قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل العاشر

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل العاشر

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل العاشر

فتح عينيه بصعوبة بعد نوم ثقيل جاء بعد تعب مضني، و كأنه كان في حاجة الى ساعات و ساعات منه...
دون أن يوقظه شيء أو يتخلل أحلامه حتى، فقد كانت أحلامه بأكملها متمحورة حولها...
حول الملكة...
رمش بعينيه وهو يحاول افاقة عقله كي يستوعب مرأى هاتين العينين الجميلتين المحدقتين به...
و ما أن استفاق أخيرا، حتى رآهما بكامل كيانه...

عينان بلون العسل الصافي، مشرقتان بنظرة لم يراها بهما من قبل، نظرة عشق، مقترنة ببعض الحزن...
نظرة تملك و كبرياء بهي...
نظرة ملكة...
تحرك ليث قليلا ببطىء الى أن استند لمرفقه و هو لا يزال ينظر اليها، نصف مستلقية بجواره، تبدو جميلة بشكل استثنائي موجع...

في استلقائها الهادىء و غطاء السرير يلفها بإحكام، لا يظهر منها سوى كتفيها، الا أنه مثير أكثر، خاصة وهو يعلم تماما ما يخفيه بأسفله، كل ذرة منها يحفظها عن ظهر قلب...
رفع ليث كفه يلاحق بأصابعه ملامح وجهها الملوكية برقة تبدو كلمسات فراشة مترددة...
ثم همس أخيرا بصوت أجش خشن من فرط انفعاله
(ملكة، لا يليق بك الا أن تكوني ملكة).

أسبلت سوار جفنيها و هي تبتلع ريقها بصعوبة، بينما قلبها ينتفض بجنون مع لمساته الرقيقة و صوته الأجش، و الكلمات! يا لها من كلمات صادرة على لسان عاشق، قلبه كالحجر، و كرامته بينهما حاجز...
لعقت سوار شفتها السخية و هي تقول بصوت وقور و أنثوي، لا يعكس خجلها و اضطراب مشاعرها...
(صباح الخير، لقد، لقد أطلت النوم).

لم تتوقف أصابعه عن ملامسة ملامحها، نزولا الى فكها و عنقها الطويل، فتحشرج النفس مرورا بحلقها تحت أصابعه و تشنجت عضلاته...
تكلم ليث قائلا بصوته الخافت بينما عيناه تتأملانها و كأنه يراها للمرة الأولى...
(لقد نال التعب مني على ما يبدو)
علي الرغم الحزن الظاهر في عينيها، الا أنها لم تستطع السيطرة على شبح ابتسامة متلاعبة التي طفت على زاوية شفتيها، فقالت بصوت كالخرير همسا، و هي تتجنب النظر اليه.

(بالطبع سينال التعب منك بعد ليلة كهذه، متى ستقر و تعترف بأن للعمر أحكامه)
داعبت أصابعه حافة الغطاء الملتف حولها، بينما برقت عيناه بإبتسامة مندهشة، ثم قال بصوت أكثر خشونة و خفوتا.
(من يستطيع التفكير في العمر، بينما ترافقه ملكة متوحشة العواطف كتلك التي شاركتني ليلة من الأحلام! حتى إن توقف قلبي، فالأمر يستحق المجازفة يا وحش الليل).

سارعت سوار بوضع أصابعها على فمه بقوة و هي تهتف همسا بخوف و قسوة في آن واحد
(هشششش، إياك و أن تعيد هذا الكلام مجددا)
الا أن ليث لم يتراجع و لم يفقد ابتسامته وهو يهمس مقبلا كل اصبعا من أصابعها الملامسة لشفتيه، بينما عيناه ترفضان ترك عينيها الذهبيتين المشعتين.
(الموت، حقيقة لا يمكن إنكارها يا مليحة)
تغلبت القسوة على الوهن فصرخت به بصرامة ووقاحة
(اخرس).

ارتفع حاجباه و توقف عن تقبيل أصابعها للحظة وهو يسألها بصدمة
(من هذا الذي أمرته بأن، يخرس!)
لم تتراجع سوار و لم تشعر بالخوف بل قالت بصرامة أكبر و هي تنظر الى عينيه بوحشية
(أنت، ما الذي دهاك كي تتكلم عن الموت و نحن في وضع كهذا!)
ضاقت عينا ليث قليلا وهو يقول بصوت أجش خافت متأملا عينيها
(و هل يمكنني الكلام عنه في وضع آخر، أكثر احتشاما ربما!).

احمرت وجنتا سوار قليلا، الا أنها لم تتراجع و هي تأمره بصرامة و كأنه أحد خدمها المطيعين
(و لا في أي وقت، لا تتكلم عن الموت اطلاقا)
قبضت أصابعه على ذقنها بقوة وهو ينظر الى عينيها بقوة، ثم قال بصوت هامس أجش
(الى أي حد يؤلمك الكلام عن الموت يا مليحة؟)
أظلمت عيناها قليلا و طفت سحابة الحزن عليهما فغشت نظرة العشق و أطفأت بريقها للحظة، و قالت بصوت مختنق.

(يؤلمني جدا، فقدت الكثير يا ليث، حتى لم يعد لي سواك، و كان من المفترض بك أن تكون بجواري في كل فقد فقدته، كان عليك أن تكون موجودا حين فقدت أمي، و كان هذا هو الفراق الأكثر ألما في حياتي، كان يجدر بك أن تكون واقفا في مقدمة مستقبلي العزاء بعد وفاة والدي، و بعد انتهائه تأخذني بين أحضانك و تخبرني أنك متواجد معي، بجواري، ستكون لي الوالد و الزوج و الحبيب و كل شيء آخر في هذه الحياة، كان على أن آخذك بين أحضاني بعد وفاة سليم رحمه الله و أهون عليك فراق صديقك الأقرب).

صمتت قليلا و ارتجفت شفتيها و هي تنظر الى عينيه الداكنتين المتألمتين، ثم تابعت بصوت أكثر همسا...
(كان عليك أن تحارب أكثر قليلا، كي تحصل علي، كان عليك أن ترفض رفضي لك منذ عمر بأكمله، تمسك بكتفي و تهزني بقوة لتصرخ بوجهي آمرا، لن أقبل بالرفض جوابا يا سوار، لن أسمح لك بأن تتسببي في ضياع العمر الثمين من بين أصابعنا، كان عليك أن تجبرني على رؤية حبي لك).

ارتجفت شفتاها و بدت غير قادرة على النطق أكثر، بينما كان هو ينظر اليها عاقدا حاجبيه بشدة وهو يستمع منها الى كلمات لطالما تمناها بألم، لكن حين سمعها أخيرا، لم يتخيل أن تكون موجعة الى هذا الحد...
همس ليث بصوت متحشرج خافت
(هل تلقين اللوم على يا مليحة؟، فماذا عني أنا اذن؟، لوم و عتاب سنوات لن يكفيني تجاهك)
أخفضت عينيها المتألمتين، الا أنه شدد قبضته على ذقنها و أمرها قائلا.

(لا لا، لا تتهربي بعينيك، انظري إلى يا ملكة و أخبريني عن حبك مجددا، لربما حينها تمكنت من تقليل عتابي لك)
رفعت جفنيها و نظرت اليه قائلة بهدوء و دون تردد، بنبرة خلابة في سحرها
(أحبك يا ليث، ربما ليلة كاملة من اعلان حبي لك بكل طريقة ممكنة لا تكفي كي تمحو ما كان بيننا لسنوات طويلة)
اخفض ليث يده عن ذقنها حتى أحاطت بعنقها و استقام قليلا لينظر الى عينيها بوضوح أكبر، ثم قال بصوت خشن...

(اعترافك يا ملكة لن أكتفي منه لآخر يوم في عمري، تكفيرا عن كل يوم ابتعدت فيه عن صدري)
رفعت سوار يدها و كانت هي المبادرة لملامسة وجهه القوي هذه المرة، تتأمل عينيه الصريحتين، ثم قالت بصوت خافت مختلف و هي تدقق النظر أكثر بهاتين العينين
(سأتوقف عن منع الحمل بإرادتي، أريد أن أكون أم طفلك الوحيدة يا ليث)
ساد صمت طويل بينهما و كلا منهما ينظر الى الآخر بنظرة حادة، كمحاربين في حرب شعواء...

الى أن رفع ليث حاجبه و قال بصوت غريب متسلي
(لقد منحتيني شرف عظيم بقبولك أن تكوني أما لأطفالي يا مليحة، لكن هل لي أن أسأل إن كان هذا التغيير المفاجىء ما هو الا تطور مشروط بتراجعي عن الزواج من دليلة؟)
في لحظة واحدة رأى نظرات عينيها تتغير و تطلق شرارات يعرفها جيدا، قادرة على إحراقه و احراق المكان من حولهما لو أحبت، ثم تكلمت أخيرا بصوت يرتجف من فرط الجنون و الرغبة في القتل.

(ليث، ليث كن جادا، أنت لا تنوي الزواج منها، أليس كذلك؟، أنت تعاقبني فقط)
ارتفع حاجبيه بدهشة حقيقة و استدار اليها متكاسلا، ناظرا الى عينيها الحارقتين، ثم سألها بهدوء
(كيف هذا يا مليحة؟، هل تعرفين عني التلاعب بمشاعر البشر، لمجرد أن أعاقبك فقط؟، ألهذه الدرجة ترين انعدام الرجولة في شخصي؟)
أغمضت عينيها و هي تحاول ابتلاع تلك الغصة المرعبة في حلقها، ثم همست بصوت مختنق
(أنت سيد الرجال يا ليث).

و اثناء اغماض عينيها، لم ترى الإبتسامة الرجولية التي اتسعت و شملت وجهه بأكمله...
لكنها شعرت بأصابعه التي تداعب عنقها بحركة أكثر شغفا، فإبتلعت تلك الغصة مجددا و كأنها تأبى أن تختفي، و شعرت أصابعه الحساسة بحركة حلقها المتألم، فتمهل كي يتذوق كل لحظة ألم تعيشها غيرة عليه و رغبة في التملك، أن يكون لها وحدها، كما هي له وحده...
و أخيرا فتحت عينيها تنظر اليه بتضرع و هي تهمس.

(اعتذر لها يا ليث، اذهب الى أهلها و أعتذر لهم)
ارتفع حاجبيه أكثر و قال ببساطة منتهية
(أنا من يعتذر؟، فيما أخطأت يا مليحة؟، أنا ألتزم بكلمة قطعتها زوجتي، مالكة قلبي و التي كلمتها سيف على عنقي)
هتفت سوار بصوت يائس مرتجف
(و ها أنا أصدر كلمة أخرى يا ليث، لماذا لا تنفذها؟)
أبعد ليث يده عن عنقها و قال يوقفها بحزم
(لا، ليس حين يتعلق الأمر بالتلاعب بحياة الناس يا سوار، حينها، لن أنفذ لك رغباتك).

صرخت فيه بقوة و غضب، بينما قلبها يصرخ أضعافا بعذاب و قهر
(ما أروع هذا، تسارع في لمح البصر لتنفيذ أمري حين يتعلق الأمر بالزواج من أخرى، أنت حتى لم تتخذ دقيقة واحدة كي تفكر في الأمر)
ابتسم ليث دون مرح وهو يتطلع الى عينيها الشرستين، ثم قال ببرود.

(و هل منحتيني فرصة للتفكير يا مليحة؟، لقد فاتحت الفتاة في الأمر و خطبتها لي دون حتى أن تتحلي ببعض الذوق في استشارتي أولا، أتعرفين ما هو الأسوأ من هذا بأكمله؟، الأسوأ هو أنك اخترت الفتاة التي سمعتي برغبتها في الزواج بي قبلا، لقد قمت باستغلال ما سمعتيه خلسة و تصرفت بناء عليه، لقد اخترت فتاة موافقة من البداية يا سوار، ماذا تظنين الناس؟، خدم لديك يا مليحة؟).

فتحت فمها و كادت أن تصرخ فيه بجنون قبل أن تنشب مخالبها في مقلتي عينيه الوقحتين المبتسمتين...
كادت أن تشوه وجهه الوسيم المتفاخر بوقار و تمزقه شر تمزيق...
الا أن ملامحها ظلت محتفظة بقناع غريب بارد، بل جليدي و هي تنظر اليه، تتخيل كيف يمكنها أن تعذبه الى أن يستغيث...
ثم قالت أخيرا عوضا عن هذا كله بصوت باهت و ابتسامة باردة
(لما لا نترك الأمر قليلا، سأذهب لأعد الفطور).

استدارت لتنهض من السرير، الا أنه أمسك بذراعها يعيدها مجددا ليعلوها و هي مستلقية تنظر اليه بعيني ملكة غاضبة، فابتسم الى هاتين العينين و قال بصوت أجش واثق
(لينتظر الفطور، فهو لن يطير)
الرغبة في القتل انتابتها مجددا و على درجة أشد شراسة، الا أنها قابلته بابتسامة أكثر برودا و استسلاما زائف...
لكن البرود لم يلبث أن تحول الى شغف لم تستطع كبته خلال الدقائق التي تلت...

قفزت تيماء شاهقة فجأة مستيقظة في السرير الوثير الضخم و هي تنظر حولها غير مستوعبة للمكان الغريب المحيط بها...
فنظرت بعينين متسعتين الى الأثاث الخشبي العتيق و الضخم و الذي يكاد أن يصل الى سقف الغرفة رغم ارتفاعه، حتى أنها كانت لا تزال تشعر و كأنها أسيرة الكابوس الذي انتابها، و أن الأثاث يزداد ضخامة و على وشك ابتلاعها...
رفعت تيماء يدها لتضعها على صدرها المنتفض و هي تلتقط أنفاسها بجهد...

كان للجو رائحة مميزة من حولها، تشبه الخشب المحترق، لكن بعطر أخاذ، مع برودة الصباح الباكر و الضوء الرمادي الشاحب سمعت صوت اليمام بلحن منظم جعلها تنظر الى النافذة عن بعد و تبتسم رغما عنها...
لقد بدأ الأمر ككابوس، و الآن يتحول الى حلم قريب من القلب، و كأنها اعتادت المكان...
و كأنها عادت الى بيتها و موطنها...
لقد سافرت أكثر من مرة، لكنها لم تشعر يوما بجمال الإستيقاظ في مثل هذا الجو الخلاب من قبل...

عقدت حاجبيها قليلا و هي تنظر الى الجهة المجاورة لها من السرير الخالي، فتسرب السحر سريعا و حل محله الخوف فنادت بقلق محاولة البحث بعينيها عبر أجزاء الغرفة المظلمة قليلا
(قاصي! هل أنت هنا؟)
لكن لم يجبها سوى صوت اليمام مع شقشقة الصباح الشاحب...
حينها انقلب قلقها خوفا فأبعدت الغطاء الثقيل و سارعت لتنهض و هي تبحث عنه بنفسها...

و ما أن تأكدت بأنه غادر الغرفة بالفعل حتى أمسكت بهاتفها تتصل به بأصابع متوترة، لكنها فوجئت برنين هاتفه يصل الى أذنها...
استدارت تيماء على عقبيها لتجد هاتفه موضوعا على الطاولة المجاورة لجانبه من السرير الخالي...

و لم تحتاج الى المزيد من التفكير، قبل أن تغتسل و ترتدي ملابسها كاملة لتخرج من الغرفة و هي تجيل عينيها عبر أروقة الدار الساكن، تبحث عن قاصي بعينيها، دون أن تجد الجرأة على مناداته في مثل هذا السكون...
نزلت أخيرا الى الطابق السفلي تتحرك ببطىء عبر البهو الضخم، فرأت ضوء المطبخ مشعل و سمعت أصوات النساء و قد بدأن العمل بالفعل...

اقتربت تيماء من المطبخ الى أن أطلت من بابه تنظر اليهن مبتسمة و هي تكتف ذراعيها...
هي تعرف أم سعيد، و من ينساها بالطبع...
و هناك فتاتين غيرها، يعملن بجد و قد بدأت رائحة الخبز الذي تم خبزه للتو تنتشر سريعا و تسلب العقل...
قالت تيماء بصوت رقيق
(صباح الخير)
التفتت ثلاثتهن اليها متفاجئات و توقفن عن العمل للحظات قبل أن تبادرها أم سعيد قائلة بدهشة
(استيقظت مبكرة يا سيدتي).

عقدت تيماء حاجبيها دون أن تفقد ابتسامتها و قالت بعتاب
(سيدتي! إنها أنا يا أم سعيد، تيماء، الا تتذكريني؟)
قالت أم سعيد بسرعة
(كيف أنساك يا ابنتي، و هل تنسى احدى حفيدات الحاج سليمان؟)
ابتسمت تيماء و هي تدخل الى المطبخ بتمهل قائلة و هي تقطع جزء من أحد أرغفة الخبز لم تستطع مقاومة رائحتها...
(ليس هذا ما قصدته، كنت تتمتعين باستفزازي في زيارتي السابقة).

قالت أم سعيد بحذر و هي ترى تيماء و قد بدأت تقضم الخبز بنهم...
(الوضع تغير، أنت الآن سيدة متزوجة، و أرجو أن تكوني قد ازدت نضجا عن زيارتك السابقة)
ضحكت تيماء دون رد و هي تبحث حولها عن شيء تغمس فيه قطعة الخبز، فسارعت أم سعيد تبعد طبقا عن مرمى أصابعها المتجولة و قالت بحدة
(ابتعدي عن الهريس، كدت أن تموتي بسببه المرة السابقة)
ارتعشت تيماء و هي تقول متذكرة.

(نعم أتذكر، إنها الشطة القاتلة، انكم تضعونها في كل شيء تقريبا، لا ينقص سوى الشاي، من المؤكد أنكم تعانون كثيرا أثناء دخول الحمام بسبب هذه الشطة الحارقة)
نظرت أم سعيد الى كلتا الفتاتين الناظرتين الى تيماء، تكبتان ضحكاتهما و هما تريانها تأكل من طبق الجبن و كأنها لم تأكل منذ ساعات...
فسألتها أم سعيد بقلق.

(تبدين و كأنك تضورين جوعا يا فتاة، لقد أوصلت صينية العشاء بنفسي الى غرفتكما، الا تأكلي أم أن الطعام لم يعجبك؟)
سعلت تيماء قليلا و هي تتجنب النظر اليهن، بينما احمر وجهها الفاضح بشدة و هي تقول متلعثمة
(على العكس، الطعام كان شهيا جدا)
طلبت السماح من الله على هذه الكذبة، فهي لم تذق الطعام من الأساس، و لم يفعل قاصي، فالصينية لا تزال كما هي منذ ليلة أمس...
لأنهما كانا، مشغولين قليلا!

الا أن أم سعيد نظرت اليها بشك و هي تقول
(اذن لماذا تبدين و كأنك تأكلين في آخر زادك؟)
زفرت تيماء و هي تضع الرغيف من يدها قائلة بهدوء
(سبحان الله يا أم سعيد، نسخة من عبد الكريم، لم يجمع الا من وفق، نفس القدرة على الإستفزاز و سد الشهية)
قالت أم سعيد و هي تمط شفتيها.

(أنا لم أقصد شيئا، كل ما قصدته أن زوجا من البط و صفيحة رقائق بالمرق مع أرز بالقشدة، منذ بضعة ساعات قليلة، ربما كان كفيلا بأن يشبعك، لكنني كنت مخطئة على ما يبدو)
نظرت تيماء اليها بيأس و قالت
(لم تكن لقمة خبز تلك التي أكلتها يا أم سعيد كي أستحق كل هذا التحقيق!)
ردت أم سعيد قائلة و هي تعاود الى عملها
(كلي يا ابنتي كلي، الخير خير جدك، أتعشم فقط أن أجد أطباق طعام العشاء فارغة).

عضت تيماء على شفتها و هي تنظر الى السقف بحرج، صحيح، الكذب لا قدمين له...
نظرت أم سعيد اليها بطرف عينيها و قالت بنبرة خاصة
(اذن، لقد تزوجت من قاصي الحكيم، أقصد السيد قاصي الحكيم الرافعي، أقصد السيد قاصي الحكيم ابن)
رفعت تيماء يدها و هي تقول متنهدة
(وصلني المعنى يا أم سعيد، و نعم أنا زوجته)
كانت كلتا الفتاتان تنظران اليها بانبهار، بينما كانت أم سعيد تراقبها خلسة باهتمام، ثم قالت.

(من كان يصدق هذا، قاصي الحكيم يتزوج من حفيدة سليمان الرافعي! دنيا غريبة، لا تدم لأحد)
قالت تيماء بثقة
(قاصي حفيد سليمان الرافعي يا أم سعيد، و عليكم جميعا البدء في تقبل الأمر و التعامل معه)
تنهدت أم سعيد و هي تقول بحسرة.

(قلبي عليك يا رابحة، لم يكتب لك أن تشهدي برائتك بنفسك، و ترين ولدك رجلا ملىء العين، و قد اعترف به الحاج سليمان ولدا، بل و زوجه من حفيدته، عل هذا كله يريحك في قبرك و يعوض عنك ما لم تعيشيه في حياتك القصيرة)
استندت تيماء الى الطاولة و هي تستمع الى أم سعيد بملامح شاحبة، و همست بصوت شارد
(أم قاصي)
أومأت أم سعيد بحزن و قالت
(الظلم سواد، و على الرغم من ذلك، رابح هو من يرحل من هذه الحياة مظلوما و ليس ظالما).

تنهدت مرة أخرى و هي تهز رأسها بأسى هامسة
(قلبي عليك يا رابحة، رحمة الله عليك)
صمتت للحظة و نظرت الى تيماء مدققة النظر بها ثم قالت عاقدة حاجبيها بدهشة
(اتدرين يا ابنتي، فيك شبه كبير منها، كيف لم ألحظ هذا الا الآن؟)
ارتفع حاجبي تيماء بدهشة حقيقية، ترى هل كان قاصي يقول الصدق؟، ظنته مجرد احساس يجتاحه...
فقالت احدى الفتاتين بإنبهار.

(هل هناك امرأة من بلدنا لها نفس لون هاتين العينين يا أم سعيد! إنهما تشبهان الجواهر. )
قالت أم سعيد بنفاذ صبر
(لا أقصد لون العينين، لكن الآن و أنا أستعيد وجه رابحة، وجدته يشبه وجهك يا بنيتي، أو ربما شيء ما آخر يربطك بها. )
ازداد انعقاد حاجبيها و هزت رأسها ملوحة بكفها
(لا أعلم، ربما ما حدث في الأمس لا يزال مؤثرا على نفسي، من كان ليصدق!)
همست تيماء بصوت مختنق على الرغم من عينيها البراقتين بدموع منتشية.

(نعم، من كان ليصدق!)
رمشت بعينيها كي تبعد الدموع عنهما بينما نظرت اليها أم سعيد بنظرة فضولية و سألتها
(اذن، كيف هو الزواج من قاصي الحكيم؟، أدرك أن الفتى عانى ظلما كبيرا، الا أنه كان دائما صبيا عدوانيا شرسا، كيف لك يا ابنتي تحمل طباعه! بينما أنت تربية العز و تعليم الخارج)
أطرقت تيماء برأسها قليلا و قالت بعد فترة.

(بالنسبة لي، فلم تكن حياتي سهلة تماما، على الرغم من العز و الشهادات، لست ضعيفة الى هذا الحد، و بالنسبة لقاصي)
صمتت مجددا، ثم رفعت وجهها تنظر اليهن و قالت بهدوء
(ليس هناك قلبا أكثر حنانا من قلب قاصي الحكيم، يوما ما سيهدأ و تطيب روحه، حتى ان شاب شعر رأسه، يوما ما ستطيب روحه)
هزت رأسها بقوة ثم ابتسمت قائلة و هي تحاول مقاومة ألم قلبها.

(لقد سرقت رائحة خبزكن عقلي، و أنستني أنني خرجت للبحث عن زوجي، ألم تراه احداكن؟)
قالت أم سعيد و تعمل بنشاط لا يناسب عمرها...
(خرج من أكثر من ساعتين، كان الظلام لا يزال محيطا بالدار، سألته إن كان في حاجة الى شيء ما، الا أنه لم يجبني، و كأنه لم يسمعني، و تابع طريقه)
عقدت تيماء حاجبيها و سألتها بقلق
(الا تعرفين الى أن يمكن أن يكون قد ذهب؟)
ردت أم سعيد متنهدة.

(نظرت من النافذة في اثره، رغم الظلام، الا أنني أعتقد أنه اتجه الى أرض الجياد)
أومأت تيماء برأسها و قالت متحركة بسرعة
(نعم أعرفها، سأذهب للبحث عنه هناك)
نظرت اليها أم سعيد و هتفت بدهشة تناديها
(وحدك يا ابنتي، انتظري حتى صعود الشمس)
أجابتها تيماء من الخارج
(النور في الخارج كافي، مجرد دقائق و تشرق الشمس بالكامل)
و دون انتظار ضمت سترتها و خرجت من باب الدار، فلفحها هواء شديد البرودة على الفور أوقفها للحظة...

الا أنها تابعت سيرها عبر الممر الذي لا تزال تتذكره، كانت تسير بتمهل و هي تراقب الأشجار العالية و ثورة الطيور المغادرة لأعشاشها، فابتسمت و أغمضت عينيها تستنشق رائحة الخبز من الأفران اليدوية و رائحة الخشب المحترق...
الحياة هنا يمكنها أن تكون مسكرة للروح...
ما هذا القدر من الجمال!
تنهدت و همست و هي تفتح عينيها.

(ليتني كبرت هنا، ليتها كانت بلدي و ليتها كانت عائلتي، ليتني لم أراها لاول مرة في أسوأ ذكرى لا تزال حاجزا حول قلبي تجاه هذه الأرض الساحرة)
غامت عيناها قليلا و أظلمت، لتقول بعد لحظات
(كفى، كفى يا تيماء، مر عمر بأكمله، بت الآن أكبر من مجرد ذكرى)
وصلت الى أرض الجياد كما يطلقون عليها...
هذا المربع الواسع، ذي السياج العريض، حيث رأت قاصي يروض فرسا للمرة الأولى، و كاد يومها أن يقف قلبها ذعرا عليه...

و الآن و بعد مرور أكثر من عام و نصف، و في نفس المكان، لا يزال خوفها عليه موجعا، بل أنه زاد أكثر...
علي الرغم من أن قاصي لم يكن يروض فرسا هذه المرة، فقد رأته عن بعد، يمتطي فرسا مروضة، و يعدو بها و كأنه يملك الأرض و ما عليها...
وصلت تيماء الى الى السياج فأراحت كفيها عليه و هي تنظر الى قاصي فوق الفرس بنهم...

من أجمل منه في الوجود؟، ذلك المخلوق البري الثائر، و القادر على الإخلال بنبضات قلبها بعد كل هذه السنوات و كانها لا تزال نفس المراهقة المدلهة في عشقه...
ابتسمت قليلا ابتسامة شاردة و هي تلتهمه بعينيها، شعره متطاير بهمجية كذيل الفرس الذي يمتطيه...
منافيا للتهذيب و المنطق و كل ما يخضع لقانون...
مماثلا للفرس و كأنه مخلوق أسطوري آت من فصيلة الخيول الجامحة...

اقتربت من السياج اكثر حتى احتضنته بذراعيها المكتفتين و عيناها لا تزالان تنهلان من رؤيته...
حتى الآن لا يزال يضع يده على قلبها في أكثر أوقاتهما حميمية، كي يتأكد من نبضها المتسارع...
كي يستشعر تأثيره بها، و يقسم على أن أحدا غير قادر على سلبها هذا التأثير مهما فعلوا بها...
الغريب في الأمر، أنه هو من يظنها دائما لا تزال معطوبة بسبب عقاب والدها لها و تحتاج لعلاج تلك الندبة...

بينما هي المثقفة نوعا ما، لم تحاول حتى التعامل مع الأمر، أقصى ما كانت تفعله هو محاولة نسيان الأمر و المضي قدما، لكنها تفشل...
الظروف جعلت طريقها يتقابل مع طريق سالم الرافعي أكثر من مرة، و بدأت تشعر بالضعف تجاهه في مرات قليلة، لكن الذكرى السوداء لا تزال فارضة نفسها بقوة و كأنها تسخر من المحاولة...
رفع قاصي وجهه و نظر اليها فجأة، فارتبكت، الا أنها تذكرت بأنها زوجته، ليس كالمرة السابقة.

لذا ابتسمت له بإرتجاف و رفعت كفها تلوح له بحماس...
الا أنه لم يبادلها الإبتسام، و لم يحاول ترك اللجام كي يلوح لها...
بل أبعد عينيه عنها و تابع انطلاقه بالفرس و كأنه لم يرها من الأساس...
بهتت ابتسامة تيماء حتى اختفت، ثم انحنت لتستند الى السياج تراقبه بصمت، وهو لا ينظر اليها متنازلا ولو بنظرة...

و بعد فترة طويلة، رأته يبطىء حركة الفرس، أخيرا الى أن قفز من فوق ظهرها، ثم اقترب بوجهه من أنفها و همس لها بحنان مبتسما...
ارتفع حاجبي تيماء و هي ترى هذا المنظر، هل يعقل أن تغار من الفرس أيضا!
انها تغار عليه من كل ما هو مؤنث، تبا، إنها حتى لا تستطيع تبين إن كان هذا الفرس ذكرا أم أنثى...
أي أن مستوى غيرتها انتقل الى منحدر أكثر غباءا...
الغيرة من كل ما يستحوذ على حنان قاصي الحكيم، حبه، اهتمامه، تملكه...

ربط قاصي الفرس أخيرا ثم تهادى اليها متنازلا الى أن وصل اليها فوقف مستندا بظهره الى السياج الذي تحتضنه بذراعيها، هو داخله و هي خارجه، لا ترى سوى جانب وجهه و لا تستطيع أن تتبين منه شيئا...
انتظرت منه أن يتكلم أو أن يقول أي شيء، الا أنه بدا في عالم بعيد عنها تماما...
لذا بادرت تيماء محاولة أن تعيده الى عالمها من جديد فقالت بخفوت و حذر
(كيف حالك؟).

ظل قاصي ينظر الى الفضاء الممتد أمامه لفترة ثم قال أخيرا بصوت ساخر
(حالي كحال رجل اعترف جده أمام الجميع أن أمه قد تم اغتصابها و يتوجب على الجميع التوقف عن تلقيبها بالزانية).

ارتجفت شفتي تيماء قليلا، الا انها اقتربت منه خطوة بحذر، حتى باتت واقفة خلفه تماما، لا يفصلهما سوى السياج، فرفعت يدها تضعها على منتصف ظهره، و على الفور تشنجت عضلاته كلها، و ظنت بأنه سيلقي بيدها بعيدا، الا أنه عاد و استكان، فتشجعت و حركت يدها على ظهره برفق و همست.

(أعلم بأنك بعد ليلة طويلة من الإنفعال، استيقظت من النوم، فوجدت أن تلك الدمعة التي انسابت من عينك قد جفت، و أن الإنفعال قد خفت، لتكتشف بأنك لم تربح الكثير فعليا، لم يكن المال هو هدفك، و لم يحظى عمران بالعقاب الذي يستحقه، ووالدتك، والدتك لا تزال في قبرها، لكنها مرتاحة، أنا متأكدة من هذا، مؤمنة به، أنت أجبرت الجميع على إحترامك و هي مظلومة، و الآن ستحظى بإحترام أكبر بعد أن طهرت اسمها، هذا يساوي الكثير يا قاصي).

انعقد حاجبيه بشدة و شعرت بعضلاته تختلج بصعوبة تحت راحتها الناعمة الرقيقة...
ثم ضحكت بعصبية و هي تحاول المزاح
(هل تتخيل أن أم سعيد تظنني أشبه والدتك فعلا! كنت أظنك تبالغ)
رد قاصي بصوت متباعد
(أنت لا تشبهينها، كانت مجرد أحلاما)
شعرت تيماء و كأنه ضربها و أهانها، أرادت الصراخ به معترضة
بلى أشبهها، أنت أخبرتني بهذا و لا يمكنك التراجع...
الا أنها عوضا عن هذا قالت بصوت خافت.

(أخبرتني أنها لا تمتلك نفس لون عيني، بينما قالت الفتاة التي تساعدها بأن عيناي تشبهان الجواهر)
صمتت قليلا و هي لا تدري كيف تخرجه من خلف السياج الذي أحاط به نفسه مع بداية اليوم الجديد...
ثم سألته بمشاغبة
(أتظن أن عيناي تشبهان الجواهر حقا يا قاصي؟، لماذا لا تتغزل بهما على الرغم من أنهما الشيء الوحيد المختلف بي!).

ظل صامتا قليلا بينما هي تبتسم بسخرية و تفكر ما هذا الذي تهذي به؟، محاولة فاشلة كي تخرجه مما هو به...
الا أنها تسمرت مكانها حين شعرت به يتحرك ليواجهها فجأة، كان وجهها مواجه لصدره مع فارق الطول بينهما، لذا انحنى حتى استند بذراعيه الى السياج بذراعيه مكتفين، فأصبح وجهه لا يفصله عن وجهها سوى نسمة باردة تمر بين بشرتيهما...

و وجدت عينين كالجمر الداكن المتقد تدققان النظر في عينيها الواسعتين، مما جعلها تتلون و تحترق و ترتبك و تسبل جفنيها...
لكنه لم يلحظ اضطرابها، بل رد عليها بصوت عميق
(هذا لأنهما ليسا أجمل ما تتميزين به)
رفعت عينيها اليه بدهشة و قالت بخيبة أمل
(ليسا كذلك؟)
هز رأسه نفيا ببطىء وهو لا يزال محدقا في عينيها، ثم قال بصوت أجش.

(أجمل ما فيك هو كيانك المتقد بروح لم أعرف مثلها في أي امرأة سواك، كيانك المتقد هذا يغشي عيني عن تأمل لون عينيك في كثير من الأحيان، و أحيانا أخرى أنسى ما هو لون شعرك الفعلي، حتى تلك الوحمة التي أجوع الى تقبيلها كل يوم، أنسى في أي جانب هي من وجهك، أنت مهلكة و من الظلم ربط سبب هذا بلون عينيك أو جمال شعرك)
فغرت تيماء شفتيها بذهول و هي تستمع اليه كمتسول مسكين...
ثم سألته بغباء
(هل تتكلم عني؟).

ابتسم ابتسامة ساخرة و على الرغم من ذلك بدت في عينيها أجمل ابتسامة في الكون، ثم قال هازئا
(و هل هناك مهلكة سواك؟، و كأنك لا تعلمين!)
رمشت تيماء بعينيها و أخفضت وجهها و هي تقول بصوت مرتجف
(أحيانا، احيانا، أظن بأنني لا أعلم)
رفع قاصي كفيه و استقام ليعدل من حجابها تحت ذقنها و حول فكيها، ثم لم يلبث أن أبقى كفيه حول وجهها يرفعه اليه، حتى نظرت الى عينيه، و كأنه قد أسرهما بقيد خفي، فسألها فجأة و دون مقدمات.

بصوت أجش غريب و نظرات متحجرة
(متى تنوين السفر؟)
فغرت تيماء شفتيها و همست بتلعثم و كأنه أخذها على حين غفلة
(الس، السفر)
أومأ قاصي بنفس التعبير الجامد و العينين اللتين انطفأ الجمر بهما خلال لحظة، ثم قال ببرود
(بلى السفر، لماذا تبدين مترددة اليوم؟، اليس هذا ما كنت تنتظرينه؟)
أخفضت تيماء عينيها و هي تتنفس بسرعة موجعة...
السفر...
ليلة أمس و هي بين أحضانه همست لنفسها بأنها لن تتركه مطلقا، لن يمكنها هذا...

ستتنازل عن دراستها و تبقى معه، فهو بحاجة اليها الآن أكثر من أي وقت مضى و هي لن تتخلى عنه أبدا...
ليس لأجله فقط، بل لأنه الرجل الوحيد في حياتها، بل هو حياتها نفسها...
بدونه تبدو الأيام خاوية و موجعة و متشابهة، باردة كزنزانة رطبة و مظلمة...
ليلة أمس قررت التنازل عن المنحة، فهي لم تكن أهلا لها من البداية...

لكن الآن في ضوء الشمس، و السؤال الصارم صادر من بين شفتيه الجامدتين و عيناه تطالبانها بالجواب الصريح، بدا الرد صعبا للغاية...
المزيد من التنازل...
و ها هي تجعل منه حياتها كاملة، بينما هي جزء من حياته و أولوياته كما ينبغي...
العقل يقول ان التنازل مهزلة في هذه الحالة...
همست تيماء بعذاب و كأنها تخاطب نفسها بجنون
(السفر؟، السفر؟).

كانت تنتفض و ترتجف بشدة، بينما هو يسجل كل تعبير يمر على ملامحها الشفافة، الى أن ابتسم ابتسامة ميتة وهو يسألها ساخرا
(هل هو سؤال صعب الى هذه الدرجة؟، ظننتك قد أعدت خططك جيدا)
كانت تهز رأسها و هي تنظر اليه بارتياع، لا تعلم الجواب، تريد من يرشدها الى الصواب...
فتحت فمها و هي تعيد مجددا برعب
(السفر، السفر).

و لم تدري أن دموعها قد انسابت من عينيها على وجنتيها حتى لامست أصابعه، ابتسم ابتسامة مريرة هذه المرة وهو يراها تصارع نفسها و لا تدري ماذا تفعل...
فداعب ابهاماه وجنتيها برفق وهو يهمس بصوت أجش
(هوني عليك، إنه مجرد سؤال)
مجرد سؤال! إنه يسألها إن كانت تفضل الحياة أم الموت بأمان...
ساد بينهما صمت طويل و كل منهما ينظر الى عيني الآخر، الى أن قال قاصي اخيرا بخفوت متحشرج.

(إن كان هذا سيساعدك، أنا وجدت شريط أقراص منع الحمل بين أغراضك)
فغرت تيماء شفتيها و توقف النفس الخارج من بينهما و هي تنظر اليه بصدمة، و كان الصمت هذه المرة مرعبا...
أخذت نفس مهتز و قالت أول شيء طرأ على بالها
(لقد أخفيته بمهارة، هل تفتش أغراضي مجددا؟)
ابتسم قاصي ابتسامة أكثر مرارة، وهو يجيبها دون تردد.

(بالطبع، كل يوم تقريبا، كنت أحاول اكتشاف إن أصبحت حامل، بعض الأدلة، أتذكرين؟، حتى أنني أقوم بعدها كي يطمئن قلبي، الى أن وجدت الشريط)
كان من المفترض بها أن تغضب و تساعدها وقاحته على التماسك وتقوية قلبها، الا أن هذا لم يحدث...
بل انصهر قلبها أكثر و همست بألم
(ليس هذا من حقك)
ضحك بقسوة و ضغط ابهاماه أكثر على وجنتيها وهو يقول
(كل ما هو يخصك حقي يا مهلكة، هل نسيت عهدنا؟).

ترك وجنتها ليضم قبضته ثم ضرب بها على صدرها وهو يقول بصوت قوي في عمق و كأنه نابع من قلبه مباشرة.

(أنت بأكملك تخصينني، فما بالك ببعض الأغراض التافهة، خاصة و أنها الدليل الوحيد على بقائك أو رحيلك، كنت أدعو الله كل ليلة الا تحملي طفلي، كي لا تنتهي مهمتي و ترحلي به، الى أن عرفت أنك بدأت في منع الحمل بنفسك، للحظة انتابتني سعادة حمقاء، و ظننت أنك قررت التخلي عن صفقتك المؤذية في الحصول على طفل و الرحيل، لكن حين لاحظت أنك لا تزالين على تواصلك مع جامعتك أكتشفت الحقيقة، لقد أفقت يا تيماء، أفقت و أستعدت وعيك تماما، و أدركت أن الرحيل دون رابط يربطنا لهو أسهل و أخف).

كانت تبكي الآن بشدة، تشهق و ترتجف، لكنها استطاعت النطق بعجز
(لكن، لكن هذا لم يظهر عليك ليلة أمس أو قبلها، لماذا لم تثور و تجعل حياتي كابوسا؟)
تنهد تنهيدة عميقة وهو يميل رأسها للخلف و يدقق النظر في عينيها أكثر. ثم قال بخفوت
(لن أجعل حياتك كابوسا بعد الآن، مهما كان قرارك، أنت حرة منذ اليوم)
صدرت من حلقها شهقة غريبة و كأن أحدهم غرس نصلا في منتصف صدرها، الا أنه أومأ لها وهو يقول بخفوت مؤكدا.

(يمكنك التحليق أخيرا، لقد سجنتك لسنوات طويلة و آن لك أن تتحرري)
هتفت تيماء باكية و هي تهز رأسها نفيا بسرعة و خوف
(لا يا قاصي، لقد قررت ليلة أمس أنني لن أ)
لكنه أغلق كل احتاجاتها بأن سحبها الى صدره بقوة حتى نشب خشب السياج في بطنها، لكنها لم تشعر بألمه، فقد كان ألم قلبها أفظع...
و قال بصوت قوي قاسي
(لا تتابعي، لا أريد السماع، قرارك ليلة أمس لن يكون هو ما سيحدد حياتك الآتية).

تشبثت تيماء به بكل قوتها و كأنه يحاول الهرب منها، أو هناك من يحاول خطفه منها، و هتفت برعب
(لن أستطيع يا قاصي، أدركت بأنني لن أستطيع الإبتعاد عنك، أنا أحبك كما لم أحبك أحدا مطلقا)
أغمض عينيه وهو يقبل جبهتها بقوة عنيفة، ثم قال بصوت خشن متحشرج.

(ستفعلين، كي لا يتحول هذا الحب يوما الى كره، ولقد أوشك هذا على الحدوث، و أنا لن أسمح بهذا مطلقا، أنت صغيرة جدا، لم تتمي عامك السادس و العشرين حتى، في قمة شغفك و حبك لهذا العشق، لكن ما أن تمر بك الأعوام و تكتشفين أنك لا تملكين شيئا سوى هذا العشق، سيتحول الى كره، خاصة و أنك سبق و أخترت من هو ليس بقادر على منحك ما تستحقين)
أغمضت عينيها بشدة و همست كالمحمومة.

(لنفكر قليلا، كل شيء له حل، نستطيع أن ننقذ زواجنا، لو أردنا فسنستطيع)
ضغطت أصابعه على ظهرها بقوة و همس بصوت صلب لا يقبل التهاون
(هذا هو ما أفعله، صدقيني)
لم تستطع الرد عليه، كانت عاصفة البكاء أقوى من قدرتها على الرد، لذا تركت لنفسها الشيء الوحيد الى تستطيع فعله في تلك اللحظة، التشبث بصدره و كأنه لوح النجاة...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة