قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثالث والعشرون

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثالث والعشرون

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثالث والعشرون

كانت تنظر الى هاتفها بمعدل كل دقيقة، منذ أيام و بعد خلافهما الحاد على قارعة الطريق لم يتصل بها، و لم يهتم حتى بإرسال رسالة لها، صباحية أو مسائية...
أي رسالة يخبرها فيها أنهما حتى و إن اختلفا فهو سيكون لها في النهاية...
دارت ياسمين حول نفسها في غرفتها الضيقة و هي تشعر بنفسها فاقدة الشهية للحياة بوجه عام...
لكن ليس للأكل بالطبع...

لم تتخيل مدى أهمية تلك الرسائل و الإتصالات بالنسبة لها الا بعد أن فقدتها...
و تسائلت كيف كانت حياتها قبل أن يتواجد فيها أمين، مهما كان هذا التواجد سطحي و دون أي ارتباط يذكر...
لقد بنت قصورا و قلاعا من أحلام وردية مع كل اتصال و رسالة بينهما...

لقد بدأت تتخيل حياتهما سويا، حتى بعد خلافهما و على الرغم من عدم تنازلها لأنها لم تعتاد التنازل أبدا طالما لم تخطىء، لكنها ظنته خلافا عابرا بين أي اثنين مرتبطين...
ترى الا ينظر لعلاقتهما على أنها ارتباط؟
لم يحدث أن وعدها بشيء، و في المرة الوحيدة التي استنكر قيامها بشيء خاطىء من وجهة نظره أوقفته عند حده من باب العادة...
لقد اعتادت دائما أن تصد أي أحد يهين من قدرها أو يحاول يحجمها...

لكنها كانت سعيدة جدا بغضبه و حمايته لها، كان بداخلها جيش من الفراشات ترفرف سعيدة بصراخه الحاد و كأنه يود لو يخفيها عن العالم بأسره...
و هذا الشعور لم تختبره من قبل! أول مرة تشعر بأنوثتها أمام رجل حامي الطباع...
لكنها تهورت و صدته و اوقفته عند حده بحكم العادة، و تظن أنها ستفعل هذا دائما...

فهي حامية الطبع مثله تماما في الدفاع عن نفسها، و تشهد على ذلك كل صولات و جولات جياتها تجاه طليقها ووالدتها و زوج أختها و المجتمع بأسره...
تنهدت ياسمين و هي تنظر الى الهاتف مجددا، لا شيء...
بات كقطعة خردة حديدية بالية لا معنى لها منذ أن انقطعت رسائله المختصرة لها...
سمعت صوت طرق على باب غرفتها، فرفعت وجهها و هي تنظر الى الباب و كأنه بوابة حياتها القاتمة...
فقالت بصوت باهت فاتر...
(ادخل).

دخلت امها الى الغرفة ثم أغلقت الباب خلفها بإحكام قبل أن تتقدم اليها و هي تقدم ساق و تؤخر ثانية...
و من ملامحها المرتبكة عرفت ياسمين أن هناك طلب قادم في الطريق، فسألتها مباشرة
(اطلبي ما تريدين يا أمي)
توقفت أمها و نظرت اليها بحرج، ثم قالت بصوت متخاذل
(الا تقولي صباح الخير أولا؟).

تنهدت ياسمين و هي تلقي بهاتفها في حقيبتها المفتوحة، ثم تابعت ارتداء ملابسها و هي تدس الكنزة الضيقة فوق قميصها الأبيض، و نفضت شعرها قائلة
(صباح الخير يا أمي، أنا فكرت فقط أن أجنبك الحرج لأنني استشعرت بطلب قادم في الطريق حين رأيت عادل يدخل الى غرفتك بالأمس، لذا لا تخجلي مني و أخبريني عما يريد)
ردت أمها بعصبية
(لماذا كل تلك الظنون و الشكوك بداخلك بالله عليك، لماذا تتخيلين أن الجميع يحتاج منك شيئا؟).

رفعت ياسمين حاجبيها و قالت ببساطة
(هل هذا يعني أنكم لا تحتاجون شيئا؟، حسنا لا بأس، آسفة لسوء ظني، الى اللقاء، مضطرة للخروج لأنني تأخرت على عملي)
لكن و قبل أن تخرج من الباب سمعت والدتها تنادي بيأس
(ياسمين، انتظري لحظة)
وقفت ياسمين بملامح جليدية دون أن تستدير الى أمها ثم قالت بهدوء
(نعم يا أمي؟)
بدت أمها متلجلجة و غير قادرة على الكلام، فالتفتت ياسمين اليها و حثتها قائلة
(قولي يا أمي و انتهي من الأمر).

رفعت أمها وجهها و نظرت اليها بعجز، ثم قالت
(كنت أود سؤالك عن، لو كان بإستطاعتك مساعدتنا في مصاريف ولادة أختك لقد اقتربت جدا و هي ستلد ولادة قيصرية، و تعرفين أنها تتكلف الكثير بينما معاش والدك لا يكفي و أنا استنفذت كل ما كان لدي في زيجتيكما)
مطت والدتها شفتيها بطريقة خاصة ذات مغزى معين، و ياسمين أكثر من تعلم هذا المغزى...

الا وهو الخسائر المادية التي ضاعت على زيجة انتهت بالفشل، و عادت اليها ابنتها حاملة لقب المطلقة!
علي الرغم من أن ياسمين قامت ببيع ما تسلمته من جهاز العرس عقب طلاقها أو ما تبقى منه بعد أن بدد طليقها الكثير، و أعطت المبلغ الى أمها كاملا، لم تأخذ منه قرشا واحدا لنفسها...
و أمها بالتالي أنفقته على أختها و زوجها...
اتجهت ياسمين الى المرآة و تناولت فرشاة شعر أخذت تمشط بها شعرها بفوضوية، و سألت أمها ببرود.

(و لماذا تلد ولادة قيصرية؟، هل أوصتها الطبيبة بذلك؟)
أومأت أمها برأسها كاذبة، فعلمت ياسمين من نظرة الى صورة أمها المنعكسة في المرآة خلفها...
أن الحقيقة خادعة و أنها على الأغلب ستلد ولادة طبيعية ثم ينتفعون بفارق التكلفة...
أسبلت جفنيها و قالت ببرود
(كم ادخر زوج ابنتك سبع الرجال كي أكمل المتبقي؟)
ظلت والدتها تتلاعب باصابعها و هي تنظر أرضا الى البساط المهترىء، فرفعت ياسمين حاجبها و قالت ساخرة.

(لا تقولي، لم يدخر قرشا واحدا، اليس كذلك؟)
ظلت أمها صامتة و هي تتجنب النظر اليها، بينما اتجهت ياسمين الى دولابها ففتحته لتنحني على عقبيها و أخرجت ظرفا كانت قد خبئته جيدا، ثم استقامت لتناوله لأمها قائلة ببرود
(هذا هو كل ما ادخرته، أعلميهم أن يتصرفان في حدوده لأنني لا أملك المزيد)
أخذت والدتها الظرف مكسورة النظرات بينما اتجهت ياسمين الى حقيبتها كي تأخذها، ثم قالت ببرود.

(بالمناسبة يا أمي، كنت قد سمعت ابنتك المصون تتكلم عن حفل الإسبوع للطفل، و تذكر الكثير من أغراضه و ألعابه و أشياء أخرى كثيرة خرافية، انصحيها الا تتمادى في أحلامها، تلك العادة متخلفة كما أنني لا أملك قرشا اضافيا ألقيه في تلك التفاهات، فليحاولا فقط تجميع مبلغا لعقيقة الطفل)
تحركت كي تخرج، الا أن والدتها هتفت بقوة من خلفها
(لا أعلم لماذا تتفنين في كسر فرحة أختك؟، كانت هذه الحياة متاحة لك و أنت من).

استدارت ياسمين و هي تصرخ لتقاطع أمها فجأة بنبرة عنيفة.

(كفى، كفى، سئمت من قولكم الذي لا تملون به بأنني أغار منها، بالله عليك مما أغار؟، إن كنت قد رفضت متابعة حياتي مع زوج يعمل و له وظيفة، و ينفق على بيته، و لديه شقة، رفضت كل هذا لأنه كان يرفض ترك أي قرش لنفسي أتمتع به، بخلاف أشياء أخرى أرفض الكلام عنها، تعففت عنه و عن شقته و راتبه حفاظا على المتبقي من روحي و كرامتي، و تظنين الآن أنني قد أغار من حال أختي المخزي ببقائها مع زوج ننفق عليه و على ابنائه من بعده؟).

هتفت أمها بحدة ملوحة بظرف النقود في وجهها
(هذا لأنك لست وجه نعمة، لأنك غبية، غبية)
صمتت ياسمين و هي تنظر الى أمها طويلا، ثم قالت أخيرا بصوت خافت
(لا بأس يا أمي، احمدي الله اذن على ابنة واحدة ذكية، و هي ابنتك المتزوجة طبعا)
حاولت أن تخرج للمرة الثالثة، الا أن صوت أمها استوقفها لتقول بتوتر
(ياسمين)
اغمضت ياسمين عينيها و تنهدت بيأس، الا أنها أجابتها ببرود
(نعم! ماذا بعد؟)
ردت أمها تقول بقلق.

(الا ترين أن، كنزتك و تنورتك ضيقتان قليلا؟)
عضت ياسمين على شفتيها و استدارت الى امها قائلة بإختصار
(بلى لاحظت، ماذا بعد؟)
قالت أمها بخفوت
(يا ابنتي أنت تستقلين مواصلات و تعلمين نظرات الناس لا ترحم)
رفعت ياسمين حاجبيها و ضحكت بسخرية قائلة
(غريبة يا أمي، لم ألحظ اهتمامك بملاحظات زفت العمل مديري و لم تعتبري صمت زوجي عنه و رفضه لتركي العمل سببا كافيا للطلاق! لماذا تخشين الآن من نظرات الناس؟)
ردت أمها بعصبية.

(أنت فقط كوني محترمة و حينها لن يلومك أحد)
ظلت ياسمين تنظر الى والدتها برغبة عارمة في الصراخ، الا أنها لم تفعل، بل ظلت مغلقة بابا ضخما على انفعالاتها الداخلية التي توشك على الفتك بها...
ثم قالت أخيرا بصوت لا يعبر عن شيء
(حسنا يا أمي، كما تلاحظين فهذه هي ملابسي القديمة، لم أشتري شيئا أكثر ضيقا)
زمت أمها شفتيها و قالت بإختصار
(نعم، لاحظت، لقد ازداد وزنك).

شعرت ياسمين بنفس الألم و أفظع، أي ملاحظة على وزنها تؤلمها بشدة، توجعها و كأنها المشكلة الوحيدة في حياتها...
فظلت صامتة غير قادرة على الرد أو الإنكار، أو التمرد المعتاد لها...
فتابعت أمها و هي تقول بخسارة بالغة.

(هذا أمر أردت مكالمتك به، أنت تكسبين وزنا اضافيا بصورة ملحوظة، و تزيدين من أكلك، أحيانا أشعر بأنك تعاندين مع نفسك أو تعاندين زوج أختك في استهلاكك للطعام و أنت تعلمين بأن هذا يضايقه، لكن ما أثار حسرتي، هو أن جارتنا أم عماد كانت قد اتصلت بي، و فاتحتني في رغبتها بطلب يدك الى ابنها عماد الذي عاد من السفر حديثا بعد أن كون نفسه، و كان الأمل يملأني في زواجك بعد أن كنت قد فقدته، لقد طرت من الفرح، و كتمت الخبر كي يتمم الله على خير...

لكن والدته اتصلت بي منذ يومين و أخبرتني آسفة أنه حين رآك عن بعد، وجد أن وزنك قد زاد عما رآك آخر مرة قبل زواجك، وهو يريد فتاة متناسقة)
كانت أمها تتكلم بصيغة الحسرة البالغة، و الأسى يكاد أن يحفر في ملامحها حفرا...
بينما كانت ياسمين تنظر اليها بذهول، و صدمة، تنتظر الى أن تضحك أمها أو تقول بأنها لك تكن سوى خدعة أو مقلبا، أو مزاح، على الرغم من أن والدتها نادرا ما تمازحها...

و حين وجدتها على نفس الملامح اليائسة، صرخت ياسمين غير مصدقة
(عماد ابن أم عماد هو لا غيره؟، المشرف على الخمسين من عمره؟، و ذو السمنة المفرطة اللهم أنني لا أعيبه، لكنه بالكاد يستطيع التحرك بسببها!

عماد الذي يأتي كل عطلة من عمله في الخارج بحثا عن عروس و لا تعجبه أي واحدة حتى تسرب العمر من بين أصابعه و أدرك أخيرا أن كل غايته هو امرأة تقبل به! و على الرغم من ذلك يرفضني لأنني أعاني من بعض زيادة في الوزن؟، أنا اصغره بعشرين عاما يا امي! و أنقصه بحوالي خمسين كيلو جراما!)
أبعدت أمها وجهها عنها و قالت بصوت مهزوم.

(المطلقة عليها التنازل قليلا، كان لديك زوج نحيف و في الثلاثينات من عمره، لا ينقصه شيء و أنت من تبطرت على النعمة)
صرخت ياسمين تقول بحدة
(كان ينقصه أن يكون رجلا يا أمي)
زفرت أمها بحدة و هي تقول غاضبة
(فيما نتجادل الآن؟، و كأنني أحاول اقناعك بعماد! لقد رفضك، كل ما أردت قوله هو أن تحاولي خفض وزنك قليلا، لصحتك على الأقل)
ضحكت ياسمين عاليا و هي تهتف بجنون.

(لصحتي؟، بضميرك يا أمي هل تصدقين نفسك و أنت تنطقينها!)
صمتت و هي تختطف حقيبتها ثم هتفت قائلة بحدة
(أنا خارجة من هذا المستنقع، و ليته كان خروجا أبديا بلا عودة).

(سيدة عنايات في المكتب المجاور)
قالت هذا بوجه متصلب حجري للإصبع الذي نقر على سطح مكتبها أمام وجهها المنحني على ورقها...
الا أن الإصبع عاد و نقر من جديد بصورة أكثر إلحاحا، فرفعت وجهها متأففة و هي تقول بحدة مبالغ فيها
(أخبرتك عند السيدة عنايات)
لكنها توقفت فجأة حين رأت الوجه الوسيم الناظر اليها بإبتسامة عريضة، ثم قال ببساطة.

(لم أطلب منك شيئا حتى ترسليني الى السيدة عنايات، أنت تعطين فكرة سيئة عن الموظفات)
ظلت ياسمين على صمتها ثم قالت أخيرا بصوت واه
(فريد!)
تحولت ابتسامته الى شيء آخر ما ان نطقت اسمه بتلك الطريقة الشاردة، و كأنها تعني شيئا حتى إن لم تكن مدركة لذلك...
لكنه تدارك نفسه و قال بهدوء
(مرحبا سيدة ياسمين).

رفعت ياسمين نظارتها الى أعلى شعرها و نظرت حولها فلاحظت أن بعض زميلاتها قد بدأن يلتفتن الى هذا المشهد، خاصة أن شكل فريد ملحوظا، حين يأتي للمرة الثانية و لها بالذات، فلقد علقت احداهن على جاذبية ملامحه المرة السابقة، و لاحظن أن ياسمين اهتمت بطلبه بشكل خاص...
فتكلفت ابتسامة و هي تقول بصوت متردد
(مرحبا فريد، هل جئت كي تنهي طلبا آخر؟).

ظل ينقر بإصبعه على سطح المكتب بخفوت وهو ينظر اليها مبتسما، ثم قال أخيرا بهدوء جاد
(بل جئت اليك خصيصا، و بالتأكيد حاجتي ليست لدى السيدة عنايات في المكتب المجاور)
عقدت ياسمين حاجبيها قليلا و ازداد توترها بعد أن شعرت بالنظرات تزيد من حولهما...
و فغرت فمها قليلا، الا أنه لم يتركها فريسة لأفكارها بل قال بحزم آخذا بزمام الحوار
(هل يمكنني الكلام معك لحظة بمفردنا؟).

ارتفعت الحواجب من حولها، و اهتمت النظرات، و ساد صمت تام بين باقي الموظفات و لم تكن هناك احداهن لم تهتم أو تلحظ ما حدث...
فقالت ياسمين بوجه ممتقع و غضب بارد خفي، تنظر له نظرة ذات مغزى كي يتدارك لفت الإهتمام لهما
(من المؤكد جئت بدواء والدتي، اليس كذلك؟)
رد فريد ببساطة
(لو تخرجين معي للحظة لعرفت ما أريد عوضا عن التكهنات)
زمت ياسمين شفتيها و هي تنظر اليه بحدة، لكنه لم يبالي، بل ظل ناظرا اليها بذات الهدوء.

فنهضت من مكانها و هي تقول من بين أسنانها
(لحظة من فضلك)
ثم أخذت دفترا صغيرا من أمامها و اتجهت الى زميلتها في المكتب المجاور، لتناوله لها قائلة بلطف
(هلا انهيت الورقتين رجاءا الى حين عودتي؟)
سارعت زميلتها بالقبول مذهولة، همست لها دون حرج
(بشرط واحد، ان تخبريني بكافة التفاصيل عما أراده منك هذا الشاب و مدى معرفتك به)
زفرت ياسمين بقوة، بينما كان فريد من خلفها يتأملها و قد خفتت ابتسامته و تقريبا تلاشت.

رغما عنه لاحظ تنورتها الضيقة، بخلاف كنزتها التي تماثلها ضيقا، و ليس هذا ما لاحظه فحسب...
بل نظرات بعض المواطنين من أبناء الشعب المطحون و الطالبين للمصالح...
كانت منحنية على مكتب زميلتها تتهامس معها، و لا تملك ادنى فكرة عن مدى جاذبيتها أو تلك المنحنيات المفرحة التي تمتلكها و التي يمكنها أن ترفه عن أبناء الشعب في يوم حكومي ممل...
كانت تختلف في مظهرها عن باقي زميلاتها...

قد يظن من لا يعرفها انها تتعمد اغراء من ينظر اليها عبر طريقة ملابسها...
لكن عينه ترى شيئا آخر، ترى عينيها المرهقتين و شعرها الأشعث، ووجهها الخالي تماما من الزينة...
فلو كانت تتعمد اغراء أحد لوضعت بعض المساحيق لتخفي تعبها على الأقل، و لتهتم بتمشيط شعرها أو جمعه بطريقة مناسبة عوضا عن تلك الربطة الغريبة...

بالنسبة له، فهي تجذبه بكل الطرق التي يمكن لإمرأة أن تجذب بها رجل، داخلها و خارجها ووجهها البيضاوي الأبيض الممتلىء قليلا، حتى فوضى شعرها يراها جميلة بطريقة خاصة...
الا أنه لا يحب نظرات الناس اليها أينما تحركت...
استقامت ياسمين تنظر اليه بجمود، فابتسم لها دون أن تفهم معنى تلك الإبتسامة، الا أنها قالت أخيرا بإيجاز
(تفضل معي)
رد عليها رافعا حاجبه بخبث قائلا
(بعدك يا أستاذة).

زمت ياسمين شفتيها و سارت أمامه حتى خرجا من المكتب الى الممر الخارجي، المكتظ بالمواطنين...
فوقفت تنظر حولها بتوتر، ثم قالت بعدم رضا
(هل هنا يفي بالغرض؟)
نظر فريد حوله دون أن يفقد هدؤه، ثم مد ذراعه يمنع عنها احتكاك بعض السائرين بجوارها حتى استندت بظهرها الى الجدار من خلفها ووقف هو أمامها لينظر الى عينيها مباشرة دون ابتسام...
فتلونت وجنتاها و بدأت تشك في نواياه...

صحيح أنها لم ترى منه سوى كل خير حتى الآن، لكن قدومه الى عملها للمرة الثانية بشكل غير مبرر يثير حولها الشبهات و هي لا ينقصها أن تكون متهمة في محل عملها أيضا...
لذا رفعت وجهها و رسمت ملامح الصرامة و الحزم على وجهها لتقول بجدية.

(فريد، قبل أن تبدأ في الكلام أريد أن أنبهك لشيء، هذه مصلحة حكومية، لا هم للعاملين فيها سوى مراقبة بعضهم بعضا و عد أنفاس الآخرين، أنا مطلقة كما تعرف و مجيئك الى هناك أكثر من مرة س)
قاطعها فريد قائلا بهدوء و دون تردد
(هل تقبلين الزواج من؟)
صمتت ياسمين تماما فاغرة شفتيها و هي تنظر الى ملامح وجهه بذهول، هل سمعت ما نطق به للتو بالفعل؟
همست بعدم فهم
(ماذا قلت؟)
رد عليها بطريقة عفوية بطيئة...

(أنا أطلب يدك للزواج، ألم تلاحظي اهتمامي بك من قبل؟)
نعم لاحظت...
ستكون خادعة إن لم تلحظ اهتمامه بها، لكنها لم تتخيل أن يصل به الأمر الى حد عرض الزواج عليها!
فغرت فمها قليلا و همست
(فريد أنا)
صمتت و هي غير قادرة على الرد، الا أنه استلم الحوار منها و قال بخفوت
(كان يفترض بي الإتصال بوالدتك و طلب تحديد موعدا كي أتقدم لطلب يدك منها رسميا، لكنني أردت رؤية انطباعك بنفسي و سؤالك عن رأيك قبل الذهاب الى بيتك).

اطرقت برأسها غير قادرة على مواجهة عينيه...
الحمد لله أنه لم يفعل...
الحمد لله أنه لم يذهب الى أمها كي يطلب يدها...
لو فعل هذا شاب كفريد و ذهب لطلب يدها من أمها لكانت تشبثت به بأظافرها و أسنانها...
و لأحالت حياتها جحيما إن هي فكرت، مجرد تفكير في رفضه...
نعم، لو كان قد ذهب الى بيتها لكان حول حياتها الى جحيم أكثر مما هي...
لكن لماذا؟
لماذا من بين رجال العالم أجمعين لا يتقدم لها سوى ابن عم الرجل الذي تحب!

لقد ازدادت علاقتها بأمين صعوبة، ترى ماذا ستكون ردة فعله حين يعلم بالأمر...
حين طال صمتها، تكلم فريد يسألها بخفوت
(هل الأمر معقد الى هذا الحد بالنسبة لك؟، لم يكن معقدا بالنسبة لي)
لعقت ياسمين شفتيها الجافتين و هي تحاول العثور على رد مناسب، فقال فريد بخشونة مفاجئة
(تكلمي، أيا كان ردك، لا تقلقي، فأنا أكثر مرونة بخلاف ما تظنين)
رفعت ياسمين وجهها الشاحب اليه، و ارتبكت أكثر من ملامحه المتجهمة، فهمست بخفوت.

(فريد، أنا آسفة، أمر الزواج مستبعد بالنسبة لي تماما في هذه الفترة)
ساد صمت طويل ثقيل بينهما، بينما هي تتجنب النظر اليه بعينيها، كان هو يلاحق هاتين العينين بإصرار...
ثم قال أخيرا بهدوء بدا غريبا بخلاف صوته الودود المعتاد
(لا تكوني آسفة الى هذا الحد، فالخسارة خسارتي بالتأكيد).

و دون انتظار كلمة أخرى استدار ليبتعد عنها راحلا، بينما وقفت هي مكانها تنظر اليه مبتعدا بين جموع المواطنين، و أول ما لفت نظرها في تلك اللحظة، أنه مختلف عن كل من حوله بصورة ملحوظة...
حين عادت الى مكتبها، سارعت زميلاتها بالتجمهر حولها و أعينهن كأعين الصقر...
فهمست الأولى دون مقدمات
(ماذا كان يريد منك؟)
تأففت ياسمين بقوة و همست بحدة من بين أسنانها
(بالله عليكن عدن الى مكاتبكن، أنتن تثرن الأنظار الينا).

همست الأخرى تقول بفضول
(لن أتحرك من مكاني الا بعد أن تقولي، على أنني شبه متوقعة، انطقي يا ياسمين نحن لن نحسدك، كل منا لديها طفلان و ثلاث و أربعة)
أجالت ياسمين عينيها بينهن بصمت، و للمرة الأولى تجد نفسها مختالة نوعا ما، لذا رفعت وجهها و قالت بلامبالاة
(كان يطلب مني موعدا للتقدم طلبا ليدي)
تعالت شهقاتهن و أسئلتهن عن ردها، فظلت صامتة قليلا و هي تعبث بقلمها الى أن قالت أخيرا بصوت خافت.

(لقد رفضت، ارحن قلوبكن، لا أفكر في الزواج حاليا)
بدأت علامات الحسرة تظهر على وجوههن، نظرات شبيهة بنظرات أمها تماما...
و كأن سؤال واحد يدور في أذهانهن
لماذا تتجرأ واحدة مثلها و في مثل ظروفها على رفض شاب مثله...
و همست احداهن بالفعل
(يا خيبتك يا ياسمين! أنت لا تستحقين النعمة، ماذا ينقصه الشاب؟)
قالت ياسمين بحدة و هي تواجهن و كأنها تواجه محكمة ذاتية
(ليس هناك قبول بيني و بينه).

نظرن الى بعضهن بنظرات ذات مغزى و كل منهن تمط شفتيها، الى أن قالت واحدة منهن بسخافة
(هل أنت عروس جديدة كي تتشرطين القبول؟، انظري الى حالتك في بيت أختك و زوجها، و انظري الى حياتك مع شاب مثله، بأي عقل تفكرين!)
قالت ياسمين تقاطعها بحدة
(ليس بيت أختي و زوجها، بل هو بيت والدنا رحمه الله، زوجها هو الضيف عندنا، لا أنا)
قالت الأولى بفتور.

(لا فارق، حتى الآن لست أرى داعيا لرفض شاب مثله! سيكون لك بيتك و حياتك و أطفالك)
شعرت ياسمين بالضغط يزداد حول عينيها بقوة حتى تشوشت الرؤية أمامها فقالت بحدة
(من فضلكن ابتعدن من هنا، لقد ضاق بي النفس من تجمهركن، هذه حياتي و أنا حرة بها)
ابتعدن بالفعل واحدة تلو الأخرى بعدم رضا و امتعاض و بعض الغيرة، بينما بقت ياسمين مكانها تفكر بقلب خافق بعنف و هي تتسائل بأسى موجع.

لماذا لم يكن أمين هو الذي تقدم لها؟، فقط لماذا لا يتم شيء واحد كما تتمنى؟،
مرت بضعة أيام على غيابه...
لم تظن أن تمر تلك الأيام و كأنها دهر من الزمن...
تحركت مسك ببطىء في أرجاء الشقة الخاوية ليلا و هي تطفىء الأنوار الخافتة واحدا تلو الآخر بفتور...
علي الرغم من أن الوقت لا يزال مبكرا الا أنها لا تشعر بأي رغبة في السهر...
لذا فضلت النوم، لكن النوم بالنسبة لها كان أسوأ وضعا...

فهناك على سريرهما الواسع كانت تتقلب كل ليلة على فراش من الجمر...
لقد ترك خلفه مكانا خاويا فارغا بشكل موجع...
دخلت الى غرفتهما و هي تنظر الى السرير بصمت باهت، جانبه كان مرتبا جدا بعكس جانبها الفوضوي
و كم كرهت الترتيب في تلك اللحظة و هي تتذكر الفوضى التي كان يخلفها بعده...
اتجهت مسك رغم عنها الى جانبه تنظر اليه بعينيها الواسعتين الشبيهتين بعيني الفرس...

ثم انحنت لتبعد الغطاء و تثير به الفوضى قليلا، حتى الوسادة ربتت عليها اكثر من مرة كي تشعر و كأنه موجود معها...
قبل أن تجلس على حافة جانبه و هي تشبك أصابعها على ساقيها بقنوط...
زفرت مسك و هي تهمس لنفسها بصوت قاتم
(لم يكن عليك الوقوع في حبه الى تلك الدرجة، ما الحل الآن إن تركك و هذا أمر وارد؟، إن كنت لا تتحملين بضعة أيام في فراقه، فكيف إن تركك؟).

رفعت ذقنها و هي تنظر الى منامته القطنية الرياضية التي تركها معلقة على مشجب الملابس الطويل...
حتى تلك تركتها معلقة كما هي، بها عطره، تختلس منه نفسا كلما مرت بها متظاهرة و كأن هذا عفويا!
زفرت مجددا و هي تهمس عاقدة حاجبيها بحدة
(كنت تجيدين الحفاظ على قلبك لفترة طويلة، حتى بت منيعة ضد الألم، لكن الآن ما ستفعلين إن تركك؟)
أطرقت بوجهها و هي ترفع يدها الى جبهتها تدلكها بتعب، ثم قالت بإختناق.

(يا ربي لست قادرة على خوض هذا الألم من جديد!)
رفعت وجهها فجأة بملامح جامدة، ثم همست متابعة
(هذا الألم! مقارنة بألم هجر أشرف لي؟)
صمتت قليلا و هي تتشبث بحافة السرير بكلتا قبضتيها تنظر الى أنحاء الغرفة و كأنها تائهة، ثم همست و كأنها سقطت في هوة واسعة
(لا مجال للمقارنة)
ساد صمت غريب بعد أن نطقت بهذه العبارة البسيطة و كأنها تعرت أمام نفسها...

لا مجال للمقارنة، قد تكون خسرت جزء من قلبها و الكثير من كرامتها و الأكثر من ثقتها بهجر أشرف لها...
لكن إن حدث و تركها أمجد، فسوف تخسر، الشيء الوحيد الجميل الذي عاشته في حياتها...
فغرت مسك شفتيها قليلا و هي تنظر جانبا، لا تزال غير قادرة على استيعاب هذا التخيل
أن تكون وحيدة بدون الحسيني في حياتها؟
همست بصدمة موجعة
(ياللمصيبة! وقعت يا غبية و لم يسمي عليك أحد!).

حسنا إن كانت قد استطاعت بكل اقتدار ابعاد غدير عنه، و الإنتصار على علقة طفيلية و طردها من حياته...
لكن كيف لها أن تنتصر على رغبة الأبوة إن انبعثت بداخله ذات يوم!
شعرت بألم حاد ينحر صدرها فنهضت بسرعة و هي تحس بحاجة ملحة في استنشاق عطره...
لذا اتجهت الى منامته المعلقة و دست أنفها بصدر المنامة و هي تتنفس ببطىء...
تأوهت بصوت مكتوم و هي تغمض عينيها، ثم اجبرت نفسها على الإبتعاد و هي تهمس.

(ما هذا الغباء الذي أفعله؟، من الواضح أنني متعبة، لأنام، سيكون هذا أكثر احتراما لي)
لكن حين استلقت على جانبها من السرير، ظل الأرق يتلاعب بها بشوق سافر...
كل قبلاته، لمساته، و همساته لها...
كانت جميعها تندفع الى ذاكرتها دون رحمة و تجعلها تتقلب بجنون...
استقامت فجأة جالسة في السرير، و هي تنظر الى جانبه الفارغ ثم همست بإستياء سافر
(مزعج و أنت موجود و مزعج جدا و أنت غير موجود يا حسيني، كحصاة في حذاء ضيق).

ظلت تحاول السيطرة على الرغبة الدفينة بداخلها و هي تشعر بالحرج من نفسها، ثم زفرت بقوة هامسة
(ماذا إن نثرت بعضا من عطره على جانبه من السرير! لن يعرف أحد)
نظرت جانبا و هي تنفض شعرها بعنف ثم همست متابعة
(أنا سأعرف، و سأبدو غبية جدا في نظر نفسي)
زمت شفتها و هي تنظر الى وسادته مجددا ثم نهضت بقوة و هي تقول محتدة.

(لا، لست غبية، الأمر أن عطره ملتصق بأنفي كاللحن الروتيني الذي يلتصق بأذن الإنسان، لا أكثر، و أنا لدي عمل في الغد و يجب أن أخلد للنوم، و إن كان هذا يستدعي أن أنثر بعضا من عطره على وسادته فسأفعل)
و فعلت...
أمسكت بزجاجة عطره التي تركها و نثرت منها على وسادته بسخاء، بالطبع يجب أن تكون سخية، كي تحصل على قسط مريح من النوم، لصالح العمل لا اكثر...

و ما أن انتهت حتى عادت و استلقت على جانبها، و بقت هناك مغمضة عينيها...
الى أن وجدت نفسها تتقلب ببطىء حتى استلقت على جانبه، حينها فقط ابتسمت و هي تحتضن الغطاء بنعومة...
لكن صوت رنين هاتفها جعلها تفتح عينيها من تلك الجنة الصغيرة التي تحيط بها، فدست يدها تحت وسادتها لتخرج هاتفها من هناك، و ظلت طويلا تنظر الى اسمه المضيء الى أن ردت بخفوت
(اهلا)
ساد صمت قصير قبل أن يجيبها بصوت أجش
(اشتقت اليك).

أغمضت مسك عينيها للحظة ثم قالت ببرود...
(هل من المفترض أن تجعلني تلك الكلمة أتناسى ما كان منك؟)
رد عليها أمجد ببساطة متكاسلة
(ماذا فعلت أنا كي أثير غضبك؟، بإستثناء إثارة غيرتي)
هتفت مسك بحدة مذهولة
(إثارة ماذا؟)
رد عليها أمجد بنفس البساطة
(غيرتك، كنت كقطة شرسة و أنت تخدشين و تنفشين شعرك دفاعا عني، لم أرى في حياتي مشهدا أجمل من هذا).

حاولت مسك الكلام و هي تنظر بعينين عاجزتين واسعتين، لكن الكلام اختنق في حلقها مما جعل أمجد يضحك بخفوت ثم قال بهدوء
(اهدئي و خذي نفسا عميقا، لا شيء يستدعي تلك الحالة من الإختناق التي تعانين منها)
اجبرت مسك نفسها بالقوة على السيطرة على هذا الجنون الذي ينتابها، فأغمضت عينيها و أخذت نفسا عميقا قبل أن تقول ببرود يثير الإعجاب
(هذا ليس مضحكا يا حسيني)
ضحك مرة أخرى و قال بنبرة مشتعلة.

(ليت الحسيني يموت فداء تلك النبرة الهامسة باسمه)
همست بداخلها رغم عنها برعب
لا تقل هذا، الا أنها لم تنطق بها، بل ظلت صامتة و الهاتف على أذنها الى أن سألها بصوت اكثر خفوتا
(ماذا تفعلين الآن؟)
أرادت أن تتجاهله، الا أنها فضلت الا تظهر بمظهر طفولي لذا ردت ببرود
(نائمة في السرير)
سألها أمجد قائلا بدهشة
(في مثل هذا الوقت المبكر؟)
ردت عليه بنبرة قاتمة
(لدي عمل في الغد و قد اعتدت النوم مبكرا).

ضحك أمجد بصوت أجش و أجابها بنبرة ماكرة
(عليك أن تعتادي بعض السهر اذن لدى عودتي)
شعرت بقلبها يرتجف رغما عنها جراء تلميحاته المداعبة و صوته، رباه كم تشتاق اليه...
و كي لا تضعف أمامه قالت بصوت قاسي بعض الشيء
(لست متيقظة لدعاباتك السخيفة الآن يا حسيني، لذا إن لم يكن لديك شيء هام فسأضطر الى اغلاق الخط كي أنام)
ساد صمت قصير بينهما، فقالت بسرعة قبل أن تتراجع
(اذن سأغلق الآن، سلام).

الا أن صوته ناداها بلهفة قائلا
(ألمظ)
توقفت و هي تنظر الى السقف بعينين سارحتين بهما الحنين عاصفا، ثم سألته متمتمة
(ماذا؟)
رد عليها بعد لحظتين
(ما فعلته في المكتب، كان غاية أملي بعلاقتنا، شكرا لك)
شعرت مسك بروحها تهتز و تمتقع بداخلها، لذا أجابته بصوت فظ، خوفا...
(لم أفعل هذا لأجلك، بل كان حسابا قديما بيني و بينها)
الآن ساد صمت طويل، ثم سألها أمجد بنبرة قاسية بعثت الرجفة في اوصالها.

(أتحاولين القول بأن ما فعلته ما كان الا ردا على أخذها لأشرف منك، و أن لا دخل لي بالموضوع؟)
فغرت فمها بصدمة، هل هكذا بدا كلامها؟، ألهذه الدرجة هي مرتعبة من أن تفضح مشاعرها أمامه؟
لذا وجدت نفسها تجيبه ببطىء...
(لا)
رد عليها ببعض الشراسة
(ما الذي تقصدينه اذن؟، بماذا شعرت و أنت تتعاملين معها بهذه الطريقة؟، لمرة واحدة كوني صادقة فيها مع نفسك)
ظلت مسك صامتة قليلا، ثم قالت أخيرا بخفوت.

(فعلت هذا لأنها تعدت على ما يخصني)
لا تعلم ما هو انطباع وجهه في تلك اللحظة من الصمت بينهما، و كانت تتمنى لو يكونا متواجهين كي ترى ملامحه...
الا أنه تكلم أخيرا و سألها بجدية
(لكنها سبق و تعدت على ما يخصك، فلماذا لم تقومي بالمثل؟)
ساد صمت طويل بينهما، الهاتف على أذنها و هي مستلقية في مكانه من الفراش تنظر الى السقف بسكون بينما هو لم يتعجل الجواب، كان يكفيه سماع صوت تنفسها فقط...

و حين ردت، قالت و قد عجزت عن المقاومة
(سابقا، ترفعت و تنازلت لها عما يخصني، لأنه لم يكن بذات أهمية ما أملكه الآن)
سمحت صوت تحشرج أنفاسه بوضوح، و كأنه تأوه مصدوما، فأسبلت جفنيها منتظرة...
الى أن قال أخيرا بصوت مختنق
(الخطأ خطأي، الخطأ خطأي حين سألتك هذا السؤال و انا بعيد عنك كل هذه الأميال، كان على الإنتظار كي أرى وجهك و أنت تنطقين بما سمعته للتو)
همست مسك بصوت مختنق قليلا
(كي تسجل آخر جولة في انتصارك؟).

رد عليها أمجد قائلا بصرامة على الرغم من نبرته شديدة الخفوت
(شششش، اصمتي يا ألماس، اصمتي و لا تفسدي سحر تلك اللحظة، لقد انتظرتها طويلا، طويلا جدا)
همست مسك بصوت يرتعش على الرغم منها
(ليس طويلا الى هذا الحد! منذ متى نعرف بعضنا؟)
رد عليها أمجد بصوت صادق جاد
(منذ ولدت، و كأنني كنت أنتظرك أنت دون غيرك، هل أخبرك شيئا و تصدقيني؟)
ردت عليه مسك بصوت هامس
(ماذا؟)
أجابها أمجد بنبرة غريبة، تخترق الذهن مباشرة.

(اول مرة سمعت فيها اسمك كان من بين شفتي غدير)
اتسعت عينا مسك و تصلبت ملامحها لتصرخ فيه فجأة بعنف
(كيف تجرؤ؟، فقط أخبرني كيف تجرؤ؟)
قاطعها أمجد قائلا بصرامة
(اصمتي يا ألمظ و أخفضي انفك المترفع قليلا حتى أتابع كلامي)
أجبرت نفسها على الصمت بقوة ارادة عالية مجنونة، و فضولها يتغلب عليها في الرغبة لسماع ما سيقول...
و بالفعل تابع يقول ببطىء.

(كان هذا قبيل عملك في الشركة، كانت مرتعبة، لا أزال أتذكر شحوب وجهها خوفا من مقابلتك، حينها أخذت تقص على قصتكما معا، لم أشعر بالإهتمام و انا أسمع قصة غدر عادية، تتكرر كل يوم، لكن خلال حديثها نطقت اسمك، ولسبب غريب شعرت و كأن الإسم قد اخترقني، حتى أنه أرسل رعشة خاطفة في صدري، فقاطعتها و أنا أعيد اسمك ببطىء و كأنني أتذوقه، و كأن هناك شيء مجهول يخبرني أن صاحبة هذا الإسم هي من كنت أنتظرها، و أن قصتي مع غدير لم تكن سوى تمهيد من القدر لقصة أكبر من الحياة نفسها، هل تصدقين ذلك؟).

ارتجفت شفتي مسك رغم عنها فعضت عليها بقوة، بينما تاهت عيناها و تلك الرعشة التي تحدث عنها للتو، تبدو و كأنها قد شقت طريقها الى صدرها في الحال، فارتجف جسدها كله في لمحة خاطفة...
الا أنها قالت بصوت ساخر زائف
(لا فائدة، ستظل عاطفيا و كأنك أحد أبطال الأفلام القديمة)
لكن أمجد تابع بكل هدوء و كأنها لم تتكلم.

(ثاني شيء سلب اذني، هو سماع الطريقة التي تصرفت بها ازاء غدر خطيبها و صديقة عمرها، لقد قالت غدير بالحرف، أنك رفعت ذقنك و ابتسمت بينما تخلعين خاتم الخطبة لتضعينه بينهما قائلة بكل ترفع، مبارك لكما)
اغمضت مسك عينيها و هي تتسائل، أين ذهب الألم المرافق لتلك الذكرى؟
يبدو و كأنه قد تبخر، بينما تابع أمجد قائلا بنعومة.

(سألتها بدهشة، ألم تصفعك؟، فأخبرتني عن ابتسامتك النادرة، في تلك اللحظة، شعرت و أنني أريد الإنحناء احتراما لتلك الشابة ذات الكبرياء الرائع، تلك التي كانت غدير ترتجف أمامي خوفا من مقابلتها، و شعرت أيضا بالخسارة، خسارة غريبة و أنا أدرك أن في هذه الحياة توجد امرأة بمثل تلك الشخصية الفذة، و مع ذلك لم يتسنى لي مقابلتها، هل تصدقين ذلك؟).

هذه المرة لم تسفه مسك من كلامه، بل همست بصوت غريب عن نبرتها الفظة عادة
(و ماذا بعد، أكمل كلامك)
ضحك أمجد بصوت أجش خافت، ثم همس لها بنبرة مسحورة...

(كنت مخطئا، فقد كان للقدر كلمة أخرى، و ما كدت أن أغادر غدير غاضبا و أقف امام المصعد بعدها ببضعة دقائق فقط، حتى داهمني عطر المسك، سلب عقلي و ذهني، فاستدرت لأنظر الى أجمل فتاة رأتها عيني، فتاة غريبة الثقة و الترفع و الرقي، تبدو و كأنها خلقت لتظل مرفوعة الرأس، أنفها الطويل احدى أهم معالم جمالها و غبائها في آن واحد، و أول عبارة سمعتها منها بكل غرورها و سخافتها كانت.

عفوا، لا أستقل المصعد مع أحد، من يومها و أنا أطاردها في الممرات و الطرقات، أستفزها قدر الإمكان، و كأنها مخدر أدمنته و تسلل تحت جلدي و بين أوردتي، هل تصدقين ذلك؟)
كانت مسك مستلقية على ظهرها تنظر الى السقف بذهول، واسعة العينين، متسارعة النفس...
و هي تحاول تذكر هذا اليوم الذي يتحدث عنه...
للأسف لم يمثل هذا اليوم لها نفس القدر من المشاعر التي يكنها لها، لكن سماعها لما قاله كان أشبه بالسحر...

كانت تشعر بالندم الفظيع لأنها لم تسجل تلك اللحظة بل و تحفرها في ذاكرتها للأبد...
للأسف كان هو أكثر حظا منها، فهو يمتلك الكنز الأغلى...
لكنها وجدت نفسها تهمس ردا على سؤاله بصوت مختنق
(نعم، اصدق)
كان أمجد هو من اغمض عينيه في تلك اللحظة وهو يهمس من كل قلبه
(يا الله! لماذا أتابع الكلام و أنا بعيد عنك؟، لماذا لم أدخر تلك الأمور الخاصة الى أن أراك، كيف لي أن أكون بمثل هذا الغباء؟).

أغمضت مسك عينيها على دموع حبيسة بينما ضحكت ضحكة متحشرجة مؤلمة، فهمس لها أمجد يقول بصوت مختنق
(أحبك يا ألماس، إياك و ان تشكي بهذا يوما، لا عاشت و لا كانت من تنافسك حبك في قلبي)
لعقت مسك شفتيها المرتجفتين و همست بصوت لا يكاد أن يكون مسموعا
(من الأفضل لك أن يكون هذا صحيحا يا حسيني، لأنني لن أدور لأصفع امرأة كل يوم خلفك)
ضحك أمجد بصوت متأوه أجش و قال.

(على الرغم من أنني أرفض ضرب النساء، حتى و إن كان من نساء، لكن تلك الصفعة التي لم تصفعيها لها سابقا و التي أثارت اعجابي بك، كانت هي نفسها التي زادتني عشقا بك حين أقدمت عليها دفاعا عني، لست متخيلا حتى الآن كيف أعجبت يوما بإمرأة قادرة على التهديد بشرفها و كرامتها الى هذا الحد المتدني!)
قالت مسك بصوت قاسي رجولي نوعا ما.

(هلا توقفت عن ذكر قصتك القديمة معها! الحظ لن يحالفك طويلا إن استمريت على هذا المنوال)
هذه المرة ضحك أمجد عاليا بقوة، ضحكة مجلجلة من أعمق أعماقه...
فابتسمت مسك و هي تفكر بأن تلك الضحكة من أجمل ما سمعت يوما...
حين خفتت ضحكته أخيرا و توقفت، ساد صمت قصير، ثم سألها بخفوت جاد، متأملا...
(اليس لديك اعتراف مماثل يا مسك تريدين اسماعي اياه؟)
ظلت مسك صامتة طويلا، فأسبلت جفنيها، لتقول بعدها همسا.

(نعم لدي، أتتذكر حين اتهمتني بأنني لم ارتدي الحجاب لأنني أريد التباهي بشعري أمام أشرف؟، ربما كنت أتباهى بنفسي، لقد ردت لي الحياة كرامتي فتمتعت بتلك اللحظة...
لكن الحجاب لم يكن له دخل بالأمر...
بداخلي خوف غريب من النفاق، النفاق أمام ربي، لم أفكر في الحجاب يوما قبل مرضي، كنت أشعر بجمالي و أعشق شعري الطويل، و حين عرفت بحقيقة مرضي و مرت الصدمة الأولى...

بدأت أفكر في اغتنام الأيام المتبقية لي، لكن الحجاب كان يشعرني بأنني منافقة، لم أفكر به الا لأنني على وشك الموت، خاصة و أن شعري سيتساقط، لذا سيكون الحجاب ساترا لرأسي الخالية من الشعر...
خجلت، خجلت بشدة و لم استطع، و كأن شيئا يحول بيني و بينه...
و حين شفيت، بدأت افكر في ارتدائه امتنانا، أيضا خجلت، حتى هذه اللحظة هناك شيء يبعدني عنه، شيء يشعرني بأنني لست صادقة مع نفسي، هل تصدق ذلك؟).

ساد الصمت الطويل بينهما مجددا، بل أطول، الى أن همس أمجد يقول بنبرة غريبة.

(على الرغم من أن هذا لم يكن الإعتراف السحري الذي تمنيت سماعه، لكن ما سمعته للتو يعد من أكثر الأحاديث التي جمعتنا سويا بصورة خاصة، هل لك أن تتخيلي ما أشعر به في تلك اللحظة؟، لا. لا تجيبي، ستجيبين عن هذا حين أكون أمامك وجها لوجه، كي أتمكن من الإمساك بيدك ووضعها على صدري، فوق قلبي مباشرة، و حتى هذا الحين أعدك أن أساعدك لتخطي أي حاجز يخيفك أو يمنعك عما تتمنينه، هل تثقين بوعدي؟).

ابتسمت مسك ابتسامة جميلة، ابتسامة حب، ثم همست بهدوء
(أثق بوعدك)
حينها سألها أمجد مباشرة بنبرة أكثر جدية
(و هل تثقين بأنني لن أتركك أبدا ما حييت؟)
اختفت ابتسامة مسك فجأة و شحبت ملامحها، لتشعر بشفرة حادة تمر في صدرها خطفا، مخلفة بعدها ألما حارقا غير ملحوظا...
عقدت حاجبيها و رمشت بعينيها، ثم هزت رأسها لتقول بصوت متوتر
(يجب أن أخلد للنوم الآن يا أمجد، لقد تأخر الوقت، تصبح على خير).

لكن و قبل أن تغلق الخط ناداها بجدية و بصوت أجش
(ألماس!)
ارتجفت مسك من نبرته الحادة، فهمست بصوت مرتجف
(نعم)
ظل صامتا قليلا، ثم قال أخيرا برفق و كأنه قد تراجع عن موقفه
(لا بأس، يمكنني الإنتظار لحين عودتي)
ازداد انعقاد حاجبيها و هي تستمع الى نبرة التأكيد في صوته، ثم لم يلبث أن سألها مداعبا بصوت أجش
(هل أنت نائمة في جانبي من الفراش؟).

ارتفع حاجبيها و اتسعت عيناها قبل أن تنقلب على نفسها في دورتين سريعتين، حتى عادت الى جانبها و شعرها الناعم متناثر على عينيها ووجهها ثم هتفت بقوة كاذبة بكل عين وقحة
(بالطبع لا، جانبك يمر به تيار هواء ما بين الباب و النافذة مما قد يصيبني بتشنج في ظهري).

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة