قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السادس والعشرون

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السادس والعشرون

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السادس والعشرون

(أنا أرفض يا عمي و هذا هو قراري الأخير مع احترامي لك)
اتسعت عينا بدور بذهول و هي تقف في بداية الرواق و يدها على الجدار، ترى للمرة الأولى رجلا يقف في مواجهة والدها الند بالند، لا يخشى نبرته الجهورية أو التسلط البادي في عينيه...
والدها كان ينتفض من شدة الغضب، و يكاد الا يصدق معارضة أمين له، بل و إملاءه للشروط كذلك...
بينما هو في المقابل يبدو واثق من نفسه، هادىء الملامح، ثابت الرأي...

باعدت بدور ما بين شفتيها المرتجفتين قليلا، بينما تاهت عيناها في ذلك المشهد الذي لن تنساه أبدا، و ربما لن يتكرر مطلقا...
علي الرغم من أن راجح أيضا لم يكن ذلك الرجل الذي يخضع لسلطان عمه، لكنه لم يحاول أبدا الوقوف في مواجهته دفاعا عنها لأي سبب...
حتى أن والدها يوما ما قام بسبها أمامه و لم يتحرك أو حتى تختفي الإبتسامة الساخرة من على وجهه...

و يوم آخر، حادثته برعب في أمر ليلة الزفاف التقليدية التي يصر والدها عليها، فأخبرها ببساطة أنه سيساعدها على إجراء عملية تعيد اليها عذريتها زيفا من جديد!
كان يتكلم بطبيعية و بإبتسامة لم تغادر ذاكرتها حتى الآن، و كأنه كان يتحدث عن تضميد حرج سطحي أو خدش على مرفقها!

أما أمين الآن، فقد وقف في مكانه و نظر الى عمه ناطقا بعبارته الأخيرة و كأنه يترك له حرية الموافقة أو الرفض، و الرفض يعني انصرافه دون اتمام الخطبة...
انتفضت بدور و هي تسمع صيحة والدها العالية وهو ينهض من مكانه مندفعا
(كيف لك أن تعارضني يا ولد؟، ليس من حقك معارضة ما يخص ابنتي، الا حين تكون تحت سقف بيتك)
رفع أمين وجهه و قال بنبرة متصلبة أعلى قليلا.

(بل لي كل الحق يا عمي، بدور حينها ستكون زوجتي و أمرها لي، و دخولي بها يخصني، ليس أمرا مشاعا بين البشر كي نحاول اثبات شيء لهم، مجرد التفكير في الأمر يثير نفوري، و الشرع لم يقر شيء كهذا)
هدر عمه مجددا
(اسمع يا أمين، ما أقرر الحفاظ عليه من عادات، لن تغيره أنت، و هذه كلمتي الأخيرة)
رد عليه أمين قائلا بقوة.

(لن أخضع أنا أو زوجتي لهذا العرض المنفر الأقرب الى الفجور مطلقا، و إن كنت ترفض يا عمي فأنا حاليا لا أملك الا قرار نفسي، و الأمر بين يديك الآن، أن توافق على كزوج لبدور أو ترفضني)
كانت والدة بدور تقف خلفها متسعة العينين من الذعر، تلهث بالدعاء و الترجي الصامت...
بينما والدة أمين خلفها تدعو كذلك الا تتعقد الأمور، و ما أن سمعتا كلام أمين الأخير حتى همست أم بدور برعب
(ستتخرب الزيجة، يا رب ما العمل).

قالت والدة أمين من خلفها بأسى
(أمين لن يتراجع، إنه ولدي و أنا أعرفه جيدا، أعرف تفكيره و أعرف حين يصر على قرار، حينها ينتهي الأمر)
التفتت أم بدور تنظر اليها بعينين واسعتين ووجه ازداد شحوبا، و دون أن تفكر أو حتى أن ترد...
كانت مندفعة تتجاوز بدور بكل شجاعة، مما جعل بدور تجفل و تناديها همسا بقلق
(أمي! الى أين أنت ذاهبة؟، ألم يأمرك والدي الا تدخلي الآن؟، أمي تعالي الى هنا. ).

لكن والدة بدور كانت مندفعة في واحدة من تلك المرات النادرة و التي تكاد أن تكون معدومة، تحثها غريزة الأمومة في الدفاع عن طفلتها، مواجهة لوالدها و غضبه...
علامات الإصرار تعلو ملامحها، و الحزم يزين نظرات عينيها الخائفتين...
ثم طرقت على باب غرفة الضيوف و هي تقول دون مقدمات
(يا حاج، هناك اتصال لك)
استدار والد بدور اليها و ملامحه مكفهرة مخيفة، ثم احتد عليها قائلا.

(ليس الآن، اي كان المتصل، سجلي اسمه و أخبريه أنني سأعاود الإتصال به لاحقا)
زجرته زوجته في نظرة ذات مغزى و هي تقول بإصرار غير آبهة بغضبه
(الأمر هام يا حاج، دقيقتين أرجوك)
رأى في عينيها كلام متداخل، فزم شفتيه قبل أن يخاطب أمين و كأنه عامل لديه قائلا بتجهم
(اجلس هنا ريثما أعود)
ثم خرج خلف زوجته ينوي التوجه الى الهاتف وهو يقول متميزا من الغيظ.

(يجدر ان يكون الأتصال هام يا امرأة كي تقاطعينا بهذه الطريقة و الا)
لكن زوجته وقفت في طريقه و قالت بصوت هامس ما أن ابتعدا عن غرفة الضيوف
(ليس هناك أي اتصال، أنا من تريدك)
أظلمت ملامح والد بدور و اكفهرت أكثر وهو يقبض على ذراعها فجأة غير مباليا بالسنوات التي زادت من عمرها و جعلت التعامل الجسدي الحاد معها أمرا لم يعد لائقا، و هتف بجنون ناظرا الى وجهها الشاحب
(هل جننت يا امرأة؟، كيف تقاطعينا اذن؟).

كانت ترتجف كطفلة صغيرة و هي تتأوه من قبضته الممسكة بذراعها، قوة تلك الذراع و عنفها ليس السبب بها، مقاطعتها لهما، بل السبب الحقيقي هو غضبه من معارضة امين له و ها هو يفرغ شحنة حنقه في زوجته التي تتحمل دائما و لا تنطق...
لكن هذه المرة قاومت خوفها و همست بشجاعة
(الصبر يا أبا زاهر، الصبر، لقد سمعت جدالكما و اردت التدخل قبل أن تفسد الزيجة).

حفرت أصابعه في لحمها أكثر مما جعلها تشهق ألما بينما قال لها من بين أسنانه
(لقد جننت بالفعل، و إقامتك لفترة مع ابنتك جعلتك تنسين من هو رجل البيت)
ابتلعت زوجته غصة الخوف و هي تقول بصوت مرتجف
(اسمعني أولا يا أبا زاهر، اسمع ما لدي قبل أن نندم)
الا أنه همس بشراسة وهو يزيد من ضغط أصابعه على ذراعها
(على الطلاق إن لم)
الا أنها رفعت يدها و كأنها تريد تغطية فمه بها و هي تقول بنبرة متوسلة.

(حلفتك بالله الا تنطقها، لأجل ولدك زاهر لا تفعل، لا أطلب منك الا أن تسمعني لدقيقة واحدة و لك الأمر بعدها)
نظر زوجها اليها بتجهم وهو يحرك فكه و كأنه غير قادرا على السيطرة على غضبه منها و من أمين...
فانتهزت فترة صمته و اندفعت تقول بكل ما تمتلك من قدرة على الإستعطاف.

(اسمعني يا أبا زاهر، أمين شاب لا يعوض، و نحن لا نريد لبدور الا الستر، لو ضاع من بين أيدينا لن نجد بديلا له مطلقا، لا تنسى أن ابنتك كانت مخطوبة من قبل الى ما يقرب من العام بعقد قران و هذا ينقص من فرصها، خاصة بعد سمعة راجح التي انهارت و طرده من البلد. يزج باسم ابنتك المسكينة دون ذنب لها، الجميع يشير اليها في الكلام بلقب من كانت زوجة راجح الذي فضح عائلة الرافعية بأفعاله، كما أن عرج ساقها).

صمتت قليلا و هي تخفض رأسها محاولة التخلص من الحجر المسنن في حلقها، ثم همست متابعة
(الفرص تضيع من بين يدي المسكينة، لكن شاء الله أن يعوضها بشخص أفضل من جميع من تقدم لخطبتها و أنت أدرى بإبن أخيك، لكنه تربى هنا طوال عمره، و من الطبيعي أن يكون مختلفا في عاداته، لكن الأصل واحد، و ما تختلفان عليه أمر أصبح نادر الحدوث حتى في بلدتنا)
كان زوجها يستمع اليها و عيناه تبرقان بشر، لكنه كان صامت على الأقل...

و ما أن انتهت من الكلام حتى قال مندفعا
(لن يملي أحد شروطه علي، حتى إن بقت دون زواج، إما أن تتزوج بطريقتي و أنا أرفع رأسي بين الرجال و إما أن تبقى كما هي)
أجابته زوجته و هي تشعر بأنها تفقد الخيوط من بين يديها مجددا
(الزواج ستر للفتاة يا أبا زاهر، لن يفيدنا العناد حين يسترد الله أمانته و تبقى بدور وحيدة، خاصة بعد زواج أخيها، تخيل أن تكون في هذه الحياة بلا رجل يسترها!).

أظلمت عينا زوجها وهو يقلب الأمر في رأسه بإنفعال ظاهر على ملامحه...
مجرد تخيل هذا جعل جسده متوترا، متصلبا، و ظل ينظر اليها بحدة قبل ان يزفر هامسا بغضبا
(تبا لإنجاب الفتيات، هم حتى الممات)
تجرأت زوجته و أمسكت بذراعه برفق قائلة.

(استغفر الله يا أبا زاهر، أنت رجل، حججت بيت الله و تعرف ربك، ابنتك نعمة يرجوها الكثير، و ها قد بعث الله اليها من يسترها، فلما الغضب؟، انظر الى من تزوجت من بنات أعمامها خلال العام الماضي، مسك ابنة أخيك سالم، و أختها، تلك التي نسيت اسمها، و كلا منهما لم تتزوج على طريقتنا القديمة)
رد عليها زوجها منفعلا بغيظ و حدة
(هل تقارنين زواج ابنتي بزيجتي ابنتي سالم؟، كلا منهما حطت من هامته بزيجتها، أي مثال هذا؟).

أجابته زوجته بإستعطاف قائلة بترجي
(معظم فتيات العائلة لم يتزوجن بالطريقة القديمة، حتى سوار في زواجها الأول من سليم رحمه الله، لذا لن يعيبك أحد)
هتف زوجها بتوتر و كأنه يحتاج الى مشورتها على الرغم من مكانتها المتواضعة في حياته، و كأنه لا يعرف كيف يتصرف أمام عناد أمين...
(لكن والد زوجة زاهر رفع رأسه بيننا، كيف لي ألا أفعل أنا؟)
قالت زوجته بتوسل.

(يا أبا زاهر، يا أبا زاهر رأسك مرفوع دائما، اسمك وحده يكفي، و الزمن تغير، هل تريد أن يضيع أمين منا؟، إنه الأجدر بإبنتك)
ظل والد بدور صامتا مكفهر الملامح وهو يفكر بتعقيد متداخل، بينما أصابعه تتوتر على ذراعها أكثر، فهمست تطرق الحديد وهو ساخن
(توكل على الله يا أبا زاهر، نريد أن نرتاح من أمر الفتاة، والله الخوف يقتلني عليها).

زفر زوجها نفسا يكاد أن يكون نارا متقدة في موقد، ثم نظر الى باب غرفة الجلوس بتفكير فحثته بأمل قائلة
(هيا يا حاج، اذهب اليه و اقرأ الفاتحة، أمين رجل بحق
و هو أشرف من راجح بمراحل عدة، على الرغم من موافقة راجح على كل شروطك، لكن انظر الى الفرق بينهما، هو من كان يستحق ابنتك من البداية، لكن أمر الله لا اعتراض عليه).

ترك ذراعها بحدة وهو ينظر حيث يقف أمين متحركا في غرفة الضيوف و يداه في جيبي بنطاله، ثم خاطبها بإنفعال و غضب
(ادخلي أنت، هيا من هنا)
تركته زوجته على مضض و هي تدعو الله من كل قلبها أن يستمع الى صوت العقل و الحكمة، بل و الرحمة أيضا، تعرف بأن موقفها قد انتهى عند هذه اللحظة و أي كلمة إضافية منها سوف تقلب الأمر الى أسوأه...

بينما دخل والد بدور الى أمين الذي توقف عن الحركة و نظر اليه منتظرا، و طالت الحرب الصامتة بينهما بتوتر...
الى أن قال والد بدور أخيرا على مضض و بضيق
(هل غيرت رأيك؟)
هز أمين رأسه ببطىء، ثم رد بتهذيب قائلا
(لا يا عمي اعذرني، لن أغيره، كل مبدأ تربيت عليه يوما يرفض ما تشترطه، و صدقني هذا اكراما لبدور، و إكرام بدور من إكرامك يا عمي)
ظل عمه صامتا وهو ينظر اليه بغضب طويلا، ثم قال أخيرا بنفاذ صبر و حدة صوت.

(حظك الطيب أن أم زاهر ترجتني لأجلك، ولولا هذا والله لما كنت وافقت)
ابتسم أمين براحة دون تعليق، بينما رفع عمه كفيه قائلا بجفاء
(فلنقرأ الفاتحة)
رفع أمين كفيه هو الآخر، و ما أن انتهيا حتى انطلقت الزغاريد من الداخل من بين شفتي كل من والدة بدور ووالدة أمين...
أما بدور فكانت لا تزال واقفة مكانها، تستند برأسها الى الجدار، و هي تنظر الى أمين المبتسم عن بعد...

و عبارته الرجولية تضرب ذهنها كصفعة موجعة، و لذيذة، لذيذة جدا
إكرام بدور من إكرامك يا عمي، لم تدري أن شفتاها كانتا مبتسمتين، بينما الدموع محتجزة في عينيها، الا حين شعرت بنفسها تدور الى صدر والدة أمين التي احتضنتها بقوة و هي تهنئها قائلة بصوت مختنق
(مبارك يا حبيبتي يا زوجة الغالي)
ضحكت أم بدور و هي تبكي قائلة بسعادة و كأنها ملكت الدنيا و ما بها
(هل زوجتيهما بالفعل يا أم أمين؟).

ردت ام أمين عليها قائلة و هي تضم بدور أكثر
(هي زوجته منذ هذه اللحظة، كما أنه أصبحت لدي ابنتين و ليست واحدة)
أغمضت بدور عينيها و هي تتشبث في ملابس زوجة عمها بأظافر صغيرة كقطة خائفة، تتمتع بهذا الكرم الجديد عليها...
أما أمين فكان يصافح عمه مهنئا، ثم سأله بهدوء
(هل يمكنني الإتصال ببدور منذ الآن؟)
تجهمت ملامح عمه في لمح البصر و قال سريعا بتوجس
(لماذا؟، ماذا تريد منها؟)
ارتفع حاجبي أمين، الا أنه قال بصبر.

(الزفاف بعد شهر يا عمي، و نحتاج الى الكلام قبلا، هل هناك مشكلة في هذا؟)
بدا عمه رافضا متضايقا، فقال أمين بصوت متصلب
(أتذكر أن راجح كان يقوم بإيصالها من كليتها الى البلدة سفرا، و لم ترفض، فهل العيب في شخصي أنا تحديدا؟)
اتسعت عينا عمه وهو ينظر اليه بصدمة، قبل أن يقول بجفاء اجش
(راجح كان زوجها، بالطبع مجرد عقد قران، لكن كان هذا كي يعتني بها في المدينة أثناء دراستها)
رد عليه أمين ببساطة.

(و أنا خطيبها، و لا أريد سوى الكلام معها، كنت أفعل هذا يا عمي قبل الخطبة و كنت ألبي طلبات زوجة عمي و نقوم بزيارتهما، فهل اختلف الأمر الآن؟)
بدا عمه نافذ الصبر، على حافة فقدان السيطرة في أي لحظة، ثم قال أخيرا بعدم رضا
(يمكنك ذلك)
ابتسم أمين وهو يقول بعفوية زادت من حنق عمه
(شكرا يا عمي، أقدر لك هذا و أعدك الا أستغل الوضع)
ظل عمه ينظر اليه متجهما، ثم سأله أخيرا بضيق مكتوم.

(ضربت الآن مثلا براجح و، و امتيازاته السابقة، الا يضايقك هذا؟)
هز أمين رأسه وهو يقول بهدوء
(بل قصدت هذا، لأفهمك أنني لن أستخدم هذا الموضوع ضدها يوما و هذا وعد مني بهذا يا عمي، بدور ابنة عمي و هي لم ترتكب ما يشينها أبدا)
لانت ملامح عمه قليلا وهو ينظر اليه بطرف عينيه غير قادرا على مقاومة طيف اعجاب غادر ظهر بهما...

أما بدور فكانت تقف بعيدا، تنظر اليه كالمشدوهة، و قد سلب أنفاسها، ليت السعادة كانت أطول عمرا...

أمين، أريد الكلام معك، ربما لم نحسن الكلام معا في آخر مرة، لكن هذا لا يعني أن نتقاطع كالأطفال، من فضلك اتصل بي، أنا لن أفعل حتى تفعل أنت،
جلس على سريره ببطىء وهو يفك أزرار قميصه بأصابع ثقيلة، بينما تتحرك عيناه على نص رسالتها للمرة العاشرة ربما...
ثم رفع عينيه وهو ينظر بعيدا زافرا بقوة، بداخله انفعالات غريبة، لا يستطيع تفسيرها...
لأول مرة يشعر بأنه لا يفهم نفسه...

لقد عاد للتو من بيت عمه وهو يشعر بالسعادة، نعم بداخله سعادة بخطبته لبدور، سعادة لم يظنها قبلا...
أما الآن فقد انقلبت سعادته الى ضيق، ضيق قاتم يكاد أن يطبق على صدره...
ما معنى هذا بالضبط؟، هل هو خلاف بين عقله و قلبه؟
لكنه لم يجد الوقت حتى كي يحدد، قلبه الى أي منهما يميل؟
همس صوت خبيث في أذنه.

كم من الوقت تحتاج؟، ياسمين تعرفها منذ أكثر من عام، بينما بدور هي ابنة عمك، تعرفها منذ ولدت، كم من الوقت تحتاج كي تتعرف الى من يميل قلبك؟، أغمض أمين عينيه وهو يطرق برأسه...
علي الرغم من معرفته بياسمين منذ أشهر طويلة، الا أنه لم ينجذب اليها الا لفترة قصيرة جدا، تشعره بأن الأمر لم يكن حقيقيا نوعا ما، و هي بصدها له أفهمته أن سلطته عليها منعدمة...

كيف كان له أن يعتذر لها؟، هل يحل ارتباطا لم يعقد من الأساس؟
انجذاب ياسمين الواضح له و صراحتها في التعبير عن مشاعرها له سلب عقله و جعله ينجذب اليها بسرعة البرق، لكن تمردها يبني بينهما ألف حاجز، وهو لا يريد سوى حياة بسيطة...
فكر أن يتجاهل الرسالة، لكن ضميره أبى أن يفعل و كأنه مجرد جبان حقير...
لذا أخذ نفسا عميقا قبل أن يكتب نص رسالة اليها...

ياسمين، نحن لن نحسن الكلام معا أبدا، أنا و أنت مختلفان تماما و هذا ما كنا نحاول أن نتجنبه و نغض أعيننا عنه، لكن سرعان ما كان ما نتجنبه ليكبر و يتعقد الى أن ينفجر بنا ذات يوم...

ربما كان لقاءنا الأخير هو الإنفجارة الصغيرة التي وضحت لنا حقيقة اختلاف طباعنا، ربما علينا أن نكون ممتنين لأنها كانت اشارة صغيرة كي نتوقف عما نفعل، فالإنفجار الأكبر من المؤكد سيكون موجعا أكثر، أنت سيدة رائعة، بكل معنى الكلمة، و ربما كان العيب في أنا، لكن هذا هو أنا، لا أستطيع أن أغير من نفسي و لا أريد ذلك، لذا كان سيحدث أمر من اثنين، إما أن أجبرك على تغيير طباعك بالقوة و هذا ما لم أفعله من قبل، حتى أن بعض منه مع أختي يجعلها تقترب من مرحلة كرهي...

و إما أن أخضع لما أرفضه و حينها سأفقد جزء من احترامي لنفسي كما اعتدت عليها...
لقد خطبت ابنة عمي اليوم، ربما ترين في شخص حقير، و ربما كنت كذلك، الا أنني لست نادما، بعض التعقيدات تحتاج الى حل حاسم، أنا آسف، و أتمنى لك الرجل الذي يقدرك كما تستحقين، لكن اعتني بنفسك و لا تمنحي ثقتك الى أي كان، وداعا،
تردد ابهامه في الضغط على زر الإرسال، وهو يرى مدى قسوة تلك الرسالة...

لكنه شعر بأنه يدين لها بها على الأقل، لذا ضغط على الزر وهو يتنفس بقنوط قبل أن يستلقي في فراشه ببطىء و ذراعه تحت رأسه، ينظر الى السقف غير قادرا على تحديد مشاعره في تلك اللحظة...
ربما كان العقل يخبره أن يقضي الليلة في التفكير و تحليل دواخل نفسه...

لكن للأهواء رأي آخر، لذا حين ازداد احساس القتامة بداخله من مدى قسوة الرسالة، اختار أن يخفف عن نفسه، لذا أمسك بهاتفه مجددا و دون أن يدري وجد نفسه يبتسم قليلا وهو يستدعي اسم بدور، التي سجلها على هاتفه بدورة...
و دون انتظار طلب رقمها، و انتظر، مر وقت حى ظن بأنها نامت، لكنها ردت أخيرا بصوت خجول شديد الخفوت...
ازدادت ابتسامة أمين اتساعا و تسلية، فقد كانت هناك نبرة من عدم التصديق تشوب صوتها الخجول.

و كأنها مندهشة من اتصاله بها بهذه السرعة...
كم يحب خجلها هذا!
لذا بادرها بالقول مباشرة
(مبارك يا عروسي)
تحشرج صوت أنفاسها قليلا و هي تقول بهمسة غبية
(م، ماذا؟)
أجابها أمين ضاحكا بصوت خافت
(أبارك لك، يا عروسي، ألست عروسي يا بدورة الصغيرة؟)
سمع صوت شهقة خفيضة زادت من استمتاعه، ثم تنازلت بالرد أخيرا و هي تقول
(لست، بعد)
عاد ليضحك بصوت أجش ثم قال بنبرة خبث
(سرعان ما ستصبحين، هل تصدقين أن الزفاف بعد شهر فقط؟).

ساد صمت قصير، ثم سألته فجأة بخفوت
(هل أنت سعيد لهذا؟، ظننت أنك تحتاج وقتا أطول لكن والدي ضغط عليك)
أجابها بصوت دافىء أكثر من المعتاد
(لا أحتاج الى وقت الا لتنهي عامك الدراسي، لكن بإمكاننا أن ننجز هذا سويا، في بيتنا)
ساد الصمت مجددا فكاد أن يقسم على احمرار وجهها، فقال مباشرة
(كنت جميلة للغاية الليلة، و أتسائل أين كانت عيناي من قبل! كيف لم اراك و قد كبرت و أصبحت شابة بمثل هذا الجمال!).

صمت مجددا، ثم سمع صوت تحشرج أنفاسها، فعقد حاجبيه وهو يسألها بقلق
(بدور، هل تبكين؟)
لم تجبه، الا أنه استطاع أن يسمع صوت نشيج ناعم خافت، فقال بخفوت عميق
(لا أعتقد أن الأمر يخص والدك وحده هذه المرة، لم يحسن معاملتك أبدا، اليس كذلك؟)
همست بخوف مرتجف و كأنها تلعق دموعها عن شفتيها المرتعشتين
(من، من تقصد؟)
أجابها مباشرة و دون تردد
(راجح).

ظلت بدور صامتة لفترة أطول، و لم يقطع هو الصمت، كان صمتها و كأنها تشكو اليه طويلا، و كأنه يسمع شكواها، حتى همست في النهاية بصوت لا يكاد أن يسمع
(لا، لم يفعل)
ثم صمتت غير قادرة على النطق بالمزيد، مما جعله يسألها بهدوء على الرغم من بعض التوتر الذي ظهر بنبرته
(بدور، هل، هل تحبينه؟، لا أطلب منك الا الصدق)
شعرت و كأن قبضة جليدية قد أطبقت على صدرها...
لا أطلب منك الا الصدق...

عبارة لو كانت تقتل لأردتها صريعة على الفور، فظلت صامتة تحاول التغلب على الألم الذي عصف بها ثم اجابت بالإجابة الصادقة الوحيدة التي تملكها
(لا أمقت شخص أكثر منه في هذه الحياة، و أتمنى الا أراه أبدا، لقد ازداد كرهي له و أنا أراك واقفا أمام والدي تواجهه دفاعا عما أريد و عما يحط من كرامتي، سميت بالله بداخلي و أنا أراك رجل بحق، فليحفظك الله يا أمين لوالدتك و أختك، و يجعلك سندا لهما طوال العمر).

ارتفع حاجبي أمين وهو يسمع بدور التي بالكاد تنطق في العادة، تتحدث بمثل هذه الطلاقة و العفوية، و كأنها تتغزل به دون خجل، مما جعل رعشة من السعادة تلامس كيانه على نحو مختلف...
فابتسم و صمت، و كذلك هي، و ظلت فترة الصمت بينهما دون أن يسأل أحد منهما الآخر عن مكانه...
الى أن قال أخيرا بهدوء خافت
(بدور، أعدك ألا أؤذيك أبدا، و أن أصلح ما أفسده هو).

سمع صوت بدا و كأنه شهقة أخرى أكثر اختناقا، و سادت فترة من الصمت الى أن همست أخيرا بنبرة مرتجفة
(أمين، هل يمكنني أن أطلب منك طلب؟)
رد أمين دون تردد
(يمكنك هذا الآن و بأي وقت لاحق)
صمتت بدور للحظة ثم تابعت بصوت رقيق مترجي
(لا تقطع وعود، ارجوك)
سألها أمين بصوت أجش
(الا تثقين في وعد أقطعه لك يا بدور؟، أنت تسيئين الحكم على بسبب شخص تم تصنيفه بالخطأ في سجل الرجال)
لعقت بدور شفتيها و همست بقلق.

(هل، هل تعرف سبب طرد العائلة، له؟)
أجابها بتوتر
(بعض الأمور لا تبقى خفية تماما و تتناثر شظاياها، فريد لا يقبل الكلام في الأمر، لكن للأسف، بعض منه وصلنا)
لم تستطع سوى النطق بكلمة، (نعم)
حينها سألها بصوت قاتم
(كان مهووسا بأخرى، هل هذا ما آلمك؟، لم يشعرك بأنك فتاة تستحق كل اهتمامه)
مجددا كان ردها كلمة واحدة فقط، لكن هذه المرة كانت (لا)
أخذ أمين نفسا عميقا، ثم قال بصوت حنون رقيق.

(لا بأس يا بدورة، كل هذا انتهى الآن، و ستحصلين على اهتمامي كاملا)
ظلت بدور صامتة، فقال لها بنبرة متسلية
(حتى أنني سأساعدك في الدراسة بعد زواجنا، و سأكون صارما معك، فأعاقبك إن أهملت، و أكافئك إن اجتهدت)
أفلتت منها ضحكة قصيرة أسعدته فتابع يقول بنبرة مختلفة عن صوته العادي
(لكن، ربما قد ألهيك قليلا، سيكون وضعي صعب جدا و أنا أحاول منع نفسي عنك في شهر عسلنا كي لا يضيع كل وقتك).

الآن سمع شهقة جديدة، الا أنها كانت شهقة ذات مذاق مختلف، شهقة صدمة و خجل...
مما جعله يضحك بإثارة، و ما أن وجدت صوتها حتى قالت و هي تسعل قليلا
(لقد وعدت والدي بأنك لن، لن تستغل اتصالاتك معي)
هذه المرة لم يستطع منع نفسه من الضحك عاليا بطريقة أشعرتها أنها تكلم رجل، رجل جذاب و حنون و متحكم في نفس الوقت...
أخيرا قال لها بخبث
(ألزمتيني الحجة، يبدو أنني لست قادرا على الوفاء بكل الوعود).

أغمضت بدور عينيها، ثم همست برقة
(أنا أثق بك جدا يا ابن عمي)
ابتسم أمين بجذل، ثم قال يداعبها
(و أنت لذيذة جدا يا ابنة عمي)
رمشت بعينيها محاولة أن تسيطر على ارتباكها، ثم قالت محاولة تغيير دفة المداعبة الخفية و قالت بقلق و أسف
(أنا لم أعتذر منك بسبب، بسبب تعثري و ما حدث لقميصك)
ابتسم أمين و أجابها قائلا برقة
(أمك فعلت)
ارتفع حاجبيها و همست بصدمة
(فعلت؟، متى؟)
أجابها بخفوت.

(في لحظة خاطفة تكلمت معي جانبا، و اعتذرت لي عن تعثرك، و أخبرتني أنك وقعتي أكثر من مرة كي اكون أكثر رفقا بك، كانت تترجاني في الواقع)
أغمضت بدور عينيها و هي تهمس بخزي يتضاعف داخلها
(ياللهي!)
قال أمين بهدوء
(لا تشعري بالخجل، لقد رق قلبي لها، إنها طيبة جدا، و تحبك جدا، ربما تتصرف بطبيعتها و قد يختلف معها الكثير، الا أنها أم طيبة جدا)
أخذت بدور نفسا عميقا ثم قالت بشرود.

(إنها كذلك، لم أراها يوما سعيدة سعادة خاصة لنفسها، سعادتها تتمثل فقط فيما نناله نحن)
أجابها أمين بجدية فجأة و كأنه ينتزعها من شرودها
(بدور، يمكنك الوقع بالقدر الذي تريدين، سأكون موجودا كي أساندك).

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة