قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل العشرون

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل العشرون

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل العشرون

(لم أكن لأتزوج امراة سواك يا غبية، لم يكن ليحدث أبدا)
توقف بكائها في لحظة كما توقفت عن مقاومته، و نظرت الى وجه الجاد و عينيه العميقتين بصدق لا يمكن إغفاله، و بدأت الكلمات تخترق عقلها المغطى بشباك العنكبوت القاتمة بالتدريج...
الى أن همست بصوت فاتر غير مستوعب
(ماذا؟)
لم يبتسم وهو يبادلها النظر، نافذا الى روحها المجروحة بعينيه، ثم أعاد ببطىء مشددا على كل حرف كي تفهم...

(لم أكن لأوقع نفسي في ذات الجريمة بحق نفسي مرتين، الزواج من غيرك، ما هو الا مشقة، و أنا كبرت على تحمل مثل تلك المشقة على قلبي و جسدي)
ظلت سوار تنظر اليه بغباء بضعة لحظات و هي فاغرة الفم، محمرة العينين و العنينين، ثم لم تلث أن سألته بصوت خافت، لا يحمل أي شعور
(هل تعني أنك لم تكن لتتزوجها منذ البداية؟)
أومأ برأسه ببطىء، ثم قال بجفاء
(لكن ليس إكراما لك في الواقع، بل من أجل نفسي فقط لا غير).

حركت رأسها مرة بطريقة غريبة، ثم سحبت ذراعها من قبضته ببطىء قبل أن ترفع وجهها اليه مجددا و قد بدأت عيناها تبرقان بالتدريج في ظاهرة كونية شديدة الغرابة، من الضعف الى الشراسة، الوحشية...
الغضب في أقصى درجاته، ثم صرخت فجأة بجنون
(هل تعني أنني قمت بإذلال نفسي، لأجل لا شيء!)
عقد ليث حاجبيه وهو يجيبها بخشونة
(لم أطلب منك فعل ذلك، كما لم أطلب منك أن تقومي بخطبة امرأة أخرى لي).

ضربته فجأة و قد تحولت كل مشاعرها المكبوتة لأيام الى طاقات و طاقات من الغضب
(كيف يمكنك أن تفعل هذا بي؟، كيف أمكنك؟، لقد عشت أياما مضنية بسبب نزعتك السادية في تعذيبي، الى متى كنت تنوي متابعة قهري بتلك الصورة؟، أنت لم تخبرني الآن الا لأنني أرضيت غرورك في اذلال نفسي).

من بين غضبها العنيف، لم تستطع منع المزيد من بكائها فإنفجرت دموعها مجددا و هي مستمرة في ضرب صدره بينما هو يحتجز معصميها دون أن يمنعها، ثم قال بقوة محاولا أن يوقفها كي تفهم
(لم أخبرك، لأرى الى متى ستستمرين في تصديق ذلك، ربما أردت معاقبتك في البداية، الا أن تصديقك للأمر يوما بعد يوم، جعلني أدرك الى أي مدى لازلت لا تثقين في حبي لك)
كانت تبكي بعنف و هي تضربه، ثم صرخت بإختناق.

(و هل أنت راض الآن؟، أراهن أنك راض كل الرضا، و غرورك الذكوري مشبع تماما)
رفع ليث حاجبيه، بينما ظهر الغضب في عينيه، ليشدد من أصابعه على معصميها فجأة، حتى حفرت في بشرتها، ثم قرب وجهه منها ليهمس بصوت غاضب مرتجف.

(غروري الذكوري؟، دعيني أخبرك أن غروري الذكوري الذي تتحدثين عنه قد نال منك بضعة ضربات موجعة، والله، لو غيرك قامت بنصف ما فعلت لكان لي تصرف آخر سيجعلك تدركين حينها كيف يمكن للغرور الذكوري أن يكون معميا، مهينا)
كانت تشهق بإرتجاف و هي تنظر اليه بنظرات شيطانية من بين دموعها، الا أنها همست أخيرا من بين أسنانها
(اترك معصمي، إنه لايزال متورم و ملتوي، لا أستطيع تحمل أي ضغط عليه).

ازداد انعقاد حاجبيه بشدة وهو يفلت معصمها على الفور، بينما امسكته هي بيدها الأخرى و هي تحاول تخفيف الألم عنه مغمضة عينيها...
فقال ليث آمرا بقلق
(أريني معصمك)
أبعدت معصمها عنه بالقوة و هي تهتف قائلة من بين دموعها
(و كأنك تهتم! لأيام، لم تحاول النظر الي، لم تحاول حتى التأكد إن كان مكسورا، و الآن تتوقع مني أن أصدق إهتمامك الزائف؟)
اتسعت عينا ليث بذهول وهو يهتف بصوت أجش خائف.

(مكسورا؟، مستحيل أن أكون قد كسرت لك ساعدك! أريني إياه حالا)
الا أنها حاولت تجاوزه و هي تقول بعجهية و ازدراء
(ابتعد عني، احتفظ بإهتمامك لنفسك)
فما كان من ليث، الا أن امسك بمعصمها بالقوة رغم ممانعتها و رفع كم عبائتها رغما عنها ينظر اليه بتفحص، بينما هي تنظر حولها الى الطابق السفلي الذي يقفان به بجوار السلم...
الا أن ليث لم يهتم و لم يفلت معصمها وهو يقول بقلق بينما يحرك مفصل ذراعها و مرفقها بحرص.

(ليس متورما و لا أشعر بأي كسر، لكننا سنقوم بإجراء أشعة كي نطمئن)
ضحكت سوار بصوت عال و هي تنظر اليه بكره
(تريد التأكد بأنك لم تكسر ذراعي، بينما كان هذا كل ما تتمناه، يا لك من طيب القلب حقا)
رفع ليث وجهه اليها، وهو يترك معصمها ببطىء، ثم قال أخيرا بجفاء.

(لا أنت مخطئة، لم يكن كسر ذراعك هو كل ما أتمناه، بل عنقك، لذا و بما أن ذراعك المسكين هو من وقع ضحية غضبي بالخطأ عوضا عن عنقك الغالي، لذا ضميري يحثني على الإطمئنان عليه)
زمت سوار شفتيها ثم همست بحقد من بين أسنانها، بينما دموعها لا تزال تنهمر على وجنتيها بقهر
(ابتعد عن طريقي، أنا سأتركك للأبد، لم أعد قادرة على البقاء معك أكثر، ليست سوار الرافعي هي من تعامل بهذا الشكل).

أمسك بكتفيها فجأة و شدها اليه وهو يهتف غضبا
(كفاك تكبرا و عنجهية يا ابنة الرافعية، و اسمعيني جيدا، ستظلين زوجتي خلال المتبقي من عمري، و زوجة واحدة تكفيني تماما، و هي أنت، ضعي هذه المعلومة برأسك و تعاملي على أساسها، فربما حينها قد ننعم ببعض الهدوء)
دفعته في صدره بقوة و هي تهتف باكية
(ابتعد عني، أنا سأتركك، للأبد).

و ما أن نجحت في افلات كتفيها من قبضتيه حتى اندفعت بكل قوتها تريد الهرب منه نزولا على سلالم الطابق الأخير، الا أنها كانت معمية البصر بسبب دموعها الغزيرة و حالتها النفسية اليائسة، فلم تكد تنزل على أول درجتين، حتى داست على طرف عبائتها الطويلة، فتعثرت بها و سقطت على المتبقي من درجات السلم حتى استقرت أرضا في نهايتها!

هتف ليث بذعر مناديا بإسمها وهو يجري اليها، بينما كانت هي قد أسندت نفسها الى مرفقها و هي تبكي ألما بصوت عال...
جثا ليث بجوارها وهو يحاول رفعها، الا أنه ما أن نظر الى وجهها حتى شهق من سيل الدماء الذي نزف فجأة من أنفها و منتصف شفتها العليا، بينما بدت كدمة وردية في الظهور أعلى جبهتها...
كان يتنفس بسرعة و هو يرى احدى الدرجات عليها بقعة دموية صغيرة، و سوار ترتجف بشدة بين ذراعاه اللتان ضمتاها الى صدره...

ثم قال بصوت أجش مرتعب
(هل أنت بخير؟، تكلمي، هل تشعرين بالدوار؟)
رفع ذقنها محاولا تفحص الكدمة على جبهتها و التي بدأت في البروز على الفور...
الا أن صوتا أنثويا آتيا من أعلى الدرجة جعله يرفع رأسه وهو يرى دليلة التي نزلت اليهما بسرعة قائلة
(ليث، ما الذي حدث؟، حاولت اللحاق بكما في المصعد، الا أنني سمعت صوت صراخ زوجتك).

كانت قد وصلت اليهما فتأوهت سوار بقوة و هي تخفي وجهها بخزي في صدر ليث، بينما سحبها هو ليجلسها على أول درجة من درجات السلم و أحاطها بذراعيه كي يخفي وجهها عن دليلة، ثم أجابها بقلق
(لقد تعثرت سوار و سقطت)
ارتفع حاجبي دليلة و تأوهت بتعاطف، ثم عرضت بهدوء
(هل هي بخير؟، يمكنني أن أقلكما الى المشفى إن كنت غير قادرا على القيادة يا ليث).

رد عليها ليث وهو يزيد من ضم سوار التي كان صوت بكائها المختنق مسموعا بوضوح و هي تدفن وجهها اكثر بصدره، تتمنى أن تنشق الأرض و تبتلعها
(أشكرك يا دليلة، أستطيع القيادة و سآخذها بنفسي حالا)
أومأت برأسها متفهمة، بينما راقبتهما وهو يقف ليسحب سوار معه حتى أوقفها على قدميها، فتأوهت بصوت متحشرج
حينها سألها ليث بقلق
(هل تستطيعين السير؟، يمكنني حملك الى السيارة).

هزت رأسها نفيا بسرعة و هي تتجنب النظر الى دليلة، و قالت بإختناق
(أريد إخفاء وجههي، و السير دون أن ألفت انتباه أحد).

لم يحاول ليث الجدال معها و دون أن ينتظر الإذن منها، كان قد رفع طرف حجابها الحر و غطى به وجهها حتى دسه في الجانب الآخر برفق، و لم تتمالك نفسها من النظر اليه، بعينيها العسليتين الواسعتين المتورمتين الباكيتين، و بادلها هو النظر بألم طويلا، ثم ربت على وجنتها فوق غطاء وجهها بحنان وهو يقول لها بخفوت
(استندي الي)
سارعت بإخفاض وجهها و هي تتشبث بمرفقه محاولة السير بإعتدال، الا أن دليلة نادت من خلفهما بسرعة.

(سلامتك يا سوار)
توقفت سوار مكانها للحظات غير قادرة على الإلتفات و مواجهة دليلة، و ازداد انهمار دموعها بمزيد من الشعور بالمذلة، لكن دليلة لم تنتظر منها ردا، بل تابعت تقول بهدوء
(لم يعلم أحد بما حدث، الآن أو من قبل، بإستثناء ناريمان، و هي مضمونة تماما، كما لن يعرف أحد في المستقبل)
أغمضت سوار عينيها و عضت على شفتها، و ظن ليث أنها ستتابع سيرها متظاهرة بأنها لم تسمع شيئا...

الا أنها نطقت فجأة بصوت مرتجف دون أن تلتفت الى دليلة
(شكرا لك)
ابتسمت دليلة ابتسامة متزنة و ردت عليها بصوت عادي
(أنت على الرحب)
ألتفت ليث الى دليلة و ابتسم لها شاكرا وهو يومىء لها، فردت عليه بنفس الإيماءة دون رد...

في السيارة و ما أن أجلسها و دار حولها حتى جلس خلف المقود، ثم قال بصوت جاد حازم
(سنتجه الى المشفى أولا، كي نطمئن على كل شيء، بدئا من ساعدك حتى وجهك و ساقك)
الا أن سوار صرخت فجأة تقاطعه، (والله لن أذهب، والله لن أذهب الى أي مكان أو أقابل أي مخلوق آخر اليوم، أقسم أنني لن أفعل)
عقد ليث حاجبيه بشدة وهو ينظر اليها بقلق من صرختها العنيفة و كأنها صادرة من أعمق أعماق روحها...

ثم قال أخيرا بصوت أجش وهو يعيد عينيه الى الطريق
(حسنا لا بأس، سنتجه الى البيت، و نراقب حالتك حتى الغد)
نظرت سوار من النافذة و هي ترد عليه بصوت باهت مختنق
(كما لن أعود الى البيت، أعدني الى شقة أخي، و في الغد سأسافر الى جدي)
ساد الصمت لبضعة لحظات، ثم انتفضت حين شعرت بقبضته تمسك بذقنها فجأة وهو يدير وجهها اليه.
فنظرت اليه بحذر من تحت غطاء وجهها، أما هو فكان ينظر الى عينيها بنظرات شبيهة بعيني ليث أبي...

حتى ظنت بأنه قد نسي الطريق، ثم قال بصوت هادىء قاطع لا يقبل الجدال
(أن تفقد عيناك لون الشهد بهما، سيكون هذا أكثر قابلية للحدوث من ذهابك الى بيت أخيك أو جدك، انسي الأمر و حاولي النوم قليلا الى أن نصل)
ظلت تنظر اليه للحظتين من تحت غطاء وجهها، الى أن حرر ذقنها أخيرا وهو يعيد عينيه الى الطريق، ثم قال بصوت هادىء، دون أن ينظر اليها.

(اسحبي الذراع الصغير بجوار و أرجعي المقعد للخلف كي ترتاحي قليلا الى حين وصولنا)
أدارت سوار وجهها عنه و قالت بصوت صلب جاف
(لا يمكنني الإستلقاء أمام الجميع بهذا الشكل)
رد ليث قاطعا، (بلى يمكنك، تبدين على وشك الإنهيار، ارجعي ظهر المقعد و أغمضي عينيك)
أرادت أن تعارضه، أن تصرخ رافضة، أو حتى أن تفتح باب السيارة و تهرب منه الى الأبد...
لكنها كانت تشعر بضعف جسدي عنيف يسري في كافة أنحاء أوصالها...

كانت أضعف من أن تعارض، أو تقاوم...
و كان النوم بالنسبة لها حاليا هو النعيم، لذا وجدت يدها تتحرك دون ارادة منها لترجع ظهر المقعد قليلا، وهي مستندة اليه و كأنها مسلوبة الإرادة، حتى أغمضت عينيها و دعت ربها أن تهرب الى عالم آخر...
لكن و قبل أن تفعل شعرت بيده خلال دقائق تمسك بكفها المستريحة على ساقها...
دافئة هي يده و كأنها حضن آمن، يحيط بها بكل عالمها، و ليست أصابعها فقط...

(سوار، افتحي الباب، سوار)
كانت طرقاته على باب غرفتهما تبدو كقصف عال يلاحقها و هي تنزع الغطاء عن وجهها بعنف، على الرغم من الإجهاد المسيطر عليها...
لتخلع حجابها أخيرا و تلقي به بعيدا، قبل أن تتجه الى المرآة و تستند بكفيها على طاولة الزينة، مسقطة رأسها بتعب...

ما أن فتح باب الشقة لدى وصولهما، حتى تمكنت من الهرب منه بسرعة الغزال حتى فرت الى غرفتهما و أحكمت غلق الباب و هي تتمنى أن تصله الرسالة في رغبتها كي تبقى وحيدة...
لكنه لم يتراجع و لم يفهم، بل طرق الباب مجددا بقوة أكبر وصوته يهدر عاليا
(سوار افتحي الباب و توقفي عن تصرفات الأطفال تلك، احترمي سنك قليلا).

رفعت وجهها مصدومة من فظاظته، الا أنها واجهت صورتها في المرآة، و هالها ذاك المنظر المثير للشفقة أمامها...
لقد تورمت شفتها تماما و تحولت الى لون مختقن و به بقعة زرقاء داكنة، أما أنفها فلم يكن أفضل حالا...
فقد تورم أيضا و كبر حجمه، و بقعة دموية صلبة متجمعة أسفل فتحة أنفها...

و الكرة في جبهتها كانت تبدو زرقاء أرجوانية و تشبه البيضة، و بخلاف تلك اللوحة اللونية البشعة، فخلفية وجهها بدت كصفحة شديدة البياض و الشحوب...
كل جسدها كان يؤلمها بطريقة مؤلمة، لا تعلم إن كان هذا إثر السقطة، أم أن الوجع في قلبها قد بهت على أعضاء جسدها و أطرافه...
طرقة أخرى من ليث ساهمت في انهيار قدرتها الأخيرة على التحمل...
فصرخت فجأة بعنف و هي تبكي منهارة...

(ابتعد عني، الا ترى أنني أريد البقاء وحدي، بل أحتاج الى البقاء وحدي، لا أريد أن أراك)
ساد صمت طويل، مما جعلها تظن بأنه قد امتثل الى صرختها و ابتعد، فأشعرها هذا بال...
بالمزيد من الوجع و الفراغ المخيف...
لذا سقط وجهها مجددا و تركت العنان لشهقاتها العالية التي أخذت تتوالى و تعلو حتى باتت عويلا طال كبته...
و بعد أن نال منها التعب أخيرا، و جفت دموعها، ظلت مطرقة و هي مرهقة الروح و الجسد...

ترهف السمع، علها تسمعه يناديها مجددا...
لكنه ابتعد، ربما يكون قد خرج بعد أن زهد في بكائها الذي لم يتوقف منذ ساعة أو أكثر...
لذا استقامت ببطىء و تعب، و هي تستدير محاولة خلع عبائتها، لتبقى بالفستان القطني البسيط الذي ترتديه تحتها، و أخذت تتفحص مرفقيها و ساقيها...
لم تكن اصابات وجهها هي الوحيدة، بل كانت هناك بقعتين داكنتين أسفل ركبتيها...
و أخرى شديدة الإحمرار فوق مرفقها الأيمن...

كانت حالتها أسوأ مما تظن، و ساقها مغطاة بالغبار الممتزج بالجرح الذي بدأ يجف في ركبتها...
لكنها لم تكن قادرة على المجازفة بمواجهته، لذا اتجهت و هي تعرج ببطىء حتى وصلت الى الباب فوضعت أذنها اليه تحاول سماع أي صوت، و حين لم يحدث، أدارت المفتاح بحذر لتفتحه ثم خرجت ببطىء و هي تنظر الى الردهة الخارجية بصمت...

ثم اتجهت الى الحمام، لكن و ما أن وصلت اليه، حتى وجدت ذراعا تمتد من مكان مجهول لتحيط بخصرها مما جعلها تشهق بصوت عال و هي تضع يدها على صدرها بذعر...
و تعثر تنفسها بضعة لحظات، بينما كان هو ينظر اليها متجهما، ثم قال أخيرا بجفاء...
(أخيرا خرجت، كنت على وشك كسر الباب، )
رفعت سوار ذقنها و نظرت اليه بغضب ما أن استردت أنفاسها ثم ضربته في صدره هاتفة بخشونة.

(ظننتك خرجت، ولو كنت أعرف أنك لا زلت هنا لما خرجت من الغرفة مطلقا)
الا أنه لم يرد على عنف كلماتها، بل انعقد حاجباه بشدة وهو يمسك ذقنها لينظر الى الكدمات التي ظهرت أكثر، فهمس مستاءا
(يالله! لقد كانت وقعة بائسة جدا)
صرخت سوار به و هي تقاومه بعنف
(الوقعة البائسة هي زواجي منك و الذي لم يجلب لي سوى الذل و المهانة)
رفع ليث عينيه القاتمتين الى عينيها الشرستين، ثم قال ببرود دون أن يفلت ذقنها.

(على أنا أن أقول هذا الكلام، و ليس انت، لكنني أكثر أدبا منك يا ابنة الرافعية، لذا لن أهبط الى مستواك المتدني في الهجوم، و الآن اخلعي ملابس و تعالي)
للحظات ظنت بأنها لم تفهم ما قال، ثم اتسعت عيناها و فغرت فمها تريد الهتاف بأقذع الألفاظ، الا أنه سبقها و رفع كفه قائلا بفظاظة.

(قبل أن يتطرق ذهنك المريض الى أي أفكار أكثر مرضا، يكفيك أن أذكرك بمظهرك الذي يبدو و كأنك قد نلت ضربا جماعيا كلص تم ضبطه في حافلة مزدحمة)
رمشت سوار بعينيها مجفلة و هي ترفع يدها رغما عنها لتتلمس الكدمات في وجهها بينما عبست ملامحها بأنوثة مجروحة...
الا أن ليث تابع كلامه قائلا بجفاء...
(لقد أعددت لك الحمام، كي تستريحي، و بعدها سأهتم بوجهك)
رفعت سوار وجهها و قالت بصوت جهوري صلب.

(لست في حاجة الى مساعدة، يكفيني ما نالني منك حتى الآن، ثم أي حمام هذا الذي حضرته؟، ما هو الإنجاز الذي قمت به!)
رفع ليث حاجبا وهو ينظر اليها ببرود ثم رد عليها بصوت جليدي
(ادخلي و انظري بنفسك).

أرادت أن تتجاهله و تعود في الإتجاه المعاكس الى غرفتهما، الا أن الفضول تغلب عليها و لم تستطع الا أن ترمقه بنظرة استهانة، ثم دخلت خطوة الى الحمام و هي تعتزم السخرية من أي شيء فعله، حتى و إن كان قد وضع منشفة نظيفة فقط لا غير...
الا أنها تسمرت مكانها و هي تنظر الى المغطس فاغرة فمها...

كان المغطس ممتلئا بالماء الساخن و الذي لا يزال البخار يتصاعد منه، لكنه كان ممتلئا بالفقاقيع الملونة من صابونتها الخاصة التي تلون الماء، ليس هذا فحسب، بل كانت هناك شموعها المعطرة كذلك، مضاءة و متراصة حول المغطس، و الروائح الزيتية العطرة منتشرة بطريقة تسلب الروح...
ظلت سوار مكانها تنظر الى ما أعده بصمت طويلا، الى أن تطوع هو قائلا بفظاظة.

(سيبرد الماء بينما أنت واقفة تفكرين في طريقة جهنمية تجعلك تسممين بها حياتي)
أخذت سوار نفسا طويلا مرتجفا، محاولة طرد هذا الوهن العاطفي الذي انتشر بداخلها، ثم زمت شفتيها قائلة ببرود
(من أذن لك بأن تستخدم صابوناتي و شموعي؟)
ضيق ليث عينيه وهو ينظر اليها بملامح جبسية متحجرة، ثم قال ببرود مماثل.

(لم أستخدمها لنفسي، كما أنني لم أبيعها و أقبض ثمنها، و الآن هل ستدخلين الى المغطس أم ستضيعين المزيد من الوقت في المزيد من التفاهات)
كتفت سوار ذراعيها و هي تنظر اليه بحقد، ثم قالت بصوت خافت أجوف
(هل تظن أنك ببعض الشموع المعطرة، تستطيع أن تنسيني الذل الذي ممرت به بسبب خداعك لي؟)
مط ليث شفتيه ثم قال وهو يهز رأسه نفيا بلامبالاة قائلا.

(ليس هذا ما كنت أحاول فعله، لأن الذل الذي تعرضت له كان بسببك، لا بسببي، كما أنني لم اطلب منك الإعتذار منها، كل ما يحدث هو نتيجة أفعالك في الواقع، أما أنا فكنت أحاول أن أهيء لك جو مريح للأعصاب بعد حالة الإنهيار الذي مررت بها في الغرفة منذ لحظات)
شعرت سوار أنها على وشك ضربه أو صفعه...

بالفعل وصلت الى المرحلة و الحالة النفسية الغير المستقرة التي قد تمكنها من صفع ليث الهلالي، لذا أغمضت عينيها بسرعة و هي تحاول السيطرة على تخيلاتها الخطيرة، ثم قالت بجفاء
(لا أريد، شكرا).

ثم حاولت تجاوزه، الا أنه اعترض طريقها، و قبل ان تدرك ما يفعل، وجدت نفسها محمولة في الهواء فجأة بين ذراعيه، فاتسعت عينيها للحظة، قبل أن تبدأ في الصراخ و هي تضربه و تلوح بساقيها، الا أن كل حركة منها كانت تجعل الألم ينبض في أماكن الإصابات فتتأوه بين كل صيحة و أخرى.
الى أن صرخ ليث فيها بعنف هادرا.

(توقفي عن الغباء، أقسم بالله أنني لم أتحمل من امرأة من قبل ما تحملته منك، و أنا الذي كنت أظن نفسي سأرتاح بعد الزواج منك أخيرا)
و قبل أن ترد عليه بما فيه النصيب، وجدت نفسها تنخفض فجأة ليضعها بفستانها القطني داخل المغطس برفق...
استقامت سوار نصف جالسة و هي تنظر الى الماء الملون بالصابون بذهول غير مصدقة لما حدث...

أما فستانها الذي تبلل تماما و ثقل وزنه عليها كان هو خير دليل، حينها ضربت الماء من حولها بجنون و هي تصرخ
(ما هذا الجنون الذي تفعله؟، لقد بللت ملابسي بالكامل!)
جثا ليث على عقبيه بجوار المغطس، ثم بدأ يفك شعرها من رباطه و كأنها لم تصرخ أو تعترض للتو...
و كأنها لعبته الخاصة التي يتسلى بها قبل أن يضعها بجواره في الفراش...

حاولت ابعاد رأسها بعنف، الا أنه فك موجات شعرها أخيرا و أخذ يبلله و يغرف بكفه من الماء الملون ليبلل مقدمة رأسها برفق و كأنه يحمم طفلا صغيرا...
و كانت لتلك الحركة مفعول السحر على أعصابها المنهارة، و التي أخذت تهدأ بصورة متسارعة...
فأغمضت عينيها للحظة، فقط لحظة و هي تعد نفسها بمعاودة الصراخ فيه بعدها...
لكن اللحظة باتت اثنتان، ثم ثلاث، و خمس...

و يده تمسح على جبهتها مرورا برأسها ثم كامل شعرها، و بعد فترة وجيزة، شعرت بالخسارة حين تركت يده رأسها، لكنه لم يتركها الا ليرفع لها ساقها فوق طرف المغطس، و بدأ في تنظيف جرحها برفق...
فتحت سوار عينيها تنظر اليه بعجز، و كأن لسانها قد انعقد عن محاولة منعه، الى أن قال هو أخيرا دون أن ينظر اليها.

(هل يحرق الصابون جروحك؟، أردت تطهيرها أولا، لكن غبائك المعتاد لم يسمح، لكن عاملة جروح ساقيك ما هي الا خدوش بسيطة، و الكدمات ستأخذ وقتها و تزول، هل يؤلمك تحريك أي من ساقيك؟)
ظلت سوار صامتة و هي تنظر الى وجهه المنحني بإهتمام على ساقها، و حين طال الصمت، رفع وجهه ينظر اليها متسائلا، الا أنه توقف حين وجد الدموع تنساب في صمت على وجنتيها من جديد...

ظل ليث ينظر اليها طويلا بحزن، الى أن تنهد أخيرا وهو ينظر الى الموجات الملونة فوق سطح الماء الساخن، فمد اصبعه يداعب تلك الموجات و يعبث بتدرجاتها اللونية، الى أن قال أخيرا بصوت عميق دون أن ينظر اليها...
(أتعرفين ما هي المشكلة؟، المشكلة أننا أردنا اختصار الزمن، تخيلنا أنه بإمكاننا اقتطاع عشر سنوات من حياة كل منا، و البدء من حيث آخر لقاء لنا قبلها، و كأن شيئا لم يكن...

لو كنت من نصيبي، لكبرت خلال هذه العشر سنوات بين ذراعي، لكنت معلمك الأول و الأخير كما كنت قبلها، لكن ما حدث هو أنك تحولت خلال تلك السنوات إلى صخرة يابسة، و أنا لم أصبح أفضل حالا منك، كقوتين متضادتين تحاول فرض كل منهما ارادتها على الأخرى)
كتفت سوار ذراعيها أمام صدرها وهي تطرق بوجهها الباكي ناظرة الى موجات الألوان التي يعبث بها كحياتها تماما...
الى أن تابع ليث بصوت أكثر جفاءا...

(ربما كنت شديد القساوة في التعامل معك، لكن عليك الإعتراف بأنه لم تكن هناك من هي أكثر منك غباءا في مشاعرها و طريقة اظهارها لحبها)
رفعت سوار وجهها و هي تنظر اليه من بين دموعها الحارقة، فرفع يده يداعب وجهها المبلل، ثم تابع بصوت أكثر عمقا وهو يحدق بعينيها.

(كنت مخطئا منذ سنوات حين ظننتك ثابتة كالأرض في هدوء مشاعرك، كم كنت مخطئا و كأنني لم أعرفك مطلقا، فأنت كموج البحر، عاطفية بشكل لا يصدق، مشاعرك جامحة كالطوفان، و حبك قد يقتلك و يقتل حبيبك معك في احدى عواصفه المجنونة)
ابتلعت سوار الغصة في حلقها، ثم همست بصوت باهت.

(تبدو و كأنك قد أصبت بخيبة أمل، لكن هذا عادل، فخيبة الأمل متبادلة، لأنني أنا أيضا لم أتخيل أن تكون وغدا الى تلك الدرجة في معاقبتي و التعامل معي)
اطرق ليث وجهه قليلا، متجهما، و كأنها يحاول امساك لجام غضبه بضراوة، الا أنه لم يلبث أن ضحك فجأة ضحكة أفلتت من بين شفتيه...
ثم أحاط وجهها فجأة بكلتا كفيه يرفعه اليه، يقربه من وجهه بالقوة، قبل أن يهمس بعنف من بين شفتيه.

(أحبك يا ابنة وهدة، ولو تطلب الأمر أن أمحو العشر سنوات لفعلت، كي نعود كما كنا)
وجدت سوار نفسها تهمس فجأة بسرعة
(لكنني لا أريد العودة الى ما كنا عليه، يومها لم أدرك بأنني أحبك كما أفعل الآن، ولو كنا تزوجنا، ربما لما عرفت تلك الدرجة من العشق، هذا العشق الذي نما بداخلي ليس امتنانا بما فعلته لأجلي، لكن لأنني كنت أرى فيك البطل، مرة بعد مرة، أنا).

صمتت فجأة مفجوعة مما نطقت به للتو و كأنها قد نست تماما خداعه لها، لذا صرخت بعنف و غضب يائس
(الا أنني لن أسامحك على الموقف الذي وضعتني به أبدا، أبدا)
لكنه لم يمهلها لتصرخ بالمزيد بل انحنى عليها وهو يضمها بين ذراعيه، ليقبلها بقوة، حتى انحنت الى الخلف و انخفض وجهها تحت سطح الماء، فأغمضت عينيها تلقائيا و هي تحيط عنقه بذراعيها...

رفعها ليث بسرعة، ووجه كلا منهما يقطر ماءا ملونا، بينما الأعين لم تتوقف قبلاتها بعد...
فهمس لها بصوت أجش لاهث
(لنفتح صفحة جديدة، أنسي ما فعلته أنا، و أنا سأحاول التغاضي عما قمت به)
عقدت سوار حاجبيها على الرغم من مشاعرها التي تعزف لحنا صاخبا مجنونا، ثم هتفت بإستياء
(الا تظن نفسك مغرورا متعجرفا، سيء الطباع، متسلط، و كاذب مخادع و).

قبلها مجددا حتى انخفض وجهاهما تحت سطح الماء مرة اخرى، ثم عاد و انتشلها من الغرق هامسا بنفس غير مستقر
(هل ستقبلين بالصفقة أم أغرقك مع سبق الإصرار؟)
ذراعاها حول عنقه لم تتركه بعد، بينما هي تحارب كي تتنفس، ناظرة الى عينيه المتقدتين، ثم همست بصوت متداعي
(أغرقني).

(من، من بالباب؟)
ابتسم قاصي ابتسامة من عمق قلبه وهو يسمع الصوت الطفولي المحفور على قلبه، فرد قائلا بعفوية آمرا
(إنه أنا والدك يا فتى، افتح الباب)
سمع صوت صراخ عمرو مبتهجا من الداخل، و الباب يضرب عدة مرات الى أن تمكن من فتحه أخيرا...
ثم قفز الى حضن قاصي الذي رفعه بين ذراعيه بقوة وهو يتأوه عاليا و كأنه يعتصره عصرا...

ثم أبعده عنه قليلا وهو ينظر الى الوجه الأقرب الى قلبه مبتسما بإشتياق جائع موجع، قبل أن يسأله بصرامة مدعيا الغضب
(لماذا تفتح أنت الباب؟، الم نتفق على أن تفتحه أمك دائما؟)
رد عمرو مبررا بلهفة
(لم أفتحه الا بعد أن تأكدت بأنه أنت من بالباب)
ابتسم قاصي رغم عنه، الا أنه تجهم مجددا و قال بخشونة
(لكنك لم تعرف أنني سآتي، و سألت، لا تفعل هذا مجددا، مفهوم؟)
رد عمرو قائلا بحماس
(مفهوم، اشتقت اليك بابا، جدا جدا).

نظر اليه قاصي للحظة و كأنه يرتوي من ملامحه الطفولية، قبل أن يضمه الى عنقه مجددا وهو يتأوه بصوت أكثر عمقا هامسا
(و أنا اشتقت اليك اكثر، أكثر و أكثر)
همس عمرو وهو لا يزال دافنا وجهه في عنق قاصي
(متى سآتي اليك كما كنا نفعل من قبل؟)
أغمض قاصي عينيه وهو يحاول تشرب أكبر قدر من عطره الفطري ثم قال بصوت هادىء، ظاهريا
(اسمع، سأحاول أنا المجيء اليك قدر الإمكان).

رد عليه عمرو قائلا بصوت غير مقتنع و كأنه قد فقد الثقة بكلامه ووعوده
(دائما تقول هذا، ثم تأتي لتراني من أمام الباب و تغادر سريعا، هل ستحصل على طفل آخر من تيماء؟)
أبعد قاصي وجهه عن عنق عمرو ليسأله بدهشة قائلا
(ماذا؟، من أين أتيت بمثل هذا الكلام؟)
رد عليه عمرو قائلا بصوت بدت فيه الغيرة الطفولية واضحة.

(أخبرتني أمي بضرورة الإعتياد على عدم تواجدك معنا، فسرعان ما ستحصل على أطفال آخرين من تيماء غير أخي الذي ذهب الى السماء، و سيكونون هم الأهم)
تصلبت ملامح قاصي بشدة و تحولت الى قناع قاسي غاضب، لكن سرعان ما سيطر على نفسه، ثم سأله بهدوء
(اذن هذا ما أخبرتك به أمك! لكن دعني أخبرك بأنها كانت تخدعك مازحة، و لا شيء من هذا سيحدث، فتيماء ستسافر و أتفرغ أنا لك، و لها، أين هي أمك، لماذا لم تفتح الباب؟).

رد عمرو قائلا ببساطة وهو يشير الى الباب
(في الداخل)
أنزله قاصي على قدميه ثم أمره قائلا
(اذهب و نادها اذن، و أخبرها أن والدك قاصي يريد رؤيتها حالا)
ظل عمرو واقفا مكانه مترددا، ثم قال بصوت قانط
(لا أظنها ستأتي، فهي ليست بخير)
عقد قاصي حاجبيه وهو يسأله بقلق
(هل هي مريضة؟)
أومأ عمرو قائلا
(نعم، قليلا، لكنها تكون بخير بعد أن تخرج لشراء الدواء)
ضاقت عينا قاصي بعدم ارتياح ثم سأل عمرو بنبرة غريبة.

(الا تتصل بالصيدلية كي يرسلون اليها ما تريد؟)
هز عمرو رأسه نفيا، و قال ببساطة
(بل تخرج لتحضر الدواء بنفسها)
سأله قاصي بصوت أكثر جدية
(و هل تأخذك معها؟)
هز عمرو رأسه نفيا مجددا و رد عليه
(أنا أنتظرها هنا الى أن تعود)
باتت ملامح قاصي شاحبة و مخيفة، قبل أن يسأله ببطىء
(و كم مرة تكرر الذهاب لشراء الدواء؟)
نظر عمرو الى أصابعه، و أخذ يحاول التذكر، ثم قال أخيرا بتركيز...
(خمسة، عشرة).

رفع قاصي وجهه وهو ينظر من الباب المفتوح الى الشقة الفوضوية بشكل مريع، ثم همس و كأنه يكلم نفسه
(عشرة مرات و لم تشفى بعد؟)
أخذ نفسا عميقا وهو يزم شفتيه قبل أن يقول آمرا بحزم...
(اسبقني الى مكان أمك يا عمرو، سأدخل معك)
جرى عمرو صارخا بفرحة لا توصف، بينما تبعه قاصي مظلم الملامح وهو يغلق الباب خلفه بهدوء...
ثم نظر في أنحاء المكان بتقزز...

كانت بقايا الطعام في كل مكان، و أكواب الزبادي الفارغة و التي التهمها عمرو على ما يبدو ملقاة أرضا، و قشور البرتقال، و الغبار يعلو الطاولات...
هتف عمرو في بداية الرواق
(أمي في غرفتها يا بابا، تعال بسرعة، ستفرح حين تراك)
تبعه قاصي ببطىء حتى وصل الى غرفة نوم ريماس التي دخلها عمرو وهو يصرخ بسعادة
(ماما، لقد جاء بابا لزيارتنا، و يريد أن يراك).

دخل قاصي من باب الغرفة دون حرج، لم يبدو في حاجة للإستئذان، فقد كانت ملامحه غريبة، غامضة، وهو ينظر الى ريماس المستلقية على سريرها، تبدو مرهقة، شديدة النحافة، جافة الملامح و البشرة، فقال بصوت أجش
(ماذا بك يا ريماس؟، ما الذي تعانين منه؟)
فتحت ريماس عينيها و نظرت الى السقف بضعة لحظات، قبل أن ترفع رأسها بصعوبة و هي تسأل بصوت منهك
(قاصي! متى أتيت؟، و كيف دخلت الى هنا؟).

رد عليها قاصي بصوت جاف صلب وهو يراقب أدق حركة منها...
(أتيت منذ فترة، و فتح لي عمرو و قد نبهك الى دخولي عدة مرات، الا أنك في حالة تعب شديدة على ما يبدو فلم تسمعيه)
استقامت ريماس لتجلس و هي تترنح، قبل أن تسند رأسها بكفها، ثم قالت بإختصار
(نعم، أنا متعبة قليلا)
ظل قاصي صامتا لبضعة لحظات وهو يراقبها، قبل أن يسألها
(هل تحتاجين شيئا؟، هل هناك دواء معين يمكنني جلبه لك؟).

ظلت ريماس على وضعها قليلا الى أن رفعت وجهها الشاحب تنظر الى قاصي بعينين حمراوين، ثم قالت فجأة بصوت متردد
(في الحقيقة نعم، أنا كنت محرجة قليلا، لكن، المال الذي أرسلته لي، لا أعلم كيف أنفقته)
رد عليها قاصي قائلا بصوت قاطع
(اكتبي كل ما تحتاجين في ورقة، و سأحضرها لك)
عضت ريماس على شفتها قبل أن تبلع ريقها و هي تتجنب النظر اليه، ثم قالت بصوت متأرجح...
(ليست أغراض معينة، هناك بعض الفواتير، و).

ضيق قاصي عينيه أكثر وهو يدقق النظر بعينيها المتهربتين منه، ثم سألها مباشرة
(ما هو اسم الدواء؟)
حكت ريماس جبهتها قليلا و هي تقول بتلعثم
(لا أتذكر، كنت أتسائل، إن كان بإمكانك اقراضي بعض المال، و أعدك أن)
قاطعها قاصي وهو يلف حول السرير قائلا بهدوء مقتضب
(لست في حاجة لقطع الوعود).

لم تفهم ريماس ما يقصده، الا أنها عقدت حاجبيها بحيرة و هي تراه يقترب منها الى أن جلس على حافة السرير بجوارها، فاتسعت عيناها بتوتر، ثم شهقت حين قبض على معصمها فجأة و رفع كم سترتها القطنية بالقوة، فضربته و هي تصرخ فيه
(ماذا تفعل؟، اتركني، ما الذي تفعله؟).

لكن قاصي كان اقوى منها فكبلها بعنف حتى قيد حركتها تماما و تابع رفع كم سترتها وهو ينظر الى باطن مرفقها، حينها فقط أظلمت عيناه بشدة، و اتسعتا بذهول، بجنون، قبل أن يلقي بمعصمها بعيدا
و امسك برأسها بين قبضتيه ليهدر فيها بعدم تصديق...
(هل عدت للسم القديم من جديد؟، هل فعلت؟، متى و كيف؟، بعد ست سنوات من الإقلاع عنه؟).

أغمضت ريماس عينيها بشدة و هي تشعر برأسها يكاد أن يقتلع من جذوره بين قبضتي قاصي الهمجيتين...
لكنها صرخت...
(لم أفعل، هذه آثار حقن لبعض التحاليل، أقسم لك)
صرخ قاصي فيها بهياج.

(لا تقسمي، اياك و أن تفعلي، أتظنين بأنني قد أنسى كل عرض و كل نظرة و كل تبرير أحمق؟، هل نسيت أنني أحفظ عن ظهر قلب كيفية التعامل مع تلك الأكاذيب بعد حرب مضنية خضناها بضراوة كي تقلعي عن تلك القذارة المسممة؟، كيف لك أن تقضي على سنوات من التعافي بمثل تلك البساطة؟، كيف؟)
صرخت ريماس باكية بجنون و هي تهتف
(أتركني أرجوك، ارجوك يا قاصي، أشعر بصداع مريع).

لم يتركها قاصي وهو ينظر اليها كالمسعور، الا أنه التفت جانبا ليرى عمرو يراقبهما بخوف...
فتركها ليقول آمرا
(عمرو، أخرج الى الردهة، و خلال عشر دقيقة، أريد اللحاق بك لأجدها تلمع من النظافة، خذ كيس قمامة و اجمع به كل القمامة الملقاة أرضا، ثم امسح الطاولات بقماشة التنظيف، هيا)
أسرع عمرو لينفذ أوامر قائده، بينما نظر قاصي الى ريماس بتقزز، قبل أن يستجوبها بصوت خافت كي لا يصل الى عمرو.

(كيف عدت الى التعاطي من جديد؟، من أين حصلت عليه؟، انطقي)
كانت ريماس تبكي و ترتجف بشدة، الا أنها همست بصوت مختنق...
(تا، تاجر جديد)
صرخ فيها قاصي قبل أن يستطيع منع نفسه
(كيف تعرفت اليه؟)
أسقطت ريماس رأسها و هي تشق باكية، تضم ذراعيها بقوة و كأنها تشعر بالبرد، ولم تستطع الرد، فتطوع قاصي بالنيابة عنها قائلا بجنون
(العصابة القديمة، اليس كذلك؟، عدت للتواصل معهم مجددا).

دفنت ريماس وجهها بين كفيها و انهارت بشكل مريع، بينما نهض قاصي من مكانه منتفضا و كأن أفعى سامة قد لسعته، فاتجه نافرا الى النافذة وهو يغرس أصابعه في خصلات شعره بعنف، قبل أن يضرب الحائط بقبضته وهو يصرخ
(لماذا الآن؟، لماذا الآن تحديدا؟، لماذا بعد كل هذه السنوات؟، كيف يمكنني مساعدتك الآن؟، لماذا بعد أن تركتك؟)
رفعت ريماس وجهها و صرخت به فجأة من بين بكائها المثير للشفقة.

(لأنك تركتني، لأنك تركتني، هل لك أن تتخيل حياتي، بعد أن كنت لي كل شيء، تفعل كل شيء بالنيابة عني، رجلي أنا، سندي أنا، ظهري الذي منحته الحياة لي كي أشتد به، ثم تركتني فجأة في منتصف الطريق، ماذا تنتظر مني؟، بعد كل هذه السنوات أجد نفسي وحيدة و مسؤولة عن طفل، يريد والده سرقته مني بشتى الوسائل، في حرب قذرة بينكما، انا من ستكون ضحيتها الوحيدة بين الأقدام، بعد أن يأخذ هو ابني مني، و أنت تنجب المزيد من الأطفال من حبيبتك التافهة الصغيرة، فماذا عني؟، ماذا تنتظر مني بعد ما حدث؟).

ابتسم قاصي ابتسامة ساخرة متوحشة وهو يهز رأسه يائسا، ثم قال بصوت قاتم دون أن يلتقت اليها
(لماذا تركتك؟، بكل وقاحة تمتلكين الجرأة على السؤال، لقد كنت على وشك محاولة اقناع الفتاة الوحيدة التي أحببت على تقبلك في حياتنا، الى أن دخل راجح في الصورة، و إن تركتك على ذمتي يوما واحدا اضافيا لكنت خنت اسمي معه)
صرخت ريماس بعذاب
(اخرس، لا تقل هذا، لم أكن أبدا بخائنة)
التفت ينظر اليها بصمت، ثم قال بصوت باهت ميت.

(حين يتعلق الأمر بضعفك المزري أمام راجح و استسلامك الدائم له، اعذريني اذن حين لا أترك الأمور حد المجازفة بشرفي)
صرخت ريماس بقسوة
(ها أنت تركتني، هل تتخيل أن هناك علاقة غير شرعية جمعتني به بعدها؟، اقسم أنه لم يمسني، فأين هو ضعفي و استسلامي الذي تتحدث عنه؟، أخبرني)
ابتسم قاصي بقسوة أفظع و رفع كفيه يصفق لها ببطىء، ثم قال أخيرا بنبرة مريعة.

(انظري الى باطن مرفقك، حينها ستجدين الجواب، لقد عدت للتعاطي و أنت تظنين بأنك تحسنين صنعا في مقاومة تأثيره عليك)
شعرت و كأنه قد صفعها بقوة فأفقدها النطق، فظلت تنظر اليه بوجه ممتقع، الى أن تمالكت نفسها و نهضت تتعثر من على الفراش، حتى وصلت اليه مترنحة، ثم قالت بتوسل
(أنا، حسنا، لقد عدت للتعاطي مرة، لكن هذا لا يعني أنني عدت للإدمان، صدقني، مجرد انتكاسة قصيرة، لن تترك أثرها).

أغمض قاصي عينيه للحظة، ثم فتحهما و قبض على شعرها فجأة ليجرها جرا الى المرآة وهو يصرخ فيها و هي تصرخ برعب
(انظري الى نفسك، انظري الى نفسك و أخبريني أنها مجرد انتكاسة قصيرة، من غبائك تظنين أنك قادرة على خداع الرجل الذي سبق و ساعدك على التعافي، تبا لك).

دفعها عنه بقوة، فلم تستطع ساقاها الضعيفتان حملها، فانحنت حتى جثت على عقبيها و دفنت وجهها بين كفيها لتبكي بمرارة، بينما وضع هو يديه في خصره وهو يوليها ظهره و كأنه غير قادر على النظر اليها...
ثم قال بصوت ميت
(لقد ربح راجح القضية قبل حتى أن تحكم المحكمة له بالحضانة، لم يعد لدينا أي أمل، لقد خسرنا الولد الى الأبد).

رفعت ريماس وجهها المتورم اليه، ثم قفزت واقفة و كأن الحياة قد دبت فيها فجأة، فجرت اليه و امسكت بكفه هاتفة
(لا يا قاصي، أرجوك، لا تسمح لهذا بالحدوث، أرجوك، عمرو هو الخيط الوحيد المتبقي و الذي يربطني بهذه الحياة، أرجوك أمنع هذا، و سأكون خادمة لك، سأبقى تحت قدميك للأبد)
نزع كفه منها بعنف وهو ينظر اليها بإزدراء، ثم همس بصوت يائس
(اخبريني ما الحل الآن؟، فقط اخبريني).

احنت ريماس وجهها و هي تبكي، بينما رفع قاصي وجهه وهو يغمض عينيه محاولا التفكير...
و حين طال الصمت به ووقوفه على هذا الحال، نظرت اليه ريماس و همست برعب
(قاصي، قل شيئا أرجوك، طمئنني بأنه لن يأخذ ابني مني)
ظل قاصي على صمته لحظتين اضافيتين، ثم قال أخيرا بنبرة آمرة
(أعدي حقيبة ملابسك، و أنا سأعد حقيبة عمرو)
همست ريماس برجاء و أمل
(هل ستأخذنا الى بيتك؟، أرجوك أعدني الى عصمتك و سأكون خادمة لك و لزوجتك).

استدار قاصي اليها بطىء وهو ينظر الى التوسل المؤلم على وجهها، ثم قال أخيرا بصوت هادىء
(لا يمكنني يا ريماس، لا أريد خادمة لزوجتي، أنا فقط أريدها أن تظل زوجتي، ووجودك معي سيهدم ما أسعى الى بنائه معها، لا يمكنني خيانتها مجددا)
ارتجفت شفتي ريماس بألم و هي تبكي، بينما قال قاصي متابعا
(سأدخلك الى مصح لعلاج الإدمان، عمرو سيظل معي)
اتسعت عيناها بذعر و صرخت.

(ماذا؟، لا يمكن لبضعة مرات من العودة للتعاطي أن تكون سببا كفيا لدخولي الى المصح! أنت تسهل الأمر على راجح، ما أن يعلم حتى أكون قد خسرت حضانة ابني لأبد، لن أفعل يا قاصي، هل تسمعني؟، لا يمكنك اجباري)
اقترب قاصي منها حتى أمسك بكتفيها، حتى رفعت وجهها المبلل المتوسل اليه فنظر اليها و قال ببطىء.

(لن نخدع أنفسنا يا ريماس، لقد عدت اليه من جديد، و عليك البدء في العلاج، ربما كان الأمر أهون مما نظن لكن علينا البدء على الأقل، أنا لن أستطيع مساعدتك و أنا بعيد، لذا ستحتاجين الى مساعدة بشكل أكيد، انظري الى حالة عمرو و حالة البيت، هل يقبل ضميرك بأن يبقى معك و أنت في هذه الحالة؟، إن كنت أنت تقبلين، فأنا سأتدخل و أمنع وجوده معك حاليا الى أن تتعافي تماما، أنا أظل والده، و أنا لا أضمن من ستستقبلين ان بقيت على هذه الحالة، و أي مواد سامة قد تتواجد في البيت، سآخذ عمرو معي، ولو تمتلكين ذرة متبقية من الأمومة، فلن تعارضي).

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة