قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طلسم عشق الجزء الأول للكاتبة عفاف مغنوي الفصل الثالث

رواية طلسم عشق الجزء الأول للكاتبة عفاف مغنوي الفصل الثالث

رواية طلسم عشق الجزء الأول للكاتبة عفاف مغنوي الفصل الثالث

تلوت سيرين بانزعاج وهي تتقلب في فراش منار الوثير، كأنها تستلقي على الشوك، فقد داهمتها الكوابيس وجعلت نومها عذابا، انتفضت بقوة حتى كادت أن تسقط عن السرير، منذ سنوات لم تروادها أحلام عن منار صديقتها القديمة وشقيقة نادر المدللة...

لطالما كانتا صديقتان بالمدرسة وحتى بعد أن قررتا دخول شعبتين مختلفتين بالجامعة ظلت صداقتهما وطيدة واشتركتا نفس الشقة الرائعة، هدية نادر لمنار لاجتيازها امتحانات كلية الطب بنجاج. ولأنهما انحدرتا من عروس المغرب طنجة وربطتهما الصداقة منذ السنوات الأولى للمدرسة، قررت بعد شهور وتحت إلحاح منار المتواصل على مشاركتها السكن. لتصبحا أكثر من شقيقتين وتوطدت علاقة الطفولة لتصبح علاقة عميقة جدا. فسيرين كانت طفلة وحيدة ووجدت في منار كل ما افتقدته لسنوات، تبادلتا الأحلام عن المستقبل، عن الفارس الفاتن والذي سيأتي يوما لاختطافهما على الحصان الأبيض لتعيشا بسعادة طول العمر...

لم تبح سيرين يوما بسرها الصغير عن فارس أحلامها، ذلك الفارس. بهالته القوية والتي لطالما بعثت فيها ارتعاشات تجهل مصدرها. لقد حلمت به أغلب لياليها وتمنت بصمت أن ترى نفسها معلقة بذراعه. لم يكن الفارس الذي يسكن أحلامها سوى شقيق منار الأكبر نادر.

أخفت مشاعرها الآثمة بخجل طفولي وظلت تسترق إليه نظرات ملؤها الحب مفتونة بوسامتة الطاغية والكبرياء المطل من عينيه المظلمتين، خجلها دائما منعها من الاقتراب منه. فخداها كانا يتلونان بالأحمر الدافئ وترتعش لمجرد نظرة من عينيه أو كلمة عابرة يوجهها إليها. لتظل تعيدها لأيام على مسمعها وكأنها ترتيلة من عالم آخر...

استمرت مشاعرها طويلا أطول حتى من الاعتراف لنفسها أنه ليس سوى حب مراهقة في سن تاسعة عشر وسيختفي حالما تنضج مشاعرها فعليا، على الأقل هذا ما تتمنته فحب من طرف واحد كان ليقضي على قلبها الرقيق...

صديقتها منار على عكسها، لم يكن الخجل ليثنيها عن الاعتراف بمشاعرها لطالما أمنتها على كل أسرارها مطلعة سيرين عن أحلامها حول شخص رائع تحبه وتعلم بمشاعره الخجولة نحوها وستنتظر بصبر إلى أن يتغلب على خجله ويأتي لمصارحتها بحبه وساعتها ستتوج قصتهما بحفل أسطوري.
لصدمتها الكبيرة حين قررت منار الزواج من عادل وترك الدراسة نهائيا...
أفعلا كانت عمياء لدرجة لم تلاحظ أنها تحب ابن عمها هي؟

لم تتخيل يوما أن تقع منار الرقيقة في حب شخص بصفات ابن عمها بل وحتى أن تصر على الارتباط به بكل السبل، كانت مفتونة بعادل بشكل أعمى غطى على كل المساوئ والتي لم يرها غيرها فيه، فهي أدرى الناس بابن عمها من الجميع. حين حاولت هي ثنيها عن الموضوع محاولة تجنيبها الألم بعلاقة سيكتب لها الفشل. نهرتها منار بقسوة لم تعهدها واتهمتها بالغيرة ودفعتها من حياتها بعيدا. ومنذ اليوم الذي رحلت فيه، انقطعت علاقة الصداقة المميزة التي دامت لسنوات طويلة وتحولت إلى مجرد لقاءات يتيمة تفرضها الزيارات العائلية المتبادلة في المناسبات...

بعد شهور قليلة حضرت حفل زفاف منار على ابن عمها كمدعوة ومسحت دموع الألم والحسرة لرؤية أقرب انسانة إليها تزف دون أن تكون معها، لقد تواعدتا منذ سنوات على أنهما سيتزوجان معا وستحضران لزفافيهما جنبا إلى جنب...

لكنها لم تكن سوى أحلام طفولية انتهت مع زفاف منار الأسطوري ورحيلها هي إلى فرنسا لتطوي صفحة منار ونادر من عقلها إلى الأبد، لتعود بعد تخرجها مباشرة على الخبر الصادم بموت عادل المأساوي وايداع منار مستشفى للأمراض النفسية...

بعدها بشهور قليلة من توليها مهام عادل بشركة والدها، كانت قد فقدت كل شيء وضاعت منها الشركة بلمح البصر، كل ما درسته لسنوات طويلة لم يكن له أي قيمة، تعلمت بالطريقة الصعبة أن الأعمال لا تدار بنزاهة وهذا ما أوضحه الجميع لها، لم تجد سوى نادر لتضع ثقتها فيه عله يسحبها إلى بر الأمان...

بسبب تلك الثقة العمياء بنادر الذي تغذت مشاعرها على حبه لسنوات، بسبب صورة الفارس النبيل التي لطالما رسمتها له بخيالها. أعطته ثقتها ليساعدها في حمل متاعب الشركة المضنية، والتي لم تكن تعلم أنه هو مصدرها الرئيسي...

وأخيرا فوجئت بطلبه الغريب للزواج وكأنها صفقة. كانت تحبه ولطالما فعلت. فكرة الارتباط به كان حلما، لكن وهو يطلب يدها بتلك الطريقة المهينة تبخرت كل تلك الأحلام الوردية عن نادر وعن الحب وفارس الأحلام بدرعه اللامعة...
- تزوجيني أو ستفقدين كل شيء سألها ببرود
لتنكسر أحلامها ببشاعة على أرض الواقع تاركا قلبها حطامها يأن على الأرض...

حين عاند كبريائها قلبها ورفضت طلبه المهين الذي دمر الصورة البريئة لحبه، هدم حياتها وحياة عائلتها وهي ترى أكبر شركة للشحن تتفكك وتنهار، لقد دمر نادر في شهر واحد ما بنته عائلة بنجلون في عقود...
وأخيرا سقط والدها، وعلى فراش الموت تشبث بابنته مطالبا إياها بعدم الرضوخ لنادر والهرب بعيدا، لم تعلم السبب وراء ذلك الخوف العميق في عيني والدها حتى وهي تغمضهما بيدين مرتعشتين وقد فارق الحياة...

على شاهد قبره تعهدت سيرين أن نادر الصفريوي لن يلمس شعرة منها مهما كلفها الأمر...
حين أتى أخيرا بعد شهر من وفاة والدها المأساوية ليرى انكسارها، كان الحقد قد أعمى قلبها فلم تعد تريد سوى الانتقام، حاولت أن ترد له الصفعة ولو بطريقتها الخاصة فهي لم تعد تملك شيئا لتحاربه به، وافقت على الزواج منه وانصاعت لأوامره. الغريب أنها لم تكن تعلم سبب هذا الكره الموجه إلى عائلتها يوما.

أكان بسبب عادل؟ لكن ما الذي سيربطها هي بزواج شقيقته من ابن عمها؟ أليست منار من أصرت رغم اعتراضها الشديد؟ أليست هي من أنهت حياة ابن عمها فكيف يكون هو الحاقد عليهم؟
لم يكن الأمر منطقيا أبدا...
واكتفت بأن تبرر لنفسها أن عالم الأعمال مكان قذر لا يعرف سوى البقاء للأقوى وشركتهم كان عثرة في طريق نجاحه كان عليه التخلص منها بعيدا عن روابط الدم والمشاعر...

صفعتها هي كانت رقيقة لكنها أثرت في نادر بعمق حين تركته يوم زفافهما لتسبب له الاحراج الشديد أمام عائلته ومدعوييه، رحلت غير مهتمة لنوع الألم الذي سببته، تمنت فقط أنه قد شعر ولو بالقليل من الاحراج والاهانة وربما الألم لرحيلها من يدري...
شعرت سيرين بالضيق ينتابها لمجرد التفكير بنادر ولم تعد قادرة على التنفس، فالأحلام عن حياتها الماضية كانت تمر كشريط طويل متخم بمشاعر الحسرة والألم.

مسحت الدموع التي انهمرت على وجهها، محاولة تذكر كلمات والدها علها تعيد إليها القليل من القوة التي سحبها منها نادر في أول مواجهة. انتبهت أخيرا الى حركة خافتة...
ورغم الظلام الذي ساد جو الغرفة الكئيب، شعور داخلي أخبرها بأنها لم تكن وحيدة. كان هنالك أكثر من عبق الماضي في غرفة سيرين. هو. موجود هنا يقاسمها الهواء الذي أصبح ثقيلا ومعبئا بعطره المميز...

التفتت بسرعة وتحققت أسوء مخاوفها، لقد كان نادر متكئا بظهره على الباب المقفل بابتسامته القاسية يتأملها، ورغم الاضاءة الخافتة شعرت بعينيه تخترقانها بنظرات فولاذية خالية من التعاطف، لتنكمش على نفسها بخوف...
- أتمنى أن ضميرك يشعر ببعض الندم! تهكم نادر بغموض وهو يقترب ليجلس على كرسي التسريحة مقابلا لسريرها.

كان صدر سيرين يعلو ويهبط بطريقة غير طبيعية، شعرت وكأن قلبها سيخرج من مكانه وهي تستمع إلى خفقاته المجنونة تصم أذنيها، تنفست بعمق محاولة السيطرة على جسدها قبل أن تضع يدها في خصلات شعرها المبلل بالعرق لتعيده إلى الوراء بينما نادر مستمر في تأملها ببرود...
استجمعت قوتها اخيرا وقررت رد هجومه، قبل ان يظهر خوفها جليا.

- أنت ما الذي تفعله هنا؟ سألت بنبرة أقرب إلى الصراخ هيا اخرج حالا من غرفتي! أنا لا أريد رؤيتك!
ابتسم نادر وهو ينهض ليقترب منها في خطوات متمهلة إلى وصل أخيرا بمحاذاة السرير ليلتقط خصلة من شعرها الحريري ويجذبها بقوة جعلتها تأن...
- هذه ليست غرفتك! صحح نادر بازدراء هذه غرفة منار. أم أن دماغك الماجن أصبح لا يفكر بطريقة سليمة؟!

- اخرس! أمنعك من الكلام عني بهذه الطريقة! أنا أشرف منك ومن كل عائلتك أيها الحقير السافل!
-أحقا؟ تهكم نادر وهو يرمقها بنظرات ذات مغزى
انتبهت سيرين متأخرة إلى أنها قد خلعت سترتها السوداء حين حاولت النوم، كانت واقفة أمامه لا يسترها عن عينيه المثبتتين نحوها سوى قميص رقيق من الدانتيل الأسود والذي لم يترك شيئا للخيال...

ارتجفت بعنف من قربه الشديد والتوت معدتها من الخوف وهي تنظر إليه يقترب منها ليهمس لها بصوت كالفحيح.
- سنرى الآن وحالا صحة هذا الافتراء!
وقبل أن تفهم المعنى من كلامه كان نادر قد حملها بين ذراعيه وهي تصرخ بقوة محاولة خدش وجهه وضربه. لكن قوته تغلبت على هجومها الضعيف وهو يحملها صوب الباب المقفل ليفتحه ويعبر بها الرواق نحو غرفة نومه. حيث كان مصمما على معرفة الحقيقة...
في المصحة النفسية،.

أظلمت عينا الطبيب معاذ بقسوة وهو ينظر إلى التسجيلات التي بثتها الكاميرا بغرفة منار ليلة أمس...
منظرها كان مرعبا وهي تقف لساعات تنظر إلى الحائط المقابل لسريرها محركة رأسها بطريقة رتيبة وكأنها تقوم بطقس وثني غريب، حرك معاذ التسجيل بيد متصلبة، لقد مرت ساعتان ونصف على نفس الحالة وأخيرا توقف، كانت تنظر إلى الكاميرا بعينين مختلفتين. هنالك شيء مختلف، تلك الفتاة أمامه، ليست منار!

ما يفكر به جنون حقيقي. لكنه مستعد لتجربة أي شيء فقط لاستعادتها، هو الذي لم يمسك قرآنا بين يديه لسنوات ولا حتى ركع ركعة واحدة منذ أن ترك منزل العائلة...
في ظروف أخرى كان ليضحك على نفسه بقوة، كيف لطبيب يؤمن بالعلم أن يفكر بهذه الطريقة البدائية. لكنه لم يعد مقتنعا بأنها مريضة فصام وكان مستعدا لتجربة أي شيء جديد إذا كان ليعطي نتيجة معها...

أخيرا اتجه نحو الحمام الملحق بغرفة الاطباء ليتوضأ ثم ليتجه مباشرة نحو غرفتها...
في غرفة منار،
كانت جالسة كعادتها مسلوبة الارادة تنظر إلى السقف بينما تتضاعف الهمهمات لتصبح أصواتا صارخة. أقتليه. اقطعي رسغه وضعت يديها على أذنيها محاولة ايقاف الصوت الذي كان يعلو دون جدوى قبل أن تصرخ بقوة وهي تضرب بيديها على السرير إلى أن انهارت تماما...

فتح الباب في تلك اللحظة وظهر معاذ بلباسه الطبي المميز ليتأملها بعينين مظلمتين...
- لا يتوقف! صرخت منار فيه بصوت يائس أخبره أن يتوقف، أرجوك!

أشار معاذ إلى الممرضين اللذان كانا بصحبته ليقفلا الباب ويجلس هو على الكرسي المحادي لسريرها. متأملا حركاتها بنظرات مبهمة، وضع القرآن على الطاولة أمامها. مستمرا في التحديق باهتمام في كل حركاتها قبل أن يرفع يده نحو الكتاب محاولا فتحه ويتوقف من الصدمة التي شلت لسانه:
- أتظن أن ذلك الكتاب في يدك سيحميها مني!

تسمرت عيناه وهو ينظر إلى الواقفة أمامه. كان جسد منار لكن بالطريقة التي كانت تتحرك بها وتلك الابتسامة المخيفة التي بعثت القشعريرة في جسده، لم تعد هي!
مستمرة في النظر اليه باستهزاء خاطبته بصوت غريب: - من بين كل البشر أنت أكثر شخص ليس عليه أن يلمس شيئا بقدسية ذلك الكتاب! فأنت ملوث أكثر حتى من هذه المسكينة!

تنفس معاذ بقوة محاولا طرد كل المخاوف التي بدأت تزحف إلى عقله محاولا استحضار منطقه الطبي. هي مصابة بالفصام هلوسات سمعية وبصرية وبالطبع تقمص لأدوار عديدة. شرح لنفسه محاولا كبث الخوف من المجهول الذي بدأ يتسلل إلى قلبه، أخيرا تعوذ بالله من الشيطان الرجيم ليفتح الكتاب على سورة البقرة محاولا بدأ التلاوة...
ليفاجئ بورقات الكتاب تطير وكأن ريح قوية تلعب بها. رغم عدم وجود أي منفذ للهواء في تلك الغرفة.

سيطر الخوف على مشاعره لكنه قرر المواصلة، وما أن حاول أن ينطق حتى وجدها قد اقتربت منه بسرعة، تأمل قدميها العاريتين واللتان لم يكن يفرقهما عنه شيء، ليرفع رأسه وتجمده المفاجئة وهو ينظر إلى وجهها والذي استحال شاحبا شحوبا مخيفا وابتسامة ساخرة تزينه، لترفعه دون أي مجهود يذكر وتعصر رقبته بقوة بين يديها...

لم يكن معاذ مستعدا لهذه الحركة المفاجئة، خصوصا وهو يتأمل الشرر الذي أطلقته تلك العينين، حاول تخليص نفسه دون جدوى حتى مع قوته العضلية الكبيرة كان يشعر بأن رقبته تعصر بقوة بين يديها اللتان تمسكانه وكأن لاوزن له على الاطلاق...
أخيرا اقتربت من أذنه لتهمس له بهدوء: - لا أنت ولا أي شخص آخر سيسعفها مني! اعتبر هذا تحذيري الأول والأخير في المرة المقبلة التي ستاتي حاملا قرآنا في يدك سأجعلك تبتلع ورقاته!

أخيرا فكت يدها من على رقبته ليسقط معاذ على الأرض غير قادر على التنفس، لتعود بعدها بهدوء لسريرها وتتكور فيه على وضعية الجنين وهي تغني...
للحظة ظل معاذ يتنفس بقوة بينما عيناه جاحظتان غير مصدق لما حصل معه للتو. قدماه توقفتا عن الاستجابة وقلبه يقصف صدره بعنف، أخيرا تمكن من الزحف على ركبتيه ليطرق الباب بيد مرتعشة، فتحه الممرضان لينتشلاه وعلامة الصدمة بادية عليهما...
في فيلا نادر،.

دفع نادر باب غرفته بقوة، ليضع سيرين التي كانت تتلوى وتصرخ بعنف على السرير قبل أن يتأملها بنظرات جعلت الدم يتجمد في شرايينها ألجمت الصدمة لسانها وهي تنظر إليه يخلع ربطة عنقه ويفتح أزرار قميصه بعنف ليرميه على الأرضية الرخامية متجها نحوها...

تكمشت في مكانها فالخوف شل حركتها مانعا إياها من الهرب. سحبها إليه بقسوة وحشية جعلت قلبها يهوي بين ضلوعها، لتحرر يدها من عناقه وتخدش بأظافرها الطويلة جانب عنقه، ابتسم لها بانتصار وكأن مقاومتها الضعيفة تزيد من اشتعاله...
ليمسك بشعرها طويل بين أصابعه بقوة جعلتها تصرخ وهو يهمس لها باحتقار: - سأجعلك تندمين على اليوم الذي اقتربت فيه مني سيرين!

بتلك الكلمات المحتقرة انقض نادر على شفتيها في عناق قاس جعلها تسقط أخيرا بين ذراعيه لتتوقف عن المقاومة ويبتلعها الظلام...
حين استيقظت أخيرا، كانت الغرفة هادئة جدا، احتاجت سيرين لبعض الوقت لتتذكر كيف وصلت إلى هنا قبل أن تضربها الصدمة بعنف...
رفعت رأسها بقوة من على الوسادة وشعرت مجددا بالدوار وهي تنتظر انقضاضه عليها، لدهشتها الكبيرة كانت وحيدة في غرفته.

علا طرق على الباب قبل أن يفتح بهدوء لتدخل فتاة جميلة في لباس وردي. تدفع أمامها عربة طعام مذهبة وضعتها بقرب السرير قبل أن تبتسم لها بخجل:
- السيد نادر أمر باعداد الغذاء من اجلك، أتمنى أن يعجبك ما حضرته لك سيدتي...
حركت سيرين رأسها وهي تهمس بكلمة شكر. فالفتاة كانت لطيفة معها على عكس كل من في هذا البيت...
ابتسمت لها الفتاة بدورها قبل أن تتجه نحو الباب. تاركة لسيرين الحرية في التنفيس عن ألمها...

أخيرا اندفعت الدموع بقوة لتغطي وجه سيرين وهي تتحسس قميص النوم الأسود والذي وجدت نفسها ترتديه...
يا إلهي هل اعتدى عليها؟ هل أخذها وهي غائبة عن الوعي؟
الفكرة فقط جعتلها تشعر بالدمار والحسرة. لقد احتفظت ببرائتها للانسان الذي سيستحقها. ونادر بالتأكيد كان بعيدا عن وصفه بانسان يستحق...
انتحبت بألم وهي تعصر أطراف قميصها بحرقة، حتى أنها لم تشعر بالذي دخل ليتأملها بعينين ضيقتين محتقرتين...

رفعت رأسها تلقائيا لتنظر إلى نادر الذي أقفل الباب واتجه نحوها بخطوات واسعة، تأملته للحظة كان قد غير ملابسه إلى قميص بلون أزرق باهت وبنطال جينز، بينما شعره مبلل من أثر الاستحمام...
- أيها الحقير السافل! هل أنت بلا كرامة لتأخذني وأنا غائبة عن الوعي؟!
علت وجهه نظرة اندهاش اختفت سريعا ليحل محلها قناع القسوة وهو يتأملها باحتقار ليصفعها تعليقه المشمئز:.

- ليس نادر أيتها الصغيرة الذي يأخد امرأة إلى سريره غائبة عن الوعي! لكن بما أنك قررتي إطالة التمثيلية فأنا لا أمانع. والآن تناولي غذائك كله! لا أريد لما حصل قبل قليل أن يتكرر الليلة!
- عليك اللعنة! شتمته بقسوة وهي ترفع الغطاء عن قدميها متحدية أوامره
استمر نادر بتأملها باستخفاف قبل أن يقلص المسافة بينهما ويمسك فكها بيده الصلبة يعصره إلى أن أنَّت من الألم.

- لسانك الوقح هذا سأقوم بقصه خصوصا إذا تمادى بمثل هذه السوقية مجددا! ستحترمينني وتحترمين كونك زوجتي إلى أن أقرر أنا رميكِ إلى الشارع حيث تنتمين!
تجمعت الدموع في عيني سيرين رافضة انهيارها أمامه، لكنه ظل يضغط على فكها إلى أن خرجت شهقة من شفتيها المرتجفتين، وكأنه كان ينتظر فقط ذلك التعبير عن الألم لينفضها عنه باستخفاف ويرميها على السرير ليقرب العربة منها، وبصوت آمر:
- كلي وإلا فأسقوم بإطعامك بنفسي!

حاولت أن تعانده مجددا. لكنها بالفعل كانت جائعة جدا، وهي تحتاج إلى كل القوة لمحاربته إذا ماقرر فرض نفسه عليها مرة أخرى، رفعت الغطاء وباغتتها رائحة الطاجين المغربي بتوابله المميزة، فشعرت باحساس جميل ينتابها حتى أنها تجاهلت وجود نادر معها في الغرفة وأقبلت على الطعام بشهية نسيت أنها تملكها...
بينما ظل هو يتأملها بمشاعر غريبة. جعلته أخيرا يندفع خارج الغرفة واعدا نفسه بليلة طويلة من الثأر...

في مدريد - اسبانيا،
ظلت نادية تتحرك في الغرفة جيئة وذهابا بينما تعصر أصابعها بعصبية، لقد وعدتها أن تعود ليلة. لماذا تأخرت؟ رفعت يدها لتمسك بهاتفها بعصبية وتضغط رقم الاتصال، وللمرة العشرين حولها إلى المجيب الآلي.
- اللعنة سيرين أين أنت!
أخيرا ارتعشت يدا ناديا وهي ترى اسم سرين يومض على شاشة هاتفها.
زفرت بقوة شاعرة أخيرا بالارتياح. لترفع الهاتف إلى أذنها قائلة: - يا إلهي سيرين لقد كدت أجن! أين أنت؟

- أنا نادر.
باغتتها النبرة الرجولية القوية لنادر وجعلتها للحظة تتوقف عن الكلام، كانت تستمع فقط إلى تنفسه الرتيب والهادئ، أخيرا وجدت صوتها لتقول بضعف وقد بدأت الكلمات ترتعش على شفتيها وهي تفكر بالأسوء:
- هل سيرين بخير؟ سألت بتردد.

- إنها بكامل صحتها! أجاب بنفس الهدوء المثير للأعصاب وقبل أن تستطيع ناديا قول المزيد أردف قائلا اعتبري أن كل الديون قد سددت آنسة ناديا والمشغل والمنزل أصبحا ملكا لك هدية عرفان مني لمساعدتك لسيرين...
- هل يمكنني أن أكلمها؟
- للأسف سيرين نائمة الآن. سأخبرها برغبتك حين تستيقظ. والآن اعذريني أتمنى أن تستفيدي من الفرصة فهو مشروع جيد، وبالقليل من العمل الجاد قد تصبحين سيدة أعمال مهمة قريبا...

- لا أعرف ما علي قوله همست فالصدمة جعلتها عاجزة عن التعبير
- ليس مهما. ناديا رد نادر بغطرسة قبل أن يودعها ويقفل الخط
اقتربت ناديا من اقرب كرسي لتجلس غير مصدقة أنها كانت تكلم للتو قطب الأعمال المعروف نادر الصفريوي هل هي تحلم، قرصت نفسها مرتين لتشعر بالألم أخيرا، فجأة قفزت الأفكار تباعا لتضربها بقسوة.
- يا إلهي سيرين! أعادت إليه بعد كل تلك السنوات؟ هل هددها؟

شعرت بالخوف يزحف ببطئ إلى معدتها، لقد أعادت لها سيرين كل ما ضاع منها فهل كانت هي الثمن؟
أخيرا قررت أن تترك الأمر قليلا فنادر وعدها أن صديقتها ستتصل بها. وهي ستنتظر هذا الاتصال بفارغ الصبر...
في غرفة الأطباء بالمستشفى،
جلس معاذ وعيناه شاخصتان في الحائط، بينما فرائصه ترتعد بقوة، لم يتوقف منذ أن خرج من غرفة منار عن التفكير المتواصل...

يا الهي! ما اختبره في غرفتها كان خارجا عن المألوف هو لا يصدق للآن ما حصل معه في تلك الزنزانة، أخيرا قرر أن يتصل بصديقه أمين فهو الوحيد الذي كان قادرا على مساعدته.
بعد ساعة،
كان أمين جالسا ينظر إلى صديقه بريبة غير مصدق لما حكاه للتو.

هل أصبح يهذي بسبب اقترابه الشديد من منار. يعترف أنه كان مخطئا حين قرر أن يتكتم حول معرفة معاذ بالمريضة مسبقا، كان يائسا بدرجة كبيرة حين أودعت المستشفى لأول مرة. كان يتوسل للحصول على ملفها، وقتها وافق بطيب خاطر فمن يستطيع أن يفهم منار كما يفهمها. وهو الذي أخلص لحبها لسنوات...

أربع سنوات مرت على ايداعها المستشفى لم ييأس صديقه يوما من محاولة علاجها وأخراجها من الشرنقة التي جعلتها عالمها وسكنته بعيدة عن الواقع، عالجها من التخشب ثم من الصمت المطبق، لكنه يرى الآن معاذ عاجزا عن معالجة هلاوسها وربما حان أخيرا وقت التدخل، نفث أمين دخان سيجارته وأطفأها في المنفضة أمامه ليقول وعيناه تضيقان على وجه صديقه الشاحب.
- ربما عليك أن تتوقف قليلا معاذ!

رفع معاذ راسه ليقابل نظرات الشك في عيني صديقه ليقول بصوت جاف: - أنت لا تصدقني أمين. أليس كذلك؟
- اللعنة معاذ! صرخ وهو ينهض ليواجهه بقوة أنت تخبرني أنك تجاهلت خمسة عشر سنة من التعليم الجامعي. وكل ما تعلمته لسنوات في المستشفى لتقول من كل عقلك أنك دخلت غرفة منار كطارد للأرواح! أهذا ما تريد أن أصدقه اللعنة معاذ؟!
- منار ليست طبيعية! صرخ معاذ بيأس هنالك شيء خطأ!

- لا! الخطأ هو أنني تركتك كل هذه المدة تعالجها. لكنني أرى جليا أن الحالة بدأت تؤثر عليك فعليا! وعلي كطبيب وكصديق لك أن أجعلك تتوقف!
- ما الذي تعنيه؟ هدر معاذ وظهرت عروق صدغة واضحة من العصبية المكبوتة
- أعني أنك ستطلب من الادارة اعطاء الملف لطبيب آخر!

- مستحيل! صرخ وهو يهب ليمسك بتلابيب معطف أمين الطبي أخبرني أنك لن تقول شيئا للادارة عن علاقتي بها! اللعنة أمين! قد يعيدون فتح الملف! إنها تواجه حكما بالاعدام! تخيل أن يسيئوا تشخيصها! يا إلهي قد يعتبرونها كاذبة! اللعنة قد تقتل بسبب ذلك!
زم أمين على شفتيه وهو ينظر إلى انهيار صديقه الوشيك. ليزفر أخيرا بقوة وبتحذير خفي قال:
- حسنا لن أخبر الادارة! بشرط.

نظر نحوه معاذ بنظرة اختلط فيها الرجاء باليأس: - سنقوم بمعالجة منار سويا!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة