قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السادس

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السادس

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السادس

في اليوم التالي صباحا، كان أمجد قد استعد للذهاب الى العمل في صمت تام...
بينما هي جالسة ترتشف قهوتها الى طاولة المطبخ، و كان أول حوار بينهما منذ كارثة ليلة أمس هو سؤاله البارد لها من خلف ظهرها
(متى ستداومين في عملك الجديد؟)
بدت مسك هادئة تماما، و لم تستدر اليه، بل أخذت وقتها في قضم قطعة من التوست الجاف، ثم قالت بهدوء
(بعد يومين).

نظر أمجد الى رأسها الأسود المنخفض و هي تتابع هاتفها باهتمام، ثم سألها مجددا
(و كيف ستقضين يومك؟)
ردت عليه مسك بعد فترة دون اهتمام
(لماذا؟)
أظلمت ملامحه بشدة، الا أنه رد عليها متمالكا نفسه
(فكرت في أن نتناول طعام الغذاء اليوم سويا في الخارج)
رفعت مسك وجهها بملامح صلبة خالية من المشاعر الا انه لم يراها، فهي لم تستدر اليه من الأساس...
ثم قالت بصوت بطيء.

(للأسف لن أستطيع اليوم، فاليوم موعد تدريب الفروسية الأساسي في النادي)
ساد صمت طويل بينهما، ثم قال أمجد أخيرا بصوت هادىء الا أنه بدا شديد الخطورة و الصرامة
(لن تذهبي)
قصفت كلمته الهادئة في المطبخ و كأنها دوي مريع، مما جعل مسك ترفع وجهها مجددا، غير مستوعبة ما سمعته للتو، فاستدارت اليه و سألته بعدم فهم
(عفوا، ماذا قلت؟)
رد أمجد بصوت أكثر صرامة بينما تحولت عيناه الى عيني شخص غريب لا تعرفه،.

(ما سمعتيه، لا تدريب فروسية منذ اليوم، و لا ذهاب للنادي مجددا)
ظلت مسك تنظر اليه دون أن ترمش عيناها، ثم نهضت ببطىء شديد و استدارت اليه حتى واجهته بطولها الفارع و ظهرها المنتصب و ذقنها المرتفعة لتسأله بنبرة اشد خطورة، تحمل بعض السخرية السوداء...
(هل تمزح؟)
أجابها أمجد دون أن يبتسم حتى، بل بدا صوته أكثر جفاءا
(هل تفهمين من ملامحي أي نوع من أنواع المزاح؟)
كتفت مسك ذراعيها و قالت بصوت حذر مهدد.

(من الأفضل أن تكون مازحا)
رد عليها أمجد بصوت خاليا من الإحساس
(كلا يا مسك، لست أمزح، لن تذهبي الى النادي مجددا)
أفلتت من بين شفتيها ضحكة مذهولة غاضبة، الا أنها سألت بصلف
(بأمر من؟)
رفع أمجد وجهه و قال بهدوء وهو ينظر الى عينيها
(بأمري أنا، بأمر من زوجك)
ضحكت مجددا ذاهلة، غير مصدقة لما تسمع، ثم سألته بنبرة عنيفة.

(هل تدرك ما تقوله يا حسيني؟، ما الذي أصابك منذ فترة؟، هل ظننت نفسك امتلكتني و تستطيع التحكم بي؟، ستكون واهما إن كان هذا هو ظنك)
ضاقت عينا أمجد وهو ينظر اليها دون أن ينفعل، ثم قال أخيرا بنبرة قاسية
(جميلة تلك القوة التي تتحلين بها يا مسك، ثقة و قدرة على المواجهة و التحدي، الا أنك في الواقع جبانة، أكثر جبنا مما تتخيلين)
فغرت شفتيها بذهول أكبر و هي تسمع منه هذا الكلام الغريب، ثم قالت بعدم تصديق.

(ما الذي تقصده؟، لما لا تكون واضحا و تكلمني كما أكلمك؟)
رد عليها أمجد دون تردد
(لا تجعليني أجرحك أكثر)
ضحكت مسك ضحكة واهية، تقريبا غير مسموعة و هي تسأله
(ألم تجرحني بعد؟)
عقد أمجد حاجبيه فجأة متفاجئا من هذا التصريح الذي بدا و كأنه قد أفلت من بين شفتيها دون ارادة منها فندمت عليه و رفعت وجهها أكثر و قالت بنبرة قاسية صلبة
(سأجازف).

عند هذه الكلمة المتحدية الباترة، قال أمجد بصوت قوي ثابت، يتناقض مع النار الهوجاء في عينيه
(أشرف الرافعي)
بهتت ملامح مسك تماما و هي تسمع الاسم الذي خرج من بين شفتيه عاديا، الا أن خلف تلك النبرة العادية كانت تختبىء عواصف عنيفة...
هزت مسك رأسها بطريقة غير مفهومة، ثم سألته بصوت متراجع مرتجف قليلا
(ماذا تقصد؟، ما دخل أشرف في الأمر؟)
ضحك أمجد بقسوة و رد عليها قائلا بغضب.

(حبيب القلب الذي يجلس ليراقبك كل مرة و أنت تنطلقين بفرسك فوق السحاب)
عقدت مسك حاجبيها بشدة، على الرغم من ارتباك ملامحها الشاحبة، الا أنها هتفت به بغضب
(ما هذا الهراء؟، ثم هل تراقبني؟)
وجد أمجد نفسه يندفع اليها فجأة حتى لف خصرها بذراعه بقوة، بينما رفع يده الاخرى و أطبق بها على ذقنها ليرفع وجهها الى عينيه، بينما حاولت هي مقاومته و هي تصرخ
(اتركني يا أمجد، لا تمسك بي بتلك الطريقة المهينة).

الا أن امجد شدد قبضتيه عليها و قال بنبرة سوداء أمام وجهها
(سأمسكك بأي طريقة اختار، سأخترق كيانك كيفما أشاء، سأقتحم قلبك و أجعله ملكي رغما عنك، و فضلا عن هذا كله، نعم أنا أراقبك، هل لديك ذرة من الوقاحة، تجعلك تعترضين؟)
صرخت به مسك و هي تحاول التلوي مجددا بعنف
(لا يحق لك، لا يحق لك هذا)
شدد أمجد قبضته على فكها اكثر و أكثر و همس أمام شفتيها بغضبه البارد الخطير.

(بل يحق لي و أكثر، حين أجد زوجتي المحترمة، المتعالية، ذات الكبرياء الذي لا يقهر، تتعمد أن تجعل من نفسها أضحوكة، و هي تتمرن أمام حبيبها السابق، لا لشيء الا ليراقب عودة جمالها متحسرا وهو يعض أصابع الندم، لتريه أنها تمتلك من السحر و الصحة ما يعد بديلا مرضيا عن الأبوة مع امرأة أخرى باهتة مهتزة، ضعيفة و معقدة، أنت تضعينه في كرسي خشبي بائس، ليراك و يعقد المقارنة المحسومة النتائج بينه و بين زوجته التي ليس من العدل مقارنتها بك اصلا، هل هذا يرضي غرورك يا مسك؟، هل تطفىء نظرات الحب القديم و الجوع في عينيه لهيب الجرح الذي لا يزال حيا بداخلك؟).

كانت مسك تتنفس بعنف و هي تنظر اليه بعذاب بينما جسدها بأكمله يحاول الإنتفاض و المقاومة، الا أنه اقوى منها، يمسكها بكل بساطة كي يقحم كلماته في عقلها المصدوم...
لكنها هتفت بغضب و جنون
(ليس ذنبي أنه يراقبني، لن أمنع نفسي من رياضة أحبها لمجرد أن اثنين من المرضى الذكوررين يتهيأ لهما أوهاما غبية)
ضحك أمجد بغضب أمام شفتيها، ثم همس لها بصوت أجش بارد كجليد يحترق.

(أوهاما غبية؟، الا تهتمين له؟، الا تشعرين بالسعادة لندمه الظاهر للأعمى؟، الا تنتعش روحك وأنت ترين المقارنة الخاسرة في عينيه؟، أعرف أن لك مهارات كثيرة يا ألماس، الا أن الكذب ليس أحدها، لا يمكنك الكذب مطلقا، فأنت ذات وجه معبر قادر على فضح انفعالاتك مهما بلغ برودك، أعرف متى تتألمين، و متى تغارين، و متى تنتشين برضا غامر، كما أعرف كيف تكسرين).

أصبح وجهها الآن شاحب كالأموات و هي تنظر اليه بجزع، لكنه على الرغم من هذا لم يرحمها، بل رفع عينيه الى شعرها عن عمد، ثم ترك ذقنها ليتخلل خصلاته الناعمة بأصابعه و همس لها في أذنها بجفاء.

(لماذا لم ترتدين الحجاب الى الآن؟، أعرف أن علاقتك بربك تقوت أكثر و أكثر بعد مرضك، أرى كيف تصلين، كيف تخشعين، أرى امتنانك على سجادة الصلاة، و أعرف كم تكثرين من فعل الخير، لكن اليس من الغريب الا يطرأ الحجاب على بالك مطلقا؟، أتعرفين لماذا؟، لأنك تريدين بالبقاء في عينيه كمسك التي عرفها قديما، ليست تلك التي تخلى عنها و هي فاقدة لكل شعرها، و تعقد رأسها بوشاح، لا تريدين اخفاء شعرك عنه، كان شعرك الطويل يسحره، اليس كذلك؟، كان شعرا طويلا جدا ومبهرا كأسطورة شرقية، لقد سبق و أريتيني صورتك و أنت تقفين بجوار فرس أسود يماثلك جمالا).

صرخت به مسك و هي تطبق جفنيها بشدة
(اخرس، اخرس)
الا أنه تمادى قائلا بنبرة أكثر قسوة، وهو يشد على خصلات شعرها يود لو يقتلعها كي لا يراها غيره...
(هل كان يحاول أن يمشطه لك بأصابعه، فتنهرينه بنبرتك المتعالية فيزداد جنونا بك؟)
صرخت مجددا و هي تقاومه بجنون دون أن تفتح عينيها
(اخرس، لا يحق لك)
ظل أمجد صامتا ينظر الى مقاومتها المجنونة دون أن يحررها، ثم قال بهدوء خافت صلب.

(بلى يحق لي، يحق لي منعك عنه، منع شعرك عنه، شعرك الذي سبق و تساقط فسقط معه خاتمك من اصبعه، يحق لي منعك من التمادي في حرج نفسك و أنت تظنين كذبا أنك تلبين حسنا)
فتحت مسك عينيها أخيرا و قد توقفت عن المقاومة، كانتا حمراوين بلون الدم، مبللتين بدموع تأبى أن تنساب له، نظرت اليه طويلا بنظرات لا معنى لها، ميتة لكنها قاسية...
ثم همست أخيرا بصوت مرتجف.

(تريد رؤيتي منهارة، أنت لا تفعل هذا الا لأنهار فقط كما تتمنى، لذا تتعمد جرحي و بمنتهى الدناءة و القسوة)
ابتسم أمجد ابتسامة قاسية ساخرة و هو يرمقها بحزن دفين، ثم قال أخيرا
(نبهتك أنني لا أريد جرحك الا أنك أصريت على المعرفة، كما أن هذا الإنهيار الذي ستنهارينه الآن ليس ما أريد، إنه انهيار رخيص، انهيار لمجرد أنني كشفت لك كم أنت ضعيفة و جبانة أمام نفسك...

أريدك منهارة كبشر، كبشر يتألم و يصرخ متوجعا، لا على مجرد جرذ باعك دون ثمن، بل على ما هو أقوى و أغلى، حب صادق، أمومة يتمناها قلبك، اصرخي و اخبريني بأنك تتمنين طفلا، حينها سأضمك الى صدري بكل ما أملك من قوة، اصرخي و اطلبي حبي)
صرخت به بعنف و غضب، و هلع بينما دموعها على وشك الإنفجار
(لن يحدث، لا أريد حبك و لن تجد لدي حبا، لا يليق أي منكم بحبي)
التوت ابتسامة أمجد بحزن ساخر، ثم قال بخفوت.

(اذن احتفظي بدموعك، فهي لا تغريني، و كي أساعدك على ايقافها، يمكنني أن أكون عنيفا كي أحفز روحك المهاجمة القوية الرافضة)
و دون انتظار هجم عليها بوجهه يقبلها قبلة كاد قلبه المتضخم أن ينفجر طلبا لها منذ رؤيته لها ليلة أمس، تنتظره بكل سحرها الفطري، بينما يداه تعبثان بملابسها دون احترام أو مودة حقيقية...

أخذت مسك تضربه بكل قوتها، بكفيها و قدميها، لكن دون جدوى، فرغبته كانت أقوى، الا أن رغبته كانت فارغة، الحب بداخلها متوار خلف الحواجز التي رفعتها بينهما بغباء...
حين ابتعد عنها أخيرا وهو يتنفس بصعوبة كانت هي تنظر اليه بهمجية و قد اختفت دموعها تماما، و كل ما تبقى في عينيها هو النفور و العنف، فصرخت به و هي تغطي جسدها بجانبي قميصها
(همج، كلكم همج، لا يشغل بالكم سوى الجسد و الإنجاب، فقط).

ابتسم أمجد مجددا و رفع يده يلامس بها ذقنها الذي ابعدته عن مرمى يده بجنون، الا أنه مال اليها و سألها بنبرة تعجب زائفة ساخرة، قاسية
(لا يشغل بالنا سوى الجسد و الإنجاب؟، لو كان هذا هو كل ما يشغلني، لما تزوجتك، الا تعلمين؟، أنت لا يمكنك الإنجاب أبدا)
هرب الدم من وجه مسك تماما و زاغت عيناها أمام تلك القسوة المتعمدة، و فغرت شفتيها المرتعشتين بعجز متألم...

الا أنه ابتعد عنها و نظر اليها بنفور، ثم أشار إلى غرفتهما و قال آمرا
(اذهبي الى سريرك و ابكي على كرامتك البائسة الجريحة، و أرجو حين أعود أن تكون تلك الدموع قد نضبت، و حتى هذا الوقت غير مسموح لك بالذهاب للنادي، أنا رجل و لي كرامة، كرامة عرفتي للتو معنى أن تهدر، لذا أرجو أن تقدري موقفي و لا تجعليني أتصرف معك تصرف أسوأ).

و دون انتظار ردها، خرج من باب الشقة كي لا يتهور أكثر، أما هي فقد رفعت يدها الى صدرها الممزق
و هي تشهق بقوة عنيف، قبل ان تندفع الى غرفتها، لترتمي على سريرها، تبكي و تبكي، تضرب وسائدها و تصرخ بعنف عاجز...

بعد ساعات، و بعد عدد لا منتهي من الإتصالات لم ترد عليها عن قصد
اتصل بأخته وهو يدور في مكتبه بعصبية، الى أن ردت عليه مهجة ببشاشة، لكنه بادرها سائلا بجفاء
(هل خرجت مسك من البيت اليوم؟)
ساد صمت قصير، قبل أن تجيبه أخته بحذر
(لست متأكدة، لكن لماذا تتصل بي؟، لماذا لم تتصل بها هي؟، هل أنتما متشاجران؟)
رد أمجد بنبرة أكثر انفعالا.

(لا وقت لدي لأسئلة فضولية يا مهجة، أريد منك خدمة، هلا صعدت اليها و طرقت الباب، و إن لم تجبك، انزلي و اسألي البواب إن كانت قد خرجت)
ساد صمت طويل متوتر، ثم قالت بتردد
(لا أظن أن هذا لائق يا أمجد، لا تقحمني في خلافاتكما رجاءا)
الا أن أمجد هدر بها بعصبية أكبر
(افعلي ما طلبته منك يا مهجة دون نقاش، أنا سأدخل اجتماع هام حاليا، ولولاه لجئت الى البيت بنفسي، و إن لم تفعلي فسأعتذر عنه و آتي).

قالت مهجة بعصبية مماثلة
(حسنا حسنا، هدىء نفسك قليلا، سأفعل)
أغلق أمجد الخط و اتجه الى النافذة وهو يغلي حتى الأعماق، لا يعلم كيف ستكون ردة فعله ان تحدته مسك و ذهبت لتتباهى أمام الجرذ ابن عمها مجددا...
لقد تفجرت الأمور بينهما صباحا، و إن كانت هي قد أقامت الحواجز، فقد قام هو بحرق الجسور بينهما...
كيف يمكن لهما اصلاح ما حدث هذا الصباح و التغاضي عنه؟

لكن حيرته لم تستمر طويلا، فقد اتصلت مهجة به خلال دقائق و أخبرته أن مسك خرجت بالفعل...
أخفض أمجد هاتفه وهو ينظر من النافذة بملامح جامدة كالحجر...
لقد خرجت في نفس موعد التدريب، لهذه الدرجة؟
الهذه الدرجة كان يعيش وهما؟
مرت عليه دقيقة طويلة بطيئة، قبل أن يستدير ليتناول سترته ثم خرج من المكتب...
و أغفل أن يعتذر عن حضور الإجتماع...

أخذ يبحث عنها في مسارات السبق لكنها لم تكن موجودة...
لذا اتجه من فوره الى اسطبلات الخيل، لكنه ما أن اقترب منها حتى وجد أشرف الرافعي...
كان هناك قبله، أخذ يقترب منه دون أن يدرك أشرف وجوده، الى أن بات كلامه مسموعا مع السائس...
كان يسأله إن كانت مسك قد جائت أم لا؟
انتظر أمجد الى أن ابتعد السائس، ثم قال بصوت مخيف خافت
(هل تحتاج زوجتي في شيء يا، سيد أشرف).

انتتفض أشرف مكانه وهو يستدير على عقبيه مجفلا من وجود أمجد خلفه، فعقد حاجبيه بشدة و سأله بحدة
(ماذا تفعل هنا؟)
رفع أمجد حاجبه بسخرية وهو يقول بنفس النبرة
(وجودي هنا ليس أكثر غرابة من سؤالك عن زوجتي، و بالمناسبة أنت لم تجب عن سؤالي بعد، هل تحتاج اليها في شيء؟)
أظلمت عينا أشرف بشدة، و بدت العنجهية المتوارثة في تلك العائلة تظهر على ملامحه فقال بنبرة شر
(حين أحتاج اليك أنت، يمكنك السؤال).

ثم استدار ليبتعد، الا أن قبضة أمجد أطبقت على ذراعه و أدارته اليه مجددا، فهدر في أمجد وهو ينفض كفه
(أبعد يدك)
لكن أمجد لم يفقد أعصابه، بل قال بهدوء جليدي...
(أنت تأتي الى هنا في موعد تدريبات مسك و تجلس تراقبها الى أن تنتهي فتقترب منها وتبدأ معها حوار، الا ترى أن مثل تلك التصرفات باتت لا تليق بمكانتك و عمرك، و الأهم من ذلك بزوجتي!)
بدا أشرف أكثر توترا و عصبية، الا أنه قال بنفاذ صبر.

(مسك ابنة عمي قبل أن تكون زوجتك، لن تمنعها عنا)
صحح له امجد مؤكدا...
(بل سأمنعك عنها)
ظهرت الإستهانة على وجه أشرف و سأله بسخرية
(و كيف ستمنعني عنها؟، أحب أن أراك تفعل هذا).

طرقت مسك باب الغرفة...
ثم دخلت و هي تقول بخفوت
(السلام عليكم)
قفزت أسماء من كرسيها و هي تنظر الى مسك التي أتت محملة بالعديد من الهدايا و الألعاب...
فهتفت بعدم تصديق
(سيدة مسك؟)
دخلت مسك الى الغرفة أكثر و حاولت وضع ما بيدها و هي تقول مبتسمة برسمية
(كيف حالك يا أسماء؟، مر وقت طويل منذ أن رأيتك آخر مرة).

كانت أسماء لا تزال على نفس ذهولها، الى أن وجدت صوتها أخيرا فالتفتت الى سيدة بسيطة متقدمة عمرا و قالت بلهفة
(أمي، هذه السيدة مسك التي أخبرتك عنها، التي تكفلت بمصاريف علاج زهرة)
نهضت السيدة من مكانها بملامح خائفة، مصدومة، و ربما ممتنة بتقدير أكبر...
و ما أن وصلت الى مسك و دون أن أي كلام، انحنت اليها لتقبل كفها! لكن مسك سارعت بسحب يدها و هتفت بحدة
(لا، لا يا حاجة، لا تفعلي هذا).

الا أن المرأة تكلمت و قالت بصوت مرتجف ملهوف
(أهلا، أهلا بك، أهلا بالغالية ابنة الغاليين، كيف يمكننا أن نشكرك؟)
ربتت مسك على كتفها ثم قالت بهدوء
(لا داعي يا حاجة، كنت في فراش مماثل ذات يوم ووجدت من ساعدني)
مسحت المرأة دموعها بطرف وشاحها، بينما اتجهت مسك ببطىء الى الفتاة الصغيرة التي كانت تنظر اليها مبهورة و هي مستلقية في فراشها...

و ما أن وقفت بجوار حافة سريرها حتى انحنت اليها تتأملها بتمعن، ثم ابتسمت و هي تسألها همسا
(اذن أنت زهرة؟)
أومأت الطفلة برأسها و لم تفقد عيناها انبهارهما بمسك...
شعرت مسك بخيط حارق كماء النار، يسري في حلقها و حتى رئتيها، الا أنها امتصته و قالت بهدوء
(أنت جميلة جدا، ياللهما من عينين خضراوين كبيرتين جميلتين)
كانت الفتاة تضع على رأسها طاقية منسوجة من الصوف البرتقالي، و معقودة تحت ذقنها...

تخفي رأسها خالي الشعر، الا أنها لم تخفي مكان حاجبيها الخالي كذلك...
فمدت مسك أصابعها و داعبت حاجبي الطفلة و همست لها
(أخبروني أنك على وشك الخروج من هنا، فقررت أن أزورك و أطمئن على صحتك)
لم ترد الطفلة، بل كانت تنظر الى مسك و جمال مسك، و فستان مسك، و شعر مسك...
بينما الابتسامة على شفتيها الطفوليتين تجعلها أجمل و أجمل...
فسارعت أسماء تقول
(تفضلي اجلسي على الكرسي يا سيدة مسك).

الا أن مسك جلست بجوار زهره و هي تقول ممسكة بكفها الصغير
(بل سأجلس بجوار زهرة إن لم يكن لديك مانع)
قالت أسماء بخفوت و توتر و هي تفرك كفيها
(كما تشائين)
ظلت مسك صامتة قليلا و هي تفرد أصابع الصغيرة على أصابع كفها، بينما سألتها أسماء بخفوت
(كنت أظن، كنت أظن أنك سبق و قلت، أنك لا تحبين المرض و المشافي لذا لا تقومين بالزيارات)
ردت مسك مبتسمة دون أن تبعد عينيها عن الصغيرة و كأن مجرد تأملها، فتنة لها...

(و من يحب المرض؟، لكنني عرفت أن علاج زهرة أوشك على الإكتمال)
ردت أسماء بصوت أكثر خفوتا
(نعم، إنها في المرحلة الأخيرة)
اتسعت ابتسامة مسك قليلا، و هي تشعر بزهرة تلامس شعرها الحريري، فسألتها مسك باهتمام
(هل يعجبك؟)
أومأت زهرة بسرعة اكبر و افلتت منها ضحكة مرحة، فقالت مسك بنبرة خاصة مؤكدة
(الآن فقط شعرت به جميلا، لأنه أعجبك، و حين تخرجين من هنا ان شاء الله سيكون لديك شعر أكثر جمالا من شعري).

صمتت قليلا و هي تنظر الى القبعة البرتقالية التي ترتديها زهرة، ثم قالت محدثة الطفلة الصغيرة...
(قبعتك جميلة جدا، لكنني أحضرت لك واحدة أخرى، هل تودين رؤيتها؟)
اومأت الطفلة بسرعة و لهفة، فأخرجت مسك القبعة الجديدة من حقيبتها، ثم نظرت الى القبعة البرتقالية و أمسكت بطرفيها تنوي خلعها عن رأس الطفلة، لكنها توقفت و سألتها بلطف مبتسمة
(هل تسمحين لي أن أخلعها عنك؟).

أومأت الطفلة مبتسمة ابتسامة عريضة و عيناها تلتهمان القبعة الجديدة، فنزعت مسك القبعة القديمة عن رأسها، ثم ألبستها الجديدة...
و كم بدت رائعة مثالية عليها...
كانت قبعة من الصوف أيضا، لكن لونها بنفسجي قاتم، يزين جانبها وردة صفراء كبيرة من الصوف، و ينسدل من جانبيها ضفيرتين من شعر أصفر حريري...
فهتفت أسماء مبهورة
(يالله! كم تبدو جميلة عليك يا زهرة! تبدين كالدمى الجميلة الشقراء).

نظرت مسك الى أسماء و سألتها بهدوء
(الا توجد مرآة هنا؟)
أجابتها أسماء بحرارة و هي تسرع لتحضرها
(بلى، ها هي)
أمسكت مسك بالمرآة كي ترى زهرة صورتها، و بالفعل شهقت الصغيرة بإنفعال و هي تهز رأسها يمينا و يسارا لتؤرجح الضفيرتين الحريريتين، بينما مسك تراقبها بجذل و قد ظهرت اسنانها في أكثر ابتساماتها عرضا، دون تقييد أو رزانة...
همست أسماء بإختناق مككرة سؤال أمها
(كيف يمكننا أن نشكرك؟).

ردت مسك دون أن تنظر اليها أو تبعد اهتمامها عن زهرة
(لم أقدم لك شيئا كي تشكريني)
زمت أسماء شفتيها، ثم قالت بفتور
(لا زلت كما أنت يا سيدة مسك، لسانك يقذف دبشا)
ردت مسك و هي تلاعب الصغيرة
(و أنت كما أنت ولدت مسحوبة من لسانك)
ثم قالت محدثة الصغيرة بجدية و اهتمام
(صحيح أنت تشبهين دمية جميلة الآن، الا أنني جلبت لك دمية أخرى، هي أقل جمالا منك لكنها تشبهك الى حد كبير).

و خلال دقائق كان السرير مفروشا بالألعاب، و مسك تشاركها اللعب كطفلة صغيرة...
فدعت أم أسماء قائلة بقلب موجوع
(عوضك الله عن حرمانك من الذرية بحب الناس لك يا ابنتي، اللهم آمين)
تسمرت مسك مكانها و رفعت وجهها تنظر الى المرأة العفوية، بينما هتفت أسماء بحدة و يأس
(أمي، أمي أمي)
نقلت مسك عينيها بينهما، ثم نظرت الى أسماء مطولا و سألتها بصوت هادىء لا تعبير له
(كيف عرفت؟).

أخفضت أسماء رأسها و انعقد حاجبيها بأسى، الا أنها همست بخفوت
(جمعنا نعرف)
لم يبدو على ملامح مسك أي مشاعر، بل سألتها بنفس الصوت الأجوف
(أمجد هو من أخبركم؟)
رفعت أسماء رأسها و نفت بشدة قائلة
(السيد امجد لا يتكلم عن حياته الخاصة و أسراره مطلقا، صحيح هو طيب و متواضع جدا. ، الا أن حياته الشخصية خط أحمر)
سألتها مسك ببطىء
(اذن ممن عرفتم؟)
اخفضت أسماء وجهها، ثم قالت بصوت خافت.

(هناك أناس قريبين منك يا سيدة مسك، الا أنهم يضمرون لك الشر)
ضاقت عينا مسك قليلا، ثم سألتها مباشرة
(من؟)
نظرت أسماء الى أمها، تطلب منها النصيحة، ثم أعادت عينيها الى مسك و قالت بحدة.

(صديقتك، السيدة غدير، في البداية كنا نعلم أنها مقربة جدا من السيد أمجد و قد توقع جميعنا أنها ستكون خطيبته، الا أننا فوجئنا ذات يوم بزواجها من آخر، فاعتقدنا أننا قد أخطأنا الفهم، خاصة و أن السيد أمجد طيب مع الجميع، و يتكلم مع الجميع و يجالسنا جميعا، و نحن كنا نحب السيدة غدير فهي على الرغم من ملابسها العصرية الحديثة، الا أنها متواضعة كالسيد أمجد تماما، كانت تشبهه جدا و تفعل كل ما يفعله، تجلس معنا أرضا و تشاركنا الطعام و تمزح معنا دون ألقاب، لكن بعد زواجكما، بدأت أشعر أنني لا أحبها، فهي تتعمد اخبار الجميع كل على حدى بم، بمرضك، و أنك، لن تنجبي أطفال، إنها تتحدث من باب الشفقة، لكنني لم أعد أشعر بالراحة لها، و هناك شيء آخر).

صمتت قليلا خائفة، فحثتها مسك بقوة
(تابعي يا أسماء، أنا أسمعك)
ردت أسماء تقول بشجاعة
(بصراحة، أنا أراها مع السيد امجد كثيرا مؤخرا، و كلما غادرته يتحول الى شخص لا يشبهه، عصبي و متوتر، حتى أنني رأيته يدخن سيجارة بعد خروجها من مكتبه وهو الذي لم يفعلها من قبل، و، و، منذ يومين رأيته يعرض عليها أن يقلها لبيتها)
تصلبت ملامح مسك واشتدت نظراتها حتى بدت كصقر جارح، أما شفتاها فقد تحولتا الى خط حاد...

فهمست أسماء لها بقلق
(أنا لا أعرف كيف تفوهت بكل هذا ما أن رأيتك! صدقيني أنا آسفة)
نظرت مسك الى زهرة و داعبت ضفائرها الاصطناعية، ثم قالت بصوت باهت
(لي نصيب كي آتي اليوم و أسمع منك كل هذا)
الا أن أسماء قالت بتوسل
(لكن السيد أمجد ليس ملاما، فهو يعرض علينا جميعا أن يقلنا إن وجد أحدنا في ورطة، و قد أقلني أكثر من مرة، السيد أمجد يتعامل بعفوية و طيبة قلب)
ردت مسك بإختصار دون أن تنظر اليها
(نعم أنه يفعل هذا).

نهضت أم أسماء و اقتربت من مسك و فتحت يدها و ناولتها شيئا أغلقت يدها عليه...
(خذي هذه يا ابنتي، ستقيك من حقد الحاسدين)
نظرت مسك الى راحة يدها المفرودة، فوجدت بها سلسال به مصحف صغير، فنظرت الى المرأة و قالت بدهشة
(لكنها من الذهب الخالص!)
أجابتها المرأة و هي تربت على وجنتها
(الذهب للألماظ، اليس هذا ما يدعوك به زوجك؟)
رفعت مسك حاجبيها وهي تنظر الى أسماء التي سارعت بخفض رأسها، فقالت مسك بنبرة حادة.

(يبدو أن السيد أمجد يتحدث عن حياته الشخصية أكثر مما تظنين)
قالت أسماء بسرعة
(لا والله، إنه فقط أحيانا يخطىء في لفظ اسمك حين يتكلم عنك بالخير، يقول المظ فيضحك الجميع)
زمت مسك شفتيها و سألتها
(و بماذا يضحكم علي أيضا؟)
ردت أسماء مؤكدة،
(لا شيء والله بخلاف فقط الخف على شكل بقرة، و الذي اعتقده فأرا في بداية زواجكما).

زفرت مسك نفسا حادا من بين شفتيها، الا أن بعض الذكريات الجميلة داهمتها بغدر غير متوقع، جعلتها تتوق الى تلك الأيام...
مدت مسك كفيها خلف عنقها و خلعت عنها سلسالا ذهبيا كانت ترتديه، فوضعته حول عنق زهرة، الا أن أم أسماء هتفت برفض تام
(لا يا ابنتي، هذا سلسال أكبر و أثقل وزنا، ليس بعد كل ما فعلته)
قاطعتها مسك بنبرة حازمة
(هذا السلسال، أريدك أن تلبسيه إياه و هي عروس شابة).

ثم أمسكت بذقن الصغيرة ترفع وجهها اليها، تنظر الى عينيها الخضراوين، ثم تابعت تقول بنبرة جميلة مبتسمة
(لأنها ستكبر و تصبح شابة و عروس تسرق القلب، ان شاء الله)
همست أسماء بإختناق
(يا رب)
سمعا طرقا صاخبا على الباب فجأة، مصحوبا بأصوات مزامير و صفارات، فسألت مسك بدهشة
(ما هذه الأصوات؟)
ردت أسماء مبتسمة بسعادة رغم الدموع في عينيها
(إنهم شخصيات و ابطال، يقومون بزيارة الأطفال المرضى للترفيه عنهم).

ثم توجهت الى الباب و فتحته و كأنما فتحت بوابة مهرجان ملون صاخب...
فدخل عدد من المهرجين و بطل اسطوري و أميرة رائعة الجمال، يغنون و يصفرون حاملين البالونات
بينما أخذت زهرة تصفق بكفيها بسعادة و فرحة خالصة، أما مسك فقد كانت تنظر الى ما يحدث و هي تضحك بصوت عال منبهرة، تتمنى لو كان هناك من يفعل لها هذا أثناء مرضها...

و بينما هي تصفق معهم، سمعت صوت رنين هاتفها فأخرجته و اجابت، ثم قالت عاقدة حاجبيها و هي تخرج من الغرفة
(نعم أنا زوجة أمجد الحسيني)
صمتت قليلا تحاول استيعاب ما تسمعه، ثم قالت بحدة
(، أضمنه؟، أي قسم شرطة؟، لماذا، ماذا فعل؟)
صمتت قليلا ثم همست بذهول
(لكم اشرف الرافعي في عينه اليمنى؟، و ماذا عنه؟، هل أصابه شيء؟)
صمتت للحظة ثم هتفت بإستياء
(أعرف أنه قسم شرطة و ليس مشفى، أنا فقط أريد أن أطمئن، هل أصيب؟).

صمتت تسمع، ثم رفعت حاجبيها و هي تكرر
(بعض الرتوش؟).

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة