قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السابع

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السابع

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السابع

(لم أضحك بهذا الشكل منذ، منذ، لا أتذكر حتى المرة الأخيرة التي ضحكت فيها بهذه القوة)
راقبها وهو يجمع بعض الأكواب الفارغة منحنيا، ينظر اليها بصمت، دون تعبير معين يعلو وجهه الجامد.
لكن عيناه كانتا قصة أخرى، فقد كان ينظر اليها بنظرة غريبة، شديدة العمق و، الخوف...
أما هي فكانت و كأنها قد عادت الى سن الثامنة عشر من جديد، تضحك بعينين تنغلقان على شكل هلالين، و فمها الشهي على أقصى اتساعه...

ابتسم قاصي ابتسامة باهتة وهو يراقب شعرها الأهوج ذي التجاعيد المميزة و التي لفها لها بنفسه...
حتى بدت كإحدى فتيات الإعلانات...
ربما عليه أن يعمل كمصفف شعر نسائي، عميلته الوحيدة هي تيماء المهلكة...
تأثيرها عليه كتأثير السوط اللاسع، بروحها المتمردة، و تزمتها الظاهري، بينما بداخلها تمتلك كل الجموح العاطفي الذي تعرف اليه قديما، بل أن حتى سلاح عقابهم العقيم، لم ينجح في نزع هذا الجموح من قلبها...

لم يمنع جمال قوامها المترافق مع حركة كيانها و الذي تجعله يتناغم معها في رقصة لا يعرفها سواهما...
تابعت تيماء و هي تتابع كنس الصالة بالمكنسة اليدوية القديمة التي لا تزال على حالها منذ أكثر من عشر سنوات و التي نظفت بها شقته في المرة الأولى التي زارته فيها...

(لم أصدق عائلة الرافعي من الممكن أن تمتلك مثل هذا الحس الفكاهي أبدا، على الرغم من أن كل منهم بدا على وشك ضرب زوجته، الا أنهم كانوا شديدي الطرافة)
لم يرد قاصي، بل ظل على حاله، يجمع الأكواب التي انتهت منذ فترة طويلة وهو ينظر اليها بتلك النظرة الضائعة...
أما هي تابعت قائلة بحماس جديد عليها، أو ربما استعادته أخيرا بعد أن كانت قد دفنت روحها مع جنينها الصغير...

(لأول مرة أشعر بأن لي عائلة، كنت أظنهم سيتعاملون مع الزيارة بشكل قاتم، رسمي، لكنهم كانوا و كأنهم معتادين على زيارتنا و الكلام، بل و الضحك أيضا)
رفعت وجهها و توقفت عن الكنس للحظة، و نظرت اليه قائلة بجدية على الرغم من الإبتسامة التي لا تزال مرتسمة على وجهها الطفولي البهي...
(أتعلم السبب في هذا؟)
لم يرد قاصي على الفور وهو ينظر اليها طويلا، بنفس الملامح الشاردة، ثم أجابها بخفوت أجش واه
(لماذا؟).

لم تلحظ تلك النبرة الضائعة في صوته الأجش الرجولي الخافت، فردت عليه بحماس و حرارة
(إنها روح العائلة التي تربوا و نشأوا عليها، تلك التي تجعلهم على نفس القدر من التقارب من أي أي فرد من أفراد نفس العائلة، مهما ابتعد أو سافر أو تغرب، لكن القيم التي نشأوا عليها تجعل صلة الدم بينهم، المتحدي الأكبر لأي ابتعاد أو اغتراب، هذا لاحظته في أول اجتماع لي في دار الرافعية بعد عودي من السفر، هل تذكر؟).

أجابها قاصي بصوت أكثر خفوتا، و عمقا
(و هل يعقل أن أنسى!)
لكنها للمرة الثانية لم تلحظ النبرة في صوته، بل تابعت قائلة بإهتمام...
(كان أغلبهم عائدين من سفر لعام أو أكثر، الكثير من العادات المختلفة، و الملابس العصرية و أخرى تقليدية، و درجات من التعليم و الثقافة متفاوتة، لكن ما أن يجتمعوا حتى تذوب كل تلك الإختلافات، و كأنهم كانوا طوال العام يقطنون بيتا واحدا بطباع واحدة، لم تفصلهم المسافات و العادات).

صمتت تيماء قليلا و هي تتابع الكنس بملامح شاردة و قد بدأت الإبتسامة في الغروب عن شفتيها...

(الا أنا، كنت غريبة تماما، و كنت رافضة للتواصل، كنت أهب غضبا كريح عاتية، حين يسألني أحدهم السؤال التقليدي، ابنة من أنت! كان جواب السؤال يعد إهانة لي، لم أملك وقتها سوى جواب واحد، انا ابنة الرجل الذي قضى عمره محاولا ابعادي عن تلك العائلة و كأنني مرض أو عدوى، عامة، لقد انتهى كل هذا، فحتى جدي نبذني هو الآخر، ولم يدعونا الى الإجتماع السابق، لقد مر تاريخه. و من المؤكد أنهم قد أقاموه).

ساد الصمت تماما و هي تتابع الكنس بملامح ساكنة غير مفهومة، بينما قال قاصي بصوته الخشن، ناظرا اليها بجمود...
(لكن الوضع تغير الآن، لم يعد الجواب إهانة، و أكتشفت للتو أن التقارب مع عائلتك متعة)
صمت للحظة، فرفعت تيماء وجهها تنظر اليه بصمت، تراقب وقوفه البعيد القوي...
علي الرغم من الكوبين الفارغين في احدى قبضتيه، و كيس القمامة الأسود في القبضة الأخرى...

لكنه لا يزال بنفس الرهبة في النظر اليه، ملامحه القاسية و عيناه العميقتان بمشاعر متضاربة...
فتح فمه أخيرا و تابع يقول بصوت غامض لم تفهمه
(زهو، فخر لك، تلك النظرة في عينيك لم تستطيعين اخفائها و أنت تراقبين كلا منهم، و كأنها نظرة تقول، أنا فرد من هذه العائلة، ذات الأصل و النسب و الإسم المتوارث عبر أجيال لا تنتهي).

لعقت تيماء شفتيها بصمت و هي تنظر اليه طويلا، ثم هزت كتفها محاولة التظاهر باللامبالاة قائلة ببساطة
(ليس تماما، مستحيل أن أكتشف مثل هذا الزهو و الفخر بعد كل هذه السنوات، أنا نشأت بعيدة كنبتة برية ذات أشواك حادة، لا جذور لي، لذا من الصعب أن)
قاطعها قاصي قائلا بصوت أكثر قسوة قليلا، على الرغم من عدم ارتفاع نبرته...
(لا).

نظرت اليه تيماء مجفلة من نبرته القوية، فرفعت حاجبيها متسائلة، حينها تابع قائلا بصوت أجش
(أنا من لا جذور له، و لا نسب، أما أنت فلك، الوضع يختلف، اختلافا كبيرا)
ابتلعت تيماء غصة توتر حادة في حلقها و هي تواجه نظرته التي أحرقتها، أوجعتها، أخافتها...
و في نفس الوقت أثارت بها نفس الجانب الأمومي اللعين منها...
فقالت أخيرا بخفوت متجاوزة هذا الموضوع عن قصد.

(هذا لم يعد مهما الآن، أنا كبرت، نضجت، أصبحت لي حياتي و دراستي و عملي، لقد أنشأت لنفسي الحياة التي تليق بي).

هل أنا جزء من هذه الحياة التي تليق بك؟، أطل هذا السؤال الأسود من خلف غيوم شروده وهو ينظر اليها، الا أنه لم ينطق به، بل ابتسم بسخرية
فالجواب واضح للأعمى...
مجرد اقتران اسمه، بالحياة التي تليق بها لا يجتمعان...
وجوده في حياتها يبدو كالبقعة السوداء في سجل أبيض مشرف...

استدار قاصي عنها، غير قادرا على النظر اليها وهو يشعر بطعم الدم في حلقه و كأن أحدهم قد نحر عنقه بسكين خاطفة، لا تؤلم، الا أنها قاطعة، لا تقبل الشك...
كالحقيقة المرة التي يحياها كل يوم من أيام حياته العنيفة، حتى اعتاد عنفها...
حولت تيماء الموضوع عن قصد و هي تستعيد روحها المرحة فقالت ضاحكة
(و جميعم في كوم، بينما فريد في كوم آخر، هذا الشخص هزلي و طريف بدرجة لم أرها على أحد من قبل).

تسمر قاصي في مكانه، و لمعت عيناه شرا، ثم استدار اليها مجددا ببطىء وهو ينظر الى ملامحها المشعة ببريق الشقاوة من جديد...
فتابعت بنفس النبرة المبهجة...
(لا أصدق أن طبيب مثله قضى عمره في الدراسة و لا يزال، و يمكن له أن يمتلك مثل هذا القدر من الروح الساخرة و المرحة، أنا لم أتوقف عن الضحك للحظة واحدة، مجرد ملامحه الشابة تضحكني دون أن يبذل مجهودا).

ظل قاصي واقفا في مكانه وهو ينظر اليها و السواد يسود عينيه و ملامحه، أما هي فقد كانت غير مدركة لكل هذا القدر من السواد، فرفعت اصبعها قائلة بجدية
(لكن على الرغم من مرحه و طرافته، الا أنه مثقف بطريقة مذهلة، حين تحادثنا قليلا، اكتشفت أننا تشاركنا قراءة الكثير من الكتب، و نظرته لكل منها مبهرة، و حبه لتخصصه أبهرني أكثر، الوراثة متعلقة بمجال دراستي بطريق غير مباشرة).

كان قاصي يقترب منها ببطىء وعيناه السوداوان عليها، تترصدانها بشر و نيران مهددة...
و ما أن انتهت من كلماتها حتى أجفلت و هي تراه واقفا على بعد خطوة واحدة منها ينظر اليها بطريقة قتلت المتبقي من الكلام في حلقها، فرفعت وجهها تنظر اليه في حيرة و هي تبتلع ريقها بقلق...
الا أنه أسقط كيس القمامة من يده أرضا دون اهتمام، حتى تناثر بعض ما به خارجا...
و لف خصرها فجأة بذراعه يجذبها الى جسده وهو يقول بصوت أجش.

(ارقصي معي)
ارتفع حاجبيها و هي تسأله بصدمة كمن يخاطب مختل عقليا
(الآن؟، نحن نقترب من منتصف الليل!)
أجابها قاصي بنفس النبرة الخشنة دون أن تحرر عيناه عينيها الواسعتين
(ماذا يمنعنا؟)
صحيح، ما الذي قد يمنعهما؟، هو و هي متواجدان معا الآن، في هذه اللحظة...

الماضي خلفهما و المستقبل لا اشارة له، ابتسمت تيماء قليلا ببطىء، ثم دفعته في صدره بكلتا قبضتيها دفعة لم يتوقعها خاصة مع نظرة الشقاوة في عينيها، فابتعد عنها لخطوة رافعا احدى حاجبيه، أما هي، فقد اتجهت الى مسجل الأغاني و المكنسة في يدها، ثم نظرت اليه بجذل، قبل أن تشغل احدى الأغاني الشعبية...
مما جعله يرفع حاجبيه معا وهو يراقبها مصدوما و هي ترفع المكنسة بقبضتيها فوق رأسها لتتمايل أمامه كأفعى تحتضر...

فغر قاصي شفتيه قليلا وهو يراقبها، ثم سألها بخفوت
(هل يفترض أن يكون هذا رقصا شرقيا؟)
همست له و هي تتابع رقصها له بعفرتة
(و ماذا سيكون غير ذلك؟، هل أنت أعمى؟)
ظل قاصي صامتا قليلا، ثم أجابها بخفوت منبهر
(بل أنت العمياء يا مهلكة، فما تفعلينه قد يسمى تلبكا معويا، أو إحدى نوبات الكلى، لكن بالتأكيد، لا يشبه من سبق و رأيتهن من الراقصات قديما!).

اختفت الإبتسامة عن وجهها و هي تقول مقتربة منه، تدفعه في صدره بقبضتيها حتى تراجع و سقط جالسا على المقعد خلفه...
(هذا لأنك كنت ترى القمامة فقط، لم ترى من قبل رقص الفتيات المحترمات)
جلس قاصي مكانه وهو يراها تبتعد عنه لتعاود رفع المكنسة فوق رأسها متابعة رقصها بكل حرية و دون خجل أو حرج، ضاحكة ضحكة سرقت روحه...
ففغر شفتيه بذهول، كانت تتراقص كأفعوانية مجنونة، و جسدها الصغير المهلك يتمايل له فقط...

تذكر في زمن قديم مقاومته النظر لهذا الجسد الصغير ذو الإكتنازات المستديرة في نضوج مبكر...
و تحولت الدهشة على فمه الى ابتسامة شاردة، ثم ضحكة وهو يغمض عينيه بينما هي تميل اليه بظهرها حتى لامس شعرها صدره، تحرك كتفيها و صدرها في محاولة بائسة لتقليد الراقصات...
أخذ يضحك عاليا و هي تضحك مثله، مستمتعة بتلك الضحكة المرتسمة على شفتيه، ثم استقامت متابعة رقصها و هي تصرخ به بشقاوة.

(قم و ارقص معي، أم أنك كبرت على الرقص يا جدي!)
برقت عينا قاصي بخبث وهو ينهض بسرعة هاتفا بها
(جدك راقد في داره شفاه الله، أما أنا)
صمت ليندفع اليها، قبل أن يرفعها فجأة كتفيه لتسقط المكنسة من يديها، فصرخت تيماء و هي تشهق رعبا و قد انقلبت الرؤية أمام عينيها، بينما هو يرقص بها مستديرا بها، يؤرجحها و كأنها لا تزن شيئا...
و هي تصرخ به بعنف ضاحكة
(أنزلني يا قاصي، أشعر بالدوار).

الا أنه تابع رقصه بها وهو يهتف ضاحكا، (ليس قبل أن تعتذري)
صرخت برعب و هي تضحك بهيستيريا
(آسفة، آسفة يا مجنون أنزلني، أرجوك أشعر بالدوار)
عطف عليها أخيرا فأنزلها على قدميها، فترنحت و العالم يدور بها، بينما التقط هو المكنسة من الأرض و أخذ في العزف عليها بعنف و كأنها جيتار، مغنيا بصوت جهوري عالي...
مما جعلها تغطي فمها بكفيها و هي تعاود ضحكها بهيستيريا...

حيث كان جسده الضخم يتراقص بمهارة و بطريقة غربية لا تتلائم مع اللحن الشرقي المنبعث من المسجل...
أغمضت تيماء عينيها و هي تنحني على نفسها من شدة الضحك...
كان يبدو في شدة الحماقة وهو يرقص و خصره يتلوى غربيا...
لكنها استقامت و هي تقفز فجأة واقفة فوق الأريكة و أخذت تشاركه الرقص بجنون...
تباطئت حركاته قليلا و خفت صوته وهو ينظر اليها ترقص فوق الأريكة مغنية بصوت جهوري...
فبهتت ملامحه بينما لمعت عيناه...

هي، هي نفسها الطفلة المجنونة التي رقصت فوق نفس الأريكة و هي في سن الرابعة عشر!
لقد استعاد طفلته، والله هي نفسها...
لا يعلم الى متى ستظل بحوذته، الا أنه في تلك اللحظة استعادها...
كان قد توقف عن الحركة تماما وهو ينظر اليها مذهولا من مدى جمالها، و ما أن انتبهت اليه، حتى تباطىء رقصها و خفت صوتها تدريجيا الى أن توقفت تماما لاهثة بتعب...

كان صدرها يرتفع و ينخفض بسرعة جنونية، خاصة مع اقترابه منها، حتى وصلها اليها و جذبها اليه بقوة فسقطت على صدره شاهقة...
الا أنه لم يكن ليسمح لها بالسقوط أرضا، بل تلقاها بين ذراعيها بقوة و دون كلمة أخرى...
كان يحتوي أنفاسها اللاهثة بنهم...
ارتجفت تيماء قليلا و هي ترفع ذراعيها ببطىء لتحاوط بها عنقه واقفة على أطراف أصابعها وهو يعيش بها عالما منفصلا تماما، عنيف المشاعر...

حتى أن أصابعه آلمتها بقوة، لكنها لم تعترض، بل سمحت له أن يتمادى في ايلامها، و ركزت هي على شغف قبلته، علها تستمد منها الشغف و الحرارة، و شعرت أن هذا ليس مستحيلا أو بعيدا...
و مرت بهما الدقائق بطيئة، أو ربما سريعة، لا تستطيع التحديد تماما...
تراجع رأسها الى الخلف و هو يقبل عنقها بقوة هامسا باسمها و كأنه خلاصه الوحيد...
أجابته همسا، توسلا و ترجي الا يتركها
(نعم، نعم يا قاصي، نعم).

و تقبل هو دعوتها بجموح عنيف، رنين هاتفه المفاجىء، جعل جسده يتشنج بقوة، و يتسمر مكانه...
مرت بضعة لحظات قبل أن تفيق تيماء من مشاعرها المجنونة، على جسد قاصي الذي توقف تماما وهو يرفع وجهه عنها ببطىء، ملتفتا الى هاتفه...
مما جعلها ترمش بعينيها و هي تهمس بخفوت غير مستوعبة
(قاصي!).

لكنه لم يرد عليها، بل أنه لم يسمعها من الأساس و مضت لحظة قبل أن تدرك أن هاتفه يصدر رنين مختلف لإتصال خاص، و كأنه قد خص المتصل بنغمة مختلفة، كي يدركه على الفور...
ظلت تيماء واقفة بين ذراعيه، تنظر اليه لاهثة، بينما هو ملتفتا برأسه عنها ينظر للهاتف...
فسألته أخيرا بصوت أجش دون مشاعر
(هل ستجيب؟)
نظر اليها قاصي بسرعة، و على الفور لاحظت تغير ملامحه و انقلاب روحه الى السواد مجددا...

ثم قال أخيرا بنبرة جافة متباعدة
(هذا اتصال مهم، يجب أن أجيبه)
علي الفور انتزعت نفسها من بين ذراعيه و هي تقول بخفوت باهت
(لماذا يبدو صوتك بنبرة اعتذار و كأنني توقعت العكس؟، تعامل بحرية)
و دون انتظار رده كانت قد ابتعدت عنه و هي تلملم الفوضى التي أحدثها بها، ثم انحنت لتلتقط كيس القمامة الذي كان ممسكا به، و المكنسة و تتجه بهما الى المطبخ، بينما كان رنين الهاتف قد توقف...

لكن هذا غير مهم، فالنغمة الخاصة التي خص بها المتصل، أخبرتها دون جدل أنه سيعاود الإتصال به...
دخلت تيماء الى المطبخ، ثم حاولت بلامبالاة أن تتابع عملها ببرود...
لكنها كانت تخدع نفسها، لقد غادرها البرود، و اشتعل بداخلها نبض الحياة من جديد...
و نبض الحياة مع قاصي معناه ألم متجدد...

حاولت التصرف بمشاعر ميتة، الا أنها عجزت، فألقت المكنسة أرضا، ثم استندت الى حوض المطبخ و هي مطرقة برأسها تزفر بغضب، بمشاعر متضاربة...
رفعت رأسها مجددا تنظر الى الباب، و دون ارادة منها تحركت عليه ببطىء و دون صوت، تراقب قاصي عن بعد و الذي كان كما توقعت يعاود الإتصال بمن سبق و قطع عليهما تواصلهما...
لكنه الآن كان بملامح مختلفة عن ذاك الذي كان يضحك بقوة و لا يرى في العالم سواها...

أرهفت تيماء السمع جيدا بحرص، الى أن قال قاصي فجأة بصوت مظلم متوتر
(نعم، و عليكم السلام، أستاذ فاروق، عذرا لأنني لم أجيب اتصالك، لا، لم أنام بعد، لا الوقت ليس متأخرا، لا تعتذر من فضلك، كنت أنتظر اتصالك، هل تمكنا من الحصول على إذن بالزيارة؟)
أمالت تيماء رأسها أكثر و هي تركز كل حاسة السمع لديها كي تعرف ما يحدث...
الى أن تكلم قاصي أخيرا بصوت خاتف، الا أنه مشتد، شديد القتامة و الخطورة.

(جيد، شكرا لك، لن أنسى لك هذا المعروف مطلقا، نعم، سأكون جاهزا في الموعد)
صمت للحظة، ثم قال مسرعا بقوة
(استاذ فاروق، مع كامل احترامي لك، لكن أريد أن أكون بمفردي أثناء زيارتي لعمران، أريد الكلام معه وحدنا، لا، لن أتهور مطلقا، أعدك بهذا، أريد فقط بعض الوقت معه وحدنا)
تنهد في النهاية مرتاحا، وهو يقول
(أشكرك، لقد ساعدتني كثيرا خلال الفترة الماضية، كنت نعم العون، أشكرك).

أغلق قاصي الهاتف ووضع جانبا، قبل أن يتجه الى النافذة لينظر منها بصمت...
أما تيماء فوقفت تراقبه بإبتسامة ساخرة مريرة...
لقد انتهى الحلم أسرع مما تخيلت، كالعادة...
نبض حياة مع قاصي معناه ألم متجدد...
استدارت مبتعدة عن باب المطبخ، و أخذت تغسل الأكواب و الصحون بكل عنف، بينما عينيها غاضبتين، مجروحتين من سبب لا تعرفه...

لكن فجأة وقع طبق من بين يديها بقوة في الحوض متكسرا بعنف حين شعرت بكفين دافئين يمسكان بخصرها من الخلف...
و صوته الذي همس في أذنها فجأة بنبرة ساخنة خشنة
(حاذري)
وقفت تيماء مكانها دون أن تستدير اليه، بينما كانت ملامحها باهتة و عينيها داكنتين...
انحنى قاصي برأسه اليها ليقبل أسفل أذنها برقة و نهم، هامسا بصوت أجش
(أين توقفنا؟)
أخذت تيماء نفس مرتجف، ثم قالت بنبرة عادية لا تحمل أي مشاعر.

(توقفنا حيث قاطعنا الإتصال على هاتفك)
اشتدت أصابعه على خصرها للحظة، الا أنه همس لها بنبرة متسلطة
(دعك منه)
ضحكت تيماء بسخرية و قالت ببساطة
(على ما يبدو أنك أنت من لم يفعل)
مججدا توقفت حركة قاصي للحظة، الا أنه التقط نفسا عميقا استطاعت سماع صوته حادا، لكنه قال أخيرا بصوت أجش وهو يداعب جسدها بقوة
(انسيه)
لكن تيماء استدارت اليه تواجهه بقوة و هي ترسم اللامبالاة على وجهها مع ابتسامة بسيطة و سألته بهدوء.

(من كان؟)
التقت عينا قاصي بعينيها، و للحظة ظنت أنهما فعلا مرعبتين، الا أنه ابتسم أخيرا ابتسامة باردة وهو يقول بإختصار
(شخص غير مهم)
ارتفع حاجبيها و هي تسأله بدهشة زائفة
(شخص غير مهم؟، ليس هذا هو ما لاحظته! لقد توترت جدا و تصلب جسدك، لما لا تخبرني؟)
نظر قاصي جانبا وهو يتنفس بنفاذ صبر، بينما هي تراقبه و قد زالت الدهشة و اللامبالاة عن وجهها ليحل محلهما الجمود القاسي، بعينين قاتمتين...

الى أن نظر اليها قاصي أخيرا و قال بصوت متوتر
(الأمر لا يخصني)
ابتسمت ابتسامة باردة و أجابته
(عجبا! من يخص اذن؟، لقد سمعتك تقول أنك أخذت اذن بالزيارة لكنني لم أفهم)
ظل قاصي ناظرا اليها و قد بدأ غضبه الذي تعرفه جيدا يسيطر عليه، الا أنها لم تعد تخشاه، ليس لديها ما تخشاه، لكنه تمالك نفسه في اللحظة الأخيرة و قال بنبرة صادقة تماما
(اسمعي، الأمر يخص السيدة سوار).

ارتفع حاجبي تيماء دون رد، بينما تابع قاصي بنبرة لا تقبل الشك
(هذا الأمر سري جدا، و لم يكن من المفترض أن تعرفيه، أنا سآخذها لزيارة من قتل سليم رحمه الله، هي تريد أن تسمع منه، لقد اعتمدت على في البحث عنه و الكلام معه، هل تدركين الآن خطورة الأمر؟)
ساد الصمت طويلا بينهما و هي تنظر اليه بجمود تام دون أي تعبير على ملامحها الساكنة و عيناها اللتان أغلقتا نوافذ روحها أمام عينيه المتوترتين...

كيف له أن يكذب بهذه البساطة؟
كيف يستطيع النظر الى عينيها و الكذب عليها بمثل هذه المهارة دون أن يرف له جفن...
بل السؤال الأصح هنا هو، لماذا هي مندهشة من الأساس؟
هذا هو قاصي معها، دائما و أبدا...
ابتسمت قليلا و هي تطرق بوجهها، بينما مال اليها ليحاول أن يستعيد تلك اللحظات الخاصة بينهما مجددا، لكنها أسرعت بدفعه عنها و هي تقول بحدة
(كفى يا قاصي، انا متعبة)
عقد حاجبيه وهو ينظر اليها بحدة، ثم قال بصوت متوتر.

(لم يكن هذا هو رأيك منذ قليل!)
رفعت وجهها اليه و هي تنتزع نفسها من بين ذراعيه لتهتف بحدة
(توقف عن تحويل أي وقت مرح الى مثل ما تريد، أنا لا أريد الآن، لا يزال لدي عمل طويل و غسل الأطباق)
توترت قبضة قاصي بشدة و دون أن يهتم التقط احد الأطباق ليرفعه ثم رماه أرضا ليتحطم هو الآخر بينما صرخ بقوة.

(ملعونة الأطباق و غسلها الآن، هل تتلاعبين بي؟، ماذا بك؟، مرة تقربيني اليك و مرة أخرى تبعديني عنك و تتحولين الى نبتة صبار شائكة، لقد تعبت من تحول مزاجك السريع، أنا أحاول جاهدا أن أتعامل مع ألمك بعد الولادة، الا أنك بت لا تطاقين)
صرخت به تيماء بحدة و غضب، و ألم، ألم مجنون
(و أنا لا أريدك أن تحاول، لم أطلب منك أي مساعدة، أنا هنا لسبب واحد فقط)
جن جنونه وهو يندفع اليها هاتفا بغضب.

(جيد، و ها أنا أتم جانبي من المهمة بمنتهى التفاني، فإياك و الإعتراض اذن)
أخذت تقاومه و هي تصرخ به بغضب
(ابتعد عني، أنا سئمت منك، تعبت، تعبت)
ابتسم لها بسخرية شريرة وهو يقول هازئا
(تعبت و لم نبدأ بعد!)
لم يكن وحده هو من جن جنونه، لم يكن هو وحده من تعب من الآخر...
لذا و دون تفكير و جدت كل ألمها القديم يندفع في طاقة غريبة لترفع يدها و تصفعه فجأة بكل قوة...

وقف قاصي مكانه و قد تسمر مكانه تماما، و هي أيضا نظرت اليه مذهولة، تتنفس بسرعة و بعدم تصديق، فإبتلعت ريقها بضعف و هي تتوقع منه صفعات و صفعات ردا على ما فعلت...
لكنها لم تكن خائفة منه، بل كانت مصدومة من نفسها...
الى أي مدى حولها خذلانها منه الى امرأة مجنونة تصفع زوجها...
الى أي مدى نجحت كذبة واحدة منه في تفجير كل ما بداخلها من احساس بالخيانة و عدم الثقة تجاهه...

فتحت تيماء فمها هامسة بصوت ميت لم تتعرف اليه
(قاصي، أنا آسفة، لم أقصد)
أدار وجهه المخيف جانبا بينما انقبضت كفه بشدة أكثر، ثم همس بصوت شرس من بين أسنانه
(اسدي لنفسك خدمة، و ابتعدي عن عيني تماما في تلك اللحظة)
الا أنها وقفت مكانها تعض على شفتها، ثم همست
(قاصي، أنا، )
لكنه صرخ فيها بوحشية
(ابتعدي من هنا يا تيماء قبل أن أرد لك الضربة، ابتعدي).

غشت الدموع عينيها، و ارتجفت شفتيها، الا أنها استدارت و خرجت من المطبخ تجري حتى وصلت الى غرفتها فأغلقت الباب و استندت الى، مغمضة عينيها قبل أن تشهق بالبكاء في صمت تام...
لقد آلمها، آلمها لأنه لا يزال يعيش في سواد الماضي...
لا يراها أمامه، إنها مجرد قرص مسكن له، لتخدير الألم الأبدي لديه...
لكنه في الحقيقة لا يبصرها كالأعمى، و لا يزال يدور في دوامة الماضي و دوامة عمران الرافعي...

بعد أن أحيا بها الروح التي ماتت بموت طفلها، لا يزال هو في دواماته...
نبض الحياة مع قاصي معناه ألم متجدد، و الموت لها بدونه رحمة، و راحة...

(أتيت شامتا؟، أم أن مشاعر الأبوة تحركت بيننا فجأة و أنا خلف القطبان!)
سرى في جسد قاصي رعدة من خطر بارد، مغلف بنبضات من النفور الفوري ما أن سمع صوت اكثر من كره في حياته يتردد من خلفه...
للحظات لم يستدر اليه وهو يحاول جاهدا ارتداء قناع الجمود الخافي لكل ما بداخله من ضعف و احتضار، ممتزجة بالرغبة في القتل ببطىء...
و ما أن نجح حتى استدار اليه ببطىء وهو يبتسم ابتسامة باردة، مخيفة...
ثم قال بإستهزاء.

(كم كبرت يا عمران! الا يطعموك هنا جيدا؟)
أظلمت عينا عمران الرافعي وهو ينظر الى قاصي الواقف أمامه كالطود الشامخ، بينما هو قد انحنت كتفاه قليلا و بدأ العجز يظهر عليه فجعله قصيرا صاغرا أمامه...
تحكم الغضب بداخله و فقد قدرته على السخرية من هذا الإبن عديم الأصل و الشرف، فقال بنبرة مقيتة
(لماذا أتيت؟).

ضحك قاصي بهدوء وهو يتأمل كل ذرة من جسد عمران ووجهه الشاحب المتعب، لكن الشر في عينيه فطرة، لم تختفي من برودة الزنزانة و قسوة أرضها...
ثم قال بسخرية واضحة، مهينة
(لست في وضع يسمح لك بإلقاء الأسئلة، أنت هنا لتسمع فقط)
رفع عمران رأسه و همس من بين أسنانه
(قذر، كالذي أنجبتك)
طار قناع السخرية عن وجه قاصي و اشتدت قبضتاه، أما عيناه فقد تحولتا الى عيني مجرم...

و بالفعل دب الخوف في جسد عمران من رؤيته الى هذا التحول الذي طغى على هذا الولد...
لطالما كان مختلا سريع الإنفعال، وهو يتوقع منه التهور في أي لحظة...
فتح قاصي فمه أخيرا و قال بصوت غريب
(لا تخف بهذا الشكل، لم آتي الى هنا لأقتلك و أخلص العالم من دنائتك، لو أردت فعلها لفعلتها و أنت خارج القطبان، لقتلتلك ببطىء حتى تصرخ ألما طالبا الرحمة قبل أن تموت في النهاية ككلب في الطريق لا صاحب له).

ارتفع حاجبي عمران وهو يهمس بشراسة من بين أسنانه
(أنت تكلمني أنا بهذه الطريقة أيها الوضيع؟، هل نسيت أصلك!)
ارتفع حاجبي قاصي بسخرية استعادها بمعجزة وهو يقول ببرود
(كيف أنساه و قد ابتليت بأن يكون من أصلك أنت قسرا، غصبا)
صرخ عمران فجأة وهو يستدير.
(أخرجوني من هنا، لا رغبة لي في البقاء مع ابن الحرام هذا، اخرجوني من هنا)
الا أن صوت قاصي علا على صوته وهو يقول بهدوء صلب مشتد.

(اجلس، اجلس و اهدأ يا عمران، فلدي عرض لك)
التفت عمران اليه و هتف بحدة و تقزز
(عرض منك أنت! أنت لا يأتي منك الا الخراب و الشر، أنت لعنة لكل من يعرفك أو تقع في طريقه، يكفي أنك عضضت اليد التي امتدت اليك، اليد الحمقاء الغبية، يد سالم الغبي، فماذا كان ردك للجميل؟، انتهكت شرفه و تلاعبت بإبنته الغبية).

ضحك قاصي ببساطة وهو يقترب منه ببطىء، لكن ما أن وصل اليه حتى اختفت ضحكته فجأة و تحولت ملامحه الى ملامح شيطان وهو يقبض على مقدمة ملابسه فجأة حتى جحظت عينا عمران وهو يبدو على وشك الإختناق بينما همس قاصي بنبرة خفيضة مخيفة
(اياك، أنت تتحدث عن زوجتي بالسوء، زوجتي، كررها علك تستوعب أنني لم أرث منك حب القذارة و انتهاك أعراض البسطاء، الآن، هل تسمع عرضي لك أم أتهور و أقتلك في نوبة غضب لن تفيد كلانا؟).

ظل قاصي ينظر اليه برعب و إختناق الى أن حاول المقاومة بضعف، فتركه قاصي أخيرا و رتب له ملابسه وهو يقول بهدوء، بينما عمران يسعل بقوة
(جيد، على ما يبدو أننا بدأنا نستوعب بعضنا أخيرا، تعال لنجلس قليلا، فأنت تبدو على وشك السقوط أرضا)
و دون انتظار رد منه جذبه من مقدمة ملابسه مجددا في حركة واحدة حتى أسقطه جالسا على أقرب كرسي...
ثم جلس أمامه بسلطان و عظمة، بينما عمران يراقب تلك الهيبة مذهولا...

لكن قاصي لم يهتم، بل وضع ساقا فوق أخرى، و حرص أن يكون نعله موجها لوجه عمران...
أما عمران فكان ينظر الى فخامة ملابسه و هيئته الجديدة، بينما البغض و الحقد يشتدان في عينيه، ثم قال أخيرا بصوت مكتوم
(تلك النعمة الظاهرة عليك الآن هي نتيجة السرقة التي نهبتها مني، أيها المجرم)
ارتفع حاجبي قاصي و قال ببساطة
(أي سرقة؟، أتقصد القضية المقبوض عليك بسببها حاليا؟، كيف هذا و قد تم ضبط البضاعة كلها في أحد مخازنك!).

ارتجف فك عمران بقسوة بينما همس من بين أسنانه بجنون
(أنت من فعلها، لا أحد غيرك)
مط قاصي شفتيه و قال ببرود
(تقصد أنني أنا من أبلغت الشرطة عنك؟، بالطبع فعلت، فهذا حق الدولة، و أمام حق الدولى تتضائل الروابط العائلية)
هتف عمران بقسوة
(لم أخزنها في المخازن، أنت من فعل)
رد قاصي بنفس البساطة، (اثبت هذا، لماذا ظللت صامتا حتى هذه اللحظة؟، قدم اثباتك و حرر نفسك)
ظل عمران ناظرا اليه بحقد أسود، ثم همس أخيرا بوحشية.

(هل تظن الآن أنك قد نلت مني؟، ستكون واهما، أيام و أخرج من هنا، فأنا لدي الحل لهذه القضية)
ضحك قاصي و قال بسخرية
(أعرف، أعرف أنكم ترتكبون الجرائم و لديكم الحلول مسبقا، لكن هذه المرة الأمر معقد، فلقد عكفت على دراسته طويلا، سنوات من العمل لأجله، لذا، فأنا من لديه الحل هذه المرة، فهل تريد سماعه؟)
ظل عمران صامتا ينظر اليه دون رد، فقال قاصي بهدوء متراجعا في مقعده.

(سأعتبر صمتك موافقة، أنا أدخر في قبضتي دليل وحيد على برائتك، برائتك الوهمية بالطبع كما أعرف أنا و أنت، الا أنني أمتلكه، فما رأيك؟)
رد عمران بخشونة
(قبل أن أسمعه، ما هو المقابل؟، كم تريد؟)
لم يرد قاصي على الفور، بل ظل صامتا طويلا الى ان قال في النهاية ببرود
(لا أريد قرشا من مالك العفن)
ضاقت عينا عمران أمام عيني قاصي المخيفتين، ثم سأله بصوت حذر
(ماذا تريد؟)
أجابه قاصي بنبرة قاسية ميتة المشاعر.

(أريد اعتراف علني منك بما ارتكبته في حق أمي، اعترافا بأنك اغتصبتها منذ خمسة و ثلاثين عاما)
ساد صمت ثقيل بينهما، بينما ارتفع حاجبي عمران ببطىء، قبل أن ينفجر فجأة ضاحكا بشدة أمام عيني قاصي الجامدتين بلا شعور، منتظرا اياه الى أن ينتهي من ضحكه...
و ما أن خفتت ضحكاته قليلا حتى صمت فجأة ثم مال الى قاصي وهو يهتف من بين أسنانه كالشيطان.

(هل فقدت البقية الباقية من عقلك الأسود الحقود؟، تريد مني أنا، عمران الرافعي، الإعتراف بجريمة اغتصاب! هل بلغ بك جنون العظمة أو الغباء أن تتخيل موافقتي على أمر كهذا؟)
لم تهتز عضلة في ملامح قاصي وهو يستمع الى كلمات عمران المجنونة، ثم قال أخيرا ما أن صمت و بصوت مظلم، ساكن كسكون القبور
(هذه التهمة ستسقط بالتقادم، هذا بخلاف أن أمي لم يكن لها أي أوراق أو هوية، أي أنه لا ضحية تبنى عليها قضية من الأساس).

كان عمران يتنفس بسرعة وهو يستمع الى قاصي، و مر صمت طويل بينهما، يحمل دما، يحمل كرها، و يحمل سوادا مخيفا، كهوة سحيقة لا قرار لها...
ثم تكلم عمران أخيرا بصوت بدأ يماثل صوت قاصي جمودا
(و تريدني أن أفضح نفسي بنفسي!)
ظل قاصي صامتا قليلا، ثم قال أخيرا ببرود
(هذا إن أردت الخروج من قضية حالية، أرى أن تبرئة أمي، ثمنا أكثر شرفا و راحة لك).

أفلتت من بين شفتي عمران ضحكة ساخرة واهية، ثم صمت تام، بينما كان قاصي يجلس أمامه كصنم حجري بارد، بينما بداخله روح تحترق بنيران هوجاء...
ثم تكلم عمران أخيرا، و قال بصوت بطيء مشددا على كل حرف وهو ينظر الى عيني قاصي...
(لو توقفت حياتي نفسها على أن أفعل ما تريد، فلن أفعله، ليس خوفا من الفضيحة، بل كي لا تنعم في حياتك بلحظة انتصار مطلقا، و هذا وعد مني).

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة