قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثاني والعشرون

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثاني والعشرون

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثاني والعشرون

اليوم من المفترض بها أن تكون عروسا! الليلة سيأتي أمين و معه والدته للتقدم طلبا ليدها رسميا من والدها...
اليوم سيبدأ فصل جديد من حياتها القصيرة المخزية، الفصل الأكثر وجعا...
الفصل الذي ستكشف به الحقائق و كم حاولت اخفائها بشتى الوسائل، لكن المكتوب على الجبين لابد و أن تراه العين، لا مفر...

التفتت بدور من مرآتها لتنظر الى باب غرفتها الذي فتح بسرعة و أمها التي دخلت مهرولة مرتبكة بدرجة تثير الشفقة، و كأنها فرصة ابنتها الوحيدة في الحياة، لا مجرد فرصة أخيرة في الزواج...
بينما كانت هي تجلس على الكرسي الصغير أمام طاولة الزينة، في حالة سكون تام، سكون نفسي قبل أن يكون جسدي...
اندفعت اليها أمها و هي تقول بلهفة و حرارة
(هل انتهيت يا بدور؟، لقد تأخرت جدا يا ابنتي).

ردت بدور بصوت فاتر على أمها تسألها
(هل وصلوا؟، لم أسمع جرس الباب)
أجابتها أمها بصوت عصبي و هي تتفحص شكل ابنتها الجالسة بهدوء أمام المرآة...
(لا لم يصلوا بعد، لكن أردت رؤية ما ترتدينه قبل أن يصلوا، كي نجد الوقت إن احتجنا أن تغيري شيئا)
نظرت بدور الى امها بتعاطف مؤلم...
الشخص الوحيد الذي تهتم له حاليا هي أمها، هل ستتحمل صدمة كهذه؟

ليتها فقط كانت فكرت في أمها ولو للحظة قبل أن تسلم نفسها لراجح بكل ذل خوفا من أن يزهد بها بعد أن عرف الكثيرات غيرها من هن أجمل منها و اكثر ثقة و خبرة...
ليتها فقط كانت فكرت فيمن تهتم لهم عوضا عن جعل راجح هو كل عالمها، و الذي ما كان يوما سوى دائرة سوداء مغلقة، أخذت تضيق عليها يوما بعد يوم الى أن التفت حول عنقها و خنقتها ببطىء، و لا تزال...

رمشت بدور بعينيها و أبعدت وجهها الشاحب عن أمها لتقول بلا حياة أو حماس
(تتكلمين و كأنه خاطب غريب لا يعرفني و لم يرني من قبل! إنه أمين ابن عمي يا أمي، يعرف شكلي منذ ولدت)
عقدت أمها حاجبيها و قالت بتوتر.

(جميعنا تزوجنا من أبناء أعمامنا، العمر بأكمله شيء، و لحظة التقدم للخطبة شيء آخر، على أن أيامنا تختلف عن أيامكم، حين تقدم والدك لخطبتي، لم أخرج لرؤيتهم من الأساس، و لم يراني الا بعد الزواج الا بعد الزواج)
ابتسمت بدور ابتسامة حزينة و هي ترى أخرى ترتسم على ملامح أمها بخجل، بينما تنحنحت و قالت متابعة بحزم
(الآن انهضي لأنظر اليك جيدا).

نهضت بدور رغما عنها بإستسلام و تركت لأمها حرية ما تفعل قبل أن ينهار كل شيء...
أمسكت أمها بمعصمها و هي تتأمل الكنزة البسيطة البيضاء فوق التنورة الطويلة الوردية، و التي تشبه الحجاب الملتف حول وجهها...
برقت عينا والدتها قليلا و هي ترى ابنتها و قد تخلت عن اللون الأسود و بدت جميلة بالفعل...
فتأوهت هامسة بإختناق
(آه يا صغيرتي ما أجملك! منذ فترة طويلة لم أرك متفتحة للحياة بألوان مماثلة تضيء وجهك الجميل).

متفتحة للحياة! آه يا أمي لو تعرفين المستور! لو تدركين المكتوب!
أطرقت بدور بوجهها و هي تغمض عينيها بألم، لكنها حاولت الهمس بصوت واه تجاري أمها في الحديث على الرغم من ابتلاعها للغصة المؤلمة في حلقها
(ظننت أن اللون الوردي، يجعلني شاحبة الوجه)
هتفت أمها بحرارة و هي تشد على معصم بدور بقوة مؤلمة
(بل على العكس، تبدين كزهرة رقيقة متوردة، لكن لماذا لا تضعين بعض الزينة؟).

رفعت بدور وجهها و هي تنظر الى أمها مبتسمة، كإبتسامة امرأة عجوز لطفلة صغيرة، ثم قالت بصوت خافت
(أي زينة يا أمي في وجود والدي!)
لوحت أمها بكفها قائلة بتذمر
(و إن يكن! ما العيب في بعض الزينة كباقي البنات؟)
أمسكت بدور بكف أمها بقوة بين يديها ثم ربتت عليه بحنان و قالت بخفوت.

(ارتاحي يا أمي، أمين يعرف شكلي و تقدم لخطبتي، لا تقلقي نفسك أكثر من اللازم على أمور غير هامة، كفي عن الإرتجاف و كأنها نهاية العالم، أريدك أن تتذكري الكثير من الأمور المفرحة غير زواجي الذي تنتظرينه بشكل يخيفني، تذكري أن زوجة زاهر تحمل له طفلا و ستكونين جدة عما قريب، الكون لن يتوقف بزواجي، موتي أو حياتي)
شهقت أمها و هي تحفر أظافرها في بشرة ساعد بدور بحركة لا إرادية، لتهمس برعب.

(بسم الله، الله اكبر، ما هذا الذي تقولينه يا بدور؟، أي موت يا ابنتي تتحدثين عنه و أنت عروس؟، لماذا تؤلمين قلبي بهذا الشكل؟ هل يسرك أن ترين أمك مريضة؟)
انحنت بدور لتضمها فجأة بكل قوتها غير قادرة على ايقاف دمعتين انسابتا على وجنتيها، و هتفت بإختناق
(أنا آسفة يا أمي، أنا آسفة جدا، سامحيني أرجوك)
انسابت دموع أمها أيضا، لكنها ابتسمت و هي تضم بدور بقوة قائلة.

(سأسامحك، تعلمين أنني لا أملك سوى أن أسامحك، فأنت ابنتي الوحيدة، صديقتي الوحيدة في هذه الحياة، لطالما تمنيت من الله أن يمنحني فتاة تكون رفيقتي، ترعاني حين أكبر، و تساعدني في كل شيء، بعكس الذكور، الفتيات نعمة، صحيح أنني تمنيت أن يرزقني الله بالصبي أولا كي يشتد ظهري به، و جاء زاهر، حماه الله، لكن بعدها تمنيت فتاة، ثم جئت أنت...

ومهما كانت سعادتي بأبناء زاهر، يظل قلب الأم يهفو الى رؤية أطفال ابنتها، هؤلاء لهم معزة أخرى، لها طعم خاص أسأل الله أن أدركه قريبا)
أطبقت بدور جفنيها بقوة و هي تشدد من احتضان أمها...
كيف كانت بمثل هذه القسوة؟، كانت دائما تلوم والدها على معاملة أمها بقسوة و عدم اهتمام...
و كأنها مجرد شيء يملكه لا قيمة له، لم تراه يوما يعاملها كإنسانة تفهم و تشعر...

كانت بالنسبة له مجرد شخص وجد في هذه الحياة لخدمته و الويل له إن أخطأ...
لم تتصور أن تمر الأيام و تكون أكثر قسوة من أبيها تجاه أمها، تحرمها من أملها الوحيد في الحياة...
كيف لها أن تكون بمثل هذا الجحود؟، خوفا على ضياع رجل جبان كراجح من بين أيديها، باعت أمها و أهلها جميعا!
(ماذا تفعلان كل هذا الوقت؟)
انتفضت كل من بدور و أمها و ابتعدا عن بعضهما ما أن سمعا صوت والدها الخشن، الآمر الناهي يفصل بينهما...

أجابت أمها بصوت مرتبك و هي تمسح دموعها
(كل خير يا حاج، ابنتك جاهزة و تحت أمرك)
أما بدور فقد كانت تنظر الى وجه والدها المتجهم بعينين واسعتين صامتتين، لا تعبران عن شيء...
بينما هو يبادلها النظر بعينين متهمتين، ثم لوح لها يذقنه قائلا بنبرة جافة متجاهلا زوجته
(اسمعيني جيدا، لا أريد أي أخطاء أو هفوات، مفهوم؟).

أومأت بدور برأسها دون أن ترد، لكنها انتفضت حين أمسك فجأة بمعصمها بكل قوة يجذبها اليه حتى ترنحت و كادت أن تسقط، ناظرة اليه بعينين أكثر رعبا، وهو يقول مهددا
(و إياك و الوقوع أمامهم، سأكسر ساقك السليمة لو ككرتها مجددا، أريد لهذه الزيجة أن تمر و أنفض يدي من همك لأرتاح، مفهوم أم أعيد كلامي؟)
لم تستطع بدور النطق، كانت تنظر الى والدها بهلع تحفظه عن ظهر قلب، فهو الشعور الوحيد الذي تكنه لوالدها...

حين يتكلم معها بهذه الطريقة، تفقد القدرة على النطق، و حين يضربها لأي خطأ بسيط ارتكبته، فإنها توشك على فقدان وعيها...
حين طال صمتها هدر فيها وهو يهزها بقوة
(أجيبي، لا أسمعك، مفهوم كلامي؟)
هزت بدور رأسها بسرعة و هي تحاول البحث عن صوتها، الا أنه راح منها، بينما تطوعت والدتها و قالت بسرعة
(مفهوم يا حاج، مفهوم طبعا، الفتاة مرتبكة، تعرف حياء البنات، امنحها دقيقتين كي تتمالك نفسها).

ظل والدها ينظر اليها بقساوة الى أن تعالى صوت رنين جرس الباب، فترك معصمها وهو يقول بجفاء
(لقد وصلوا، سأخرج لمقابلتهم و أنتما لا تتأخرا)
ثم خرج و تركهما، حيث كانت بدور ترتجف و تنتفض داخليا بعنف، تدلك ذراعيها بحركات لا إرادية...
بينما ربتت أمها على ذراعها و هي تهمس لها بتعاطف و نبرة توتر و ذعر.

(لا تخافي يا حبيبتي، إنه فقط يريد أن يطمئن عليك لهذا هو قاسي بعض الشيء، المهم لا تخافي أنت كي لا ترتبكين و تقعين أمامهم، لا نريد أن نثير غضب والدك يا ابنتي ارجوك، سأخرج لأستقبل أم أمين، لا يصح أن تدخل و لا تجدني، لا تتأخري يا بدور، نريد لهذه الليلة أن تمر بالستر).

ربتت على ذراعها مرة أخرى، ثم تنهدت بأسى و هي ترى حالة بدور التي تسمرت مكانها، لا يتحرك في جسدها سوى الإرتجاف، و قد شحب لونها تماما، فهمست لنفسها بإستسلام
لا حول ولا قوة الا بالله، كملها بالستر يا الله
ثم خرجت من الغرفة و هي مسلمة رعبها الى الله، بينما ظلت بدور مكانها تنظر الى نفسها في المرآة...
حيث بدا وجهها و كأن هناك من سحب الدم منه بجهاز شفط من شدة ما كانت تبدو عليه من شحوب...
فهمست بصوت أجوف.

لازال طريق الخوف في بدايته، لا تنهاري الآن،
حين خرجت من غرفتها تجر قدمها العرجاء ببطىء، تنهاى الى مسامعها أصواتهم من غرفة الضيوف...
ما بين تهنئات و تحيات، استطاعت سماع صوت أمين يقول بوضوح، و بنبرة تفرض نفسها...
(آسف لإضطرارك على السفر الى هنا خصيصا يا عمي، كنت أنوي اصطحاب الوالدة و المجيء اليك في البلد، كي لا تتكفل هذا العناء)
رد عليه عمه بصوته الخشن الصارم.

(أنا آتي أو أنت من يفعل، لا فارق يا أمين، لا داعي لتعب الوالدة معنا طالما أنا قادر على المجيء)
ردت عليه أم أمين قائلة بسرور
(سلمت يا أبا زاهر، اليوم الدنيا لا تسعني من الفرح، فأمين هو الغالي من بعد المرحوم، و بدور ستكون ابنتي من هذه اللحظة و أكثر، أين هي العروس؟)
انتفضت أمها لتقول بصوت متوتر
(آتية حالا، تعرفين دلال العرائس و خجلهن)
ضحكت أم أمين و هي تقول بمودة.

(و هي أمين غريب؟، مقدر لهما أن يكونا لبعضهما مهما طال الوقت، إنه النصيب يا أم زاهر)
تلعثمت أم زاهر بطريقة واضحة و هي تقول بخفوت
(يا رب، عسى أن يتمم الله أمورهما بخير)
أغمضت بدور عينيها و أخذت نفسا عميقا ثم تشجعت و ألقت بنفسها في النار لتتقدم اليهم حتى ظهرت و هي تعرج ببطىء هامسة بصوت شديد الخفوت
(السلام عليكم).

التفتت اليها جميع الأعين مرة واحدة مما جعلها تتعثر حقيقة هذه المرة، الا أنها تماسكت بالقوة ووقفت مكانها و هي تلتقط نفسا آخر...
بينما نهض أمين من مكانه وهو ينظر اليها مبتسما بهدوء، أما والدته فقط نهضت قائلة بسرور
(و عليكم السلام و رحمة الله، تعالي حبيبتي، تعالي الى حضن خالتك).

رفعت بدور عينيها تنظر بطرفهما الى والدها الذي كان يرمقها بنظرة مهددة دون أن ترتكب شيئا، فسارعت بإبعاد عينيها عنه و اجبرت نفسها على التقدم الى حتى وصلت الى أم أمين التي ضمتها بين ذراعيها بقوة، تقبلها من اليمين و اليسار بقلبلات حانية لا تنتهي، جعلت الغصة تزداد ألما في حلقها، بينما قالت أم أمين و هي تنظر اليها.

(يا لك من طفلة جميلة محبوبة يا بدور، كبرت صحيح، الا أنك بنفس براءة وجهك منذ طفولتك، لكن الآن أصبحت عروسا، عروس الغالي و ابن الغالي، تعالي لتجلسي بجواري)
تركت بدور نفسها الى يدي والدة أمين التي أجلستها بجوارها، بينما قالت أمها تنبهها بإرتباك
(لم تسلمي على أمين يا بدور!)
نظرت بدور الى أمين الذي كان لا يزال واقفا مكانه ينظر اليها مبتسما بحنان، و شيء من التسلية...

فانتقل ارتباك أمها اليها و نهضت بسرعة حتى أنها داست على قدم والدته في غمرة ارتباكها و لم تدري ما تفعل فوجدت نفسها تمد يدها اليه بصمت...
لم تكن من عادتها أن تصافح رجلا، خاصة في وجود والدها، الا أنها لا تعلم لماذا مدت يدها؟
حتى سمعت والدها يتنحنح بطريقة مخيفة ينبهها الى ما تفعل، فنظرت اليه بخوف و سارعت الى اخفاض يدها، لكن أمين كان أسرع منها فالتقط يدها يمسها برفق وهو يقول آخذا المبادرة.

(كيف حالك يا بدور؟)
اسقطت يدها عن يده بسرعة و هي تنظر الى والدها بهلع حتى أنها لم ترد على أمين و كأنه لم يتكلم من الأساس، فأشار والدها لها مهددا بأن تعود الى مكانها و تجلس بأدب بمجرد نظرة نارية منه، حينها فقط سقطت جالسة بجوار والدة أمين التي استقبلتها بين أحضانها مجددا ترفض تركها و كأنها عروس دمية...
لحق بها أمين ليجلس وهو ينظر اليها مبتسما بطريقة جعلتها تبعد عينيها عنه عمدا...

ثم رأف بحالها و التفت الى والدها يقول بتهذيب...
(اذن يا عمي، تعرف طلبنا، سيكون لي الشرف بقبولك بي زوجا لبدور و أعدك أن أعتني بها الى آخر عمري)
احمر وجه بدور بشدة و غصت روحها بين أضلاعها بينما تعرقت راحتاها و ارتجفتا...
أما والدها فقد ظل صامتا للحظة قبل أن يقول بصرامة
(كما قالت سيدة الكل والدتك، انت ابن الغالي رحمه الله يا أمين، و طلبك مجاب ان شاء الله).

أغمضت بدور عينيها و هي تشعر بالعالم يدور من حولها. ولولا امساك أم أمين لها بين أحضانها لكانت سقطت أرضا لا محالة...
الا أن والدها أمرها بحدة
(بدور)
انتفضت رافعة وجهها الشاحب تنظر اليه بخوف مجفلة، فقال بصوت صارم قاسي
(انهضي لتضيفي خطيبك ووالدته، بسرعة)
رمشت بدور بعينيها و سارعت لتنهض هامسة بطاعة
(حاضر)
كانت ممتنة لإبتعادها المؤقت عن جلسة الإعدام تلك، و اثناء انصرافها سمعت والدها يقول بهدوء.

(اعتبر الأمر منتهي يا أمين و يمكننا الإتفاق على كل شيء الآن)
حينها جرت بدور الخطوات المتبقية حتى المطبخ لتقف مستندة الى الجدار بظهرها، رافعة رأسها، تتنفس بسرعة و ألم، ثم همست برعب
انقذني يا الله، انقذني يا رب لأجل حبيبك المصطفى، لحقت بها أمها مسرعة كي تساعدها، و ما أن وصلت اليها حتى ربتت على ذراعها هامسة بسعادة و لهفة
(إنهم يتفقون الآن، مبارك لك يا حبيبتي، مبارك لك يا فرحة عمري، ).

نظرت بدور الى أمها بعينين زائغتين، ثم همست دون وعي
(أنا خائفة يا أمي، خائفة جدا، لا تتركيني)
تأوهت أمها و هي تقول بسذاجة
(لا تخافي يا حبيبتي أنا سأكون خلفك تماما، لقد أعددت لك صينية أكواب الشراب كاملة، ليس عليك الا حملها على مهل و أنا سأكون بجوارك خطوة بخطوة)
زفرت بدور نفسا يائسا مرتجفا، ثم اتجهت الى الطاولة تتناول الصينية بأصابع مرتعشة...
شدت أمها على معصمها قائلة بقلق.

(سيري ببطىء يا بدور، اياك و التعثر يا ابنتي ارجوك)
لم ترد على أمها و هي تخرج ببطىء الى أن سمعت صوت والدها يقول بصرامة أشد
(اسمعني يا ولدي، أم الخطبة الطويلة و عقد القران بات مرفوضا بالنسبة لي تماما، سيتم الزواج على الفور)
تشنجت بدور و اتسعت عيناها فأبطئت خطواتها أكثر، بينما قال أمين بخفوت
(أنا لا مانع عندي، و إن كنت متحضرا و مستعدا للإنتظار حتى تنهي بدور عامها الدراسي)
هتف والدها بصوت أجش.

(لا إنتظار لدراسة أو غيرها، نهايتها في بيت زوجها، و هي ليست تلك العبقرية على كل حال، فلا داعي الى الإنتظار، جربنا مرة و رسبت فلم نستفد شيئا)
عضت بدور على شفتيها و هي تنظر الى أمين عن بعد و قد أظلمت ملامحه قليلا بعد اشارة والدها الى خطبتها السابقة من راجح!
يا اللهي، إن كان يجفل لمجرد ذكر الأمر، فكيف سيكون حاله حين،!
انقذني يا الله، انقذني...
أجبرت نفسها على التحرك من جديد، مع صوت والدها الذي تابع بقوة.

(و بعد أن تصبح زوجتك، لك أن تمنعها من متابعة الدراسة، هذا حقك)
توقفت مجددا و هي تلهث بصوت مرتجف...
صحيح أنها لم تكن يوما مهتمة بدراستها ولم يكن الأمر بالنسبة لها سوى تحصيل حاصل، لكن الآن و بعد كل ما حدث لها باتت تدرك قيمة دراستها و شهادتها، تريد أن تحصل عليها، حتى و إن كانت الشيء الأخير الذي ستحصل عليه قبل أن تموت، لكن على ما يبدو أنها لن تجد الوقت لتحقيق أمنيتها...
الا أن أمين قال بهدوء و ثقة.

(بعد اذنك يا عمي، بدور ستتابع دراستها بعد زواجنا، حتى إن رفضت، فأنا مصر، أنا أريد الزواج بفتاة ذات شهادة جامعية)
تذمر والدها و تمتم بشيء غير مفهوم، الا أنه قال بعدم رضا
(أنت حر بها، فهي ستكون ملكك)
أطرقت بدور رأسها بخزي و هي تشعر بنفسها سلعة تباع في نظر والدها، حين تقدم راجح لوالدها، كان الوضع أكثر احتراما لها، على الأقل كان والدها يتعامل معه بنزق و يتشرط عليه...

أما الآن فهو يمنحها الى أمين دون ثمن، و كأنها هم يريد التخلص منه طلبا للستر فقط لا غير...
قال والدها متابعا بتجهم
(حسنا طالما اتفقنا، أرى أن يتم التجهيز الى الزفاف بعد شهر من الآن، و الذي سيتم في البلد وفقا لعاداتنا القديمة).

كانت بدور قد وصلت الى أمين في تلك اللحظة، لكن ما سمعت عبارة والدها الأخير حتى دبت انتفاضة رعب في أعماقها، وصلت الى اطرافها فاهتزت الصينية بيدها الى أن سقطت احدى اكواب الشراب الأحمر فوق قميص أمين الأبيض!
تعالت الشهقات من أمها و أم أمين من الصدمة، بينما اتسعت عينا بدور بهلع، غير مصدقة لما ارتكبته...
أما والدها فقد انتفض واقفا وهو يصرخ فيها قائلا
(هل عميت يا غبية؟).

ظلت بدور واقفة مكانها ترتعش، لدرجة أن اهتز الشراب في الأكواب بشكل واضح، مما جعل أمين ينهض من مكانه ليلتقط الصينية من بين يديها ليضعها على الطاولة، ثم استقام ناظرا اليها بصمت...
حيث رأى الدموع تتساقط على وجنتيها المنخفضتين جراء اهانة والدها لها أمامهم...
فزم شفتيه غاضبا، الا أنه تمالك نفسه و قال مبتسما...
(لا عليك يا بدور، حصل خير).

الا أنها لم تتوقف عن البكاء الصامت و هي تدلك معصمها بإرتعاش، فصرخ فيها والدها
(اذهبي الى غرفتك يا غبية)
استدارت بدور تنوي المغادرة، الا أن أمين قال بصوت حازم
(لم أتكلم مع بدور بعد يا عمي، فهلا سمحت لي بذلك؟، أريد بعض الدقائق معها من فضلك)
كانت نبرة أمين يشوبها بعض التحدي، مما جعل حاجبي عمه ينعقدان بشدة بغير رضا...
و استمرت النظرات بينهما قليلا، الى أن قال في النهاية متنازلا بغضب.

(أنا سأدخل لأصلي صلاة العشاء، و بعدها نتم حوارنا)
ثم دخل دون أي كلمة إضافية، و ترك الجو خلفه متوترا مشحونا...
والدة أمين مرتبكة و هي تنظر الى بدور بشفقة، أما والدتها فكانت في حالة يرثى لها، كمن ستنفجر في البكاء في أي لحظة، الى أن قالت أم أمين مدعية المرح
(تعالي يا امرأة و أريني ماذا أعددت للعشاء، علني أساعدك في شيء، فأنا لست غريبة، هيا بنا).

ظلت والدة بدور مكانها تنظر الى ابنتها بأسى، الى أن جذبتها أم أمين بالقوة و هي تقول آمرة
(هيا يا امرأة، ابني لن يلتهم ابنتك، لندعهما يتكلمان لدقيقتين هما في حاجة اليهما)
دخلت أم بدور معها مرغمة و هي مطرقة الرأس، بينما ظل أمين واقفا ينظر الى بدور التي تنظر أرضا...
ثم قال بهدوء
(ألن تجلسي؟)
لعقت بدور دمعة سقطت على زاوية شفتيها، فتنهد أمين و قال بخفوت أكثر لطفا.

(اجلسي يا بدور، أريد أن أتحدث معك قبل أن يعود عمي)
تراجعت بدور خطوة، ثم جلست على نفس الكرسي الذي كان والدها يحتله بجوار أمين، أما هو فجلس بعدها ينظر اليها و هي تفرك أصابعها ناظرة الى يديها و الدموع تنساب على وجنتيها اكثر...
فقال أخيرا برقة
(ألن تتوقفي عن البكاء يا بدورة؟)
لكنها لم تتوقف، بل أفلتت شهقة بكاء خافتة من بين شفتيها فرفعت يدها تمسح بها دموعها عن وجهها دون ان ترفعه، فقال أمين مازحا برفق.

(كل هذا لأن والدك نعتك بالغبية؟، هذا دأب الآباء دائما، أنت لا تعرفين كم كان الحاج رحمه الله يحرجني أمام الجميع، يوما ما ضبطني و أنا أدخن سيجارة بالقرب من البيت، فجرى خلفي ممسكا بحزامه، ثم طردني بعدها و اضطررت الى المبيت لدى أحد رفاقي)
رفعت بدور وجهها تنظر اليه بعينيها الحمراوين، ثم ضحكت رغما عنها، فضحك أمين أيضا و قال بخفوت
(هكذا أفضل، لا أريد أن أراك باكية بعد الآن، مفهوم؟)
مفهوم؟

نفس كلمة والدها، لكن شتان بين ما هو مفهوم لوالدها و ما هو مفهوم لأمين!
ظلت بدور تنظر اليه بشرود بدا، بدا ملهوفا قليلا...
و حين طال صمتها قال مرة أخرى مبتسما وهو يتأملها مليا...
(أتعرفين أنها المرة الأولى التي أراك فيها بمثل هذا اللون! لكن أتطلع شوقا لرؤية شعرك)
اتسعت عينا بدور بذهول، حتى أنها لم تستطع الإشاحة بهما عن عينيه، فسألها ببساطة قائلا.

(هل هو أسود؟، رأيت بعضا منه في قليل من الأحيان الا أنني لم أركز به تماما)
أومأت بدور برأسها و كأنها منومة، فابتسم أمين وهو يقول مداعبا
(لطالما عشقت الشعر الأسود الناعم، هو ناعم، اليس كذلك؟)
هزت بدور كتفيها غير قادرة على الرد، لا تزال تنظر اليه بنفس الذهول، فسألها مجددا ببساطة
(طويل؟).

ابتلعت ريقها بتشنج و صدمة، و مجددا هزت كتفيها بإشارة مبهمة، مما جعله يضحك بخفوت وهو ينظر الى عينيها الدامعتين الواسعتين، ثم قال برقة
(أنت لا تفشين الكثير من الأسرار، اليس كذلك؟، لكن عامة لو وافقت على زواجنا سأراه بنفسي دون الحاجة اليك)
رمشت بدور بعينيها قبل أن تخفض وجهها أخيرا و هي تضغط أصابعها حتى خدشت باطن كفها بأظافرها...
مما جعله يتأملها طويلا، الى أن سألها بهدوء.

(هل أنت موافقة على الزواج بي يا بدور؟)
رفعت بدور وجهها اليه مجفلة و قالت بعدم تصديق
(موافقة؟)
عقد حاجبيه قليلا و سألها بجدية
(لماذا تبدين مندهشة الى هذه الدرجة؟، من حقك أن ترفضي)
هزت بدور رأسها نفيا بطريقة بطيئة غير مفهومة و همست
(لا، ليس من حقي الرفض)
ازداد انعقاد حاجبي أمين وهو يتأملها مليا ثم قال بحزم.

(بل من حقك، فقط أجيبيني و لا تخشي شيئا، إن كنت غير موافقة على الزواج بي، سأتصرف أنا دون أن يحملك أحد مسؤولية الرفض)
انحنت عيناها بألم و هي تنظر اليه بتوسل عله يفهم من نظرة عينيها دون الحاجة بها الى النطق، وهو كان يحاول قدر استطاعته، كان يحاول تفسير نظرات عينيها الا أنه لم يستطع
شردت بدور قليلا و هي تفكر في الرفض بالفعل و هي تثق في شهامته، لكنها لا تثق في ردة فعل والدها...

مهما حاول أمين الا يحملها المسؤولية، فسيفعل والدها، و ستكون الزيجة المقبلة أكثر خزيا...
همست أخيرا و هي تحاول التقاط أنفاسها
(أمين، هناك ما أريد أن أخبرك به، أنا لست)
صمتت قليلا و هي تلعق شفتيه ناظرة اليه بهلع، تحاول النطق بما حضرته طويلا...
ستعترف له عله يقبل بها، ليته يقبل بها على علتها فلا تضطر الى المرور بهذا الرعب مع رجل آخر...
تنتابها حالتين متناقضتين تماما...

الأولى هي عدم قدرتها على فضح نفسها أمام أمين تحديدا، لا تتخيل فضح نفسها أمام رجل مثله، رجلا بحق...
الثانية، هي أنها إن كانت ستختار، فهي ستختار الرحمة على يده هو، أكثر من أي رجل آخر...
تكلم أمين يحثها بجدية
(تكلمي يا بدور، لا تخافي)
فتحت بدور فمها لتعترف له، الا أن صوت والدها علا مكبرا من الداخل.

الله أكبر، مجرد سماع صوته جعلها تجفل و تبتلع كلماتها الكارثية التي كانت ستنطق بها و ظلت تنظر الى أمين بذعر غير مصدقة أنها كانت على وشك الإعتراف له...
و استمر صمتها قليلا الى أن وجدت لسانها يهمس بإختناق
(أنا، موافقة)
ابتسم أمين أخيرا براحة، ثم سألها بهدوء
(هل أنت واثقة تماما؟)
لم ترد بدور عليه، بل ظلت تضغط على مفاصل أصابعها، و عوضا عن اجابته للمرة الثانية، وجدت نفسها تسأله بخفوت شديد الهمس و ب، جرأة...

(أمين، هل تعرف، ما يقصده والدي بال، بالزواج على طريقة عاداتنا؟)
عقد أمين حاجبيه و قال بخفوت مماثل
(بالتأكيد أعرف، هل هذا ما تخشينه؟)
أطرقت بدور بوجهها الذي احمر رغما عنها لجرأتها في طرح الموضوع، و عجزت عن المتابعة...
فتولى أمين الكلام عنها ليقول حازما بجدية
(ليس هناك ما تخافين منه يا بدور، لم أكن لأوافق على أمر متخلف كهذا، لن يحدث، اطمئني)
نظرت اليه و هي تتنفس بسرعة...

ليس هناك ما تخافين منه، اطمئني، ياللها من كلمات تدخل الى قلبها فتحيطه بدفىء لم تعرفه من قبل، بمثل تلك النبرة التي تغلف كيانها كغطاء ناعم ثقيل في ليلة باردة...
فغرت بدور شفتيها و هي تنظر اليه بنظرات طفل حزين مشتاق، ولأول مرة تدرك...
أنها بالفعل تريد الزواج من أمين، بل تتمناه، بعد أن كانت قد كرهت كل ما يتعلق بالزواج و الرجال...
لكن وجودها تحت رعايته، هو أقصى ما تتمناه، و شيء في داخلها يهمس.

لن يفضحك أمين، مستحيل أن يفعل، ظلت على صمتها الى أن انتفضت على صوت والدها يقول بصرامة
(اذهبي لتساعدي أمك، أريد الكلام مع امين كلام رجال، هيا بسرعة من هنا)
قفزت بدور من مكانها بسرعة و هي تنظر الى ملامح وجهها المخيفة، بينما نهض أمين من مكانه بهدوء...
أما عمه فقد اقترب منه وهو ينظر الى قميصه الملوث باللون الأحمر و قال مستاءا بصوت حانق.

(ياللمنظر! تلك الغبية لا تستطيع حتى الإمساك بكوب من الشراب دون أن توقعه)
توقفت بدور في طريقها ثم استدارت تنظر اليهما عن بعد مذهولة، فقد نست تماما أمر البقعة التي لوثت بها قميصه ناصع البياض، بل أنها حتى لم تلحظها...
كل ما لاحظته هي رغبتها التي سيطرت عليها في أن تكون في حمى أمين و تخرج من سطوة أبيها للأبد!
اطرقت برأسها و أوشكت على متابعة سيرها لكنها سمعت صوت أمين يقول بحسم.

(هناك ما أريد الكلام معك بشأنه يا عمي، أمر أرفضه تماما و لم يعد أحد يقوم به و عليه أن ينتهي)
أغمضت بدور عينيها و ابتسامة تشق طريقها الى شفتيها، ابتسامة اعجاب، تشفي في والدها...
ابتسامة ثقة في رجل بدا من نبرته أنه لن يتراجع عن قراره...

كانت أحلامه بأكملها منحصرة فيها و بها، يراها أمامه تضحك له بكامل جمالها و شبابها الذي لا يذوي أبدا، بشعرها الذي رآها آخر مرة منذ زمن...
شعر طويل، طويل، طويل، و كأنه يتداخل مع السماء القاتمة من حولها، كذلك ردائها الأسود يختلط بهما و يتطاير مع شعرها...
لا تضيء تلك اللوحة المظلمة سوى وجهها الأبيض الشبيه بالبدر في تمامه، و ضحكتها تتراقص مع خفقات قلبه، فهمس باسمها.

سوار، لكن شيئ ما آلمه، شيء و كأنه قد دفع فكه بقوة، مما جعله يتأوه بصعوبة...
بينما صوت رجولي يقول بجفاء
(استفق)
فتح راجح عينيه بصعوبة وهو يحاول ان يناديها قبل أن ترحل، لكن اللون الأبيض المحيط به من كل مكان أغشى عينيه، و أضاع صورتها السوداء البراقة منهما فهتف مجددا بقسوة
سوار، الا أن شيء ما قبض على ذقنه جعله يتأوه أكثر، و الألم يزداد في وجهه و فكه و حول أنفه...

حينها فقط بدأ يستوعب مكانه و تلك الغرفة المقيتة التي يستفيق بها كل فترة كسجن أبدي، تتضح ملامحها أخيرا...
رمش بعينيه قليلا، الى أن بدأ ينتبه الى من يحدثه، و يقبض على ذقنه بتلك الطريقة الموجعة...
حتى أبصر وجه فريد في النهاية...
ضاقت عينا راجح وهو ينظر الى العينين المحدقتين به، الى أن سأله أخيرا بنبرة باردة
(هل استفقت؟، أم تحتاج الى صفعة أخرى علك تستفيق في النهاية فنرتاح جميعا؟).

استغرقه الأمر بضعة لحظات الى أن استجمع وعيه أخيرا، و تمكن من الإبتسام بسخرية ليقول بصوت متهدج متعب...
(آآآآآه شقيق الأميرة، يظهر ليضيف اللمسة الأخيرة بعد أن أنهى غيره المهمة)
ضاقت عينا فريد وهو ينظر الى راجح الملقى أمامه على سرير المشفى غير قادرا على الحراك، و دون أن يفقد هدوؤه، سأله بسخرية مماثلة...
(يبدو أنك نسيت ضربات الحزام و تحتاج اليها مجددا كي تعيد لك عقلك).

اختفت السخرية عن شفتي راجح قليلا، وهو ينظر الى فريد الذي دس كفيه في بنطاله و نظر اليه بإزدراء ثم سأله بتقزز
(متى ستعترف بأن قوتك قد وهنت يا راجح؟، و أن سنوات من العربدة و الفساد جعلت منك كهلا ثقيل الحركة و الحماس، مثيرا للشفقة، يبحث في أوراقه القديمة عن عشق كان).

أظلمت عينا راجح حتى تحولتا الى عينا شيطان حاقد لا يعرف سوى الغل، بينما انحنى فريد اليه حتى اقترب بوجهه من وجه راجح المجروح و المليء بالقطب الطبية، ثم همس متابعا من بين أسنانه
(متى سنرتاح منك؟، أخبرني، هل أحقنك بإبرة من الهواء فننتهي منك بأناقة للأبد؟، أم أدس لك xxxxا يوقف قلبك المريض بحبها هذا فنرتاح أيضا؟)
ظل راجح ينظر اليه طويلا الى أن سأله أخيرا بصوت واهن
(هل هي من أخبرتك؟، هل ذكرت لك حالتي؟).

ارتفع حاجبي فريد للحظة وهو ينظر اليه بدهشة حقيقية و قد اختفت الشراسة من عينيه، ثم سأله بذهول.

(هل هذا هو ما تحولت اليه؟، أقصى أمانيك هو انتظار شفقتها عليك؟، تبا لهذا العشق المريض الذي يجعل من الرجل مجرم، ثم يحوله الى مجرد عاجز بائس ينتظر نظرة عطف من امرأة نبذته من حياتها مرتين، بل هما في الحقيقة ولا مرة واحدة، فأنت لم تكن لها من البداية، أنت نكرة في حياة سوار غانم الرافعي، مجرد فضلات قذرة داستها ذات يوم، فرمت حذائها بعيدا و تابعت طريقها، لا الفضلات دنستها، و لا حتى تحولت الى شيء أكثر قيمة لملامستها لحذاء سيدة الرافعية).

ظل راجح ينظر اليه طويلا بنظرة ميتة الشعور، لكن الألم كان بداخلها، في عمق داكن غير ظاهر الا لمن يجيد قرائته...
ثم قال بصوت غريب
(أريد أن أراها، لمرة أخيرة على الأقل)
ارتفع حاجبي فريد أكثر، فاستقام وهو يلوح بذراعيه على أقصى اتساعهما هاتفا غير مصدقا
(ياللهي، لا أصدق ما أسمع، لقد فقدت عقلك تماما)
نظر الى راجح وهو يحاول جاهدا السيطرة على أعصابه، ثم قال ضاغطا على أسنانه.

(أنا أحاول جاهدا التمسك بالجزء المتحضر الوحيد المتبقى بداخلي و لا أنهال عليك ضربا و أنت ترقد في هذا الفراش، الى ماذا تسعى؟، حقا أخبرني رجلا لرجل، هذا إن كنت رجلا من الأساس، الى ماذا تسعى؟، هل تحاول افساد سمعتها مرة بعد مرة الى أن ينبذها زوجها؟، أو ربما العائلة مثلا، فتصبح وحيدة بائسة لتسعى اليك!
أخبرني هل هذا هو مخططك المثير للشفقة؟).

صمت للحظة، ثم عاد و انحنى اليه حتى أصبح وجهيهما متقابلان تماما لا يفصلهما الا نفس واحد...
حينها تابع فريد ببطىء شديد، وهو ينظر الى عيني راجح.

(دعني اذن أفسد عليك مخططك و أخبرك أن سوار هي من أخبرتني بما حدث بمنتهى البساطة، تشاجرت مع زوجها قليلا، لكنه لم يتركها و لن يفعل، أول مرة حين خطفتها كانت هي المرة الوحيدة المخيفة لنا، و تسببت بنفسك في اهدائها لليث على طبق من ذهب، لكن بعد ذلك أيا كان ما ستفعله لتدنيس سمعتها فلن تفلح، أصبحت أوراقك مكشوفة و خططك محروقة، مرة بعد مرة سنوقفك عند حدك، لكن ربما قد يطير صواب أحدنا و يزهق روحك ذات مرة، استسلم يا راجح، سوار غانم الرافعي أكبر من أن تدمرها، أنت لا تفعل سوى احراق نفسك على مهل).

هز راجح رأسه و قال بصوت جامد خافت
(لم أكن أنوي الأذى لها يوما، أنا أحبها)
اتسعت عينا فريد وهو ينظر اليه، ثم لم يلبث أن ضحك وهو يقول بعدم تصديق
(لديك فكرة غريبة عن العشق يا ابن عمي)
صمت قليلا، ثم نظر الى راجح و قال متابعا بهدوء.

(كل عصب في جسدي الآن يحثني على تعذيبك بطريقة تتمنى بها لو لم تولد من الأساس، لكن وجودك على هذا الفراش هو الشيء الوحيد الذي يمنعني، لذا سأستغل تلك الفرصة الوحيدة و الأخيرة و التي سأتكلم معك فيها بالعقل و أوضح لك شيئا، أنت لم تحب سوار أبدا، بل أنك لم تعرف معنى الحب من الأساس، أنت مهووس بها لسبب واحد فقط، أنك لم تستطع اضافتها الى قائمة انتصاراتك...

لو كنت تزوجتها من البداية، لكنت خنتها مرة و اثنتين و ثلاث، و أراهن أن تعود اليها بعد كل مرة نادما مطمئنا أنها ستظل في انتظارك بما أنها المرأة التي تفضلت عليها و نحتها حبك)
ضحك راجح ضحكة غريبة وهو يشيح بوجهه بعيدا عن وجه فريد
ضحكة كتلك التي تسمى حلاوة الروح قبل الإحتضار، ثم قال بشرود
(أنت لم لتعرف هذا العشق بيني و بين سوار، لم تجربه أبدا. )
هز فريد رأسه نفيا و قال ببساطة.

(لا، لم أجرب هذا العشق المريض من قبل، أنا حين أحب، أحب بعقلي قبل قلبي، و عندئذ سأكون أكثر الرجال اخلاصا لإمرأة واحدة رغبها عقلي قبل أهوائي، اقتنعت بها و الأهم أنها اقتنعت بي كذلك و اختارتني، لن أحاول مع امرأة اختارت غيري، لن أدعي دور الضحية المهووسة لسنوات، تضيع من حياتي و أنا أظن بأنني أفسد حياتها هي، لكن في الواقع أنه لا خاسر سواي)
صمت فريد وهو ينظر الى راجح نظرة شفقة، ثم قال أخيرا متابعا.

(اقطع صفحة سوار من حياتك و احرقها يا راجح، قبل أن تفقد المزيد من احترامك لنفسك هذا إن كان هناك أقل القليل و المتبقي منه، تذكر أن لديك والد يحتاجك، و لو أنه لا يستحق المساعدة، فلديك طفل، الكثير غيرك يتمنى ظفره، بينما أنت تتخذه كورقة لعب في حياتك)
أخذ نفسا ثم قال مجددا
(وداعا يا راجح، لا أريد أن أراك مجددا، تمنى لنفسك ألا يحدث هذا)
استدار فريد ليغادر الغرفة، الا أن راجح ناداه فجأة بهدوء
(فريد).

توقف فريد مكانه، ثم التفت الى راجح بنظرة لا مبالاة، فرمقه راجح بنظرة نافذة قبل أن يقول مبتسما ببطىء
(أتمنى أن يحترق قلبك في الحجيم ذات يوم و تذق من تلك النار التي توعظني كي أخرج منها)
ارتفع احد حاجبي فريد من تلك الروح الحاقدة التي تملأه و لم يستطع تحديد إن كان يشعر بالشفقة عليه أم بالتقزز، لذا ابتسم بإستهانة قائلا
(لن يحدث، اهتم بحالتك و لا تشغل نفسك المريضة بي).

ثم خرج بعد أن تركه ينظر الى الباب المغلق و قد اختفى حمل السخرية الزائفة و تساقط عن وجهه لتبقى ملامحه أكبر سنا، ذات تجاعيد ازدادت عمقا و كأنه قد هرم في العمر و الروح، وكأنه كهلا ثقيل الحركة و الحماس كما دعاه فريد...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة