قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الحادي والعشرون

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الحادي والعشرون

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الحادي والعشرون

(أنا لن أخسر ابني مجددا، حتى و إن اقتضى الأمر أن أقتله هذه المرة فلن أتردد. )
هتف قاصي بهذا أمام محامي جده، الأستاذ فاروق الذي كان ينظر اليه بهدوء وهو يشعل سيجارا فخما...
ثم قال ببساطة
(حسنا هدىء نفسك قليلا، واجلس)
لكن قاصي انحنى ليضرب على سطح المكتب بقبضته صارخا
(سأقتله هذه المرة، افعل شيئا)
نفث فاروق الدخان ببطىء، ثم ابتسم قائلا.

(أنت عنيف الطباع يا ولد، و التعامل معك يرهق أعصابي والله، ولولا توصية الحاج سليمان بنفسه، لكنت تركت كل ما يخصك الى أحد المحامين لدي، الآن اهدأ قليلا و دعني استوعب الأمر...
ما فهمته منك هو أن أم الولد حاليا في المصح)
وضع قاصي يديه في خصره وهو يتنهد بقنوط قائلا.

(لقد دخلته للتو، حتى أنني خرجت منه و جئت اليك مباشرة، لذا اعذرني إن كنت فظا قليلا، تركها هناك مرغمة و هي تبكي و حرمانها من ابنها كان أكبر من احتمالي، لقد اضطررت لفعل هذا، ما الذي كان بإمكاني فعله سوى ذاك؟، أتراني خسرت عمرو للأبد و مهدت الطريق لراجح عبر دخول ريماس الى المصح؟)
قال فاروق ببساطة و سرور.

(اطلاقا، بل فعلت طيبا، دعنا نحلل الموقف، لدينا الآن والدين متنازعين على حضانة الطفل، الأم متواجدة في مصح لعلاج الإدمان، و الأب لا يخلو من القضايا و التهم، سنحرر عدة محاضر ضده بكل ما ارتكب. و نرفع أكثر من دعوى قضائية تجاهه، هذا بخلاف طريقة زواجه بأم الولد و هجره لها طيلة السنوات الماضية دون أن ينفق على طفله، سيساعدنا هذا في اثبات عدم جدارته كأب، سنقلب عليه الطاولة حتى يكون سجله حافلا بكل ما لا يليق بحضانة طفل صغير، خلال كل هذا، سيتقدم شخص ثالث بطلب الحضانة).

عقد قاصي حاجبيه وهو يسأل بعدم فهم
(شخص ثالث! من يكون؟)
رد عليه فاروق قائلا ببساطة
(جد الطفل، الحاج سليمان الرافعي)
اتسعت عينا قاصي ببطىء، بينما نهض فاروق من مكانه ليتابع بنفس الصوت الهادىء، فاتحا كفيه ببديهية
(و حضانة الحاج سليمان للطفل تعني،؟)
أكمل قاصي بصوت ملهوف
(أن عمرو أصبح في جيبي).

ابتسم فاروق فاتحا كفيه اكثر، فلم يتمالك قاصي نفسه، فهجم على المحامي الذي لا يتجاوز طوله كتف قاصي، واحتضنه بقوة مما جعل فاروق يجحظ قليلا، قبل ان يضحك بحرج وهو يقول
(حسنا، حسنا، سأعتبر هذا شكرا مقدما)
و انتظر أن يتركه قاصي، الا أنه لم يفعل، بل ظل ممسكا بالمحامي بين ذراعيه، ثم قال بعنف
(أنت نعمة للبشر يا أستاذ فاروق، منذ أن دخلت حياتي و أنا أشعر بها أصبحت أسهل والله).

ضحك فاروق و قد ازداد حرجه، الا أنه قال مربتا على كتف قاصي...
(حسنا لندع العواطف جانبا، و دعنا نتحدث بالعقل قليلا)
ابتعد قاصي عنه وهو ينظر اليه بقلق قائلا
(تفضل، لكن أرجوك الا تفسد الأمر)
رد فاروق بحذر
(هذا يتوقف عليك، أهم الأسلحة التي سترجح فوز سليمان بالحضانة، هي دخول راجح للسجن)
أظلمت ملامح قاصي قليلا، الا أنه ظل ساكنا، حتى تابع فاروق قائلا ببطىء.

(سنسعى الى اثبات اشتراكه في تهمة تهريب الآثار مع والده، بالنسبة للحاج سليمان، فهو يريد أن يقتص من راجح لأسباب معينة، و لا يمانع في دخوله الى السجن، فماذا عنك؟ لقد فهمت أنك لم تشأ ذلك منذ البداية، لأن العداوة كانت بينك و بين والده، لكن الآن، الأمور قد تغيرت، فهل نبدأ في طريقنا؟)
ظل قاصي ينظر الى المحامي طويلا، الى أن قال أخيرا ببطىء و بملامح خالية من الشعور تماما
(ابدأ).

(أنا لا أعلم لماذا يفعل هذا كل مرة؟، لماذا يتعمد الا يجيب اتصالاتي؟، لماذا يختفي و يتركني أنا أحترق متسائلة عن مكانه؟)
نظرت ثريا الى تيماء بإمتعاض، بينما كانت ابنتها جالسة بجوارها على طرف الأريكة، و جبهتها بين كفيها، غير قادرة على تحمل المزيد من القلق...
فقالت ثريا بقسوة
(لأنه لن يتغير، هذا هو السبب ببساطة، هذا هو طبعه و لن يتغير، عدم مراعاة مشاعرك في أي شيء، أنت آخر اهتماماته دائما).

رفعت تيماء رأسها و مدت يدها محذرة دون أن تنظر الى ثريا
(أمي، أرجوك، أعصابي لن تحمل كلمة أخرى منك)
هتفت بها ثريا بغضب
(أنت من كانت تتسائل للتو، فماذا تنتظرين مني؟، أن أسمعك ما تريدين سماعه، وهو أنه يتجاهلك دائما لأنك الأغلى على قلبه مثلا؟)
ظلت تيماء مستندة بمرفقيها ناظرة الى الأرض و هي تهز ساقها بعصبية، الى أن قالت فجأة بعد وقت طويل
(أنا فعلا الأغلى على قلبه يا أمي، لست في حاجة الى من يؤكد لي هذا).

ارتفع حاجبي ثريا قليلا، قبل أن تهمس ساخرة بإستياء
(يالك من أكثر الأغبياء إثارة للشفقة)
نظرت اليها تيماء بطرف عينيها، ثم قالت بهدوء خافت
(أنا ابنة أمي، ربما كنت غبية في الإختيار دون تفكير أو منطق، لكن على الاقل قاصي لا يزال متمسكا بي منذ سنوات طويلة، أما أنت فقد أسئت الإختيار مرتين، لرجلين لم تكوني لهما سوى نزوة و مصلحة).

بهت لون ثريا تماما و هي تنظر الى ابنتها التي ترميها بسهام قاتلة و بكل دم بارد، فهمست بألم
(كيف لك أن تجرحيني بهذه الطريقة الفظيعة يا تيماء؟)
ردت عليها تيماء هاتفة بقوة
(لأنك تجرحيني بالمثل يا أمي، و لا تملين من ذلك أبدا)
صرخت فيها ثريا بعنف
(هذا لأنك ابنتي يا غبية و أريد مصلحتي)
نظرت اليها تيماء بعينين حزينتين، ثم قالت بأسى و بنبرة مشتدة...

(اطمئني يا أمي، بات لا يفصلني عن مصلحتي سوى أيام، مجرد أيام قليلة و أسافر بعدها يا أمي لأهتم بمصلحتي، و قاصي هو من يدفعني دفعا الى ذلك، لأن يريد مصلحتي لذا رجاءا و حتى موعد السفر، لا أريد السماع عن ما يعرف ب مصلحتي )
ظلت أمها تنظر اليها بخوف حقيقي، ثم همست أخيرا بنبرة مرتجفة
(و ماذا عني يا تيماء؟، ماذا سأفعل بعد سفرك؟).

التفتت تيماء تنظر اليها بصمت و دون رد، بينما غامت عيناها أكثر، و تعمق الألم في صدرها...
لكن و قبل أن ترد، فتح قاصي باب الشقة و دخل، فنهضت تيماء على الفور و هي تتنفس أخيرا براحة، لكنها صرخت بعنف
(لماذا لا تجيب اتصالاتي؟، متى ستتوقف عن تجاهل قلقي بتلك الطريقة؟، أنا لن).

لكن و قبل أن تتابع كلماتها الحانقة وجدت عمرو يخرج من خلف قاصي وهو ينظر اليها بوجه حزين، بينما كان قاصي يحمل في يده حقيبة صغيرة بدا من الواضح أنها حقيبة ملابس الصغير...
اتسعت عينا تيماء بذعر و هي تضرب على صدرها شاهقة
(هل خطفته مجددا؟، هل خطفت الولد من أمه مجددا يا قاصي؟، ألن ننتهي من هذه القصة؟)
نظر اليها قاصي نظرة مبهمة ثم قال مكلما عمرو بنبرة حنونة.

(اذهب الى خالتك تيماء و حييها يا عمرو، و لا تأبه لهذا التشنج الذي تعاني منه، فهي متوترة لإقتراب موعد سفرها فقط لا غير)
أظلمت عينا تيماء و هي تنظر الى قاصي الذي بادلها النظر ببرود، فقالت بقسوة على الرغم من تألمها من لامبالاته التي تعرف جيدا مدى زيفها، و على الرغم من ذلك تؤلمها...

(لست متوترة، كل ما أطلبه فقط هو أن أسافر و أنا مطمئنة بأنك لم ترتكب جريمة خطف جديدة، لذا هل يمكنك أن تخبرني بما يحدث رجاءا)
قال قاصي بنبرة عالية بدت شديدة القسوة
(هل يمكنك أنت أن ترحبي بالصغير، فيومه لم يكن سهلا أبدا)
انتبهت تيماء بالفعل الى أن ملامح عمرو ليست طبيعية أبدا، فهو مرهق شاحب الوجه، حزين العينين...

كما أنه لم يهرع الى معانقتها كما كان يفعل دائما، و انتبهت أيضا الى أنها قد اشتاقت اليه جدا، لكن خوفها على قاصي حجب عنها هذا الإشتياق للوهلة الأولى...
لذا وجدت نفسها تنحني حتى جثت على عقبيها و هي تقول بحنان قلق
(تعال يا عمرو، ألا تريد معانقتي حبيبي؟، تعال و أخبرني عن يومك)
ظل عمرو واقفا مكانه مطرق الوجه، فحثه قاصي قائلا بخفوت
(هيا اذهب، ألست سعيدا بالإقامة معنا كما كنت تتمنى؟).

الإقامة معنا! ما الذي يحدث بالضبط؟
انعقد حاجبي تيماء بشدة، لكنها ظلت جاثية أرضا، فاتحة ذراعيها، ثم ابتسمت و هي تقول برقة
(لن أنهض قبل أن تأتي و تعانقني و تخبرني بما يزعجك)
سار اليها عمرو ببطىء في البداية مطرق الوجه، ثم لم يستطع تمالك نفسه فجرى اليها في الخطوات الأخيرة حتى ألقى بنفسه بين أحضانها، فضمته اليها بقوة و هي تقبل وجنته لتهمس له بنعومة
(آآآآه، اشتقت اليك يا ولد، اشتقت اليك جدا).

حضنها عمرو بشدة فربتت على شعره هامسة في أذنه
(ما الذي حدث؟)
رد عليها عمرو قائلا بقنوط
(ماما كانت تبكي حين تركتها، لم تكن تريد ان تتركني)
عقدت تيماء جاحبيها و هي تنظر الى قاصي الذي كان يراقبهما بدوره متجهم الوجه، مكتفا ذراعيه...
فأعادت تيماء عينيها الى عمرو و سألته بإهتمام
(و أين هي ماما؟، في بيتها؟)
هز عمرو رأسه نفيا ببطىء، ثم قال متبرما
(بل في المشفى، كي تتلقى العلاج).

اتسعت حدقتا تيماء و هي تنظر الى قاصي، ثم سألته قائلة قبل أن تستطيع منع نفسها
(هل أمه مريضة حقا، أم كالمرة السابقة؟)
نظر اليها قاصي دون أن يجيبها، و كأنه لم يعد يكتفي من تأملها، ثم قال أخيرا بصوت هادىء
(لما لا تذهب مع جدتك ثريا يا عمرو، ستبدل لك ملابسك و تنظفك، ثم تنام بجوارها في الفراش الوحيد الموجود في البيت، الذي هو فراشي الا أنها تحتله مؤقتا، من كرم أخلاقي).

نطق آخر كلمتين بصوت عال مشددا عليهما وهو يرمق ثريا بنظرة تهديد، أثناء هتافها معترضة بجنون
(من هي تلك الجدة يا عديم النظر؟)
كانت تيماء قد نهضت واقفة تنظر الى قاصي مكتفة ذراعيها، ثم قالت مصدقة على كلامه دون أن تلتفت الى ثريا
(من فضلك نفذي ما يقول يا أمي، لأن عمرو سينام على السرير، فاما أن تشاركيه السرير الوحيد، أو أشاركه أنا و تنامين أنت على الأريكة)
قيمت ثريا الوضع بنظرة سريعة قبل أن تزفر بحدة.

(حسنا، تعال أيها القصير، لننتهي من تلك الأمور المضنية، لكن أحذرك من أن تبلل الفراش او تصدر أي صوت أثناء النوم)
راقبتهما تيماء وهما يبتعدان، الى أن دخلا الغرفة، فنظرت الى قاصي مسرعة و سألته بقوة
(ما الامر؟، هل ريماس مريضة بالفعل؟)
استدار قاصي عنها وهو يلقي بالمفاتيح بعيدا بإهمال، ثم بدأ يخلع قميصه، ليقول بصوت أجش
(لقد عادت للتعاطي، و قمت بإدخالها الى مصح لعلاج الإدمان).

شهقت تيماء و هي تضع يدها على صدرها هاتفة بذعر
(ادمان؟، ياللها من مصيبة! و هل قبلت بأن تدخل الى المصح و تترك لك عمرو بهذه البساطة)
رد عليها قاصي قائلا بصوت قاتم
(لم يكن لديها العديد من الخيارات)
رفعت تيماء كفها الى وجنتها و همست بارتياع
(ياللمسكينة! لقد أرغمت هذه المرة على ترك ابنها)
قال قاصي بلامبالاة قاسية
(هي من فعلت هذا بنفسها)
هتفت به تيماء همسا
(كيف لك أن تكون قاسيا الى هذا الحد؟)
رد قائلا بجفاء.

(تيماء، لقد كان يوما طويلا و متعبا، هل يمكنك تأجيل محاضراتك الإنسانية الى وقت آخر)
راقبته وهو يخلع بنطاله الجينز ليبقى بسرواله الداخلي الشبيه بالرياضي، فشعرت بالشوق الى أن يضمها الى صدره، أن يداعب أنوثتها و يوقظ بها تلك المشاعر الجديدة عليها و التي تستجلبها بصعوبة، الا أن صعوبتها بين يديه هي المتعة بعينها...
هزت رأسها نفيا بسرعة كي تبعد عنها تلك الأفكار المجنونة، ثم شبكت أصابعها و هي تسأله بخفوت.

(هل أحضر لك الطعام؟، من المؤكد انكما جائعان)
رد عليها قاصي وهو يضع بنطاله على ذراع المقعد
(لقد تناولت أنا و عمرو بعض الشطائر، لم أكن لأتركه دون طعام حتى هذه الساعة)
اتجه الى الحمام، فلحقت به بسرعة و سألته هامسة بقلق
(و ماذا عن عمرو يا قاصي؟، ماذا سيكون وضعه؟)
دخل قاصي في اتجاه المرحاض دون أن يأبه لوجودها، ثم قال بإختصار
(أسعى الى ضمه الي).

شهقت تيماء و هي تستدير عنه محمرة الوجه كي تمنحه بعض الخصوصية، و لم تنسى أن تسحب الباب معها كي تغلقه جزئيا، ثم سألته بإرتباك و هي تحاول تمالك نفسها
(كيف لك أن تضمه اليك بينما والداه على قيد الحياة و يتنازعان على حضانته، هل عدنا الى البلطجة من جديد يا قاصي؟، اعرف مدى أهمية عمرو بالنسبة لك، لكن لا يمكنك أخذه بالقوة، الأمور لا تتم بتلك الصورة).

فتح الباب بجوارها فجأة فالتفتت تنظر اليه بإرتباك، فلم تطل عيناها سوى صدره، و اخذت وقتها في تأمل كل جزء يشع حرارة منه، قبل أن يرد عليها قاصي بخشونة
(ستتم تسوية الأمر، لا تشغلي بالك أنت)
عاد الى الردهة مجددا، فتبعته بحنق هامسة.

(كيف لا أقلق؟، أنت تريد مني السفر، بينما الأمور جميعها مرتبكة، عمرو عاد اليك و أنت تنوي استبقاؤه، و سرعان ما سيعلم راجح بالأمر، والله أعلم برد فعله، الا أنه لن يكون محترما اطلاقا)
ضحك ضحكة ساخرة قصيرة، ثم قال ببساطة
(سافري أنت و لا تهتمي، أنا كفيل بحل هذه المشاكل)
راقبته وهو يعد الغطاء على الأريكة، فسألته بصوت خافت
(هل، هل ستنام بهذه السرعة؟)
أجابها قاصي قائلا دون أن يلتفت اليها.

(كان يوما مرهقا من جميع النواحي، لذا فالإجابة هي أنني سأنام نعم، اذهبي لتنامي بجوار أمك، سيكفيكم الفراش)
ظلت تيماء على صمتها تنظر اليه بخيبة أمل، ثم قالت أخيرا بصوت ميت
(لقد تحدد موعد سفري)
توقف قاصي عن الحركة تماما، و استقام وهو لا يزال رافضا النظر اليها، فقالت تسأله بشجاعة
(لماذا لم تجبني؟، و لماذا تعاملني بهذه الطريقة؟، لماذا تبعدني عنك في الأيام المتبقية لي معك بينما أنت من دفعني دفعا الى السفر).

ظل قاصي صامتا ظهره اليها، ثم قال أخيرا بجفاء
(مبارك لك، عسى أن تكون هذه المرة موفقة)
ارتفع حاجبي تيماء و سألته بألم قائلة
(هل هذا كل ما لديك لتقوله؟)
رد عليها قاصي بنبرة عنيفة دون أن يستطيع تمالك نفسه
(ما الذي تريدين مني قوله غير ذلك؟)
أريد منك أن تمنعني من السفر بالقوة، لكنها لم تستطع النطق بذلك، لذا عوضا عنه همست بألم
(أريد منك أن تضمني الى صدرك و تعوضني خلال الأيام المقبلة عن سفري و ابتعادي عنك).

ظل قاصي واقفا مكانه رافضا النظر اليها، الا أنها أجفلت حين ضحك فجأة بصوت عال ساخر، فراقبته بقلب غائر الجرح، الى أن خفتت ضحكاته فسألها متسليا
(هل يعني هذا ما فهمته؟)
ردت عليه تيماء بملامح ممتقعة وصوت هامس
(ربما)
صمتت ضحكاته تماما، ثم ساد صمت طويل و ثقيل بينهما، الى أن قال أخيرا بهدوء خال من المشاعر
(اذن أنت أكثر وقاحة مما ظننت، أنت تفاجئينني كل مرة)
همست تيماء بألم و هي تقترب من ظهره
(وقحة لأنني أريدك؟).

استطاعت أن ترى عضلات ظهره تنقبض في حركات متوترة لا ارادية، فتجرأت على لمس ظهرها بأطراف أصابعها، فما كان منه الا أن انتفض وهو يستدير على عقبيه لينظر اليها بشراسة جعلتها تشهق دون صوت و تتراجع الى الخلف، بينما هدر هو بها بعنف
(ما الذي تفعلينه؟)
لعقت تيماء شفتيها و هي تنظر الى ملامحه الشرسة، ثم همست بصوت مختنق
(آسفة، لم أدرك أن لمستي أصبحت ثقيلة عليك الى هذه الدرجة).

أظلمت عيناه بشدة. ، و استطاعت أن ترى الشراسة كلها تذوب أمام عينيها في معجزة غريبة...
وودت لو يتكلم، أو حتى يقلبها بقوة كما اعتاد أن يفعل دائما، لكن ثريا اختارت تلك اللحظة تحديدا كي تخرج من الغرفة و هي تهتف فيه بغضب
(لماذا تصرخ فيها؟، لقد تماديت كثيرا يا قاصي و أنا لن أتهاون معك في حق ابنتي)
أغمضت تيماء عينيها بيأس على دموع ترفض أن تمنحها بعض الراحة في الإنسياب على وجنتيها...

لكن ثريا صمتت و هي تشهق مستديرة عنه لتصرخ بغضب أعلى
(كيف تقف بملابسك الداخلية في ردهة بيت به نساء؟، الا تملك ذرة أدب أو حياء؟)
رد عليها قاصي بنبرة جليدية.

(لا يوجد هنا سوى امرأتين، احداهما هي زوجتي و التي يمكنها أن تراني بدون المتبقي إن أرادت، و الأخرى متواجدة هنا لما تمر به من ظروف، و هذا من كرم أخلاقي، فلا تتمادي أنت و عودي الى فراشي الذي أعيرك اياه، و حاولي بدءا من اليوم التعامل معي بطريقة أسهل لأننا سنبقى معا لفترة طويلة بعد سفر ابنتك).

نظرت تيماء اليه بحزن دفين، بينما بدأت ثريا تفكر في الأمر و سألته بنبرة مختلفة تماما. حذرة، خافتة، مهذبة، بها أمل واضح...
(هل سأبقى معك بعد سفر تيماء؟)
نظر اليها قاصي و قال بجفاء
(مع من ستبقين غيري؟، و من سيلبي لك طلباتك التي لا تنتهي؟)
تنفست ثريا بارتياح لم تستطع اخفاؤه، بينما كانت تيماء تراقبهما بصمت، الى أن قالت أخيرا بهدوء.

(سعيدة بأنكما قد رتبتما أموركما بدوني بمثل هذه السرعة، و بما أنني قد اطمئنيت على كلاكما، لذا سأذهب للنوم مرتاحة البال، تصبحان على خير)
نظرت الى قاصي نظرة أخيرة، فأسر عينيها بعينيه لفترة طويلة بنظرة قاتلة، لكنها تحررت منها بالقوة و هي تستدير لتهرب منه فنادتها
أمها من خلفها تقول مبتسمة
(انتظريني يا تيماء)
و ما أن ظل واقفا وحيدا، حتى أغمض عينيه، و تحشرجت أنفاسه ليطرق برأسه هامسا لنفسه.

(كيف استطعت مقاومة المهلكة و هي تهمس، أريدك، لا الطفل و لا أي شيء سواك، فقط تريدك، و أنت بكل غباء تبعدها! و كأنك إن قبلت عرضها فلن تسمح لها بالسفر أو الإبتعاد عنك أبدا!).

(سيد جمال، توقف عن هذا)
دوت صيحتها بعنف في أرجاء مكتبه مما جعله يجفل بشدة، قبل أن تبرق عيناه بغضب و كبر، ثم سألها بحدة
(سيدة ياسمين، هل أذكرك أنك في مكتب مديرك، لذا لا يسمح لك بالصراخ هنا أو تجاوز حدود الأدب في المعاملة، تبسطي في التعامل معكم عن طيب خاطر لا يسمح لك بأن)
قاطعته ياسمين هاتفة بقوة
(لا تتبسط في التعامل، و أنا بالتأكيد لا أقبل تجاوزاتك اللفظية معي).

نهض من مكتبه فجأة و دار حوله وهو ينظر اليها بنظرات جعلتها تنكمش خوفا و نفورا، ثم وصل اليها، فاستعدت للهرب في أي لحظة، لكنه لم يلمسها، بل وقف أمامها ينظر اليها بتفصيل محرج مقزز، الى أن قال أخيرا بصوت خافت مشتد...
(من يسمعك يظن بأنني أتحرش بك؟)
قالت ياسمين و هي تحاول لملمة كنزتها الى صدرها فوق فستانها البسيط، لكن ما فعلته جعل الكنزة تضيق فوق صدرها أكثر جاذبة عينيه الشهوانيتين...

(أنا أعتبر التجاوز في الكلام تحرشا لفظيا، و انا لا أقبل به)
ضحك مديرها ضحكة عالية، ثم سألها متسليا
(أنت تكثرين من قراءة كتب المرأة و حقوقها، حتى باتت أي كلمة مدح أو مزاح بالنسبة لك ما هي الا نوعا من التحرش، أنا رجل متزوج يا حبيبتي، وبالتأكيد لن أغامر بحياتي لمغازلة احد موظفاتي)
صمت للحظة وهو ينظر اليها بخبث، ثم سألها بنبرة غريبة.

(أنا أيضا قرأت بعض الكتب، و أعرف أن المرأة التي تظن كل كلمة ما هي الا غزل بها و بجمالها، في الواقع تعاني من كبت عاطفي)
رفعت ياسمين عينيها تنظر اليه بإزدراء، بينما سألها بخفوت
(كم مر على طلاقك؟)
عقدت ياسمين حاجبيها بشدة و هي تقول بحذر
(عام و نصف تقريبا، لماذا؟)
رد عليها مبتسما وهو يتأملها جسديا بدقة...
(عام و نصف دون رجل؟، لابد و أنك تعانين كبتا موجعا)
شهقت ياسمين و تراجعت للخلف هاتفة.

(سأشكوك يا سيد جمال، و لنرى إن كان ما نطقت به للتو يعد تحرشا لفظيا أم أنني، أعاني كبتا!)
و دون أن تترك له فرصة الرد استدارت لتخرج جارية، الا أنه استوقفها مناديا بقسوة
(سيدة ياسمين، فكري الف مرة في موضوع الشكوى، فأنت سيدة مطلقة، و شهادة الموظفات ضدك ستسيء الى سمعتك)
تجمدت ملامح ياسمين و هي تقرأ التهديد الخفي في نظراته، بينما وقعت ابتسامته عليها كأقصى درجة من درجات الإمتهان النفسي...

اطرقت برأسها في النهاية و خرجت من مكتبه تجر قدميها...
ربما عليها أن تسد أذنيها عنه و لا تهتم...
لكن لماذا تشعر بكل هذا القدر من القذارة و كأنها في حاجة لأن تستحم بعد كل مرة تخرج فيها من مكتبه...
الموضوع به انتهاك مؤذي نفسيا ان لم يكن جسديا، بأي حق يعتبر جسدها من أدوات مزاحه يوميا؟، و يدعي أنها هي من تعاني نقصا لرفضها ما يصدر عنه؟

تعلم جيدا أنها ليست الوحيدة التي يتحرش بها، فهو يفعل مع معظم الموظفات، الا أن واحدة منهن لم تقدم ضده شكوى...
الغريب أن لكل مهن وضع يجعلها تتردد الف مرة قبل أن تقدم هذه الشكوى، و كأنه يختار ضحاياه بعناية...
وصلت ياسمين الى مكتبها فجلست خلفه و اسندت جبهتها الى كفها ناظرة الى الورق أمامها دون أن تبصر منه رقما واحدا...
الى أن نادتها احدى زميلاتها قائلة
(ياسمين، هل نطلب لك شطائر دجاج للغذاء معنا؟).

رفعت ياسمين وجهها الشاحب تنظر الى زميلتها بعدم شهية و رغبة في التقيؤ، ثم هزت رأسها نفيا و هي تقول
(لست جائعة، شكرا لك)
ضحكت زميلتها بصوت عال و هي تقول ساخرة
(ياسمين ترفض طعاما؟، من المؤكد أن سببا قويا هو ما أفسد شهيتك على غير العادة)
ردت ياسمين قائلة بصوت متعب.

(يمكنك القول أن سببا مثيرا للغثيان هو ما يفسد شهيتي، لكن عامة اطلبي لي معكن شطيرتين. لكن ليكن المشروب الغازي خالي السعرات ارجوك، نصف العمى و ليس العمى كاملا)
ضحكت زميلها و سجلت شطيرتين اضافيتين بينما كانت ياسمين تنظر اليها بيأس.
هي ليست جائعة، فلماذا تلجأ الى الطعام دائما و وكأنه الصديق الذي يفهمها، لا العدو الذي يشوه جسدها...

الطعام، لطالما كان الرفيق الذي لا يخذلها أبدا، الا فوق الميزان، و على الرغم من ذلك، تقبل خذلانه بكل رحابة صدر...
نظرت اليها زميلتها و سألتها بعفوية
(اذن، ما الذي يشغل بالك الى تلك الدرجة؟)
نظرت ياسمين اليها بصمت، ثم قالت بعد فترة محتدة
(السيد جمال، تجاوزاته اللفظية معي لا تنتهي أبدا).

شعرت ياسمين فجأة و كأن الأعين جميعها باتت مثبتة عليها بينما ارتبك وجه زميلتها و شحب، قبل أن تنهض من مكانها مسرعة كي تقترب منها حتى انحنت على أذنها و همست بحدة.

(هل جننت؟، إياك و الكلام بحرية هكذا في المكتب، فهو له جاسوس في كل مكتب، ينقل له كل الأخبار، و إن زدت في هذا الأمر قد يتهمك أنت بتشويه سمعته و محاولة ابتزازه، فعلها مع موظفة سابقة و ساءت سمعتها تماما، حتى كرهت حياتها، و استقالت من العمل هربا من الجميع، اسمعي يا ياسمين، هنا مدخل رزقك، حافظي عليه بأظافرك و أسنانك، تخيلي لو فقدتيه، بماذا ستفيدك الشكوى حينها، آلاف غيرك يتمنون وظيفة بنصف راتبك، و بما أنك خسرت زوجك، فالمتبقي لك هو راتبك، هو أمانك و الظهر الذي تستندين اليه).

تركتها لتزن الكلام في رأسها، و بالفعل، بقت مكانها تفكر و تتخيل ان تركت العمل و بقت في البيت مع اختها و زوجها دون دخل أو استقلال مادي، أي سم زعاف سيسقيانها منه يوميا؟

(هل أنت واقفة في محطة الحافلات؟، أنا قريب منك، يمكنني رؤيتك و، الاطمئنان عليك)
ابتسمت ياسمين و هي تستمع الى صوته المتردد عبر الهاتف و كأنه يخشى أن تحرجه...
كل يوم تكتشف أنه أكثر أدبا مما كانت تظن...
يتكلمان يوميا لمدة دقيقة واحدة أو أقل، صحيح أنها تود لو طالت المكالمة حتى الصباح، الا أن تلك الدقيقة كانت كافية كي تنسيها عذاب اليوم بأكمله...

رجولته بالنسبة لها ترياق، يشفي أنوثتها الجريحة من كل اتجاه...
لقد تقابلا مرة أخرى عند محطة الحافلات، بدت مختلفة عن المرة الأولى، و كأنه كان سعيدا، متلهفا لرؤياها، حتى أنه مازحها بضعة مرات، و هي كانت تضحك بسعادة مستندة الى مظلة المحطة كمراهقة هربت من المدرسة كي تقابل حبيبها...
لكن اليوم حالتها النفسية كانت في الحضيض، لذا أجابته بهدوء
(أنا لست في المحطة، أنا أجلس في أحد المقاهي).

ساد صمت قصير على الجانب الآخر، ثم سألها قائلا بتوتر
(بمفردك؟)
أجابته ببساطة
(بالتأكيد بمفردي، مع من سأكون اذن؟)
ساد الصمت بينهما مجددا، ثم قال أمين بصوت بدا رسميا قليلا
(خسارة أنني لن أراك اذن)
ردت عليه ياسمين بصوت خافت مجهد
(المقهى بجوار محطة الحافلات، يمكنك القدوم إن أردت)
صمت مجددا، لكنه طال هذه المرة، حتى عقدت حاجبيها بقلق، ثم سألته قائلة
(أمين! الا زلت معي؟)
رد عليها قائلا بصوت جاف.

(أنا معك، أخبريني اسم المقهى و سآتي اليك خلال دقائق)
و بالفعل خلال دقائق كانت تجلس في انتظاره، لكنها كانت شاردة تماما، حتى نبضات قلبها لم تكن متسارعة ككل مرة تراه او تسمع صوته، فالإنهاك النفسي الذي تمر به قد نال منها و جعلها تجلس مكانها وحيدة فاترة الشعور تماما...
حتى أنها لم تلحظ الثلاث شباب الجالسين على طاولة بجوارها، حيث كان يتغامزون و يتهامسون عليها، و نظراتهم أبعد ما تكون عن الأدب...

لكن هو لاحظهم ما أن دخل، بنظرة واحدة الى المكان رآها، و رأى الثلاث شباب يتهامسون في اشارات وقحة عليها...
لم يشعر أمين في تلك اللحظة الا و النار تدب في أعماقه و تحرك ساقيه بسرعة في اتجاه طاولة الشباب...
و ما أن وصل اليهم حتى هدر فيهم بقوة
(هل لدى احدكم مشكلة؟)
انتفضت ياسمين على صوته الجهوري و استدارت تنظر اليه بفزع بينما أجفل الشباب الثلاثة، ثم سأله أحدهم بفظاظة
(ماذا بك يا أخ؟، هل خاطبك أحدنا؟).

رد عليه أمين و قد أعمت العصبية عينيه
(تلك المرأة التي تتهامسون عليها بوقاحة تخصني، فهل لدى أحدكم مشكلة و يريد أن يناقشها معي؟)
نظر الثلاثة الى بعضهم بتذمر، ثم قال آخر بينهم
(ربما كان في الأمر سوء تفاهم، لقد ظننتنا نتحدث عنها، بينما نحن لم نلحظ جلوسها من الأساس)
رد أمين بفظاظة و همجية
(آه، ربما ظننت بالفعل، عامة وجب التوضيح).

و دون أن يفسح لهم مجالا للرد اتجه الى ياسمين التي نهضت من فورها، فأخرج من حافظته ورقة مالية، ألقى بها على الطاولة ثم أمرها بتسلط
(اخرجي من هنا، هيا).

نهضت ياسمين أمامه مسرعة دون معارضة، و لم يرى ابتسامتها البراقة وهي تسير أمامه، كانت سعيدة و تشعر بالروح تدب في أوصالها من جديد و هي تختبر ذلك المعنى الجديد من الغيرة و الذي لطلما تمنت أن تستشعره، و حين فعلت، لم يكذبها توقعها، لقد كان رائعا، يذوب في الدم، يحي الخجل و يزيد الأنوثة...
لكن كل تلك المشاعر الجميلة البريئة انتهت ما أن خرجا الى الشارع فصرخ فيها فجأة.

(اي نوع من النساء أنت كي تجلسين بمفردك في مقهى خاص بالرجال، وتسمحين لنفسك بأن تكوني عرضة لوقاحة كل من يمر بك؟)
بهتت ملامح ياسمين أمام تلك اللهجة التي يخاطبها بها، الا أنها قالت بخفوت
(هذا المقهى مخصص للرجال و النساء على حد سواء، ليس للرجال فقط)
رد عليها أمين بعصبية أكبر
(لم أجد هناك سوى امرأة واحدة فقط، هي أنت و الجميع ينظر اليها و يتهامس بإشارات وقحة)
توترت أعصاب ياسمين أكثر، الا أنها ردت بخفوت باهت.

(لأنه لم تأتي سيدة أو فتاة بعد، لكنه عادة يكون مليئا بالسيدات كالرجال تماما)
اتسعت عينا أمين و هدر بها
(هل أنت مقتنعة بهذا التبرير؟)
عقدت ياسمين حاجبيها و سألته بدهشة
(أنا لم أبرر شيء، لأنني ببساطة لست في حاجة للتبرير)
كان هذا هو دور أمين كي يجفل و يتراجع رأسه أخيرا، ليقول بصوت غريب
(ما معنى هذا بالضبط؟)
ردت عليه ياسمين بثقة.

(معناه أنني شعرت بالفعل بشعور جميل و انا أراك تندفع لتحميني من نظراتهم، لكن هذا لا يعطيك الحق في التحقيق معي و محاسبتي بهذا الشكل)
كان أمين ينظر اليها مذهولا، و كأنه لم يستوعب بعد، أو ربما هي من لم تستوعب بعد...
كيف لا يحق له التحقيق معها أو محاسبتها؟، هل ظنت أنه سيكون ذو عقل متفتح ليمرر الأمر بصورة طبيعية و كأن الدم لم يغلي في رأسه منذ دقائق!

علي أي أساس يتكلمان يوميا اذن؟، الصداقة؟، الأخوة؟، علاقة استقلالية من الطرفين؟
هز أمين رأسه قليلا وهو يسألها ببطىء
(دعيني أفهم هذا، الا تشعرين ولو لحظة بأن تصرفاتك قد تكون متحررة و متهورة؟)
بدأ الغضب يشتعل بداخلها فجأة فقالت محتدة
(أي تصرفات متحررة؟، تتكلم و كأنك وجدتني في مرقص!)
رد عليها أمين بحدة أكبر
(و ما الفارق بين المرقص و المقهى طالما أن الوقاحة التي تتعرضين لها واحدة في المكانين؟).

هتفت ياسمين بغضب عنيف
(لا اعذرني، الفارق ضخم، أنا امرأة ناضجة و محترمة، قررت الترفيه عن نفسي فاخترت مكانا محترم لأجلس به، أن تجد به نموذجا قذرا لا يترك شيئا مؤنثا الا و تحرش به، فهذا ليس خطئي)
كان أمين ينظر اليها مذهولا و كأنه يدعو الله أن يثبت عليه العقل و الدين، ثم سألها بخفوت مفاجىء
(الا ترين خطأ في ملابسك كذلك؟).

أخفضت ياسمين نظرها تنظر الى فستانها الذي يصل الى أسفل ركبتيها مظهرا جزءا من ساقيها الجذابتين في امتلائهما، و يشد الجزء النحيف من خصرها لينسدل على منحنياتها المكتنزة...
ثم رفعت وجهها اليه و قالت بهدوء
(كان يجب أن أعرف بأنك لن تتغير بسهولة، نفس التفكير العقيم المتخلف في محاسبة الفتاة على قذارة رجل)
ضاقت عينا أمين وهو ينظر اليها بصمت، بينما هي تتنفس بسرعة تبادله النظر بغضب، الى أن قال أخيرا بهدوء.

(أتغير؟، من أخبرك أنني أريد التغير، ربما كان تفكيري عقيما بالفعل، اعذريني إن كنت غير قادرا على استيعاب كل تلك النظريات، عوضا عن مبدأ واحد بسيط، هو الا تعرضي نفسك لكل من لا يسوى، لكن عامة ليس لدي شيء أزيده سوى، اعتني بنفسك جيدا يا ياسمين)
و دون أن ينتظر منها الرد كان قد استدار و تركها بالقرب من محطة الحافلات تنظر اليه بهلع خوفا مما يقصده، هل هذا خصام أم فراق؟

لكن هل كان بينهما شيء من الأساس كي يفارقها؟، هل هي مخطئة أن وضعت له الحدود من البداية؟
أرادت أن تناديه و تترجاه أن يسامحها، لكن روح التمرد بداخلها لم تقبل بهذا، فعضت على شفتها و استدارت متجهة بتخاذل الى الحافلة الواقفة...
أما أمين فقد قاد سيارته بعصبية، حتى وصل الى البيت بأعجوبة...
ليدخل الى غرفته معتكفا عن الجميع...

و ظل مستيقظا حتى الفجر ما أن دخلت أمه كي توقظه للصلاة فوجدته جالسا بملامح صلبة، حازمة، فسألته بقلق
(ما الذي يشغل بالك حتى الآن يا حبيبي؟)
نظر أمين الى وجه والدته ثم قال أخيرا بهدوء
(لقد استخرت الله يا أمي، و قررت خطبة بدور)
تهللت ملامح والدته و برقت عيناها بسعادة و هي تهتف تضمه الى صدرها بقوة.

(والله لولا أنه وقت آذان الفجر لملأت الدنيا بالزغاريد، مبارك لك يا حبيبي، عسى أن يجعلها الله زيجة العمر لك يا ولدي)
ربت أمين على يدها برفق قائلا
(بدور فتاة طيبة يا أمي، و أنا أتعجب لماذا استغرق مني الأمر كل هذا الوقت كي أتخذ قراري، ليتني كنت فعلت منذ البداية، لكنت وفرت على نفسي حرجا بالغا)
قبلت أمه وجنته، ثم قالت بسعادة حقيقية.

(ما أن يشرق الصباح، حتى أتصل بوالدة بدور و أزف اليها الخبر، الآن قم للصلاة، زد ركعتين شكر لله أن أضاء قلبك للقرار أخيرا).

كانت بدور جالسة منذ الفجر و حتى الصباح تذاكر بصمت، محاولة الإنشغال عن مشاكلها بالدراسة قدر الإمكان...
الدراسة بالنسبة لها في هذه الفترة من حياتها هي كل ما تبقى له، العالم الذي يشغلها عن عالمها القاتم و الغير مبشر بأي مستقبل، فعلى الرغم من نيتها الصادقة في النجاح...
الا أنها تعرف بأن والدها لن يقبل بأن تعمل مطلقا، أي أن حياتها متوقفة حتى أجل غير مسمى...

انتبهت بدور فجأة على صوت صيحة أمها و هي تهتف
(استحلفتك بالله قولي الصدق؟، حقا تتكلمين؟، نهار أبيض، نهار مبارك، بالتأكيد سأخبرهما، سلمت لي يا أم الغالي)
رمشت بدور بعينيها قليلا و هي ترى والدتها تضع الهاتف من يدها، ثم ودون مقدمات بدأت في اطلاق الزغاريد العالية التي وصلت الى الشوارع المجاورة
بالنسبة لبدور...
كان صوت الزغاريد يعني فضيحة، مذاق الدم، جلد الأحزمة، صراخ و عويل...

تلك هي بعض الصور التي تراءت لها ما أن سمعت صوت الزغاريد...
و ما ان انتهت أمها من احتفالاتها الصاخبة، حتى اندفعت الى بدور و ضمتها الى صدرها بقوة و عنف و هي تبكي شاهقة
(مبارك يا حبيبتي، صبرت ولو يخيب الله صبرك و رجائي، مبارك يا صغيرتي، لقد خطبك أمين ابن عمك)
لم تبكي، لم تسقط مغشيا عليها، بل ظلت في حضن أمها و هي تنظر أمامها بعينين ثابتتين.

المكتوب لا مفر منه، كفى هربا و ايقاعا بالبشر نتيجة خطأ واحد ارتكبته هي و ستبقى نادمة عليه العمر بأكمله...
ستوافق، و تسلم للمكتوب.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة