قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الحادي عشر

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الحادي عشر

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الحادي عشر

دخلا سويا الى دار الرافعية، بصمت تام، قبضته تمسك بكفها بقوة...
ملامحه صارمة و باهتة، بينما هي تنظر اليه بعينيها المتورمتين بين الحين و الآخر، و أصابعها تحفر في باطن راحته و كأنها تتأكد بأنهما لا يزالان معا...
أما هو فكان يتعمد الا ينظر اليها في تلك اللحظات، لكنه لم يتخلى عن كفها مطلقا...
نادت أم سعيد من خلفهما بسرعة.

(قاصي، آآآه المعذرة سامحني يا ولدي، اقصد سيد قاصي، الحاج سليمان نزل بنفسه للفطور و يريد للمتواجدين تناول الفطور معه وهو ينتظركما)
حينها نظر قاصي الى تيماء أخيرا، فبادلته النظر بأسى الا أنها ابتسمت له مشجعة تحاول اخفاء الألم بداخلها و همست بقوة
(هيا بنا لتتناول الفطور بصحبة جدك)
انحنى حاجباها بحنان و هي تلاحظ تردده، على الرغم من شراسة طباعه، الا أنها كانت تفهم جيدا سبب تردده...

ربما كان هناك أحد الأعمام أو اثنين و ربما ثلاث، من المؤكد غاضبين بعد اعتراف أمس، و قد أقدموا عليه احتراما لوالدهم ليس أكثر، ماذا لو أهانه أحدهم، حينها سيضطر للرد بعنف و في وجود سليمان الرافعي...
نعم كانت أكثر منه خوفا و قلقا، الا أنها ربتت على كفه و قالت بثقة
(لنذهب، سويا).

حين دخلا الى غرفة مائدة الطعام الضخمة، توقفت تيماء للحظة و هي تراقب المتواجدين بعيني أنثى الصقر و التي تحاول حماية فراخها، و بنظرة واحدة، استطاعت تمييز وجود سليمان على رأس المائدة، ووالدها، و عمها والد زاهر...
و عمتها زهيرة، لا تزال تتذكرها جيدا و تتذكر فمها الذي يكان أن يقع من مكانه بسبب امتعاضها الدائم...
و آآآه ها هو ولدها العاطفي بجوارها، رفاعي؟، لا لا عرابي...

الحمد لله كانوا هؤلاء المتواجدين فقط، أغمضت عينيها بإرتياح مؤقت، ثم شدت على كف قاصي كي يقتربا و قالت بصوت هادىء
(صباح الخير)
نظر اليهما الجميع و حل الصمت التام على المكان و كما توقعت واجهتهما نظرات قاتمة رافضة، بالإضافة الى شفتي زهيرة الممتعضتين، و كأن مشاكلها في الحياة قد انتهت لتنقصها شفتي زهيرة الشبيهتين بإطار سيارة مثقوب و مفرغ من هواء، انقطع قلبه سيرا على أسفلت ساخن في ساعة ظهيرة حارقة...

بدأوا في رد التحية بلا ترحيب حقيقي، مجرد همهمات متذمرة، الا أنها لم تبالي، فرفعت ذقنها بثقة و جذبت قاصي خلفها حتى وصلت الى جدها و انحنت اليه لتقبل وجنته بكل قوتها و هي تقول
(آسفة لأننا تسببنا في تأخير الفطور لكم، لكن سعادتي بنزولك هذا الصباح فاقت كل شيء، تبدو أفضل بالفعل يا جدي).

ارتبك سليمان الرافعي قليلا من تلك القبلة التي طبعتها على وجنته فهذه ليست عادة النساء هنا، مجرد قبلة على الكف هي المعتادة، لكنه ابتسم رغم عنه و قال بصوت متعب متكئا على عصاه التي تحمله دائما
(تعالي يا ابنة سالم، أريد أن رؤية السعادة من خلال وجهك المشرق دائما و عينيك الضاحكتين)
ضحك سالم و قال بسخرية قاتمة
(أي عينين ضاحكتين يا حاج! الا تراهما متورمتين من شدة البكاء،!).

نقل عينيه الى قاصي و سأله بقسوة و صرامة
(متى وجدت الوقت كي تبكيها مجددا؟، ألن تكتفي أبدا؟)
ساد صمت متوتر بين الجميع، بينما شدت قبضة قاصي على كف تيماء وهو ينظر الى سالم بحقد قبل أن يقول ببرود قاتل
(اخلع عنك ثوب الأب الفاضل، لأن الدور بات هزليا بطريقة لا تطاق، و إن كنت قد نسيت انظر الى ذراعك و تذكر ما فعلته به)
برقت عينا سالم بغضب و انقبضت كفه على السكين الموضوعة أمامه دون وعي، بينما هدر سليمان قائلا.

(اصمت يا ولد، لن تتجاوز الحدود مع عمك بعد الآن، لأن هذا ما لن أقبل به، سالم هو والد زوجتك و عليك احترامه، لا مزيد من حروب قذرة بينكما و لن يدفع ثمنها سوى حفيدتي)
كان سالم لا يزال ناظرا الى قاصي بطريقة مخيفة غير قادرا على التغاضي عن وقاحته، بينما تابع سليمان آمرا
(اهدأ يا سالم أو والله أعود الى فراشي لأقضي به اليومين المتبقيين لي، علكم ترتاحون مني أخيرا. )
زفر سالم بينما قال والد زاهر بإقتضاب.

(أطال الله عمرك يا حاج و حفظك لنا، لا ترهق نفسك أكثر)
ظل سليمان متجهما، محاولا استعادة بعض الهدوء و راحة البال، ثم قال بتجهم
(تعال يا قاصي، اجلس بجواري)
نظر الجميع اليه برفض و قابل هو نظراتهم بسخرية و استهانة، الا أن تيماء شددت على قبضته و همست له
(هيا اذهب)
سحب قاصي يده من يدها على مضض وهو ينظر الى عينيها، ثم أخذ نفسا عميقا و ذهب ليتخذ الكرسي المجاور لسليمان...

نظر اليه جده طويلا و في عينيه المجعدتي الزوايا، كانت هناك نظرة من الراحة...
وضع كفه المتعرقة فجأة على ساق قاصي و قبض عليها، فنظر اليه قاصي مستفهما، الا أن سليمان لم يكن ناظرا اليه هذه المرة، بل نظر الى أبا زاهر و قال بنبرة حازمة...
(بعد الفطور يا أبا زاهر أريدك أن ترافق قاصي لتريه أرضه، كي يتعرف عليها و على موقعها)
قالت زهيرة متأوهة و هي غير قادرة على الصمت أكثر.

(ياللفضيحة و شماتة الأعداء، كيف يكن لإبن رابحة نصيبا من أرض الرافعية، بل و سيتجول بها على الملأ!)
نظر اليها قاصي نظرة مرعبة جعلتها ترتجف و تتراجع في مقعدها و هي تهتف
(لماذا تنظر إلى بهذه الطريقة يا ولد؟، هل تنوي التهجم على عمتك أيضا؟)
هدر سليمان قائلا
(ها قد نطقتها بنفسك ما أن شعرت بالخوف، عمتك، و هكذا ستفعلين كلما كان سندا لك، وقت الخوف و الحاجة)
ربتت زهيرة على ساق ولدها عرابي و قالت بصوت مرتجف.

(لدي ولدي حفظه الله لي يا حاج، هو السند، فلما أحتاج لغريب!)
رفع سليمان وجهه و استند بكفيه الى العصا التي لا تزال تحمل وزنه و تصلب ظهره، ثم قال بجفاء
(لقد دفنت ثلاث من أبنائي يا زهيرة، و ابن أحدهم كذلك، الأغلى، لا تغتري بالولد كثيرا، إنها افخري بالحق)
همست زهيرة و هي تضع يدها على صدرها و تنفخ فيه برعب
(بسم الله، بعيد الشر عن ابني، حفظه الله)
قال سليمان بهدوء.

(أنا لن اطردك من هنا عقابا على ما قلته اكراما لولدك يا زهيرة، لكن تذكري أنك تخاطبين والدك و كبير الرافعية)
نظرت اليه زهيرة بتوتر و قالت مرغمة
(حفظك الله لنا يا حاج، لا تغضب مني أرجوك، أنا فقط)
هتف سليمان بخشونة
(كفى، لا مزيد من الجدال، لقد باتت البلدة بأكملها تعرف الآن، و الأرض مسجلة باسم قاصي، لذا أصبح الجدال ما هو الا عبث، تعاملوا مع الأمر)
ثم نظر الى أبي زاهر سأله بنبرة آمرة.

(ما هو قولك يا أبا زاهر، هل ستعصي أوامر والدك؟)
ربت أبا زاهر على كف والده و قال بجفاء
(لا عاش و لا كان من يراجع الحاج سليمان في كلمته، سأفعل ما تأمر به يا حاج)
شدد سليمان على ذراعه وهو يقول بصوت منهك
(و ماذا بعد وفاتي؟، هل ستتربصون به؟)
قال والد زاهر بسرعة
(أطال الله عمرك يا حاج، لا داعي لهذا الكلام، كلمته نافذة، ما دمت حيا و أبنائي من بعدي)
تنهد سليمان براحة و قال.

(ربما كنت أشد أبنائي، لكنني أعرف أن الغدر ليس من طبعك، لذا ثق يا ولدي أن الله لن يضيع لك معروف عهدك هذا، و سيحفظ به أولادك، يوما ما سيرد معروفك خلالهم، فلا تتجهم هكذا)
أومأ والد زاهر متجهما، (لله الأمر يا حاج، تعرف أنني لن أخلف عهدا معك أمام الله)
أومأ سليمان برأسه راضيا، ثم نظر الى عرابي و ابتسم قائلا
(و ماذا عنك يا عرابي يا ولدي؟، متى سيحين زواجك؟، لقد طالت الخطبة جدا).

مطت زهيرة شفتيها و أصدرت بهما كل صوت اعتراضي ممكن قبل أن تقول بحسرة
(خطبة الخيبة و الندامة، و كأن ابني كان كبش الفداء كي تقررون زواجه من ابنة الهلالية)
زفر سليمان و قد فاض به الكيل بينما أمسك عرابي بقبضة والدته وهو يقول بنبرة حادة كي يمنعها من التهور أكثر.

(كانت تلك شروط والدها و أهلها جميعا يا جدي، أن تنهي العامين المتبقيين لها من الدراسة في كلية الصيدلة و بعدها يعقد القران، حتى أنهم رفضوا أن أراها حتى الآن، و أنا بصراحة لست متلهفا للبحث عنها في كليتها أو أي مكان آخر طالما لا يتحلون ببعض الذوق كي يمنحوني الإذن برؤيتها ولو لمرة في بيتهم، أنا لم أعتبر نفسي خاطبا مطلقا. )
عقد سليمان الرافعي حاجبيه و قال بدهشة.

(لم تراها حتى الآن؟، هل أصابهم الجنون أم ماذا؟)
هتفت زهيرة بغضب و استياء
(هل هذا من الشرع يا أبي؟، من يظنون أنفسهم! دعنا نحل أنفسنا من تلك الخطبة الهزلية)
ازداد انعقاد حاجبي سليمان، وهو يفكر بغضب، الا أنه قال بإستياء
(لا يمكننا فسخ الخطبة بهذا الشكل، كانت كلمة رجال، ستكون ضدنا و سيكون لهم حق عندنا)
هتف سالم فجأة بغضب.

(حين طلق أشرف ابنتي مسك، لم يتحرك أحد ليأخذ لها حقها يا حاج، هل ابنة الهلالية أغلى من مسك الرافعي!)
راقبت تيماء حدة سالم في الدفاع عن مسك بضراوة كما يفعل دائما، و مجددا، شعرت بغيرة لم تستطع السيطرة عليها حتى هذه اللحظة...
حين أبعدت عينيها بالقوة عن وجه سالم، اصطدمت عيناها بعيني قاصي الذي كان ينظر اليها بقوة، و كأنه قرأ مشاعرها بمنتهى الوضوع، فأخفضت عينيها الى كوبها و هي تتنهد بأسى...

قال سليمان بقوة وهو يرد على سالم
(أشرف ابن أخيك يا سالم، هل كنت تريد عداء مع شقيقك! لقد أخذت جلسة الصلح بينكما أكثر من عام و كان علينا انهاء الخلاف، أما كلام العائلات فشيء آخر، )
زم شفتيه مفكرا بتجهم، بينما زاد الإرهاق على ملامحه، ثم قال أخيرا بصوت آمر.

(اسمع يا ولدي، شرعا لك رؤيتها، و لا يجوز لهم منعك، لذا أرى أن تتبع الطريق الصحيح، فلتذهب اليهم مطالبا برؤيتها، فإن رفضوا كان لك أن تفسخ تلك الخطبة و تحل كلمتك)
نظر عرابي الى أمه التي بدت عليها البهجة للمرة الأولى، و قالت بسعادة
(هذا هو الكلام، و بالطبع يجوز له الا يتقبلها شكلا، شرعا يحق له ذلك، وهو لن يتقبلها بكل تأكيد)
نظر الجميع لها ممتعضي الملامح فهتفت بحدة
(ماذا؟، حقه).

ربت عرابي على كتفها و قال بخفوت و ثقة.
(لا تقلقي يا أمي، سأنهي هذا الأمر)
أما سليمان فنظر الى قاصي و سأله بهدوء
(الى متى تنوي البقاء معنا يا ولدي)
نظر قاصي الى تيماء، التي تلهفت عيناها الى عينيه و ارتجف قلبها بشدة، فقال أخيرا بخفوت أجش دون أن ينزع عينيه عنها
(سنرحل غدا يا حاج، فأنا أريد البقاء مع زوجتي لبعض الوقت، قبل أن تسافرعائدة لدراستها)
غامت عيناها و همست شفتاها دون صوت
لا،
بعد بضعة أيام...

نظرت سوار عبر منظار الباب و سارعت لتفتح الباب هاتفة بقوة
(هريرة، حمد لله على سلامة وصولك)
سارعت هريرة بالدخول و أغلقت الباب خلفها قبل أن تحيط عنق سوار بذراعيها بكل قوتها و هي تهتف بحرارة
(سوار، اشتقت اليكما جدا)
ابتعدت عنها للحظة تتأمل ملامح سوار الجميلة المرهقة ثم قالت بصوت يتوهج من شدة الفرح و السرور.

(لا أصدق أنك أنت من نزلت اليها من السفر مباشرة، أنت زوجة ليث الوحيدة بعد كل هذه السنوات أخيرا، إنه حلم، حلم يا زوجة أخي و حبيبته الوحيدة)
عانقتها مجددا و هي تتأوه بصوت عال فأغمضت سوار عينيها ألما و دفنت وجهها في كتف هريرة على الرغم من أنها أقصر منها بكثير، و دون سابق انذار انفجرت باكية!
عقدت هريرة حاجبيها قليلا و هي تحاول تبين هوية هذا الصوت الصادم، فنظرت جانبا و هي تسألها بشك.

(سوار، ما هذا الصوت؟، هل تبكين؟)
أبعدتها عنها بالقوة و نظرت الى وجهها و بالفعل صدمت بمنظر سوار و هي تبكي محمرة الوجه و الأنف كالأطفال...
فهتفت بإرتياع
(ياللهي! ماذا حدث يا سوار؟، هل أخي بخير؟ أجيبيني أرجوك، قلبي سيتوقف من شدة الخوف، هل ليث بخير)
مسحت سوار وجهها بكفها و هي تقول بصوت محبط مهزوم
(أخاك بخير، لا تخافي)
وضعت هريرة يدها على صدرها و هي تزفر براحة هامسة.

(الحمد لله، لقد أرعبتيني حقا، طالما أن ليث بخير و أنت كذلك و لا تزالان متزوجان من بعضيكما، فكل شيء قابل للحل ان شاء الله)
رفعت سوار وجهها تنظر الى هريرة بوجه شاحب و عينين قاتمتين، ثم سألتها بقسوة
(حتى إن كان أخاك ينوي الزواج من ثانية؟، أقصد ثالثة!)
كانت هريرة تخلع حجابها ببساطة، لكن ما أن سمعت ما نطقت به سوار للتو حتى استدارت على عقبيها صارخة
(ينوي ماذا؟).

تنهدت سوار بعنف و جلست على الأريكة دون رد، تنظر أمامها بعينين تتقدان شررا على الرغم من احمرار البكاء بهما...
أما هريرة فاندفعت اليها و جلست بجوارها على حافة الأريكة هاتفة
(أعيدي ما قلته للتو؟، هل هذا مقلبا معدا منكما كي تفسدا عطلتي؟)
نظرت سوار اليها و هزت رأسها نفيا ببطىء...
فضربت هريرة كفا على كف و هي تهتف بذهول
(اذن لقد جن ليث، لا تفسير آخر، لقد جن تماما، ).

رمقتها سوار بطرف عينيها العسليتين المذنبتين، ثم قالت مقرة بصوت متراجع
(ليس تماما)
صمتت هريرة عن هتافها المفزوع و هي تنظر الى سوار بشك و توجس، ثم لم تلبث ان استدارت بكليتها متربعة فوق الأريكة بجوار سوار و قالت آمرة بحدة
(أخبريني كافة التفاصيل، و إياك أن تستثني دورك من الخطأ، فأنا أعرف تلك النبرة جيدا، لا تخرج من بين شفتيك الا حين ترتكبين جريمة فقط).

بدت سوار محرجة كما لم تراها هريرة من قبل، فنظرت اليها مصدومة و قالت متابعة
(لقد ارتكبت شيئا فظيعا يا سوار، ملامحك تنطق بهذا، فقط أخبريني)
قالت سوار أولا بفتور
(أخبريني أنت أولا، أين هو زوجك؟، لماذا لم يأتي معك؟)
قالت هريرة بحدة.

(بالطبع لن يأتي الآن وهو يعرف أن ليث في عمله، إنه في الفندق، أما أنا فلم استطع الإنتظار و أتيت اليك من فوري، الآن كفي عن المماطلة و أخبريني ماذا فعلت كي تفقدي الرجل عقله يا بنت الرافعية؟
لقد كان عاقلا مع الساحرة الشريرة ميسرة لعشر سنوات و أكثر، و ظل كالجبل لا يهتز، ماذا فعلت به أنت؟)
ظلت سوار صامتة تتلاعب بأصابعها في حجرها غير قادرة على الرد. فأمسكت هريرة بكفيها و نظرت الى عينيها قائلة بثقة و حرارة.

(تكلمي يا سوار، من المؤكد أن الأمر ليس بمثل هذا السوء)
: بعد لحظات من شرح ما حدث بكلمات مختصرة خافتة بشدة...
قفزت هريرة واقفة و هي تصرخ فيها بجنون
(فعلت ماذا؟، خطبت أخرى لزوجك بنفسك؟، رغما عنه؟، ما الذي دهاك يا امرأة كي تقدمي على تلك الفعلة الأسود من قرن الخروب!)
رفعت سوار وجهها تنظر اليها و هتفت بحدة و أسى.

(أنت لا تفهمين شيئا، أخاك أذلني في مرحلة صعبة جدا من حياتي، و لم أكن بكامل قواي العقلية، تصرفت بتهور و دون تفكير)
رفعت هريرة اصبعها و هتفت بصرامة
(لا، ليث يستحيل عليه أن يذلك، الإذلال الحقيقي هو ما اقترفتيه أنت بحق نفسك، و هذا هو الرد المتوقع من ليث، إنه أخي و أعرف جيدا ردات فعله حين يفيض به الكيل)
صرخت سوار بعذاب و هي تتخلل شعرها بأصابعها.

(كفى يا هريرة أرجوك. قلبي لم يعد قادرا على تحمل المزيد من اللوم و التقريع، يكفيني ما أنا فيه)
نظرت اليها هريرة بحدة و هي تهز ساقها بعصبية، ثم لم تلبث أن قالت و هي تعود لترمي نفسها بحدة متربعة على الأريكة بجوار سوار من جديد ضاربة على فخذها
(حسنا، سأحاول الا أضربك بمضرب الذباب هذا، دعينا نتكلم بالعقل)
نظرت اليها سوار بطرف عينيها و قالت بتذمر.

(احترمي فارق السن بيني و بينك يا هريرة، لا تنسي أنني كنت أرضعك من المعزة و أنت ذات ثلاث سنوات فقط)
ضربت هريرة على فخذها مجددا و هي تقول بحدة.

(و هل أفادك فرق العمر بيننا في شيء؟، بالله عليك أنا و التي كنت تمسكين بها أسفل المعزة كي تشرب من حليبها، لا أسمح لزوجي بأن يخاطب زميلات العمل حتى بات منبوذا بينهم، بينما أنت يا كبيرة يا عاقلة يا ناضجة، تخطبين لزوجك بالقوة ثم تندمين، يا ذات عقل أم الخلول الرخوية)
أخفضت سوار وجهها بين كفيها و همست بإرهاق
(أشعر بأنني على الوشك الإصابة بالإغماء)
أمسكت هريرة بكفها و أبعدتها عن وجهها بالقوة و هي تهتف بحدة.

(لا وحياتك، هذه الحركات لن تخيل على يا بنت الرافعية، ارفعي وجهك، أريد سؤالك عن شيء)
نظرت سوار اليها بطرف عينيها و قالت بقنوط
(ماذا؟)
سألتها هريرة بهدوء و حذر
(الآن، ما هي طبيعة علاقة بليث بعد أن عرفت بنيته على المضي قدما في الموضوع؟)
فتحت سوار كفيها و اجابت بفتور...
(كيف ستكون؟، سمن على عسل)
ظلت هريرة ناظرة اليها لبضعة لحظات بدون تعبير، ثم لم تلبث أن أخفضت رأسها لتستند بجبهتها الى قبضتيها و هي تقول بتعب.

(يا مثبت العقل و الدين، مسكين يا أخي، والله مسكين و بدأت أقدر موقفه)
استدارت سوار اليها قليلا و قالت بقوة
(اسمعيني جيدا، أنا لن أمنحه المبرر الذي يجعله مرتاح الضمير تجاه تلك الزيجة، لذا هو يظنني قد رضخت للأمر الواقع، أنا سأمنحه كل ما أستطيعه من حب و تعويض، لكن لو تزوج تلك الفتاة بالفعل فسوف أقتلهما، هو لا يعرف غضب سوار الرافعي بعد)
نظرت اليها هريرة بقنوط و قالت.

(يعرف غبائها فقط، لقد تفوقت على نفسك حقا)
أمسكت سوار بكفيها و قالت مترجية
(هريرة، هلا أمضيت ليلتك معنا؟، أريده أن يبتعد عني دون أن أكون أنا السبب)
عقدت هريرة حاجبيها و قالت بدهشة
(أشك أن يوقف هذا ليث، لا أظنه خجولا الى تلك الدرجة)
قالت سوار بإصرار
(ستصرين على المبيت معي في غرفتي، و في الصباح أكون أنا نعم الزوجة)
ارتفع حاجبي هريرة و قالت بخفوت
(لك الله يا أخي حبيبي، لك الله).

راقبته سوار عن بعد و هي تحضر العصير، كان يضم أخته اليه بقوة مبتسما و كأنها بالفعل هريرة صغيرة تطلب مداعبته و دلاله، حتى أنه هو من اختار لها اسمها عند مولدها...
أي قوة يمتلكها هذا الرجل!
قوة في حبه...
قوة في حنانه...
قوة في نصرته لكلمة الحق...
قوة في محاربة الجميع بلا استثناء...
قوة تحدي كل قانون قد يهدد سعادة من يحب...
قوة في عقابه و صلابته و عناد رأسه...
قوته في الحصول على ما يريد...

رفع عينيه عن رأس أخته كي ينظر الى سوار مباشرة، فارتبكت و تابعت عملها...
بينما أعاد اهتمامه لشقيقته و سألها بنعومة
(الى متى تنويان البقاء؟)
ضمت هريرة قبضتيها و صرخت بسعادة و جذل
(شهران كاملان يا ليث، شهران كاملان، حتى تملني)
ضحك ليث بصوت أجش و داعب شعرها الناعم قائلا
(لن أمل منك أبدا حتى لو بقيت عشرة أشهر و سافرت اثنين فقط)
صفقت بكفيها و سألته بسعادة
(اذن أين ستنزهني غدا؟).

ارتفع حاجبي ليث وهو ينظر الى زوجها متسائلا
(هل أنا من سأنزهها؟، لماذا زوجتها لك اذن؟)
ضحك زوجها وهو يقول مستسلما
(أنت لا تعرف ما ينتظرك بعد)
التفتت هريرة تنظر اليه لتحدجه بنظرة محذرة، ثم نظرت الى ليث و قالت بدلال
(ينتظرك كل الخير يا حبيبي)
بعد فترة اتجه ليث الى حيث تقف سوار و التقط كفها فرفعت عينيها اليه متسائلة، الا أنه قبل ظهر كفها برقة مما جعلها ترف بعينيها ثم همس لها بصوت أجش...
(أشتقت اليك).

نظرت سوار الى هريرة و زوجها، الا أنهما كانا منهمكين في حوار طويل، مما جعلها ترتبك و تعاود النظر اليه قائلة بصوت رخيم هادىء
(و أنا أيضا، كنت أتمنى أن أقوم بزيارتك في العمل أنا و هريرة اليوم، الا أنك، الا أنك منعتني من الذهاب الى هناك)
إن كانت تقصد أن توجع ضميره، فقد فشلت تماما، اذ أنه ابتسم و عانقت أصابعه أصابعها ليقول بنبرة خاصة، جادة حنونة و مبهجة في آن واحد.

(لدي حل أفضل، سأفتح لك مشروعا خاصا بك أو مكتب صغير، و أقوم أنا بزيارتك كل يوم، ما رأيك؟)
أصابها إحباط بالغ فأبعدت وجهها بإباء عنه و هي تتنفس بسرعة و غضب، فسألها محتارا...
(ألم تعجبك فكرة المشروع؟ ظننتك ستسرين بها، حتى أنني كنت أنوي أن أفاجئك بها كهدية لك)
ردت سوار بقوة و هي تعد فناجين القهوة بعصبية...
(لن أستطيع ادارة مشروع بمفردي، حتى و إن كان صغيرا، أنت تهدر مالك هباءا).

حاولت الإبتعاد عنه الا أنه أمسك بكفها يمنعها فنظرت اليه منتظرة بملل، الا أن قال بصوت واثق هادىء
(سأكون بجوارك خطوة بخطوة)
ابتعد الملل الكاذب عن عينيها، و غابت القسوة عن ملامحها، فهمست له بحيرة
(كيف يمكنك أن تكون بمثل هذه الرقة، و بمثل هذه القسوة! أنت تؤلمني بشدة، هل لديك فكرة عن مقدار معاناتي!)
انعقد حاجبيه قليلا، الا أنه أومأ قائلا بخفوت
(لدي فكرة واضحة عن الأمر)
أومأت هي الأخرى و همست بإصرار.

(جيد أنك تعرف)
ثم ابتعدت عنه كي لا تفسح له المزيد من حنان قسوته، فهي لم تعد تتحمل أكثر...
بينما كانت هريرة تراقبهما من بعيد بقلق و هي تستشعر التوتر المنتشر في الجو من حولها...
و بعد فترة طويلة رافقت زوجها الى باب الشقة، ثم نظرت اليه معتذرة بدلال و همست
(أنا آسفة جدا أنك مضطر للرحيل بمفردك، لكن عملية الإنقاذ تلك هي حالة طارئة)
رفع زوجها اصبعه و دفع به انفها وهو يقول مازحا...
(أنت مدينة لي بخدمة).

ارتفع حاجبي هريرة و تمايلت قائلة بخبث
(خدمة! هل نسيت أن ليث يدينك بخدمة قبلا حيث أن وقف في وجه الجميع كي نتزوج!)
ابتسم زوجها بعينين محبتين و قال بحنان
(غلبتيني يا قطتي، إنها خدمة العمر، و لأجل سعادته سأتحمل بقائي بعيدا عنك الليلة)
مطت هريرة شفتيها كالأطفال ثم همست متأوهة...
(هيا اذهب قبل أن أغير رأيي، فقد بدأت أشتاق اليك بالفعل).

انحنى زوجها ليقبل وجنتها بحب قبل أن ينصرف فأغلقت الباب خلفه متنهدة، في حين خرج ليث من احدى الغرف وهو يسأل
(هل سمعت صوت باب الشقة للتو؟)
نظرت هريرة الى سوار التي بادلتها النظر بمكر قبل أن تتظاهر بمزيد من الإنشغال، فقالت هريرة ببساطة
(آه لقد رحل عصام)
ارتفع حاجبي ليث وهو يسألها بدهشة
(رحل دون أن يسلم علي؟).

هز رأسه قليلا و ابتعد ليجمع مع سوار بعض الأكواب، الا أنه استقام و نظر مجددا الى هريرة و سألها بدهشة أكبر
(ان كان زوجك قد رحل، فماذا تفعلين أنت هنا؟)
ردت هريرة بتلعثم
(آآآآه، أنا سأبيت هذه الليلة معكما)
ارتفع حاجبيه أكثر وهو ينظر اليها بعدم فهم الا أنه سأل دون مقدمات
(لماذا؟)
حكت هريرة شعرها بحرج و قالت بصوت متلعثم أكثر
(آآآه حسنا، لأنني اشتقت اليكما)
ضاقت عينا ليث و قال ببطىء.

(ونحن أيضا اشتقنا اليك، لذا سنتقابل غدا و كل يوم من أيام عطلتكما إن أحببت، لكن هذا لا يعني أن تتركي زوجك يخرج من هنا بمفرده بل و يبيت وحيدا)
نظرت هريرة الى سوار مستغيثة، الا أن سوار استدارت عنها بنذالة، فقالت هريرة بغباء
(أنا أريد النوم بجوار سوار)
ارتفع حاجبي ليث أكثر و أكثر، و نظر الى شقيقته بصمت، فعدلت كلامها و هي تقول ضاحكة بعصبية.

(أقصد أنه لدي الكثير من الحكايات لأقصها على سوار، جلسة فتيات، أنت تعلم)
سألها ليث ببساطة
(الا يمكن لجلسة الفتيات أن تنتظر الى الصباح؟)
ردت هريرة دون تفكير، تريد انهاء هذا التحقيق سريعا...
(لا، لن تنتظر)
ضاقت عينا ليث و سأل أخته قائلا بقوة
(هل أنت و عاصم متشاجران و كنتما تتقنان الدور أمامنا)
وجدت هريرة أن الحل الأمثل قد لاح لها فقالت بسعادة بينما سوار تشير اليها بالنفي سريعا...

(نعم، بصراحة بيننا خلاف بسيط و قررت قضاء ليلتي معكما حتى تهدأ أعصابي)
حينها انعقد حاجبيه بشدة و قال آمرا
(أمامك خمس دقائق لتضعين فيها حجابك و سأوصلك الى زوجك بنفسي، خلافتكما تقومان بحلها و أنتما تحت سقف واحد، و إياك أن تكرري هذا الإقتراح مجددا، و الا أنا من سيقف لك بنفسه)
أغمضت سوار عينيها بيأس و سقطت كتفاها، بينما تنهدت هريرة و هي تنظر اليها معتذرة...
أما ليث فقال بصرامة
(الخمس دقائق تمر، هيا أسرعي).

أثناء قيادته للسيارة، قال ليث بهدوء وهو يركز نظره على الطريق
(تلك المسرحية التي قمتما بها، كانت غاية في السذاجة)
انتفضت هريرة مكانها و نظرت اليه مذهولة لتقول بصدمة
(ماذا؟)
لم يرد على سؤالها التافه، بل تابع كلامه قائلا بنفس الهدوء
(على ما يبدو أن سوار قد أخبرتك عن دليلة، فلم تدخرا وقت كي تحيكان الخطط)
مطت هريرة شفتيها و قالت بحدة، غير قادرة على منع نفسها
(اذن السيدة اسمها دليلة، عسى الا تربح أبدا).

نظر اليها ليث و قال بصرامة
(هريرة، راقبي كلامك)
ردت عليه هريرة بإنفعال
(و تدافع عنها يا ليث؟، كيف يمكنك أن تفعل هذا يا ليث؟، بعد أن حدثت المعجزة و أصبح حب عمرك في متناول يدك، تكرر نفس المأساة و تتزوج من امرأة لا تحبها! هل نسيت ايامك المضنية مع ميسرة! يبدو أنك قد اعتدت أن تكون لك أكثر من امرأة، فما أن طلقت ميسرة حتى بحثت عن غيرها بمنتهى السرعة، لكن سوار لا تستحق هذا منك يا ليث).

ابتسم ليث وهو يدير المقود قائلا بهدوء
(يفترض بي أن أضربك يا فتاة على قلة تهذيبك، لكن للأسف، وصلنا)
نظرت هريرة الى بوابة الفندق التي دخلها بسيارته للتو فتنهدت قائلة بضيق
(أشعر بالجنون، لا أصدق، حتى الآن لا أصدق)
ابتسم و هو يقرص وجنتها قائلا
(هيا انزلي لزوجك، و لا تقلقي على ابنة وهدة، فهي أقدر مني و منك على الدفاع عن نفسها و حقوقها، لكنها تحتاج فقط لبعض الوقت).

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة