ما سيفعله هذا الدجال لن يزيد سوى من تأزم حالتها المتدهورة أساسا بسبب سوء التشخيص والمعالجة؟!
زم نادر على شفتيه بعصبية وهو ينظر نحو صديقه بتحذير: - اختر كلماتك بعناية مروان! الشيخ الفيزازي ليس دجالا!

- لا عليك. قال الشيخ بابتسامة ليس الجميع قادرا على فهم حالة منار ورؤيتها بطريقة واضحة. إنه أمر صعب خصوصا لطبيب نفسي! علق الشيخ وهو ينظر إلى قسمات مروان التي توحي بكمية الغضب المكبوت بداخله.

أخيرا جلس مروان غير قادر على احتمال الغليان الذي يصيبه. لا يستطيع تحمل الجهل خصوصا وهو يلاحظ استسلام نادر الغريب للشيخ ولمعاذ والطريقة الأقل تحضرا التي يريدان بها معالجة شقيقته. هو لم يحظر إلى المغرب سوى لتخفيف ألمها ومحاولة علاج مرضها. هل أصبح صديقه فاقدا للأمل لدرجة تصديقه لترهات رجل عجوز وطبيب نفسي يستحق التواجد هو الآخر في زنزانة نفسية؟

أخرجه من ذهوله صوت معاذ الذي قال بهدوء: - هل ترغب في حضور الجلسة معنا؟
- آه بالطبع! على ذكر الجلسات متى حضرت آخر جلسة لطرد الأرواح. معاذ؟ نعم. صحيح مباشرة بعد رؤيتك لأرنب عيد الفصح وجنية الأسنان! علق مروان بسخرية
- مرووااااااان! صرخ نادر بنزق
- حسنا. قال مروان بغيظ. سأصمت لكن لا تعتمد على ذلك لفترة طويلة. لأني لن أسمح لكم بايذائها في حضوري مهما كلفني الأمر!

خطا الشيخ الفيزازي إلى أن وصل بجانبه ليقول بصوت مؤكد: - كن على ثقة أن إيذائها لم يخطر في بالنا البتة!
- أتمنى ذلك!
ليفتح معاذ باب غرفة منار ويلحقه كل من الشيخ الفيزازي ونادر. بينما توقف مروان للحظات محاولا التخفيف من عصبيته قبل أن يخطو إلى الداخل يلعن نفسه على حضوره في المقام الأول...
في غرفة منار،.

جالسة كعادتها على السرير تتأمل السقف بشرود. وقف نادر للحظة يتأملها قبضة قوية تعصر قلبه وهو ينظر إلى منار. هل هذه فعلا منار تلك الشاحبة المستلقية على السرير. أين هي صغيرته المفعمة بالحياة المليئة بالطاقة؟
عصر على أصابعه بقوة إلى أن ابيضت سلامياتها. للمرة الثانية لا يستطيع التعامل مع شعوره بالذنب لتركها كل تلك السنوات وحيدة. حاول الاقتراب منها قبل أن تمنعه يد الشيخ باصرار. وهو يقول:.

- ممنوع التحدث إليها. كل ما ستقوله محض كذب مفهوم.
حرك نادر رأسه بوجوم عيناه لا تفارقان جسدها الضئيل المستلقي باستسلام مؤلم...
ليقترب معاذ والشيخ الفيزازي اللذان اهتما بربطها باحكام. وتوصيل جهاز مراقبة نبضات القلب الذي أحضره معاذ بطلب من الشيخ ومجموعة من الشاشات ركزت على عينيها...
للحظات كان الجميع منشغلين كل في عالمه الخاص بينما استل مروان الكاميرا الرقمية لهاتفه محاولا تسجيل الجلسة.

أخيرا بدأ الشيخ في محاولة للتحدث إلى منار والتي باءت بالفشل مستمرة في النظر إلى السقف وكأنها غير معنية بكل ما يفعلونه...
جلس إلى جانبها بعد أن فتح الكاميرا الخاصة بالتسجيل: - الأحد التاسعة صباحا
الحالة: منار الصفريوي الجلسة الأولى. الحالة عموما تحت السيطرة تم تخديرها بشكل مكثف حدقتها متوسعة نسبيا بسبب الأدوية التي يتم حقنها بها...

- حسنا لنوقظها. قال الشيخ مخاطبا معاذ الذي استل الحقنة المجهزة سلفا من جيبه
- مضاد الدواء سيبدأ مفعوله بعد 20 ثانية من الآن. قال معاذ موضحا
حرك الشيخ رأسه بتفهم وقال مخاطبا كلا من نادر ومروان واللذان كانا شبيهن بالتماثيل الرخامية في وقوفهما مشدوهين دون حراك:
- الآن سننتظر لنرى ما سيحصل.
- منار! منار هل تسمعينني. هل تعرفين من أكون؟
لم تجيه عيناها تتجولان في المحيطين بها بذهول.

- منار هل هنالك أحد معك. هل تشعرين بشخص يكلمك الآن؟
- لا أدري. قالت منار بنفس الصوت المرتعش.
الشيء الذي جعل مروان يتحرك معبرا عن ضيقه من هذه التجربة اللعينة والخاطئة...
- من معك؟ أيا كان نحن. يمكننا مساعدتك. نستطيع تحريرك...
- مؤشراتها الحيوية جيدة للآن. قال معاذ الذي كان يراقب الأجهزة باهتمام
ظلت منار صامتة دون اجابة، حرك معاذ رأسه باستغراب فهذه المرة الأولى التي يرى منار فيها بهذا الهدوء...

- ما الذي يعنيه كل هذا الهراء؟ صرخ مروان بغيظ وهو ينظر نحو الشيخ ومعاذ شزرا
وقبل أن يستطيع نادر ايقافه. انتفض الجميع على صوت صراخ مهول أصابهم بالمصمم للحظة.
- يا إلهي حدقتها متوسعة للغاية!
صرخ معاذ مقتربا منها محاولا اعادة وصل الأسلاك التي انفصلت بفعل حركتها العنيفة. ليصدح صوت خفقات قلبها بطنين مزعج...

- يا إلهي! اقترب مروان سريعا. رغم صراخ الشيخ فيه بالبقاء جانبا اللعنة! لقد وصل معدل ضرباتها إلى 220 ستصاب بسكتة لا محالة...
- لن تصاب بشيء!
قال الشيخ بصوت حازم وهو يمسك بجيبنها ليتلو سور من القرآن بينما تتلوى محاولة ابعاده. عيناها متوسعتان وجسدها ينتفض وكأنه تحت تاثير شحنات كهربائية عنيفة...
حركت رأسها لتنظر نحو نادرا الذي وقف متسمرا في مكانه من هول الصدمة وكأن قدماه إلتحمتا بالأرضية...

- أنا أعرفك. أعرفك أيها الكائن الحقير القاتم المشاعر. تعذيب أمك وزوجة صديقك المقرب لسيرين يعجبني كثيرا قالت وهي تضحك بسرور. أعلم كل شيء عن تلك الغرفة حيث تحتجزها والدتك. امم. فعلا شيء جميل رؤية بشرة آدمي تحترق. مغرية للغاية. لذيذة. قال الكائن بانتشاء
لتلتفت إلى معاذ الذي كان ساهما بينما يتلو المعوذتين بصوت مرتعش.

- أوه! لا يمكنك أن تعود وتطلب الغفران بهذه البساطة أيها الشكاك القذر. أنت قررت منذ سنوات إلغاء الرب من حساباتك، احزر ماذا. إنه لا يستمع لصوتك الكريه الآن...
ارتعش جسد معاذ مقتربا منها يدفعه استفزاز الكائن الذي كان يتوغل بداخل جلده يخترق أكثر ذكرياته قتامة وسوادا، لتحرر منار يدها بسرعة من تحت الأربطة ممسكة بعنقه تسحقه بين أصابعها...
- اللعنة!

صرخ مروان وهو يهب لمساعدة معاذ قبل أن تسمره كلماتها: - أتعلم أنها لا تحبك. حين تضمها إليك تغمض عينيها وتحلم أنها بين ذراعيه. أخبره نادر كم من مرة تحايلت عليك الساقطة الصغيرة لتمنحها القليل من حبك!
- لا تستمعوا إليه! كل ما يقوله محض كذب!
قال الشيخ الفيزازي معيدا يده على جبينها لتصرخ بصوت مخيف: - تبا لك أيها الشيخ القذر! تبا لك! سأقتلع قلبك المريض وآكله!

فجأة انتفض جسدها بشكل مرعب ليرتفع وكأن قوة جذب ترفعه إلى الأعلى لتتمزق الأربطة المحكمة عن جسدها وتقذف بقوة نحو الجدار في آخر الغرفة...
- ساعدوني في الامساك بها!

صرخ الشيخ مقتربا من منار التي أصبحت شديدة الهياج وهي تزأر بصوت بعيد عن الآدمية، أخيرا انتفض نادر من ذهوله مقتربا من الشيخ لمساعدته معيدا إياها على الطاولة من جديد. بينما ظل مروان ومعاذ ساهمين وكأن أثر كلماتها نفذ لروحيهما يمنعهما من التحرك...
أوثق يديها قال الشيخ وهو يحاول اعادة الآلة للعمل. أمسكت يدها الحرة بفك نادر لتقربه منها وهي تبصق كلماتها في وجهه.

- أعد هذا الشيخ مرة أخرى إلى هنا وأعدك أن أستعمل جسدك اللعين لأعتدي على قاتلة الأطفال هناك! أتفهمني! صرخت فيه بصوت مرعب قبل أن تدفعه بقوة نحو الجدار
باغتها الشيخ الفيزازي وهو يتلو عليها سورة أخرى من القرآن جعلتها تنتفض بقوة رهيبة، اقترب معاذ أخيرا محاولا الخروج من صدمته:
- نبضها وصل إلى 242 ستتمزق شرايينها إن لم تتوقف حالا!
- لا ليس الآن!

قال الشيخ مستمرا في تلاوة آيات من القرآن بينما يصب الماء المقري على جسدها، لم ينتبه إلى مروان الذي أصبح ورائه ليسحبه بعيدا عنها وهو يصرخ:
- ستقتلها أيها الشيخ اللعين!
أخيرا هدأت منار واستلقت بهدوء على السرير وهي تدندن. أغنية يعرفها نادر جيدا. أغنية محببة إليها منذ كانت طفلة.
- منار.
قال نادر وارتعش فكه بقوة مقتربا منها يدها مرفوعة نحوه تحثه على الاقتراب.

- لا! صرخ الشيخ فيه ليتوقف. هذه ليست شقيقتك! نادر لا تسقط في فخه!
لكن نادر كان قد وصل إليها بالفعل ليمسك بيدها الممدودة نحوه. نظر في عينيها للحظات مخاطبا الشيء الذي بداخلها بأمر:
- دع شقيقتي وشأنها!
ضحك الكائن باستهتار ساحبا نادر نحوه بسهولة ليهمس في أذنه بنبرة صوته الحقيقية والتي جعلت جلد نادر يقشعر قبل أن تجمده الصدمة:.

- ستحترق في الجحيم لكل ما سببته لها من أذى الفتاة المسكينة. حين تصل إليها ستكون قد رحلت دون عودة!
بهذه الكلمات أعادت منار رأسها ليرتخي على السرير بينما عاد نبضها طبيعيا مغمضة عينيها باستسلام...
لم تستيقظ سيرين حتى بعد مرور شهرين على الحادث،.

من كان يعلم أن سقوطا من على الدرج قد يسبب كل ذلك الأذى. كسور في الأضلع والكتف نهاية بكسر طولي في الفك ثم دخولها غيبوبة عميقة ولسخرية القدر كانت لاتزال تحمل طفله...
نظر الطبيب إليها منتبها لاشارات الدماغ باهتمام.

- لقد تحركت أصابعها اليوم. أنا رأيت ذلك بأم عيني. قد تستيقظ في أي لحظة ربما ليس اليوم. وليس غذا لكنها ستستيقظ. لما لا نعطيها وقتا لتشفى. قال مشيرا إلى يدها الشاحبة التي تلونت بألوان داكنة بفعل المغذي
وضع الطبيب نظاراته ليقرأ اللوح المعلق إلى جانب سريرها وهو يحرك رأسه بعدم اقتناع:.

- لقد تحدثنا في الموضوع مسبقا سيد نادر. لكنك غير قادر على استيعاب عواقب ما تطلبه هنا. أنت تريد أن تحتفظ بطفل من زوجتك الميتة. تحريك يدها لا يعني أي شيء مجرد تشنجات لا أكثر.
- ليست ميتة! اللعنة! صرخ نادر مشيرا بيده نحو الطبيب بتهديد وجسده يرتعد من الغضب ستستيقظ! أنا متأكد من ذلك!

وقف مروان الذي كان ينظر إليهما بهدوء قبل أن يحاول مساعدة نادر على استيعاب ما يقوله الطبيب. أمسك بمرفق صديقه لكنه نفضه عنه مبعدا يده بغضب. تنفس مروان بقوة مخاطبا نادر:.

- أنا أعلم جيدا. ما الذي تعنيه سيرين بالنسبة إليك. وأعلم كمية الألم والحزن اللذان تمر بهما. يائس للاحتفاظ بأي شيء منها. وجود هذا الطفل هو الخيط الرفيع الذي يربطك بها أانت ترفض قطعه. وأنا أفهمك. لكن من وجهة نظر طبية ما تطلبه فيه مخاطرة كبيرة. ليس بالنسبة لسيرين. فهي قد رحلت بالفعل. لكن للطفل الذي ستنجبه. إنها فكرة سيئة جدا...

- لا دخل لك! قال نادر من بين أسنانه أنا لم اطلب مشورتك! فابتعد عن طريقي! صرخ فيه بحدة
حاولت رنا التدخل فمنعها مروان باشارة صامتة. جرحتها نبرة المرارة في صوته والحزن البادي على وجهه الذي ظلم من الألم، تجاهلت تحذير زوجها لتقترب من نادر مواسية:.

- نحن نعرف ماهية ما تعانيه. تظن أنك أن أحببت هذا الطفل بقوة فهذا سيبقيها قريبة منك للأبد. وضعت يدها على كتفه محاولة مواساته قائلة لكنها رحلت. ولا جدوى لما تفعله هنا. إن قررت المضي في الأمر فأنت لن تؤذي نفسك فقط. أنت تؤذي الروح التي تتعلق بها الآن بكل قوتك رافضا السماح لها بالرحيل...
رفع نادر رأسه وكأن كلماتها أصابت أعمق جروحه. حدق في ملامحها بحقد قبل أن يشيح بوجهه وهو يقول مخاطبا مروان:.

- أتمنى لو تأخذ زوجتك بعيدا عن هنا. من أجل الصداقة التي تجمعنا دعها تغادر قبل أن أقوم بفعل قد أندم عليه!

أجهشت رنا بالبكاء وهي ترى الكره يشع جليا من كل خلية من جسده. إنه يكرهها ولا سبيل لها لتغيير هذا الواقع الآن. لم تستطع تحمل المزيد. خلعت رداء المستشفى الذي غطى ملابسها المتكلفة قبل أن تركض خارجة من الغرفة يتبعها مروان. بينما عاد نادر إلى شروده يتأمل سيرين النائمة باستسلام. لكم يرغب في القفز إلى ذلك السرير وهزها بقوة إلى أن تستيقظ من ذلك السبات الذي يعتبرونه موتا.

مستحيل أن تموتي الآن. هنالك الكثير لنقوله. لدي الكثير لأكفر عنه سيرين. بحق السماء ليس وقت رحيلك!
عاد من شروده على صوت الطبيب الذي كان يطلب منه للمرة الأخيرة التفكير في ما يطلبه قبل أن يضع الأوراق على الطاولة أمامه...

- أنا أنصحك بعدم القيام بهذا الأمر الجنوني. جسدها لم يعد يستطيع الإعتناء بطفل. ضرورة انهاء هذه المهزلة أصبح مسألة حتمية. بقاء الحمل يعني المخاطرة بولادة هذا الطفل مريضا جدا. مشوها أو حتى ميتا...
- سأجرب حظي! قال نادر بهدوء مناف لما يشعر به
- أنت لا تفهم! قال الطبيب وقد فقد الأمل في اقناعه
- أنتم تحتفظون بأعضاء المرضى لمدة طويلة. ثم تعيدونهم للحياة. ما الفرق؟

- الفرق أن تلك الأعضاء ليست طفلا يحتاج إلى الكثير من الدقة للعناية به ونموه بشكل سليم. هرمونات ودرجة حرارة. تبادل غازات دم. وهذه الأشياء لن يقوم بها شخص سوى أمه. وهي عاجزة تماما عن منح ما تطلبه أنت لهذا الجنين!
- أنتم تستطيعون تنظيم ذلك! قال نادر بنفس الهدوء الذي يسبق العاصفة
- نحن يمكن أن نحاول. عقب الطبيب بصبر
- إذاً حاولوا اللعنة! ماهي مشكلتك؟

صرخ نادر وهو يركل الطاولة وقد فقد السيطرة الكاملة على غضبه. لينهض من مكانه بقوة جعلت الطبيب يرتد إلى الوراء مستشعرا الخطر في نبرة صوته قبل أن يسيطر على ارتعاشة جسده وهو يلمح مروان الذي عاد إلى الغرفة. ليقف بارتباك يشاهد ثورة غضب صديقه والتي هددت باحراق كل من حوله...
استعاد الطبيب نبرته المهدئة ليقول: - مشكلتي أنك تريد استعمال زوجتك الميتة كحاضنة لطفلك وهذا ما نرفضه تماما!

أدار نادر ظهره للطبيب متجها نحوها بخطوات واسعة وهو يقول: - إذاً لا داعي لوجودك هنا! غادر حالا قبل أن أقرر رميك بنفسي خارجا!
قال نادر بتهديد. ليجثو على ركبتيه أمام سريرها ممسكا بيدها الشاحبة ليقربها إلى فمه ويطبع عليها قبلة امتزجت بدموعه...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة