قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الخامس والعشرون

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الخامس والعشرون

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الخامس والعشرون

بعد أن انتهت مسك من توصيل حاسوبها بشاشة العرض، في غرفة الإجتماعات...
استدارت تنظر الى المجتمعين حول الطاولة العريضة...
كان والدها موجودا، و أعضاء مجلس الإدارة من بينهم أمجد طبعا، و بعد الموظفين، من بينهم غدير...
رفعت مسك ذقنها و هي تبادلها النظر بترفع مقصود، فأخفضت غدير وجهها الشاحب...
كان حالها مثيرا للشفقة، و كأنها مريضة و متهالكة تماما...

الا أن مسك فقدت آخر ذرة تعاطف معها، و أقصى ما استطاعت فعله هو تجاهلها تماما...
تراجع أمجد في مقعده يتأملها مبتسما بفخر، بجمال طلتها و بهائها...
بدأت كلامها مبتسمة
(أولا، أردت القول أنني سعيدة جدا بوجودي هنا اليوم، فهذا المكان يمثل لي شيئا خاصا و ليس مجرد عمل سابق، أتمنى لهذا المكان أن يعلو شأنه أكثر بكل العاملين به)
ثم استدارت لتبدأ تشغيل عرضها التقديمي، و بدأت الكلام بطلاقة...

كانت تجيد تقديم العروض، لغة و أسلوبا و فكرا...
لم يكن هناك من يسمعها و يشرد عنها أبدا، واحد فقط كان شاردا فيها وبها...
أمجد الحسيني...
الذي كان يجلس أمامها مستندا الى ظهر مقعده واضعا ساقا فوق أخرى...
من الصعب عليه التركيز فيما تقول بينما هي تحتل كل ذرة من كيانه...
كان يربكها كلما نظرت اليه لتجده يدقق النظر بها مبتسما، من الجيد أنها تركت العمل و ابتعدت عنه كعامل الهاء رئيسي...

حاولت مسك التركيز على عرضها قدر الإمكان، بينما والده ينظر اليها مبتسما بفخر متباهيا بها...
و ما أن وصلت الى الشاشة الاخيرة حتى استدارت اليهم لتلقي كلمة النهاية، لكن صوتها خفت ما أن بدأت الضحكات تتعالى و تسود القاعة...
لم تفهم مسك سبب تلك الضحكات الا أنها لاحظت أنهم ينظرون الى الشاشة من خلفها فاستدارت تنظر اليها و هي تظن نفسها قد وضعت صورة خاطئة...

لكنها تسمرت حين وجدت الشاشة بعرض الحائط مكتوب عليها بخط عريض
و في النهاية أحبك، كما أحببتك منذ البداية، زوجك المحب الحسيني
اتسعت عينا مسك بصدمة، الا أنها تمالكت نفسها و استدارت اليهم و قد ازدادت ضحكاتهم...
باستثناء غدير التي امتقع وجهها أكثر و ظلل الحسد عينيها بنظرات كريهة، غير مصدقة لما يحدث...
رتبت مسك أوراقها و هي تبتسم رغم عنها محاولة كبت الإبتسامة، ثم نظرت الى أمجد و سألته على الملأ.

(هل أنت راض الآن؟، قلت ماتريد أمام والدي و أمام المجلس كله!)
رفع أمجد يديه مستسلما وهو يقول مبتسما ببساطة
(عليك اعتياد هذا يا زوجتي العزيزة، حين يكون هناك تكريم لك، فسأكون حاضر دائما. )
بدأ الجميع في التصفيق له، فعضت على ابتسامتها أكثر، ثم نظرت الى والدها و قالت بأسف
(أعتذر يا أبي صدقا)
ابتسم والدها رغم عنه كذلك و قال بخفوت مسلما بتذمر...

(لا عليك، جميعنا نعرف شطحات الحسيني و بتنا لا نعتب عليه، المهم انك تستحقين السعادة يا ابنتي)
نظرت مسك الى أمجد الذي كان يبادلها النظر فأخفضت وجهها مبتسمة و هي تعيد أوراقها للمرة العاشرة...
حين خرجت من قاعة الإجتماعات كانت ممسكة بكفه دون خجل، الا أن غدير حين تجاوزتهما كادت أن توقعها بعنف لولا أن تمسك أمجد بها بسرعة...
حاول مناداتها بغضب كي تنتبه الا ان مسك منعته قائلة بهدوء مبتسمة.

(دعك منها، هناك أمر أريد عرضه عليك)
دهش امجد لهذا الحماس المتوهج على معالم وجهها، بينما سحبته خلفها بسرعة و رشاقة، تلتفت لتنظر اليه مبتسمة بين كل خطوة و أخرى، و ما أن وصلا الى مكتبه، حتى أدخلته و اغلقت الباب...
فعقد أمجد حاجبيه بمكر مبتسما وهو يقول
(هل تريدين تكريما عينيا؟، انا على أتم استعداد)
و ما ان انحنى اليها حتى وضعت يدها على صدره تمنعه، ثم رفعت وجهها المبتسم له و قالت برقة...

(أريد أن نكفل طفلا في البيت، ليكون ابننا)
بهتت الإبتسامة عن وجه أمجد حتى اختفت تماما و حلت محلها الصدمة، عقدت مسك حاجبيها و هي ترى هذا التغيير الذي طرأ عليه فجأة، ثم قال بحدة قاطعا دون جدال
(بالطبع أرفض، لا أريد طفلا ليس بطفلنا).

(لقد نام عمرو بعد أن أطعمته و حممته)
رفع قاصي عينيه عن قطعة خشب، كان يشطرها بسكين حاد، حتى بدت حادة مسننة كالوتد...
لينظر الى تيماء التي وقفت عن بعد بذات البنطال الجينز القصير اللعين و هي تدس كفيها في جيبيه...
بينما كان شعرها متناثرا حول رأسها ذات اليمين و اليسار...
هل أخبرتك من قبل أن النظر اليك هو بهجتي الوحيدة في الحياة؟
هل سبق و أخبرتك أنني لم أرى امرأة بجمالك يا مهلكة؟

هل أشعرتك بأنوثتك فعلا أم أنها كانت كنار تتغذى على نفسها بداخلي توشك على احراقي بينما أنت بعيدة عن هذا الحريق المستعر؟
هل فات الوقت لأخبرك بأنك ما كنت لي الا الجمال الوحيد الذي رأيته من هذه الحياة؟
يتعجب كيف ظن نفسه عرف امرأة سواها ذات يوم!
تلك الحزمة القصيرة المكتنزة من مكونات الأنوثة المبهجة، تفوق جمال نساء العالم بأسره...
لكن عوضا عن هذا كله قال بصوت أجش
(حممته؟).

ارتفع حاجبي تيماء من نبرته المستنكرة و أجابته قائة ببساطة
(نعم فعلت، هل هناك مانع؟)
أعاد قاصي عينيه الى قطعة الخشب التي عاد الى شطرها من جديد، ثم قال بجفاء
(كنت أنا من أقوم بهذا)
ردت تيماء بتحدي
(و أنا فعلت الآن لأشاركك، هل هناك مانع؟)
أجابها قاصي دون أن ينظر اليها
(المانع أنه صبي كبير الآن، و لا يصح أن تحمميه بنفسك).

ضحكت تيماء رغما عنها و عن روحها الكئيبة هذه الأيام، ثم اقتربت منه حتى جلست على ذراع الأريكة بجواره و قالت بنبرة مشاغبة
(إنه لا يزال طفلا)
رد عليها قاصي بنبرة أكثر تجهما و حدة
(لم يعد طفلا، كما أنني لا أرحب بإرتدائك هذا الشيء القصير أمامه، احترمي نفسك قليلا)
ارتفع حاجبي تيماء و هي تنظر اليه، بينما هو يرفض أن يبادلها النظر بإصرار، ثم سألته بخفوت.

(لماذا لا تنظر إلى و أنت تكلمني؟، هل سنظل على هذا الجفاء الى أن يحين سفري غدا؟
هل تعاقبني أم تعاقب نفسك، كنت أظن أنني لا أفهمك من قبل، لكن الآن فاق عدم فهمي لك كل سنوات علاقتنا سويا، لماذا تبعدني عنك طالما أنك تتعذب بهذه الصورة؟، و تعرف بأنني سأتعذب كذلك، مجرد جفائك معي الآن يعذبني، فمابالك حين أبتعد عنك؟)
انتظرت تيماء رده بفارغ صبرها المحتضر، الا أنه حين قرر الرد أخيرا متنازلا...

سألها بصوت أجش دون أن ينظر اليها
(هل أتممت تحضير حقيبتك؟)
صرخت فيه تيماء فجأة بقسوة و هلع من قرب انقضاء ساعاتهما معا...
(لماذا تفعل بي هذا؟، أجبني).

لم يرد عليها، بل ظل يتابع عمله بسرعة أكبر، الا أنه صرخ فجأة مما أجفلها و هي تنظر الى وجهه شديد التجهم بعدم فهم، لكن سرعان ما ملأ الرعب عينيها و هي ترى الدم يتناثر من اصبعه فجأة فوق الطاولة بغزارة، فهتفت بحدة
(ياللهي، هل قطعت اصبعك؟)
و دون أن تنتظر منه ردا كانت قد جرت اليه حتى القت بنفسها أرضا على ركبتيها أمامه و هي تلتقط كفه تتفحص الجرح، ملتقطة عدة محارم ورقية، لتجفف بها الدم الغزير...

ثم قالت متنهدة بصوت يرتجف
(جرح كبير، لكنه لا يحتاج الى تقطيب، يا لك من غبي يا قاصي، لماذا لا تنتبه الى نفسك؟)
لكنه لم يكن ينظر الى الجرح، و لم يكن حتى يشعر به، بل كان ينظر اليها هي وحدها، بشعرها السلكي المتناثر و رأسها المنخفضة على جرحه، بين ركبتيه تقبع بسكون خادع بينما تثير به كل المشاعر الهمجية الممكنة...

رفعت وجهها تنظر الى قطعة الوتد المسننة التي تركها على الطاولة فأمسكت بها و هي تقلبها بين يديها ناظرة اليها بإمتعاض ثم نظرت اليه و لوحت بها قائلة بحدة من فرط انفعالها
(ما هذا؟، ماذا يفترض بهذه ان تكون؟، هل لديك مصاص دماء في المطبخ تنوي قتله بها؟، منذ ساعات و أنت منشغل عني بتسنين هذا الشيء، ياله من إنجاز رائع في حياتك!)
اختطف الوتد من يدها و ضربه على الطاولة بعنف، ثم نظر اليها قائلا بجفاء حاد.

(ليس هذا شأنك، كما لم يطلب أحد رأيك فيما أفعل بوقت فراغي)
مطت تيماء شفتيها و هي تنظر اليه بنظرات ذات مغزى ممتعض، ثم قالت بسخرية
(ياله من شغل رائع لوقت الفراغ، يسرني أنك مستمتع، على الأقل واحد منا مستمتع)
امسك قاصي بكتفيها فجأة و هزها بقوة ليسألها بحدة
(ماذا تريدين؟، الى ماذا تسعين بالضبط؟).

ظلت تيماء مكانها هادئة ساكنة تماما، على الرغم من امساكه لكتفيها بمثل تلك القوة، تحدق به بعينيها الواسعتين الصامتتين، ثم همست أخيرا بصوت واه و كأنها تحدث نفسها
(كيف لنا أن نبتعد من جديد بملىء إرادتنا؟)
انعقد حاجبي قاصي بشدة وهو يسمع سؤالها الخافت الحزين، فأغمض عينيه وهو يتأوه فجأة قبل أن يسحبها اليه بقوة حتى سحقها على صدره يضمها اليه بكل جنون مشاعره بينما أنفاسه تتخلل شعرها...

هاتفا بإسمها مرة بعد مرة، و هي كذلك حتى اختلطت حروف اسميهما...
فأبعدها عنه قليلا ينظر اليها بخوف حقيقي، الا أنها رفعت كفيها تحيط بهما وجهه برفق بين أصابعها...
لحيته تخدش راحتيها، بينما تترفق نعومة شعره بأصابعها...
همست تيماء بصوت مختنق
(أمي ليست هنا، شعرت بالعصبية من شقاوة عمرو طوال اليوم فقررت المبيت لدى امتثال)
كانت أصابعه تتحسس وجهها كذلك كالأعمى وهو ينظر اليها، لا يراها، بل يرى شيء آخر...

أعمق أعمقها، غير قادرا على النطق، فهمست تيماء متابعة بترجي أكثر اختناقا
(و عمرو لن يستيقظ الآن)
لم يحتاج قاصي الى تشجيع أفضل من هذا، بل هو لم يحتاج الى أي تشجيع يوما؟..
كل ما فعله الآن هو أنه ترك لنفسه عنان عواطفه الحادة فطافت يداه من وجنتيها الى عنقها، و حتى كتفيها...
ثم انحدرتا على ذراعيها ببطىء، مرورا بخصرها، حتى أمسك بحافة قميصها القطني يرفعه ببطىء من فوق رأسها...
و هي كانت أكثر من راغبة...

لم يكن مجرد استسلاما، بل هو شوق فاض به الكيل...
اندفعت اليه تيماء لتحيط عنقها بذراعيها بقوة، بينما أبعدها عنه قليلا يقاوم تيار مشاعرها لينظر اليها تلك النظرة التي تهلكها...
نظرة لم ينظر لها أحد سواه بها...
فهتفت بصوت مختنق متوجع
(قاصي).

لم تستطع النطق بأكثر من اسمه و كأنه طوق النجاة لها، حينها فقط رفعها اليه قاصي وهو يتراجع حتى استلقى على الأريكة و هي على صدره، يرتوي من قبلاتها الخائفة، و يسقيها بأخرى أكثر رعبا...
بعد فترة طويلة كانت مستلقية بجواره و بين احضانه يضمها اليه بقوة وهو يمرر كفه على ذراعها الناعم بشرود...
همست له تيماء بصوت متداعي
(أشكرك لأنك سمحت لأمي بالبقاء معك، أشكرك لأنك ستعتني بها).

اخفض قاصي رأسه حتى مست شفتاه جبهتها المتعرقة، و همس فوقها بصوت باهت
(سأعتني بكل من يخصك، الى أن تعودي)
أغمضت تيماء عينيها بألم، ثم همست له بصوت مختنق
(هل ستسمح لي بعدم العودة يوما؟)
ظل قاصي صامتا لفترة طويلة أشعرتها بالرعب، ثم قال أخيرا دون أن ينظر لها
(هل ستسمحين لنفسك بذلك؟)
ردت تيماء بصوت بدا كخدش صدىء في حلقها
(في حالة واحدة فقط، إن مت هناك، بل و دفنت هناك أيضا).

اطبق قاصي بكفه الخشنة على فمها بقوة، يمنعها من نطق المزيد، ثم اغمض عينيه حتى ظنته نام...
لكن ارتفاع صدره الغير ثابت كذب ظنها، فهمست له بخوف
(كم تبقى على الفجر؟)
اجابها قاصي بصوت اجوف دون أن يفتح عينيه
(لا أريد أن أعرف)
أراحت تيماء وجهها على صدره و هي ترتجف قليلا، فأحاطها بذراعيه أكثر علها تتوقف عن الإرتجاف
فهمست له تقول بتلك النبرة الميتة
(احيانا أتسائل عن جدوى هذا كله، لماذا نصر على ايلام أنفسنا؟).

ظنت بأنه لن يجيبها، الا أنه قال أخيرا
(لأن الألم سيكون أكبر على المدى الطويل إن لم نفعل)
رفعت تيماء وجهها اليه و هتفت متوسلة
(يمكنني المحاولة، يمكننا المحاولة سويا، اليس كذلك؟)
أجابها قاصي قائلا دون أن يفتح عينيه بعد
(لهذا ستبتعدين، لنحاول من جديد)
لكن تيماء لم تستسلم بل هتفت تحاول اقناعه كمن يقنع الجلاد بالعدول عن تنفيذه للحكم
(نحاول و نحن معا، أستطيع فعلها، لا أريد من هذه الحياة سواك).

لكن قاصي هتف بإختناق متحشرج
(اخرسي يا تيماء بالله عليك، اخرسي)
نظرت اليه طويلا، الى ملامح وجهه المتألمة و جفنيه المنطبقين بشدة، ثم خرست بالفعل و عادت لتريح وجهها على صدره ببطىء فأغمضت بعينيها خوفا...
و بعد فترة ليست بالطويلة، سمعا صوت أذان الفجر فإنتفض كلا منهما حتى أنهما فتحا أعينهما في نفس اللحظة و هما ينظران الى بعضهما كهرتين متحفزتين خائفتين...
و كانت تيماء هذي أول من نطق، فهمست بخوف.

(بهذه السرعة!)
مد يده يمسك بوجنتها وهو يتأمل وجهها بكل ذرة فيه، قبل أن يتركها لينهض مندفعا وهو يقول بصوت جامد كالحجر
(هيا بسرعة كي لا تتأخري عن موعد طائرتك)
و دون انتظار ردها تجنب النظر الى عينيها الشاخصتين اليه بذعر، ثم ابتعد عنها بسرعة قبل أن تتخاذل قواه...
أما تيماء فقد تراجعت الى الأريكة ببطىء حتى استلقت عليها و هي تنظر الى السقف بعينيها الواسعتين...

و يدها على قلبها الخافق، لقد حانت الساعة التي ظلت تخشاها طوال عمرها...
جربتها أكثر من مرة و ها هي تفعل من جديد...

أغلقت حقيبتها بأصابع مرتجفة و هي تعي وقوفه خلفها مباشرة، مستندا بكتفه الى اطار الباب...
و كم تمنت لو أن يقوم بإحدى حركاته الهمجية الغير محسوبة فيمنعها من السفر و يجبرها على البقاء معه منهيا حيرتها...
لكنه لم يفعل، بل ظل واقفا مكانه، دون حركة، فقالت أخيرا بخفوت دون أن تستدير اليه
(هل ستترك عمرو عند امتثال أثناء ذهابنا الى المطار؟).

ساد الصمت من خلفها قليلا، فتوترت أكثر، الا أن هذا التوتر تحول الى صدمة حين قال أخيرا بصوت قاتم
(لن أقلك أنا الى المطار)
تركت تيماء ما بيدها و استدارت اليه بسرعة، ثم همست بعدم تصديق
(ماذا؟)
للحظة رمشت عيناه أمام عينيها الكبيرتين، الا أنه عاد ووضع القناع الجامد على وجهه و عينيه بسرعة ثم قال بخفوت
(مسك ستقلك)
فغرت تيماء شفتيها و كأنها على وشك التأوه ألما الا أنها همست عوضا عن ذلك
(لكن، لكنها لم تخبرني).

رد عليها قاصي قائلا بلا روح
(أنا طلبت منها الا تخبرك)
ظلت تيماء تنظر اليه بنفس الألم، و همست تسأله بنبرة اتهام
(لكن، لماذا؟)
لم يجبها قاصي على الفور، بل استقام في وقفته، و اتجه اليها ببطىء حتى وقف أمامها فرفعت وجهها الشاحب اليه، حينها فقط قال لها بخشونة
(لأنني في المطار سأكون مجبرا على توديعك دون لمسك، لن أستطيع فعل هذا حتى آخر لحظة تراك بها عيني).

و قبل أن تسأله كان قد خطف وجهها بين كفيه ليشبعها تقبيلا بنهم ملتاع، و هي تجاوبت معه بكل قوتها و دون أي تردد، و ظلا أسيرا عواطفهما حتى سمعت صوت رنين هاتفها يخترق وداعهما...
فأبعدت وجهها المتوهج تنظر الى هاتفها الموضوع على طاولة الزينة و كذلك فعل قاصي، ثم قال أخيرا بصوت أجش
(لقد وصلت، إنها تقف أمام البناية الآن)
نظرت اليه تيماء، فأبعدها عنه بالقوة و قال بخفوت...

(خذي حقيبتك و غادري بهدوء، لا أريد لعمرو أن يستيقظ على رؤيتك ترحلين، يكفيه مشهد تركه لأمه)
و أمام عينيها ابتعد عنها، و كأنه لم يكن نفس الرجل الذي أشبعها تقبيلا للتو!
حملت تيماء حقيبتها و سارت عبر الشقة الصغيرة تجيل عينيها بها...
تلك الشقة كانت عبارة عن مجموعة من المحطات لأقسى مراحل حياتها، لا تعرف إن كانت تحبها أم تكرهها...
لكن الأكيد، أنها ولدت في هذا المكان...

فتحت الباب أخيرا و نزلت على درجات السلالم ببطىء في سكون هذا الصباح الباكر الشاحب...
حين تحمل حقيبتها بنفسها، فهذا يعني أن قاصي الحكيم يتألم بشكل أفظع منها...
نزلت درجة درجة، و بين كلا منهما كانت ترفع وجهها لتنظر الى الباب الذي تركته مفتوحا علها ترى وجهه يطل عليها، لكنه لم يفعل، و ظلت تنزل، تنزل الى أن وصلت حتى باب شقة امتثال، فضغطت جرس الباب و هي تضع حقيبتها أرضا، و انتظرت...

فتحت امتثال الباب و هي تضم معطفها البيتي، فهمست بصوت خافت حزين
(هل حان موعدك يا صغيرتي؟)
أومأت تيماء برأسها مبتسمة على الرغم من الدموع التي غشت عينيها، ثم سألتها بإختناق
(كيف حال أمي؟، هل هي بخير؟)
تنهدت امتثال و هي تهز رأسها نفيا، لتقول بصوت هامس
(حالتها لا تسر عدو أو حبيب، لم تتوقف عن البكاء منذ ليلة أمس، حتى أننا لم ننم للحظة)
شعرت تيماء بغصة مؤلمة في حلقها، لكنها قالت بخفوت.

(أنا آسفة جدا سيدة امتثال، لقد كبدناك متاعبا كثيرة)
ردت امتثال همسا
(لا تقولي هذا يا تيماء، لقد أصبحت كواحدة من أبنائي، تعالى لتسلمي على والدتك)
لكن تيماء أمسكت بذراعها و قالت بصوت مختنق
(ليس قبل أن أسلم عليك أولا)
و دون أن تنتظر الإذن منها ضمتها اليها بكل قوتها، ثم هتفت همسا
(شكرا لك على كل شيء سيدة امتثال)
ربتت امتثال على ظهرها بيدها الحانية، و قالت بحرارة
(ستبكيني يا فتاة).

ابتعدت تيماء عنها و هي تضحك من بين دموعها، فسألتها امتثال و هي تنظر الى حقيبتها
(ألن يحمل لك الحقيبة على الأقل؟)
هزت تيماء رأسها و قالت بغصة مؤلمة في حلقها
(دعي قاصي لألمه حاليا سيدة امتثال، فهو غير قادر على تخطيه)
تنهدت امتثال و هي تقول بحزن
(دائما تدافعين عنه و كأنه أحد أبنائك)
أومأت تيماء برأسها بطريقة صعبة عاجزة، ثم همست
(لأنه كذلك، هو كذلك بالفعل، فهل رأيت أم ترحل و تترك طفلها؟).

شدت امتثال على ذراعها بقوة و قالت بصرامة أمومية
(اسمعيني جيدا يا ابنتي، لا تسمحي لقلبك و ظنك الدائم بأنه ابنك أن يفقداك المزيد، سفرك ليس نهاية العالم، انما نهاية حياتك ستدفنيها هنا ببقائك رهينة الظروف)
رفعت تيماء يدها لتمسح بها دموعها، ثم قالت بصوت ثابت على الرغم من الألم في صدرها
(سأدخل لأسلم على أمي بعد اذنك).

قادتها امتثال الى حيث تجلس أمها و التي كانت تبكي، جالسة و ساقيها تحتها، رافضة لنظر الى تيماء...
فاقتربت منها ببطىء حتى جثت على عقبيها أمام أمها و همست بإختناق
(هل سترفضين السلام على يا أمي؟)
ردت عليها ثريا من بين بكائها دون أن تنظر اليها بإصرار
(ألم تتخذي قرارك و تغادري؟، ماذا تريدين مني؟)
قالت تيماء بصعوبة
(لقد سبق و سافرت يا أمي و كنت تعرفين بأنني سأعود لأتابع دراستي، فما الجديد؟).

التفتت ثريا تنظر اليها بألم و هتفت
(الجديد أنني لم أكن وحيدة حينها، كنت متزوجة، لكن الآن)
لم تستطع المتابعة فانخطرت في بكاء مرير، مما جعل تيماء ترمش بعينيها كي لا تبكي هي الأخرى...
ثم قالت بصوت مشجع واثق
(قاصي لن يتركك يا امي، أنا أثق به أكثر من نفسي، لن تكوني وحيدة معه أبدا، إن كان قاصي يجيد شيئا في حياته، فهو الإعتناء بإمرأة تحتاجه)
صمتت لحظة، ثم ضحكت و هي تشهق باكية في ذات الوقت لتهمس بمزاح مرير.

(الا أنا، لأنه يحبني).

حين خرجت تيماء من البناية حاملة حقيبتها رأت مسك تقترب منها مبتسمة، و هي تضع على عينيها نظارة داكنة...
لكن تيماء وقفت مكانها و هي ترى سالم يقف مستندا الى السيارة...
وصلت مسك اليها قائلة بهدوء
(صباح الخير يا أستاذة، صباح بدء مرحلة دراسية جديدة و ناجحة باذن الله)
ابتسمت تيماء و قالت بصوت مجهد
(صباح الخير يا مسك)
عقدت مسك حاجبيها و قالت بحنق.

(تبدين و كأنك لم تتوقفي عن البكاء منذ أيام! هل أنت طفلة يا ابنتي؟)
ظلت تيماء مبتسمة دون رد بينما حملت مسك حقيبتها و سألتها قائلة بحذر و هي تشير الى البناية بإشارة مبهمة
(كيف حاله؟)
أخذت تيماء نفسا بدا كشهقة، ثم سيطرت على نفسها قائلة بصوت ثابت ميت
(ليس أفضل من حالي)
زمت مسك شفتيها ثم قالت بهدوء
(تعالي لتسلمي على والدك، لقد طلب مني المجيء لإيصالك).

اتجهت تيماء الى سالم الذي استقام وهو ينظر اليها متجهما، فبادرته تقول بخفوت
(صباح الخير يا ابي)
رد عليها سالم بحذر
(هل أنت جاهزة هذه المرة؟)
أومأت تيماء برأسها و هي تنظر اليه، ثم قالت بصوت باهت
(اذن، هل سأراك هناك؟)
أجابها سالم بخفوت بدا ألطف نبرة هذه المرة وهو يتطلع لها عن كثب...
(بالتأكيد، بإستمرار).

أوشكت تيماء على دخول السيارة، الا أنها تسمرت مكانها حين وجدت سالم ينحني اليها ليضمها اليه نصف ضمة بذراع واحد، ثم قبل جبهتها...
اتسعت عينا تيماء بذهول وهي تنظر اليه مصدومة أثناء ابتعاده عنها...
كانت لا تزال تشعر بكفه على ظهرها على الرغم من أنها لم تستقر سوى لحظة واحدة فقط، ثم أمرها بصوت أجش
(اعتني بنفسك جيدا)
أومأت تيماء برأسها بصمت، ثم وجدت نفسها تنطق فجأة من العدم.

(أبي، لما لا ترد أمي الى عصمتك؟، هي تحتاجك و أنت تحتاجها، و في النهاية ستكون خدمة منك لن أنساها ابدا)
وقفت مسك مكانها و هي تنظر الى تيماء متفاجئة، ثم ابتسمت بسخرية قاسية، و تركت الرد لسالم، بينما اهتمت هي بوضع الحقيبة في صندوق السيارة بصمت بارد...
و بالفعل بعد لحظة الصدمة الأولى، تلجم لسانه قليلا، ثم قال أخيرا بجمود
(والدتك كانت صفحة و طويت يا تيماء، لا يستطيع الرجل منا العودة الى صفحة طواها بنفسه).

ساد صمت طويل بينهما و تيماء تنظر اليه بوجه لا يحمل ملامح معينة، فقال آمرا
(هيا الآن الى السيارة مع أختك، ستتأخرين عن موعد طائرتك)
نظرت تيماء الى البناية نظرة حادة بينما كان جسدها ينتفض بقوة، ثم قالت فجأة بحزم
(نسيت شيئا، انتظراني هنا لحظة)
ولم تنتظر الإذن منهما بل انطلقت تجري الى البناية و مسك تهتف من خلفها
(تيماء، ستتأخرين).

لكنها لم تقف، بل تجري و تجري، حتى وصلت الى السلالم فصعدتها جريا بسرعة دون توقف...
طابق خلف طابق، الى أن وصلت حتى باب شقة قاصي الذي لا يزال مفتوحا، فتشبثت به و هي تلهث بقوة ثم دخلت منه تترنح، مجيلة رأسها في كل اتجاه بحثا عنه...
الى أن وجدته في غرفة نومهما، واقفا ينظر من النافذة، يوليها ظهره...
اذن من المؤكد رآها مع والدها، و رأى كيف ضمها اليه، و كيف عادت جريا دون حقيبتها...

انحنت تيماء تمسك بركبتيها و هي تلهث بصعوبة، حتى شعرت بأن صدرها على وشك التمزق...
ثم رفعت وجهها تنظر الى ظهره و همست من بين لهاثها...
(نسيت شيئا، نسيت أن قبلاتك لم تكفيني).

ظل قاصي مكانه دون حراك و كأنه لم يسمعها، فاستقامت تنظر اليه و هي تقترب منه ببطىء أولا ثم بسرعة، حتى دارت حوله لتقف بينه و بين النافذة، و بنظرة واحدة الى عينيه القاتمتين الحمراوين، رفعت نفسها على أطراف أقدامها لتحيط عنقه بكل قوتها و تسكب قوة لهاثها في الجري اليه عبر قبلة تكفلت بقول ما تريد، بينما غرس أصابعه في ظهرها و كأنه يجرفها كأرض تستعد لتزدهر عما قريب...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة