قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الستون

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الستون

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الستون

وضعت تيماء إناء الخضراوات المطبوخة في منتصف المائدة، ثم تراجعت و هي تنظر للجميع بسعادة...
اليوم أول يوم من أيام شهر رمضان المبارك...
و أول يوم تقيم به وليمة كهذه في بيتها الجديد، كان البيت تقريبا خاويا تماما، الا من مائدة الطعام الكبيرة و كراسيها، و ثلاثة أسرة في الطابق العلوي...
لكن على الرغم من ذلك اصروا على الإنتقال اليه فور قبول أمها بالزواج من العم ابراهيم على مضض...

أرادت أن تبدأ رمضان في بيتها الجديد، و تدعو العروسان للإفطار معها و قاصي...
نظرت تيماء مبتسمة الى العم ابراهيم وهو يداعب ثريا بدلال و كأنها مراهقين فتتدلل عليه و تدعي الغضب أمام الأولاد، بينما كان عمرو ينظر اليهما في الجهة المقابلة ضاحكا...
شهقت تيماء بقوة حين التفت ذراع قاصي حول خصرها فانتفضت من مكانها و كأن عفريتا قد التلبسها، و
نظرت اليه بغضب و هي تضربه بمعلقة الغرف الكبيرة، ثم هتفت.

(احمد ربك أنك قمت بهذه الحركة الغبية بعد أن وضعت الإناء الزجاجي على الطاولة، فوالله يا قاصي لو كان قد وقع مني أرضا بسببك لكنت)
وضع قاصي اصبعيه على شفتيه وهو يهمس محذرا
(صيامك)
هتفت بحدة
(لكنت)
الا أنه ضغط على شفتيها و قال مهددا هذه المرة
(صيامك)
زفرت تيماء بقوة و هي تقول محاولة الصبر
(اللهم اني صائمة)
ثم ربتت على كتفه و هي تقول
(اجلس لترتاح يا قاصي، اجلس يا حبيبي و دع العمل لي)
عقد قاصي حاجبيه وهو يقول.

(أردت مساعدتك)
دفعته تيماء بالقوة حتى جلس بجوار عمرو، ثم ثبتت يديها على كتفيه قائلة بصرامة
(المساعدة الحقيقية هي أن تجلس هنا ملك زمانك و تكف عن اللهو)
قال لها ببراءة
(لكن تذكري أنك أنت من طلبت)
نادت تيماء من المطبخ
(و مصرة)
التفت قاصي أمامه مبتسما، الا أن ابتسامته تحولت الى حاجبين مرتفعين من الدهشة وهو يرى العم ابراهيم يحيط كتفي ثريا بذراعه وهو يداعبها قائلا بصوت حنون
(والله كالعسل بالقشدة).

نظر قاصي الى عمرو الذي كان يضحك بقوة فضمه قاصي الى صدره يمنع ضحكاته وهو يعاود النظر الى طائري الحب، بينما ثريا تتدلل و هي تقول
(توقف يا ابراهيم، لا يصح أمام الأولاد)
قال قاصي مقاطعا
(تقصدين الأحفاد)
عقدت ثريا حاجبيها بشكل رقم سبعة و هي تقول بحدة
(لم لسانك يا قاصي)
رد قاصي قائلا بعفوية...
(قصدت عمرو، الا يناديك الجدة ثريا؟)
ردت ثريا بحدة و هي تمد نفسها فوق المائدة
(أنا لست جدته و لا أقرب له شيئا).

قاطعها ابراهيم قائلا بملامحه البشوشة
(الولد يمزح معك يا قالب الزبدة، لا داعي لان تفسدي جمال وجهك بالعبوس)
ارتفع حاجبي قاصي مجددا وهو ينظر اليهما، حتى وصلت تيماء حاملة فخار الأرز المعد في الفرن، فقال لها و هي تنحني لتضعه على الطاولة...
(سأحاول أن أدعي بأنني لم أسمع كلمة ولد، لكن هل نعت ثريا بقالب الزبد؟)
رمقته تيماء بنبرة مهددة ثم همست في أذنه
(لم نفسك يا قاصي و لا تفسد أول إفطار رمضاني لنا معهما).

أجابها قاصي هامسا في أذنها
(و آخر إفطار، هذا إن كنت أنوي المحافظة على صيامي)
زمت تيماء شفتيها و هي تقبض على كتف قميصه هامسة
(توقف، أرجوك)
فتح قاصي فمه ينوي الكلام الا أن ابراهيم سبقه و قال مبادرا تيماء بالحديث الودود...
(من كان يصدق أن أكون مدعوا على الإفطار المعد بيدي تيماء الصغيرة، التي كانت جلس على ركبتي و تبلل بنطالي).

تجمدت ملامح قاصي وهو ينظر اليه دون تعبير، و عدم التعبير في حالة قاصي تعد أشد الملامح شراسة...
بينما استقامت تيماء ببطىء و هي تنظر الى أمها التي أخذت تعض شفتيها كناية عن الخيبة...
قال ابراهيم متابعا و هو يوجه حديثه الى قاصي ضاحكا...
(تلك الصغيرة كانت لا تأبه لشيء أو لاحد، يشفع لها جمالها و تورد وجنتيها).

قبض قاصي على السكين الموضوع أمامه، فسحبته تيماء منه و هي تعض على أسنانها حتى أخذته منه ووضعتها بعيد، ثم قالت بلطف
(أظنك أخطأت بيني و بين فتاة أخرى يا عم ابراهيم)
قال ابراهيم مؤكدا
(بل كنت أنت، أنا لا أنسى الأشخاص أبدا، حتى أنه كان لديك بنطال شديد القصر من الجينز تخرجين به للشارع فتسمرين أطفال الحي بأكمله)
نظر اليها قاصي بحدة و قال بصوت حاد.

(نعم كانت أنت، البنطال الجينز القصير من غيرك ترتديه! هل كنت تخرجين به للشارع؟، ألم احذرك؟)
تنهدت تيماء و هي تلقي بالمحرمة أمامها قائلة بتعب
(لم أكن أنا، أي فتاة يمكن أن تمتلك بنطال قصير من الجينز، ثم أنه لا يعقل أن تحاسبني على أمر لم أنفذه منذ اثني عشر عاما!)
رد قاصي قائلا بغيظ
(لم تنفذيه! أي أنه كانت أنت بالفعل!)
نظرت تيماء الى ثريا و سألتها
(كم تبقى على آذان المغرب يا أمي كي لا أرتكب جريمة).

نظرت ثريا الى ساعة معصمها ثم قالت و هي تنظر الى قاصي بإمتعاض
(دقيقتان)
رفع قاصي حاجبه وهو يبادلها النظر مهددا، ثم قال بنبرة بطيئة
(أخفضي حاجبك يا ثريا)
ردت ثريا تقول
(حين تلف لسانك أولا، سأخفض حاجبي)
قال قاصي بنبرة خفيضة و كأنه يحدث نفسه
(خسارة عربة الشاي التي أهديناها لك و دفعنا بها دم قلبنا)
مطت ثريا شفتيها و هي تقول ممتعضة
(من أول استخدام طارت أول عجلاتها).

ضاقت عينا قاصي وهو ينظر اليها بينما أمسكت تيماء بمعصمه قائلة بحدة
(اسمعا أنتما الإثنان، هذا أول إفطار أعده بنفسي، في بيتي، لذا لو كان لدى أحدكما النية في افساده فليخرج و يتناول افطاره في أي مكان آخر)
ساد صمت متوتر بينهما و كلا منهما ينظر الى الآخر شزرا، سمع الجميع فجأة صوت آذان المغرب فالتفتت تيماء تنظر الى قاصي مبتسمة و قد زال عنها كل غضبها، فهمست له بعاطفة خالصة
(رمضان كريم يا قاصي).

لانت ملامح قاصي وهو يقول بصوت أجش مصدقا على كلماتها
(رمضان كريم مبارك يا تيماء)
شعرت تيماء بإمتنان قوي و هي تنظر لأسرتها الصغيرة و هي تهمس بداخلها داعية أن تستمر تلك السعادة
لكن و قبل أن يبدأ الجميع الإفطار الفعلي، دق جرس الباب مما جعل تيماء تعقد حاجبيها و هي تتسائل
(من سيأتي في مثل هذا الوقت؟)
اتجه قاصي الى الباب ففتحه الا أن ملامح وجهه تجمدت ما أن رأى الزائر الغير متوقع...

اقتربت تيماء لترى من يكون، ثم لم تلبث أن قالت بدهشة
(أبي!)
كان سالم واقفا لدى الباب، ينظر اليهما بتجهم، بينما يبدو الإجهاد على ملامحه واضحا، فتقدمت منه تيماء لتمسك بمعصمه و هي تسأله بقلق
(ابي، هل أنت بخير؟)
رفع سالم وجهه اليها ثم قال بصوت أجش
(كنت، اليوم مسك مدعوة لدى أسرة زوجها، و أنا فكرت، أن أمر لأسأل عن حالك و سأغادر على الفور).

فغرت تيماء فمها قليلا ثم نظرت الى قاصي الذي كان صلب الملامح ممسكا بالباب دون أي ترحيب...
الا أنها أمسكت بذراع والدها و سألته بحذر
(هل تريد أن تفطر معنا؟)
سمعت صوت العم ابراهيم يقول من خلفها بدهشة
(أي سؤال هذا يا تيماء؟، هل تعرضين عليه؟)
وصل اليهم ليقول داعيا سالم
(أدخل يا أبا تيماء، رمضان كريم، تعال و افطر معنا).

أظلمت عينا قاصي بشدة وهو ينظر الى تيماء التي كانت تبادله النظر بقلق بينما نظر سالم الى ابراهيم متسائلا...
فقالت بخفوت
(هذا العم ابراهيم، جارنا منذ وقت طويل، وهو زوج امي حاليا)
نظر سالم الى ثريا التي كانت تنظر اليه من بعيد بعينين صلبتين، قاسيتين بعد عمر ضاع، و ظلم فادح تعرضت له على يديه، مما جعله يشيح عينيه عنها ثم قال بصوت أجش
(لا أظن أن لي مكان هنا)
كانت حالته غريبة جدا، مما جعل تيماء تقول بخفوت.

(داخل جدران هذا البيت أناس آذيتهم بشدة يا أبي، لكنك اخترت اليوم الأمثل كي نحاول، ربما)
صمتت قليلا ثم تابعت و هي تنظر اليه بحيرة
(أنت لست بخير يا أبي، تعال و اجلس معنا على المائدة)
دخل سالم الى البيت، فربت ابراهيم على كتفه قائلا بصوت ودود
(تعال يا رجل، تعال، هذا بيت ابنتك، اي بيتك)
ظل قاصي واقفا مكانه لدى الباب يرفض أن يرافقهم، فنظرت اليه تيماء بترجي حتى أجلست والدها، ثم أسرعت الى قاصي وهمست بتوسل.

(أرجوك لا تفعل الآن، أرجوك، تعال و اجلس بجواري أمامه، لا تتركني وحيدة)
رأت فكه يتصلب قليلا، ثم تحرك أخيرا ليصفق الباب الذي كان لا يزال مفتوحا قبل أن يدخل معها الى البيت...
جلس جميعهم يتناولون الإفطار في صمت تام، بينما وضعت تيماء كوب عصير في يد والدها و اضطرت أن تثبته حين ترنحت يده قليلا، و قالت
(اشرب هذا يا أبي، أنت لم تفطر حتى الآن).

رفع سالم الكوب الى شفتيه يرتشف منه ببطىء بينما تيماء تربت على كتفه، أما قاصي فكان ينظر اليه بنظرات مظلمة و ملامح شديدة التحجر
سألته تيماء أخيرا بعد أن شرب العصير...
(هل تشعر بأنك أفضل حالا الآن؟)
رفع سالم وجهه ينظر اليها بنظرات غريبة، ثم قال بخفوت
(الحياة قصيرة جدا، أخشى، أخشى الموت و ألا تحضر أي منكما جنازتي)
عقدت تيماء حاجبيها و هي تقول بحيرة
(ما الداعي من هذا الكلام الآن يا أبي؟).

نظر سالم الى قاصي طويلا، ثم أحنى وجهه و قال بصوت أجش
(البقاء لله)
شحب وجه تيماء بشدة و شعرت بساقيها ترتجفان و هي تهمس برعب
(من مات؟)
رد سالم بعد فترة بصوت خفيض بطيء
(عمك عمران)
اندفع وجه تيماء ملتفتا الى قاصي بصدمة، فوجدت أن القناع الحجري الذي كان يعتليه قد سقط متحطما عن وجهه وهو ينظر الى سالم بذهول، فاغرا فمه، و عاقدا حاجبيه...
بينما تابع سالم يقول.

(عثر عليه اليوم ميتا في حبسه، و لن يستطيع ابنه السير في جنازته، )
رفعت تيماء يدها الى فمها، بينما همس ابراهيم وهو يخفض وجهه مرددا
(لا اله الا الله، لا اله الا الله)
تكلم عمرو قائلا ببراءة
(من عمران هذا يا بابا)
نظر قاصي اليه وهو يتنفس بسرعة و صعوبة، قبل أن يندفع خارجا من البيت بكل قوته كفرس جامح غاضب و غير مروض، فلحقت به تيماء جريا و هي تناديه في الظلام، الا أنه كان قد اختفى تماما...

بدأ حمل النعش الى مثواه الأخير، و كان من يحمله عددا محدودا جدا، كعدد الذي حضروا الدفن من الأساس...
استطاع راجح الحضور، لكنه كان جالسا على كرسي متحركا، فيما لم تشف أصابه ساقه بعد و لم يكن قادرا على السير بها...
أما النعش فقد حمله مجموعة من الأغراب، و بدأو طريقهم بعد الصلاة على المتوفي...
لكن شق الصفوف رجل قوي البنية، حتى وصل الى مقدمة النعش، فحمله على كتفه و تابع السير به...

يضع نظارة سوداء فوق عينيه، ظل قاصي صامتا لفترة ثم همس أخيرا للنعش بصوت غير مسموع.

فكرت كثيرا كيف أحقق العدل و أقتص منك، حاولت و لم أفلح فكنت دائما تبتسم في النهاية و كأنك تخبرني أن العدل ليس له مكان في هذا العالم، و بدأت أقتنع و أسلم، يملأ صدري الحقد على هذه الحياة، لم أكن أتخيل أن تدخر لي الحياة حملك على كتفي الى القصاص، بنفسي، لقد رحلت الى العادل المنتقم، فكيف الحال الآن، ليتك تهمس بكلمة أخيرة و تخبرني ما حالك الآن، وصل الجثمان الى مثواه، فتم خفضه و تراجع قاصي للخلف ينظر الى الدفن، بينما الدموع التي كانت تخفيها نظارته السوداء انسابت على وجهه وهو يهمس بصوت أجش مختنق وهو يرفع كفيه.

(رحمة الله عليك يا أمي، الفاتحة لروحك الطاهرة).

حين عاد قاصي الى بيته يجر ساقيه الضعيفتين، جرت اليه تيماء و رمت نفسها على صدره محيطة خصره بذراعيها بقوة و هي تهمس
(كدت أن أموت رعبا عليك، كان عليك السماح لي بالذهاب معك)
تخلل قاصي شعرها بأصابعه وهو يريح ذقنه فوق رأسها قائلا بصوت متحشرج
(أنا متعب جدا، أحتاج اليك)
أغمضت تيماء عينيها تطبع شفتيها على صدره بقوة قبل تبعد رأسها عنه رافعة وجهها اليه هامسة.

(أنا هنا يا حبيب العمر، لم و لن أذهب لأي مكان، تعال معي لترتاح)
سحبته من كفه حتى صعد معها السلم وصولا الى غرفتهما فأجلسته على السرير و انحنت أرضا كي تخلع حذائيه و جواربه، الا أنه سحبها فجأة من ذراعيها و رفعها بقوة حتى أجلسها على ركبتيه ليدفن وجهه في صدرها محيطا خصرها بذراعيه، ثم قال بصوت قاتم
(ابقي هنا قليلا).

ربتت تيماء على رأسه و هي تشعر بقلبها يتمزق حزنا لوجعه، الا أنها همست بحنان و هي تمشط شعره بأصابعها واضعة وجنتها على رأسه
(أنا هنا، باقية الى أن تبعدني بنفسك)
ظلا على هذا الوضع طويلا حتى ظنت أن xxxxب الساعة قد توقفت في عالم خاص بهما وحدهما...
و فجأة سمعت صوته يسألها بخشونة مختنقة
(بماذا يشعر الآن؟)
همست تيماء تسأله دون أن تبعد نفسها عنه مقدار نفس واحد
(من؟)
أجابها بصوت ميت قاس
(عمران).

كتمت تيماء أنفاسها و هي تطبق عينيها بقوة على دموع لاذعة، لا تعرف بما تجيبه!
هل تذكر أي محاسن لعمران أم تترحم عليه، أم تدعو عليه بقهر لقهره هذا الطفل الذي يدفن رأسه بين أضلعها...
أخذت نفسا مرتجفا ثم قالت بصوت خشن.

(أحيانا يا قاصي لا تعاقب الحياة الأشرار كما قرأنا في قصص طفولتنا، لكن العدل عند الله و هذا ما عليك أن تكون موقنا منه، ليت البشر جميعا ينالون عقابهم في الدنيا، لكان هذا أهون لهم، ليتهم يعلمون أن الحساب عند الله أعظم، و الأكيد أن هذا هو ما يشعر به الآن، لكن دعنا لا نخوض في هذا، لأن القضية تم سحبها منا و سلمت الى العدل، لذا ليس من حقنا أن نحكم بعد هذه اللحظة).

رفع قاصي وجهه ينظر اليها و هالها مدى شحوبه و احمرار عينيه و تلك الدموع بهما، رفعت تيماء أصابعها تمسح دمعة من زاوية عينه، فقال بصوت متحشرج عصبي
(تبا لتلك الدموع، ليست المرة الأولى التي تداهمني كالفتيات الصغيرات)
هتفت تيماء همسا بحرارة
(ابك يا حبيب العمر كما تشاء و قدر تستطيع الى أن يرتاح قلبك، ابك أمامي دون خجل ولو للحظة واحدة، أنا كفيلة بإستقبال دموعك طوال العمر).

رفع قاصي كفيه ليحيط بهما وجهها يتأملها بشرود، جعلها تتأكد من أنه لا يراها فعلا، لكنه كان مصرا على أمساك وجهها و كأنه ينظر من خلاله الى وجه آخر...
حتى قال أخيرا بصوت مجهد
(لو فقدتك يا تيماء، لو فقدتك)
رفعت تيماء أصابعها تضعها على فمه هامسة بصوت لا يكاد أن يسمع
(لن يحدث، في هذه الحياة لن يفقد أحدنا الآخر، حتى في الموت لن يفقد أحدنا الآخر)
هتف قاصي بصوت أكثر تحشرجا و اختناقا عاقدا حاجبيه بألم.

(اصمتي، لا تقولي هذا)
الا أنها أصرت قائلة بتأكيد
(بل سأقولها ولو لمرة واحدة كي تستوعبها، حتى في الموت لن تفقدني، لأنني داخل قلبك و انت داخل قلبي للأبد)
وضعت تيماء يدها على قلبه كي تؤكد له كلامها، فأحاطت كفه بعنقها بشدة آلمتها لكنها لم تعترض...
ثم همست ببطىء شديد ناظرة الى عينيه.

(في اللحظة التي يموت فيها الماضي بشروره، قد تولد حياة جديدة، ثمرة حب لن يموت أبدا، حياة تحمل نغم حفظناه سويا و رددناه لسنوات طويلة)
عقد قاصي حاجبيه قليلا و سألها قائلا
(ماذا تقصدين؟)
لعقت تيماء الدموع التي انسابت على وجنتيها بصمت، ثم همست بإختناق
(كنت أنوي اخبارك بعد انصراف ثريا و زوجها، كنت أنوي الإحتفاظ بالخبر لنفسينا لبعض الوقت، لكن شاء القدر أن يموت الماضي قبلا).

كان لا يزال عاقدا حاجبيه وهو ينظر اليها بطريقة غريبة، ثم سألها بخوف
(ما الذي تقولينه يا تيماء؟)
شهقت تيماء باكية مبتسمة و همست ببطىء
(أنا أحمل طفلك، و كنت أنوي أن أفاجئك بالخبر)
اتسعت عينا قاصي بذهول بينما هطلت دموعه أنهارا، قبل أن يطبق عينيه بشدة مرجعا رأسه للخلف متأوها بصوت عال، عال جدا...
فضمته تيماء الى صدرها بقوة كي تستشعر نبضات قلبه في تلك اللحظة تحديدا، و همست في أذنه ببكاء عنيف.

(هل تسمع هذا النغم؟، ضربات قلبك و قلبي في تلك اللحظة!)
لم يستطع الرد عليها وهو يبكي أمامها دون خجل، يضمها اليه بكل قوته أيضا و كأنهما جسدا واحدا و روحا واحدة، بل ثلاث...

خرج فريد من باب شقته صباحا، و ما أن أغلق الباب خلفه حتى وجد قدمه تضرب شيء صغير على الأرض، فأخفض عينيه ليفاجأ بدمية من الصوف كانت موضوعة أمام باب شقته الا أنه أوقعها بقدمه لدى خروجه...
انحنى فريد ليلتقط الدمية عن الأرض، ثم نظر اليها بدهشة رافعا حاجبيه...
تلك الدمية مشابهة في أسلوب تنفيذها لدمية كان قد سبق و أخذها من ياسمين...

استقام وهو يتجه الى السلم ناظرا لأعلى وأسفل دون أن يجد أحد، ففكر أن يلقي بها بعيدا...
لكن مجرد نظرة أخرى اليها حتى رأى كم هي جميلة و مبذول فيها مجهود رائع و فن لا يمكن انكاره، لذا دسها في جيبه، ثم انصرف الى عمله وهو يفكر في سبب وجود تلك الدمية على بابه
في اليوم التالي حدث نفس الشيء، فوجد على باب بيته دمية جديدة بشكل مختلف تنظر اليه و كأنها تضحك لعينيه، الا أنه عبس وهو يهمس بخشونة.

(من يضع هذه الدمى هنا؟)
نظر حوله بعدم راحة عاقدا حاجبيه ثم وضعها في جيبه ليغادر متجهما هذه المرة...
في اليوم الثالث لم يجد دمية، و على الرغم من شعوره بالراحة، الا أن بداخله أحس بنوع من خيبة أمل مجهولة...
وقف فريد أمام المصعد، ينتظره طويلا حتى ظن أن أحدهم تركه معلقا، الى أن وصل أخيرا ففتح الباب بقوة، لكن ما أن فعل حتى تسمر مكانه وهو ينظر الى الشابة التي كانت تستقل المصعد...
فغر فريد فمه ليقول مصدوما.

(ياسمين!)
كانت ياسمين تقف في المصعد تنظر اليه بإبتسامة صافية، تبدو غريبة في فستانها الكريمي الطويل حتى كاحليها، و بكمين طويلين كذلك و على الرغم من ذلم لم يرها أكثر جمالا من تلك اللحظة...
استعاد فريد وعيه بسرعة ثم سألها بجفاء
(ماذا تفعلين هنا؟)
مطت شفتيها و هي تهز كتفها بحيرة، ثم قالت بهدوء مبتسمة
(لقد أستأجرت شقة هنا، أعلاك بطابقين)
هتف فريد بحدة و جنون
(استأجرت ماذا؟).

رفعت ياسمين اصبعها لتضعه على فمها و هي تهمس ببراءة
(هشششش، صوتك يرج في زوايا البناية و السكان نيام)
زم فريد شفتيه وهو يندفع الى المصعد مغلقا الباب خلفه بقوة، ثم ضربه لينزل قبل أن يستدير اليها قائلا بنبرة آمرة متسلطة
(ماذا تفعلين هنا؟)
ردت عليه ياسمين بدهشة
(أخبرتك، لقد استأجرت)
الا أنه قاطعها بحدة هاتفا
(توقفي عن اللف و الدوران يا ياسمين، و أجيبيني)
أجابته ياسمين بصبر.

(أنا أجيبك لكن أنت من لا يسمع، لقد استأجرت شقة هنا لأنك سبق و أخبرتني بوجود عدة شقق خالية للإيجار، و فضلت أن أكون في نفس البناية مع صديق قديم أثق به، عوضا عن السكن في بناية لا أعرف بها أحد)
كرر فريد كلامها بسخرية قائلا
(صديق قديم!)
لم تتجاوب ياسمين مع السخرية في نبرته و هي تسأله ببراءة
(ألم ترسل لي رسالة تطلب مني أن ألجأ اليك إن احتجت الى أي شيء؟، و أنا لجأت اليك بالفعل لكن بطريق غير مباشر).

لمعت عينا فريد بالغضب ولم يجد القدرة على الرد من شدة غيظه، بينما أصدر المصعد رنين مميز فقالت ياسمين مبتسمة برقة
(لقد وصل المصعد، هل ستخرج أم ستصورني؟)
خرج فريد قبلها مندفعا غير مراعيا لاصول الأدب و اللياقة، الا أن ياسمين هزت رأسها مبتسمة و هي تغلق باب المصعد خلفها بكل بساطة، ثم انصرفت الى عملها...

في اليوم التالي، حين خرج من شقته صباحا، اصطدمت قدمه بدمية جديدة، فنظر اليها نظرة قاتلة و كأنه على شك تمزيقها اربا، فانحنى ليقبض عليها و اندفع الى المصعد ينتظره وهو يهز ساقه بعصبية...
و ما أن وصل و فتحه، حتى وجد ياسمين بداخله تنظر اليه بحبور قائلة
(صباح الخير يا جاري العزيز)
دخل فريد الى المصعد دون أن يرد عليها ثم أغلق الباب بقوة قبل أن يرفع الدمية في وجهها ليسألها بحدة
(ما هذه؟).

رفعت ياسمين حاجبيها و هي تنظر الى الدمية مبتسمة بسعادة و مرح هاتفة
(ما أجملها! إنها تبدو جميلة، من أين حصلت عليها؟)
اغمض فريد عينيه وهو يطلب الصبر من الله، ثم قال من بين أسنانه بحدة
(لا تتغابي يا ياسمين، تعرفين أنك أنت من تتركين هذه الدمى على باب بيتي كل صباح، فماذا تتأملين بالضبط مما تفعلين؟)
ارتسمت ملامح الشعور بالظلم على وجه ياسمين، ثم هتفت بحرارة.

(أنا لم أترك لك شيئا، و لماذا أفعل؟، و لماذا أنكر الأمر لو كنت أنا الفاعلة من الأساس؟)
نظر اليها فريد مبتسما بغيظ و دون مرح، ثم قال أخيرا ببرود
(الا تريدين الإعتراف اذن!)
أغمضت ياسمين و هي تهز رأسها متنهدة بيأس، ثم قالت بصبر و كأنها تتعامل مع طفل صغير
(قل لي فقط بماذا تريدني أن أعترف و أنا سأريحك)
زم فريد شفتيه دون رد وهو ينظر اليها ببريق قاتل، ثم قال أخيرا
(لا بأس، لا بأس يا ياسمين).

قالت ياسمين بحزن و هي تنظر اليه بوداعة
(وصل المصعد، هل ستخرج أم ستبيت هنا؟)
خرج فريد من المصعد شاتما وهو يدس الدمية في جيبه، بينما ترك لياسمين مهمة اغلاق الباب كصباح أمس.

في اليوم التالي...
وقفت ياسمين تنتظر المصعد و هي تشعر بخفقات قلبها تتزايد بنحو عابث مراهق، مبتسمة ابتسامة جذلة يرافقها الشعور بالفقدان، فقدان فريد و مدى جمال شعوره تجاهها...
رتبت شعرها جيدا، و سوت فستانها الكحلي الطويل ذو الكمين المنتفخين الطويلين و الرباط الأبيض على الخصر...
لكن ما أن فتحت باب المصعد، حتى وقفت مكانها مصعوقة، ففي المصعد وجدت دمية اليوم مشنوقة و معلقة على مرآته...

وقفت ياسمين مكانها بعينين دامعتين لا تصدق مدى تلك القسوة و الوحشية...
حين لملمت مشاعرها المبعثرة دخلت الى المصعد، ثم استطالت على اطراف اصابعها و انتشلت دميتها المسكينة لتضعها في حقيبتها...
مر طابق فريد أمامها أثناء نزولها، الا أنه لم يفتح الباب كعادته، لم يتوقف المصعد عند طابقه، مما جعلها تشعر بالقنوط بعد أن تأنقت أكثر مما ينبغي...

بعد هذا الصباح مر أسبوع لم تراه خلاله، و لولا أنها كانت ترى سيارته لظنت أنه قد ترك لها البناية و غادر...
علي الأرجح أصبح ينزل السلالم كي يتجنب ملاقاتها...
وقفت ياسمين على باب البناية تنتظر سيارة أجرة و هي تكتف ذراعيها ناظرة الى الأرض بشرود حزين...
لكن فجأة سمعت صوتا يسألها
(من فضلك، كم الساعة؟).

التفتت ياسمين تنظر الى الرجل الذي وقف مجاورا لها أكثر مما ينبغي. فابتعدت خطوة و نظرت لساعة معصمها و هي تقول بهدوء
(السابعة و النصف)
ابتسم لها الرجل الأربعيني ابتسامة غير مريحة و ظل واقفا في مكانه دون أن يغادر، تجاهلته ياسمين
لكنه اقترب منها خطوة ليسألها بصوت خفيض
(لماذا تقفين بهذا الشكل؟)
رمقته ياسمين من أعلى رأسه و حتى أخمص قدميه بقرف، ثم هزت رأسها و هي تزفر بحدة...

حاول الرجل الإقتراب منها مجددا، الا أنه شعر فجأة بمن يمسك بقميصه بقبضتين قويتين و صوت غاضب يهتف به
(ماذا تريد منها؟، ماذا تريد؟)
هتف الرجل مذعورا...
(لا شيء، كنت أسألها عن الساعة لا أكثر)
دفعه فريد بقوة وهو يهدر به بخشونة
(اذهب من هنا و لا تدعني أراك في هذه المنطقة مجددا، هيا)
انطلق الرجل يجري مهرولا قبل الفضيحة، بينما وقف فريد يعدل من ملابسه وهو يزفر غاضبا...

أما ياسمين فكانت تنظر اليه خائفة و ما أن ابتعد الرجل حتى اسرعت الى فريد و هي تهتف
(هذه ثاني مرة أضعك في هذا الموقف، أنا آسفة جدا)
التفت اليها فريد بعينين تطقان شررا و قال محتدا
(عودي الى بيتك يا ياسمين، أنت تتهورين بطريقة غير محسوبة لن يدفع ثمنها سواك).

ثم ابتعد عنها متجها الى سيارته، بينما وقفت ياسمين مكانها تنظر الى ابتعاده بعينين مغرقتين بالدموع، و هي تعض على شفتها بأسى شاعرة وكأن أحدهم قد رمى قلبها أرضا و دهسه بحذائه...

(هل ستدعين الآن أيضا أن الدمى لم تكن منك؟)
صدح هذا الصوت ساخرا حين فتح باب الشقة بكل قوته الساعة الثامنة مساءا ليجد ياسمين منحنية ترتب على الأرض دميتين جميلتين...
لم ترد ياسمين على الفور و لم تجفل، بل أخذت وقتها ثم استقامت ببطىء تنظر الى الدميتين قبل أن تستدير الى فريد مستعدة...

كان واقفا في باب شقته مكتفا ذراعيه وهو ينظر اليها عاقدا حاجبيه، لكن سخرية صوته لم يكن لها أي أثر في عينيه العاتبتين...
ابتسمت ياسمين بضعف و هي تبعد شعرها خلف أذنها، ثم قالت بصوت خافت رقيق
(لا، لا مزيد من الإدعاء و لا مزيد من الدمى، لقد أتيت كي اهديك آخر اثنتين و لن أزعجك مجددا، و أعطيك هذه أيضا)
نظر فريد الى بطاقة الإئتمان الخاصة به دون أن يأخذها، ثم سألها بجفاء.

(لماذا تعيدينها، لقد طلبت منك استخدامها عند الحاجة)
ابتسمت ياسمين دون أن تصل ابتسامتها الى عينيها المظلمتين و قالت بخفوت
(لم أحتاجها أبدا، ولم أستقيل من عملي)
عقد فريد حاجبيه بشدة ثم سألها بحدة
(الا زلت تعملين تحت ادارة هذا الحقير؟)
أجابته ياسمين قائلة بتردد.

(لقد قدمت شكوى ضده بعد أن نجحت في اقناع ثلاث موظفات غيري بالتوقيع عليها معي، و تحول الأمر الى فضيحة كبيرة يتم التحقيق فيها معنا جميعا حاليا، الا أني لازلت أذهب للعمل كل يوم رافعة رأسي دون خوف أو تردد، و ليحدث ما يحدث)
ظل فريد صامتا ينظر اليها طويلا بنظرات قاتمة، ثم سألها أخيرا بصوت أجش
(ماذا تفعلين هنا يا ياسمين؟)
عضت ياسمين على شفتها و هي تنظر بعيدا، ثم قالت بصوت شديد الخفوت دون أن تنظر اليه...

(لم أستطع البقاء هناك، لم أستطع البقاء مع رجل حقير آخر، تعدى على خصوصيتي و اخترق هاتفي ناظرا الى صوري و رسائلي، منتهكا كرامتي، يذلني كل لحظة و أمي و أختي لا تساعداني أبدا، شعرت بنفسي على حافة الإصابة بالجنون)
صمتت قليلا ثم رفعت عينيها الدامعتين اليه و همست باكية بشفتين ترتعشان
(لقد أخرجوني من غرفتي بالقوة، و احتلها هو).

زفر فريد شاتما بكل قوته، ثم نظر اليها عاقدا حاجبيه بشدة و هي تمسح دموعها محاولة استعادة قوتها و رزانتها مجددا، ثم أخذت نفسا عميقا و قالت بصوت أجش و هي تناوله البطاقة و معها كيس ورقي به علبة مخملية
(خذ البطاقة و هذه أيضا، إنها الشبكة)
لم يمد فريد يده ليأخذ منها شبكتها بل قال بجفاء
(أنا أريدك أن تحتفظي بها).

هزت ياسمين رأسها نفيا، و قالت ببطىء دون أن تنظر اليه و هي تضع البطاقة في الكيس الورقة ثم تنحني لتضعه بجوار الدميتين...
(ليست من حقي، هناك شيء واحد أريد أخبارك به، هو أنني لجأت الى تلك البناية لأنك تقطن بها بالفعل كما أخبرتك، أنا أثق بك و أثق انني، سأكون في رعاية صديق عزيز، لكن في نفس الوقت لن أعاود مضايقتك أبدا)
استدارت لتنصرف و هي تمسح الدموع عن وجهها الا ظانه ناداها فجأة
(ياسمين).

توقفت ياسمين للحظات ثم استدارت لتنظر اليه دون سؤال، فكان أن سألها هو وهو يفك ذراعيه ناظرا الى عينيها...
(ألازلت تحبين أمين؟)
شعرت بالألم يجتاح كيانها، الا أنها ابتسمت و الدموع تغشى الرؤية في عينيها، ثم همست بإختناق باكي
(من سوء حظي، اكتشافي أنني لم أحبه يوما، و الأسوأ اكتشاف آخر وهو أنني لم أحب سواك لكن بعد فوات الأوان).

أغمض فريد عينيه للحظات، و حين فتحهما وجدها تتجه الى الدرج بصمت، لكنه ناداها قائلا بخشونة
(أتقبلين بي إن عدت اليك نادما)
توقفت ياسمين مكانها فاغرة فمها بذهول قبل أن تستدير اليه بعنف و هي تنظر الى ملامحه العابسة المتجهمة، فنادت تجيبه
(أتقبل بي إن أنا عدت اليك نادمة؟)
مر وقت طويل قبل أن تلين ملامحه ببطىء، ثم همس بصوت أجش متحشرج
(عودي الى شقتك الآن، و غدا نعقد قراننا).

أغمضت ياسمين عينيها فانسابت الدموع فوق وجنتيها ببطىء ثم همست برقة مبتسمة باكية
(عرفت أنني أستحق القصة التي طالما تمنيت ذات يوم)
ثم فتحت عينيها وهي تضع كفها فوق فمها لتضحك بقوة فضحك هو الآخر وهو يستند بكتفه الى إطار الباب ناظرا اليها دون كلمات، فالكلمات فقدت معناها في تلك اللحظة بينهما...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة