قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الرابع والعشرون

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الرابع والعشرون

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الرابع والعشرون

أمسكت بهاتفها تنظر اليه و هي تعض على طرف شفتها السفلية...
كانت تموت في الدقيقة ألف مرة بعد أن أرسلت له رسالتين و لم يرد على احدهما حتى الآن...
الرسالة الأولى كتبت فيها بإختصار
هلا اتصلت بي؟، و انتظرت بعدها لفترة طويلة، الا أنه لم يرد عليها...
فأرسلت رسالة ثانية...

أمين، أريد الكلام معك، ربما لم نحسن الكلام معا في آخر مرة، لكن هذا لا يعني أن نتقاطع كالأطفال، من فضلك اتصل بي، أنا لن أفعل حتى تفعل أنت، كانت شبه متأكدة بأنه سيتصل بها بعد تلك الكلمات، و ما أن يفعل حتى تحاول الكلام معه برفق...
و قد تعترف له بمشاعرها، كي يكون هذا بمثابة اعلان ارتباط بينهما...
نعم ستفعل و لن تخجل...
الا أنه لم يتصل!
انقضت خمس ساعات منذ أن أرسلت الرسالة الثانية...

و ها هي تجلس في سريرها بوجه ميت و عينين باردتين كعيني السمك...
ما تلك الصلابة فيه؟، هل ينتظر أن تتصل به؟، لقد تنازلت بالفعل و ارسلت له رسالتين، فماذا يريد اكثر؟
قررت أن تنام و تنسى الأمر، لربما اتصل بها في الغد...
لكنها لم تستطع، كيف تنام و هي تنتظر منه ردا دون أن يتنازل بإرساله؟
لقد حطت من كرامتها بالفعل و لن تتراجع الآن، إما أن يتصل بها أو تفعل هي...
و بعد فترة قصيرة وجدت نفسها تتصل بنورا...

لم تمر أكثر من لحظة حتى ردت عليها مبتهجة بصوتها الشقي المداعب
(ياسمين! أين أنت؟، ظننتك قد نسيتني، لقد مرت بضعة أيام منذ أن اتصلت بي آخر مرة!)
ردت ياسمين بصوت خافت مرتبك قليلا
(اعذريني يا نورا، أعرف بأنني قد قصرت معك الأيام الاخيرة الا أنني كنت مشغولة قليلا و ما أن وجدت الوقت حتى اتصلت بك من فوري)
ردت عليها نورا بنبرة عفوية.

(لا تعتذري، كنت مكسورة الخاطر منك قليلا، الا أنني بمجرد سماعي لصوتك نسيت كل شيء، اشتقت الى جلساتنا سويا يا ياسمين، البناية بدونك مملة و كئيبة، ليتك تعودين)
تنهدت ياسمين و هي تقول بصدق
(ليتني أعود يا نورا، ليتني أعود، أنا هنا في جحيم لا يطاق، تعبت والله و أشعر بأن طاقتي لم تعد تتحمل أكثر)
سألتها نورا بإهتمام
(لماذا، أخبريني عن الوضع عندك، الا يزال زوج أختك يضايقك؟)
زفرت ياسمين بقنوط ثم قالت بصوت خافت.

(دعينا منه الآن، لا أريد الكلام عنه، أخبريني عنكم، كيف حالكم جميعا، امك و، شقيقك؟)
قالت نورا بغيظ
(تسألين عنه بعد ما حدث منه؟، يالقلبك الطيب يا ياسمين، لو مكانك لتمنيت له الشر)
ردت عليها ياسمين بلهفة
(لا تقولي هذا يا نورا، المسامح كريم و أنا لا أحمل ضده أي ضغينة، لقد غادرت لأنني اكتشفت أن سكني بمفردي يجلب لي متاعب انا في غنى عنها، كيف، كيف حاله؟)
ردت عليها نورا متسائلة.

(من تقصدين؟، أمين؟، أمين الآن يا سيدتي منشغلا عن الجميع، فقد ارتكب خطأ عمره)
عقدت ياسمين حاجبيها و هي تسألها بقلق
(ما الذي حدث؟، شغلت بالي، هل هو بخير؟)
ضحكت نورا ضحكة باردة مختصرة ثم قالت بضيق.

(لا تقلقي يا حبيبتي، لقد خطب ابنة عمنا بدور، تلك التي رأيتها عندنا في البيت، هل تصدقين أنه قد فعلها؟، حتى آخر لحظة ظننت بأنه قد يمتلك ذرة عقل و لن ينساق الى خطط أمها في تزويج ابنتها له، لكن فعل، و الزفاف خلال شهر واحد، أووووووف أشعر بالرغبة في قتلها، لا أتخيل كيف سأعيش معها في بيت واحد؟، إنها ثقيلة على قلبي جدا، ياسمين! ياسمين! أين ذهبت؟، هل لازلت معي؟).

كانت ياسمين قد سقطت جالسة على حافة سريرها ما أن سمعت بخبر خطبة أمين لبدور...
و سقط الهاتف في حجرها، بينما هي تنظر الى صورتها المنعكسة في المرآة، لإمرأة غريبة عنها...
امرأة مصدومة، مذهولة، فاغرة الفم، تهز رأسها بعدم تصديق...

خرجت مسك من غرفتها على صوت جرس الباب في الصباح الباكر و قبل ذهابها الى العمل...
فعقدت حاجبيها بقلق و هي تتسائل عمن سيأتي في مثل هذا الوقت، لكن حين نظرت من منظار الباب، زمت شفتها و اخذت نفسا باردا قبل أن تفتح الباب متكلفة ابتسامة متزنة و هي تقول برسمية مهذبة
(صباح الخير يا مهجة، تفضلي)
لكن مهجة كانت مضطربة على غير عادتها و قد فقدت عيناها عدائيتهما، فسألتها مسك قائلة بقلق
(هل أنت بخير؟).

ردت عليها مهجة بتوتر
(آسفة أنني أتيت في مثل هذا الوقت المبكر، أنت على وشك الذهاب للعمل على ما يبدو)
قالت مسك بهدوء عاقدة حاجبيها
(لازال أمامي بعض الوقت، تعالي ادخلي)
لكن مهجة ظلت واقفة مكانها و قد زاد الحرج على محياها فقالت أخيرا
(لا، لا داعي، لن أعطلك أكثر، سأذهب. )
الا أن مسك هتفت بها بصرامة
(انتظري يا مهجة، أنت بالتأكيد لم تأتي الى هنا في مثل هذا الوقت لمجرد أن تلقي على تحية الصباح).

توقفت مهجة مكانها للحظة، ثم قالت أخيرا بإختصار
(كنت أحتاج منك خدمة. الا أنه لشدة انشغال عقلي نسيت عملك تماما، لذا لا داعي لأن أعطلك أكثر)
رفعت مسك ذقنها و سألتها بحزم
(ما هي الخدمة؟)
قالت مهجة بوجه شاحب
(حماتي، تعبت اليوم و نقلت الى العناية المشددة، لا أحد معها، أنا من أنهي لها طلباتها على أن أبقى مع أمي لأنك تعرفين ظروفها)
قالت مسك بخفوت
(تريدين الذهاب اليها، اليس كذلك؟)
قالت مهجة بصوت متوتر.

(بل أحتاج للمبيت معها إن تطلب الأمر، فكرت أن أطلب من وفاء المجيء و المبيت مع خالتها و أطفالي، الا أنني خجلت من زوجها، ففكرت)
صمتت قليلا لا تدري كيف تتابع، لكن مسك لم تحتاج الى المتابعة، بل اتخذت قرارها و قالت بهدوء
(اذهبي و أعدي نفسك ريثما اتصل بالعمل و أطلب إجازة)
نظرت اليها مهجة بحرج
(هل أنت متأكدة يا مسك؟، والله لولا حاجتي لما كنت)
ابتسمت مسك بسخرية و قالت
(لا داعي لإظهار هذا الحماس).

ارتبكت مهجة أكثر و قالت بحرج
(لم أقصد أي إهانة بالطبع، أنا فقط كنت)
ابتسمت مسك و قاطعتها قائلة
(أنا متفهمة، اذهبي لتستعدي)
بدت مهجة مترددة ثم سألتها قائلة
(هل بإمكانك البقاء مع الأطفال؟)
تنهدت مسك بنفاذ صبر و قالت ببساطة
(الأمر لا يحتاج الى بطولة، مجرد مجموعة من الأطفال البريئة، اذهبي و ابقى مع حماتك كما تريدين، و أنا سأتكفل بالأمر).

(كفى، كفى، قلت كفى)
وقف الأربع أطفال في خط واحد متسمرين اثر صراخ مسك المفاجىء، بينما ركلت الكرة القريبة من قدمها بكل عصبية، فطارت و ضربت الثريا فوقها حتى أوشكت على السقوط...
لكن لحسن الحظ كانت الكرة خفيفة، مما جعلها تسقط على رأسها دون خسائر...
افلتت ضحكة من أحد الأطفال الا أن نظرة مسك المهددة له جعلته يبتلع المتبقي منها...

و ما ان التزموا الصمت جميعا حتى سارت أمامهم مشبكة كفيها خلف ظهرها، لتقول أخيرا بصرامة
(اسمعوني جيدا، شاء الحظ الغير مشرق أن أضطر للجلوس معكم اليوم، و كنت أظن أن الموضوع سيكون يسيرا، لكن من الواضح أن البداية غير مشرفة أو مبشرة بالخير، لذا و ضمانا لأكبر قدر من الأمن و الأمان هناك بعض القواعد يجب ارسائها منذ بداية النهار، مفهوم؟).

كان أربعتهم ينظرون اليها وهم يحاولون كتم ضحكاتهم، حتى كريمة الصغيرة، فوقفت مسك و سألتهم رافعة احد حاجبيها
(هل ترون الأمر مضحك؟، حسنا لنرى كيف سيكون حالكم غدا صباحا، لنبدأ في توزيع المهام)
رفع أحد الأطفال حاجبيه و سأل مكررا بصدمة
(مهام؟)
توقفت مسك امامه ناظرة اليه بتشفي قائلة
(نعم مهام، سنعمل على استغلال سوء تنظيم والديكما للنسل في عمل نافع، هذا أو لن يكون هناك تلفاز أو طعام أو حمام).

ارتفعت حواجب الأطفال بذعر، بينما تابعت مسك تقول بنبرة آمرة مخاطبة الأول
(سنبدأ بك، لديك نصف ساعة تنهي فيها غسل الأواني في المطبخ، دون كسر كوبا واحد)
ثم توجهت الى الطفل الثاني الأصغر سنا و قالت آمرة
(و انت، أريدك أن ترتب البيت بأكمله، تعيد كل شيء الى مكانه، مفهوم)
بينما كان التلميع من نصيب الثالث، ثم صاحت بصوت جهوري
(انطلقوا، هيا).

سارع الأطفال الى تنفيذ مهامهم، بينما بقت كريمة واقفة تنظر الى مسك ضاحكة، بشعرها المحمر الفوضوي و النمش الذي يغطي وجنتيها...
فانحنت اليها مسك لتقول بصرامة
(و أنت، توقفي عن بعثرة كل شيء، مفهوم؟)
ضحكت كريمة بصوت أعلى و هي تخفي وجهها خجلا بين كفيها فإبتسمت مسك رغما عنها قبل ان تحملها بين ذراعيها...
كان حملها أشبه بالتزلج فوق قوس قزح...

شعور غريب و رائحة أغرب، أغمضت مسك عينيها قليلا و هي تستنشق المزيد من هذا العطر الطفولي، و منحت نفسها دقيقة، فقط دقيقة...
قبل أن تفتح عينيها و تهز رأسها كي تبعد عنها هذا السحر بقوة إرادة تستحق الإعجاب قائلة
(هيا لنرى إن كانت جدتك تحتاج الى شيء)
ذهبت مسك الى غرفة والدة أمجد فطرقت الباب و نادت بهدوء قائلة
(خالتي، هل أدخل؟)
ردت عليها أم أمجد قائلة بهدوء
(تعالي يا مسك، تفضلي يا ابنتي).

دخلت مسك الى الغرفة بينما كانت كريمة تلف خصرها بساقيها الصغيرتين و هي تضع اصبعها في فمها
أما أم أمجد فقد كانت نصف مستلقية في فراشها تنظر أمامها بملامح غير مرتاحة مما جعل مسك تسألها بخفوت
(هل تحتاجين شيئا يا خالتي؟)
ابتسمت أم أمجد بمجاملة و قالت برسمية
(سلمت حبيبتي، لا تتعبي نفسك، ألم تتصل مهجة بعد؟)
ردت عليها مسك تقول بهدوء
(لا ليس بعد)
ردت حماتها متنهدة
(شفى الله كل مريض)
أجابتها مسك بخفوت و هي تتأملها.

(يا رب، الا تحتاجين شيئا؟)
مجددا هزت رأسها نفيا و بقت بنفس الملامح الرسمية الغير مرتاحة، فأخذت مسك نفسا طويلا قبل أن تتجه اليها و قالت بصوت مقنع
(أعرف أنك غير مرتاحة لوجودي هنا، لكن لما لا نحاول اعلان الهدنة، لأجل مهجة على الأقل، فقد كانت شديدة القلق عليك قبل خروجها)
بدت أم أمجد أكثر ارتباكا الا أن كريمة اختارت تلك اللحظة لتصدر صوتا فكاهيا، مما جعل ملامحها تتفتح فجأة فسألتها مبتسمة
(هل كريمة معك؟).

أجابتها مسك مبتسمة
(نعم، أنا أحملها بين ذراعي)
ثم تجهت بها لتضعها على ركبتي جدتها التي أخذت تؤرجحها ضاحكة تغني أغنية مرحة، مما جعل كريمة تقهقه ضاحكة
أما مسك فقد كتفت ذراعيها و هي تنظر اليهما مبتسمة بشرود، الى أن توقفت والدة أمجد كي تلتقط أنفاسها و قد أنهكها المجهود، حينها تقدمت مسك اليها لتحمل كريمة بين ذراعيها قائلة
(حسنا ايتها السيدة الصغيرة، هيا بنا لنترك نانا ترتاح).

تقدمت الى الباب، الا أن صوت أم أمجد وصلها قائلة بإرتباك
(كيف حال أمجد يا مسك؟)
نظرت مسك اليها بدهشة و أجابتها
(في خير حال، الا يتصل بك؟)
احمر وجهها و قالت بخفوت
(بلى، يتصل بي أكثر من مرة في اليوم، أنا فقط اردت الإطمئنان عليه بصوتك)
ظلت مسك تنظر اليها طويلا بصمت، ثم قال مؤكدة
(أمجد بخير، و نحن بخير سويا، ليس هناك ما تخشينه)
عقدت والدته حاجبيها و سألتها بإستعطاف
(حقا يا ابنتي؟، هل تقولين الصدق؟).

نظرت اليها مسك لحظة اضافية، ثم انحنت لتوقف كريمة على قدميها قبل أن تتجه الى والدة أمجد فجلست بجوارها على حافة الفراش، و قالت أخيرا بنظرة اهتمام متأملة
(ظنتت أحيانا أنك ترغبين الا تسير الأمور بيني و بين أمجد بشكل جيد، لأجل مصلحته في الحصول على طفل من أخرى، لكن من نبرتك الآن، تأكد لي العكس)
هتفت أم أمجد بصدمة و هي تضع يدها على صدرها قائلة.

(أنا؟، أنا أتمنى كسر قلب ولدي بنفسي؟، يبدو أنك لم تفهمي كلمة واحدة من كلامي معك المرة السابقة، صحيح أنني كنت أتمنى حمل ابن أمجد بين ذراعي، لكن ليس على حساب قلبه، و أمجد يعشق الأرض التي تسيرين عليها، لا ينقصه سوى قلبك)
نظرت مسك اليها طويلا، ثم أخفضت وجهها و هي تتلاعب بأصابعها قبل أن تقول بهدوء
(لم يعد ينقصه شيء يا خالتي).

ارتفع حاجبي أم أمجد بدهشة و قالت بترجي مبتسمة ابتسامة جعلتها تبدو أصغر سنا بمعجزة
(حقا يا مسك؟)
أومأت مسك برأسها و قد نست بأن حماتها لا تبصرها، الا أنها رفعت وجهها و قالت برزانة
(و قد أخبرته بهذا بنفسي، ربما كان حبي يختلف عن حبه، لكل منا طريقة حب مختلفة، لكنني لن أتخلى عنه مطلقا)
صمتت قليلا، ثم تابعت بصوت بدا فاتر و ملامح شاحبة
(الا لو أراد هو)
لم تسمع أمه العبارة الأخيرة، فهتفت بسعادة.

(أسعد الله قلبك يا مسك كما أسعدت قلبي يا ابنتي، أنا لا أقول هذا لمجرد أن أمجد ابني، لكن حين تطول عشرتكما ستتأكدين كل يوم بأنه يستحق السعادة و الحب و كل ما هو جميل)
أخذت مسك نفسا مرتجفا ثم أجابتها بخفوت
(أعلم هذا من الآن)
ساد الصمت بينهما لفترة و بدت مسك شاردة تماما، الى أن سألتها والدة أمجد بلطف
(فيما شردت؟)
نظرت اليها مسك، ثم ابتسمت و هي تقول بهدوء حزين.

(كنت أفكر بأنني اشتقت لأمي، لقد سرقها المرض مني بسرعة، كم أتمنى لو عادت يوما واحدا)
ساد الصمت مجددا الى أن فوجئت مسك بها تمد كفيها اليها و هي تهمس بحنان
(تعالي الى حضني يا ابنتي).

بدت مسك مترددة قليلا الا أنها استسلمت و أراحت رأسها على صدر حماتها، فصعقها هذا الشعور الذي افتقدته منذ زمن طويل، رمشت مسك بعينيها كي تمنعهما من البكاء بينما أخذت أمه تسرح شعرها باصابعها الحانية، فلم تستطع مسك المقاومة أكثر، و تساقطت دمعة على وجنتها بصمت...

تلك الليلة و في وقت متأخر من الليل، دخل أمجد الى شقتهما وهو يكاد أن يسبق الزمن وصولا اليها...
و ما أن أغلق الباب ووضع حقيبته أرضا حتى سارع الى غرفتهما بحثا عنها...
لكنه توقف عاقدا حاجبيه وهو يصدم بالظلام المحيط بالمكان...
أشعل ضوء الغرفة، و حينها تأكد بأنها ليست في الشقة من الأساس!
همس أمجد لنفسه وهو يتلاعب بمفاتيحه
(هل ذهبت الى بيت والدها؟).

أراد الإتصال بها الا أنه ببساطة كان غاضبا منها، غاضبا بشدة...
كيف لها الا تبيت في شقتهما دون عمله! و كأن الأمر غير هام...
لقد أفسدت عليه اللحظة التي تمناها منذ أيام...
زم أمجد شفتيه بنفاذ صبر، ثم أطفأ الضوء و خرج من الشقة متجها الى شقة والدته...
ففتح بابها بهدوء و دون صوت كي لا يفزع والدته و هي لا تعرف بقدومه...
دخل من فوره في اتجاه غرفة أمه، حيث كان الضوء الخافت منبعثا من شق الباب المفتوح جزيئا.

و ما أن اقترب منه حتى توقف مكانه متسمرا، فهناك على الفراش كانت امه شبه مستلقية، مرجعة رأسها للخلف و مغمضة عينيها، على الأرجح راحت في سبات عميق منذ دقائق، بينما تجلس بجوارها على حافة السرير السيدة الأجمل في حياته...
مسك سالم الرافعي...
الغريب أنها كانت مفرودة الظهر برشاقة، بينما ترتاح كريمة نائمة على حجرها، مريحة رأسها الصغير على إحدى ذراعي مسك و اصبعها في فمها...

الأغرب أن مسك نفسها كانت تدلك قدم أمه برفق بيدها الحرة!
ظل أمجد ينظر الى هذا المشهد أمامه مشدوها، الى أن أزاح الباب برفق فأصدر صوتا خافتا، مما جعل مسك تنتفض من مكانها شاهقة، و ما أن نظرت اليه حتى ابتلعت انتفاضتها و هي تنظر اليه بذهول...
ثم همست بعد فترة طويلة جدا
(هل أنت حقا هنا؟)
اقترب أمجد منها ببطىء مرهقا، لكن عيناه كانت متلونتين بمشاعر عميقة عنيفة...
حتى وصل اليها فهمس لها بصوت أجش.

(ماذا تفعلين هنا؟)
كانت مسك لا تزال فاغرة شفتيها و هي تمر بعينيها على ملامحه و عنقه و صدره، صعودا الى عينيه من جديد و هي تتأكد بأنه هنا فعلا و أنها لا تحلم!
حين وجدت صوتها أخيرا قالت بخفوت.

(حماة أختك مريضة و محتجزة في المشفى، اضطرت مهجة للذهاب اليها و طلبت مني البقاء مع والدتك و أطفالها، الجميع راحوا في سبات عميق و أنا كنت سأخرج من الغرفة على الفور، كانت قدم والدتك متورمة جدا و تؤلمها، فكنت أدلكها لها لكنها نامت و أنا كنت سأتركها و أخرج، هل أنت هنا حقا؟)
زفر أمجد نفسا طويلا حارا، لفح خصلة الشعر المنسابة على جانب وجهها من ربطته الفوضوية...

فأغمضت مسك عينيها جراء تلك النسمة الساخنة، لكن و قبل أن تفتح عينيها، شعرت بأصابع قوية تحيط بمؤخرة عنقها، قبل أن تحط شفتين دافئتين على شفتيها في قبلة طويلة طويلة بينما لا تزال كريمة نائمة على ذراعها، لكنها لم تنتبه، فقد ارتجفت بشدة جراء قبلته التي أخذت تزداد عمقا وقوة حتى كادت أن تفقد وعيها، و ما أن ابتعد عنها أخيرا، حتى رفرفت بعينيها و هي تنظر اليه ذاهلة، الا أنه ابتسم لها بطريقة زادت من رجفتها قبل أن يأخذ كريمة منها برفق، و أراحها بجوار والدته ثم عاد الى مسك ليمسك بكفها وهو يسحبها معه هامسا بصوت أجش.

(تعالي)
همست تسأله رافعة حاجبيها بصدمة
(الى أين؟)
الا أنه لم يجبها بل قادها الى غرفة خالية من غرف البيت، ففتح بابها و جر مسك معه الا أنها همست معترضة بقلق
(لا يا أمجد، مستحيل، الأطفال، ووالدتك)
لكنها لم تستطع المتابعة حين انحنى وجهه اليها ليسكت اعتراضها بأجمل الوسائل، همست مسك و هي تتمسك بقميصه بكفيه
(أمك يا حسيني!)
انحنى ليحملها بين ذراعيه حتى طارت في الهواء، ثم قال مبتسما بصوت أجش متحشرج
(أمي لن ترانا).

حين ألزمها الحجة صمتت و تركت العنان الى مشاعرها، و من بعيد سمعت لحن جميل ما بين صوته و عطره، طار صوابها...
عند الفجر نهضت كريمة من جوار جدتها و خرجت لتبحث عن مسك، الى أن رأتها غافية بين ذراعي أمجد فصعدت لتنام بينهما براحة...
و بعدها بساعة وصلت مهجة الى البيت أخيرا بعد ليلة مرهقة...

فدخلت مسرعة تطمئن على والدتها و أطفالها، و كانت كريمة هي الأخيرة التي لم تعثر عليها بعد فبدأ القلق يتسلل اليها الى أن فتحت باب الغرفة الأخيرة بحثا عنها، لكن ما أن فعلت حتى شهقت مصدومة من رؤيتها نائمة بين ذراعي مسك النائمة بين ذراعي أمجد بدورها...
احمرت وجنتي مهجة، الا أنها سارت على اطراف أصابعها حتى التقطت كريمة بين ذراعيها بحرص كي لا توقظهما هامسة لنفسها بتذمر.

على الأقل كانا محتشمين، علينا أن نكون ممتنين لهذا، لهذا اخترعوا المفاتيح،
(ألم أخبرك بأن أمي لن ترانا)
احمرت وجنتا مسك فتجنبت النظر اليه و هي تزرر قميصها في شقتهما بعد أن صعدا اليها صباحا...
صوته العابث زاد من احمرار وجهها فلجأت الى الصمت التام...
ارتدت سترتها كذلك، بينما كان أمجد يزرر قميصه هو الآخر ناظرا اليها متسليا بخجلها...

و ما أن حاولت تجاوزه حتى مد ذراعه يحتجزها، فرفعت وجهها تنظر اليه مكتفة ذراعيها سائلة بهدوء
(ماذا بعد؟)
تأمل أمجد عينيها، وجنتيها، أنفها الطويل المرتفع، ثم همس لها برقة
(بيننا حديث لم ينتهي بعد)
اضطربت مسك و هي تتذكر اعترافاتها الغير مشروطة التي أدلت بها مستغلة بعده عنها...
لكن ها هو هنا الآن و يطال بغنيمته كاملة...
رفعت مسك ذقنها و قالت بحزم متحدية
(لقد تأخرنا بالفعل، علينا الذهاب الى العمل).

صمتت للحظة ثم ابتسمت قائلة بخبث
(هل تعرف أنني سأذهب معك الى الشركة اليوم؟)
ارتفع حاجبي أمجد و سألها بدهشة على الرغم من الإبتسامة التي لم تفارق وجهه وهو يتأمل كل لفتة منها
(شركتنا؟، تنيرنها بالتأكيد، لكن ما المناسبة؟)
ضحكت مسك و قالت ببساطة.

(كنوع من التكريم، سأقدم عرضا تقديميا على أعضاء مجلس الإدارة و بعض العاملين، عن المشروع الذي كنت أطمح لإدارته، أظنه نوعا من التعويض عن الطريقة التي صرفت بها من العمل)
ابتسم أمجد وهو ينظر الى بساطتها و كأن الأمر لم يكن مؤلما يوما، الا أنه سألها بهدوء
(و هل قمت بحضير العرض؟)
ضحكت مسك و هي تقول بنبرة مستفزة.

(بالطبع حضرته إنه على ملف الذاكرة الخاص بي، اذن ماذا سأكون لأقدم إن لم أكن حضرته؟، طبق ملوخية بالأرانب؟)
لم يضحك أمجد بل تألقت عيناه بألف نجمة، ثم همس لها بصوت مسحور
(لقد طال لسانك في غيابي يا ألمظ، و أفكر في معاقبتك يا أم الأرانب أنت)
رفعت مسك حاجبيها ثم استطالت لتعدل من ربطة عنقه قائلة ببراءة
(للأسف لن تجد الوقت لهذا، هل ستقلني معك أم أذهب بمفردي؟).

أخذ خصلة من شعرها و دسها خلف أذنها قبل أن يهمس لها قائلا بخفوت
(سأتشرف اليوم بالدخول معك يدا بيد الى غرفة الإجتماعات سيدتي الجميلة).

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة