قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثامن

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثامن

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل الثامن

نظرت تيماء الى ساعة الحائط، ثم سارت الى النافذة بقلق، بينما أمها تنظر اليها بإمتعاض قائلة
(قلقة على حبيب القلب؟)
رمقتها تيماء بنظرة مبهمة، ثم أدارت وجهها دون رد، فمنذ أن خرج صباحا، لم تسمع منه شيئا و لم يجب أيا من اتصالاتها...
و الآن قاربت الساعة على الثانية صباحا، مضى أكثرمن أربع و عشرين ساعة، لم تره خلالها و تسمع عنه شيئا...
ألهذه الدرجة آلما بعضهما ليلة أمس، أم أنه رأى عمران الرافعي بالفعل؟

أمسكت تيماء بالستار و هي تتنفس بقلق متسائلة عن التهور الذي تهوره هذه المرة، أي جريمة ارتكب...
ماذا فعل كي يختفي هذا الإختفاء؟
تنهدت و هي تبتعد عن النافذة تفرك أصابعها بتوتر، فقالت ثريا ببرود.

(صدقيني حتى الآن لم أستطع فهم تركيب عقليتك مطلقا! أستاذة جامعية مثلك، المستقبل أمامها واعدا، ليس هذا فحسب، بل أن والدك قد رضى عنك أخيرا، و بت قادرة على التنعم بخيره كاملا، و عوضا عن الإمتنان لهذا و الإلتفات الى حياتك و مستقبلك، تقفين الآن في هذه الشقة الشبيهة بالجحر، تنظرين ما بين الساعة و النافذة خوفا على حبيب القلب، الذي لا يليق بالعمل كخادم لديك! تبا لك يا فتاة أي غبية أنت!).

أغمضت تيماء عينيها و هي تحك رأسها بتعب و توتر، ثم قالت اخيرا بحدة
(أمي، لماذا لا زلت مستيقظة حتى الآن؟، اذهبي للنوم رجاءا)
قالت أمها بقرف
(في الغرفة الوحيدة الموجودة بتلك الشقة الحقيرة؟، و أتركك هنا في انتظار خائب الرجا لحين عودته كي يمد يده عليك و يكسر المزيد من الأغراض فوق رأسك)
تأففت تيماء ثم هتفت بقوة
(أمي!)
الا أن ثريا نهضت من مكانها منفعلة و هي تهتف.

(ماذا؟، الا تظنين أننا لم نسمع صراخكما ليلة أمس أنا و جارتك المصون من مطبخ بيتها؟، ياللهي لقد سمعنا غنائكما الصاخب المجنون، ثم خلال دقائق سمعنا صراخكما و تكسير الصحون، أي حياة مجنونة تلك التي تتمسكين بها؟)
تأوهت تيماء بعذاب و استدارت بعيدا عن امها، الا أن ثريا عادت وواجهتها و هي تمسك بذراعها قائلة بإصرار.

(يا ابنتي لماذا تفعلين هذا بنفسك؟، أنت تستحقين الأفضل، درجة تعليمك و عائلة والدك و ما سترثين فيما بعد يجعل منك أميرة تتدلل)
نظرت تيماء الى ثريا بصمت، ثم قالت أخيرا بصوت باهت
(جاء متأخرا منك جدا هذا الإهتمام يا أمي، متأخرا جدا)
هتفت ثريا بغضب و هي تشدد على ذراعها بقسوة.

(لا تخاطبيني بهذه النبرة مجددا يا بنت، سمحت لك بها مرتين و لن أتهاون في الثالثة، لطالما اهتممت بك حتى و إن لم يكن بالشكل الذي يرضيك، لكنني اهتممت بك و رفضت تلك العلاقة بمنتهى الشدة ما أن عرفت بها، لكنني لم أجد الوقت لأمنعها بنفسي، فقد سبقني والدك، و الآن و بعد كل هذه السنوات نعود الى نفس الحرب مجددا و تخسرين والدك بسبب هذا الصعلوك؟)
هتفت تيماء بغضب حاد و جنون.

(هذا الصعلوك، أنت مقيمة في جحره الآن، و ان كان لا يليق بك فعودي الى شقتك يا أمي، أنا لا أمنعك، لكن قومي برعاية نفسك و حمايتها، لا تطلبي مني ترك حياتي و بيت)
صمتت تيماء فجأة و استدارت عن أمها مبتلعة الباقي من كلماتها العاطفية المتسرعة...
لكن ثريا ابتسمت بسخرية و سألتها بخفوت.

(لماذا توقفت و قطعت كلامك يا تيماء؟، لماذا لم تكملي الكلمة؟، قوليها، بيتك، لكن هل هو بيتك فعلا؟ أراهن أنك لا تشعرين بالكلمة أصلا)
ظلت تيماء تنظر الى البعيد بصمت، طويل، الى أن قالت أخيرا
(ليس بيتي يا أمي، هل ارتحت الآن؟، ليس بيتي و لن أبقى هنا للنهاية)
نظرت اليها ثريا بلهفة، ثم هتفت و هي تمسك بكتفيها.

(اذن ماذا تنتظرين بالله عليك؟، أن تقع الفأس في الرأس و تحملين بطفل آخر منه! اتركيه الآن و أنت على البر)
ابتسمت تيماء ابتسامة باهتة جامدة، فلا أحد يعلم أن هذا هو السبب الوحيد تحديدا و الذي جعلها تعود الى قاصي...
أغمضت عينيها بتعب، بينما قالت أمها بخفوت.

(لماذا يا تيماء؟، لماذا لا تنجين بنفسك قبل أن يدمغك بإعاقته للأبد، أنتما يا ابنتي مختلفان، من عالمين متباعدين جدا، و قد جربت بنفسك و تحديتينا بنفسك فرأيت النتيجة بعينيك)
ظلت تيماء صامتة بينما همست أمها تقول بصوت حاولت قدر الإمكان أن تجعله مقنعا
(استخدمي عقلك المتفوق في الدراسة مرة واحدة، مرة واحدة فقط، هل هناك أملا في حياة مستقرة مع قاصي؟، سيظل اقترانك به وجعا لقلبك، ووصمة في حياتك و حياة اطفالك).

استدارت تيماء تنظر اليها بصمت ثم همست اخيرا بخفوت
(لم أقل لك نفس الكلام حين تزوجت شخص لا يليق بك يا أمي، بل تمنيت لك السعادة على الرغم من تأكدي بأنها لم تكن سوى نزوة و ستفيقين منها على صفعة قوية)
أسبلت ثريا جفنيها بألم، ثم همست بصوت مرتجف.

(هل تعايرنني يا تيماء؟، حسنا أنا أقبل، لكن غاب عنك شيء هام، أنا لم يعد لدي مستقبل، لا حياة تنتظرني، أنا مجرد امرأة كانت تريد أن تسرق وقتا مختلسا من السعادة الزائلة، لأنني في شبابي اقترفت خطأ واحدا، ظللت عمري بأكمله أدفع ثمنه، و لم أكن حتى أمتلك ذرة من مؤهلاتك. أما أنت فتملكين كل شيء، فلما تجازفين بما تملكين يا تيماء؟، لماذا؟، اللعنة على قلبك الغبي يا بنت!).

ابتلعت تيماء الألم في حلقها و هي غير قادرة على الرد، غير قادرة على الإنكار...
عقلها ليس مغيبا، بل هو مدركا تماما، الى أنها ستخسر كل شيء مع قاصي، و قد تخسر نفسها...
هي من كانت تختار التضحية بكامل ارادتها...
صمتتا فجأة على صوت المفتاح، فاستدارتا بسرعة الى قاصي الذي دخل الى الشقة...
وهو بادلهما النظر بصمت...

و من نظرة واحدة الى وجهه، عرفت تيماء أنه قابل عمران الرافعي، فشهقت بخوف و هي تضع يدها على قلبها...
و ظل ينظر اليها بعينيه الحمراوين المجدتين و هي تحاوره بعينيها في صمت، لكن ثريا كانت هي أول من تكلم، فقالت ساخرة بتقريع
(لا يزال الوقت باكرا يا زوج ابنتي، طبعا، طالما أنه فندق و به جارية تنتظرك دون أن ترد حتى على أحد اتصالاتها فمن حقك أن)
هتفت تيماء فجأة تقاطعها بصرامة دون أن تنزع عينيها عن عيني قاصي.

(اذهبي الى غرفتك الآن يا أمي)
نظرت اليها ثريا بحدة، و قالت بإستياء
(لن أتركك معه بعد أن)
الا أن تيماء التفتت اليها و قالت بصرامة قاطعة
(الآن يا أمي، أو قسما بالله سآخذه و نخرج من هنا و نبيت ليلتنا في أي مكان)
ارتفع حاجبي أمها و هي تنظر اليها بغضب، ثم رمقت قاصي بنبرة نارية، قبل أن تستدير و تتجه الى غرفة النوم متذمرة لتصفق بابها بعنف...

أما تيماء فأعادت عينيها الى قاصي و هي تقترب منه ببطىء، الى أن وقفت أمامه تماما، ثم همست بخفوت
(تستطيع أن تكسر البيت، أن تحرقه، تستطيع أن تكسرني أنا شخصيا أو تضربني، لكنك لن تريح نفسك بهذه الطريقة، بت تعلم هذا أفضل مني، فقط خذ نفس و تحكم في غضبك)
و قبل أن يرد عليها مدت قبضتيها لتمسك بكفيه بين يديها و همست متابعة و هي تنظر الى عينيه
(اهدأ، اهدأ و لا تترك العنان لغضبك).

لم يتحرك قاصي من مكانه و لم ينزع عينيه عن عينيها وهو يمسك بكفيها، يلامسهما بأصابعه كالأعمى الذي يحتاج الى من يرشده...
ثم ابتسم فجأة ابتسامة صغيرة على الرغم من الألم الصارخ بعينيه، و همس
(لدي خطة أفضل، أريد النوم بين ذراعيك، فقط النوم، لا أريد اي شيء آخر صوى أن أريح رأسي على صدرك يا أستاذة).

انحنى حاجبي تيماء ما بين دهشة و حنان غمر قلبها بجنون كموجة عاتية، الا أنها لم تستطع الكلام للحظات، و ما أن وجدت صوتها حتى أمسكت بكفه و جذبته خلفها و هي تقول بخفوت
(تعال)
وصلت الى الأريكة التي كانت تشغلها كتبها و حاسوبها و نظارتها، فأبعدتهم بحرص، لكن و بينما هي تفعل، أضائت شاشة الحاسوب و رآها قاصي، فعقد حاجبيه قليلا، ثم سألها بصوت أجش
(ماذا كنت تفعلين؟).

نظرت تيماء الى عينيه فرأت أنه ينظر الى شاشة حاسوبها، فنظرت اليها هي الأخرى طويلا، قبل أن تغلقه و تضعه مع كتبها على الطاولة الصغيرة، ثم استقامت و رفعت وجهها اليه قائلة بخفوت
(كنت أراسل جامعتي، لقد اقترب الفصل الدراسي)
ثم أطرقت برأسها غير قادرة على مواجهة عينيه، فأنتظرت منه أن ينفجر أو يصب المزيد من غضبه عليها...

لكنه ظل صامتا ينظر اليها دون حركة، فرفعت كفيها ببطىء لتنزع عنه سترته، ثم أخذت تفك له أزرار قميصه واحدا تلو الآخر، بينما هو واقف مستسلم لها تماما، حتى أجلسته على الأريكة برفق، ثم انحنت أمامه و خلعت له حذاءه، قبل أن تدفعه برفق كي يستلقي، ثم تمددت بجواره و هي تضمه اليها كي يريح رأسه على صدرها و هي تهمس بخفوت أجش
(تعال).

حرك قاصي رأسه بتعب الى أن ارتاح تماما وهو يستدير ليتشكل كامل جسده مع جسدها و كأنهما خلقا في تكوين واحد متطابق، بينما أخذت تمشط شعره بأصابعها برفق، حتى همست أخيرا بخفوت
(قابلت عمران)
لم يكن هذا سؤال، بل أمر واقع، لم يندهش و لم يتحرك من مكانه، فقط بعض التوتر طاف بعضلات جسده و استشعرته بوضوح، ثم قال أخيرا بصوت ميت
(كنت تعلمين اذن!)
أراحت شفتيها على جبهته و هي تهمس
(سمعتك)
رد قاصي بصوت جاف خافت.

(لم أكذب عليك، كانت هناك زيارة أخرى، لفواز الهلالي، رافقت بها السيدة سوار، ثم سلمتها الى ليث و ابتعدت)
ابتسمت تيماء ابتسامة حزينة لم تستطع تفسيرها، ثم همست و كأن حوارهما سرا لا يجوز لغيرهما سماعه
(لكنك اخترت أن تستثني قول ما يخصك)
لم يرد قاصي، كان كل رده هو أن رفع يده ليضعها على بطنها، يتحسسها برفق، فنظرت اليها تيماء و نفس الإبتسامة الحزينة لم تغادرها، و قالت بخفوت
(ألن تخبرني عما حدث بينكما؟).

هز قاصي رأسه نفيا وهو يقول
(أمضيت في الخارج أكثر من عشر ساعات كي أعود اليك ميت المشاعر فلا ترين مني ما يزيد من خوفك و نفورك)
اختفت ابتسامتها الآن، و ارتجفت شفتاها، ثم همست بصوت مصدوم
(متى شعرت أنا بالنفور منك يا أحمق؟)
رد عليها قاصي قائلا بصوت مختنق
(لو كنت رأيت وجهك، كما رأيته أنا ليلة أمس، لعرفت الجواب)
أغمضت تيماء عينيها و هي تقبل جبهته مجددا، ثم قالت أخيرا بصوت باهت.

(باليأس، نعم، بالتعب، ربما، بأشياء كثير مؤلمة، لكن بالنفور! قطعا لا)
قال قاصي بجفاء بنبرة اتهام
(لكنك لم تدخرين وقتا كي تسعين الى جامعتك ما أن أدرت لك رأسي)
اهتزت حدقتي تيماء، الا أنها رفعت رأسها و أخذت نفسا عميقا قبل أن تقول بصوت جاف
(لا تدعي الصدمة يا قاصي، أنت تعرف أن دراستي هي كل ما تبقى لي من هدف في هذه الحياة. )
داعبت كفه بطنها بطريقة جعلت قلبها يخفق بعنف بين أضلاعها، بينما أجابها بصوت غريب.

(عرفت، باتت هي هدفك الأخير بالفعل، عرفت هذا منذ فترة)
ارتبكت تيماء قليلا و لم تجبه، الا أنها همست بخفوت
(إن كنت لا تريد الكلام، فنم قليلا، لقد أطلت الغياب خارج البيت)
لكن قاصي رفع رأسه ينظر اليها و هالها منظر ملامحه و عينيه، فوجعها قلبها عليه ألما، أما هو فرفع أصابعه يتلمس بها ملامح وجهها الطفولي...
عينيها، أنفها المستدير، شفتيها الشبيهتين بالوردة الجميلة. ، مرورا بالوحمة الوردية الصغيرة...

ثم همس لها بصوت أجش
(وجهك بات يختلط في مخيلتي بملامح أمي، كثيرا ما أحلم بها مؤخرا، لكن الغريب، أن ملامحك تكون هي ملامحها)
تبا له و لوجع قلبها معه، يعرف تماما كيف يضنيها...
لكنها تمكنت من الإبتسام بمرح و همست بإختناق
(خسارة، و أنا التي كنت أظنها جميلة، بماذا تحلم؟)
هز قاصي رأسه غير مستوعبا، ثم همس وهو يتتبع ملامحها بأصابعه...

(لا أستطيع التذكر، لكني بت أراها بجلبابها الأسود و غطاء رأسها الثقيل الملون المحيط بوجهها و عنقها...
لكن ما أن تستدير إلى، حتى أرى أن لو عينيها بلون الفيروز المتوهج، ثم أفاجأ أنها ملامحك)
ارتجفت شفتي تيماء و انحنت برأسها تقبل جبهته بقوة و هي تغمض عينيها، كما أطبق هو جفنيه بتعب...
و لم تتتركه الا و قد راح في سبات عميق و لحيته الفوضوية تخدش بشرة صدرها.

لكنها لم تمانع، تستطيع الآن و في تلك اللحظة أن تمنحه حياتها لو طلبها...
و لا فكرة لديها كيف سيكون الغد، فلتتركه لحين شروق شمسه...
بينما وقفت ثريا في بداية الرواق تراقبهما بصمت و يدها على الجدار، دون أن تصدر صوتا...
بينما انهمرت دموعها على وجنتها غزيرة و هي تتذكر تلك الأيام التي كان يبعث قاصي الحياة فيها ببيتهما...

اختلست النظر اليه بحذر وهو يجلس على الأريكة ناظرا أمامه دون هدف، شارد العينين، بينما ملامحه جامدة تماما...
لو تستطيع اقتحام عقله لفعلت، حتى الآن لا تصدق كيف مرت ليلة أمس بسلام...
دون صراخ، أو احدى نوبات غضبه...
كل ما طلبه هو أن ينام بين ذراعيها، و يريح رأسه على صدرها، و هذا هو ما حصل عليه...

و بعد أن ناما سويا لا يفصل بينهما نفس واحد، سبقها و استيقظ قبلها لتجد نفسها مغطاة بسترته التي خلعتها عنه ليلة أمس، بينما كان هو واقفا ينظر من النافذة بصمت...
و من وقتها وهو على نفس الحال، لم يكلمها عن سبب زيارته لعمران، و لم يخبرها عما جرى بينهما...
اقتربت تيماء منه الى أن وقفت بجواره تنظر من النافذة مثله، ثم همست له بخفوت
(هل أنت بخير؟).

أخفض قاصي رأسه ينظر اليها، ثم ابتسم ابتسامة مختصرة وهو يتأمل ملامحها و شعرها الفوضوي...
و أومأ برأسه ليقول بصوت أجش
(نعم بخير)
حاولت الإبتسام كذلك، الا أنها لم تفلح، فأعادت وجهها تنظر من النافذة بصمت، فسألها قاصي بنبرة خافتة
(ألم تستيقظ ثريا بعد؟)
هزت تيماء رأسها نفيا و هي تقول مبتسمة بسخرية
(لقد نامت في وقت متأخر كما تعلم)
ابتسم قاصي دون أن تصل تلك الإبتسامة الباهتة الى عينيها، ثم قال بصوت بارد.

(سهرت و هي تحاول اقناعك بالفروق المروعة بيننا، و كيف ستكون حياتك جحيما معي، أكثر مما هي عليه بالفعل)
نظرت اليه تيماء مصدومة، فقابل نظرتها بنظرة قوية اخترقت كيانها، ثم قال بصوت أجش
(أنا أيضا سمعتكما قبل أن أفتح الباب ليلة أمس)
لعقت تيماء شفتها الجافة و أعادت عينيها الى النافذة غير قادرة على الإنكار، ثم قالت بعد فترة بصوت متعثر
(لا تشغل نفسك بما تقوله ثريا، تعامل معها على قدر عقلها).

استدار قاصي ينظر اليها ثم قال بخفوت
(يبدو أن عقلها كان واعيا للمرة الأولى، ليس هذا رأيها وحدها، بل رأي مسك أيضا، و سالم، و جدك، لا يوجد مخلوق على هذه الأرض راض عن زيجتنا)
كانت تيماء تنظر اليه بعينين معذبتين و قلب مجروح بشدة، و لم تستطع الرد، بينما تابع قاصي يقول بصوت أكثر خفوتا
(حتى أنت لست راضية، تريدين الهرب بأسرع مما تظنين).

استدارت تيماء للنافذة مجددا و هي غير قادرة على مواجهة عينيه، ثم همست باختناق و هي تلامس زجاج النافذة البارد بأصابعها...
(لم أجد لديك ما راهنت عليه بكل شيء)
انعقد حاجبي قاصي و توترت عضلات فكه، بينما استدار هو الآخر ينظر من النافذة، و قد آثر كلاهما الصمت...
و طال بهما الوقوف على هذا الشكل، الى أن سمعا رنين هاتف قاصي...

فالتفت كلاهما ينظر اليه في وقت واحد، ثم نظر الى بعضهما في صمت و كأنه ضربة أخرى في جدار علاقتهما المتهاوية، ربما كانت الضربة الأخيرة و القلب لم يعد قادرا على التحمل...
استمر الرنين قليلا و كل منهما أسير لعيني الآخر، الى أن تحرك قاصي الى الهاتف ببطىء فالتقطه و رد بصوت قاتم، بينما عيناه على عينيها القلقتين...
راقبته تيماء و هي تكتف ذراعيها حول جسدها المرتجف، بينما كان قاصي يرد بصوت أجش.

(عليكم السلام يا حاج سليمان، هذه مفاجأة، سارة بالتأكيد)
فغرت تيماء فمها بقلق أكبر
جدها! جدها يتصل بقاصي!
ازداد انعقاد حاجبي قاصي وهو ينظر اليها قائلا
(الجمعة! كلانا! لماذا يا حاج؟ هل حدث شيء؟)
استمع للحظة أخيرة ثم قال أخيرة وهو ينظر الى تيماء قائلا بخفوت
(أمرك يا حاج، سأخبرها)
أغلق قاصي الهاتف ليضعه مكانه، ثم نظر الى تيماء الواقفة تنظر اليه بقلق متزايد، الى أن قال أخيرا.

(كان هذا جدك، طلب مني السفر اليه لأصلي معه صلاة الجمعة القادمة، و طلب أن تأتين معي)
فغرت تيماء فمها غير مستوعبة، ثم سألت
(لماذا؟، بعد كل هذه الأشهر! هل ازداد مرضه؟)
ازداد انعقاد حاجبي قاصي وهو يقول بعدم فهم
(بدا لي صوته ثابت، صارم)
قالت تيماء تسأله و هي تشير لكليهما
(و يريدنا أن نذهب سويا؟، ألم يأمرنا الا نعود للبلد سويا مطلقا؟)
فتح قاصي كفيه وهو يقول بصوت متوتر.

(هذا ما طلبه، و لا فكرة لدي عن السبب، الا تريدين رؤيته؟)
ظلت تيماء صامتة قليلا، ثم قالت أخيرا بصوت ثابت و هي تستجمع شجاعتها
(بلى أريد، لن أسامح نفسي مطلقا، لو حدث لجدي شيء دون أن أراه).

أكثر من خمسة عشر ساعة في القطار، ممسكان بيدي بعضهما...
كانت تيماء تنظر الى الأراضي المترامية و التي تبدو و كأنها تجري بسرعة، تسابقهما للوصول...
تتذكر بحزن المرة السابقة التي سافرا فيها سويا، مطرودين، و منبوذين سويا، الا أنهما كانا يحلقان فوق الغيوم الوردية...
لقد تزوجا أخيرا، بعد سنوات من الفراق، كان قلبها في هذا اليوم يخفق بوهج غير طبيعي...

تلتهم ملامحه بنهم و هي لا تكاد تصدق نفسها بأنها أصبحت زوجته فعلا...
ابتسمت بسخرية مريرة و هي تتأمل حالهما الآن، فنظرت الى أصابعه الممسكة بكفها بقوة و كأنه يحميها من شيء يجهله، و بقدر اشتداد قبضته على كفها، كانت المسافات التي تفصل بينهما بعيدة جدا...
رفعت تيماء عينيها الا أنها أجفلت حين وجدت عيني قاصي تنظران اليها بصمت متربص...
فهمست بأول سؤال خطر على بالها
(هل اقتربنا؟).

رد قاصي بصوته العميق دون أن يبعد عينيه عنها
(أوشكنا على الوصول، هل أنت خائفة؟)
ظلت صامتة قليلا و هي تتأمل ملامحه، . ثم قالت
(مما أخاف، قديما كانوا يملكون القدرة على اصدار القوانين، و الآن؟، حاربنا القوانين و انتصرنا عليها، لكن انظر الينا)
أظلمت عينا قاصي بشدة، دون رد، ثم قال أخيرا بجفاء
(نعم، انظري الينا، شيء محزن، اليس كذلك)
ابعدت تيماء وجهها عنه و ساد الصمت بينهما الى أن وصلا...

خلال ساعة واحدة، كان كلاهما يجلس في سيارة سليمان الرافعي التي يقودها عبد الكريم عبر الطريق الترابي المتعرج...
ظلت تيماء تتأرجح في السيارة بقوة و ارتمت على قاصي عدة مرات، و كان كل مرة يستبقيها بين أحضانه برفق شبه مبتسم. وهو ينظر اليها فتعاود الجلوس مرتبكة، و ما أن تدير وجهها الى نافذة السيارة حتى تبتسم في الخفاء...
بداخلها شىء يبزغ من بين غيوم الحزن المتجمعة، شيء يشعرها أنها برفقة زوجها الذي تحب...

و ستدخل على عائلتها و كفها بكفه...
تنهدت تيماء بينما سأل عبد الكريم فجأة وهو ينظر الى مرآة السيارة
(اذن انت تزوجت من ابنة الخواجاتية يا قاصي)
نظرت تيماء اليه رافعة حاجبيها، ثم قالت متطوعة للإجابة
(لحظة واحدة، للمرة الألف يا عبد الكريم، أمي ليست خواجاتية يا عبد الكريم، متى ستتعرف على بالله عليك)
نظر اليها عبد الكريم و قال بحيرة
(لكن لماذا تبدو عيناك بهذا اللون الغريب؟)
مطت تيماء شفتيها و هي تقول يائسة.

(أجرينا هذا الحوار منذ عام و نصف يا عبد الكريم، أنا تيماء، ابنة سالم الرافعي، حفيدة سليمان الرافعي، أمي من مدينة ساحلية، لكنها بالتأكيد ليست خواجاتية)
رفع عبد الكريم كفه وهو يسأل بتذمر
(و ما الذي أدراني أنا بأمك)
هتفت به بغيظ
(اذن لماذا تسأل؟، ركز في القيادة، أراهن أنك تحفظ جميع شجرة العائلة و تتعمد نسياني دائما)
رد عبد الكريم بإختصار
(أعرف أن السيد سالم له ابنة، هي مسك الرافعي).

رمقته بنظرة حادة و هي تقول بإيجاز
(هي أختي، لكن أمي ليست خواجاتية)
أومأ عبد الكريم برأسه مستوعبا، ثم سألها أخيرا...
(أمك من عائلة من؟)
أطرقت تيماء بوجهها و هي تسند جبهتها بكفها، بينما ضحك قاصي وهو ينظر من نافذته، ثم قال أخيرا بصوت واثق هادىء
(هي زوجتي يا عبد الكريم، منذ اليوم يمكنك تمييزها بأنها تيماء زوجة قاصي الحكيم، و لا يهم أي قرابة أخرى غير ذلك).

نظرت تيماء اليه بصمت، بينما بادلها النظر بعينيه القادرتين على اذابة عظامها حتى يومهما هذا...
و بينما هما ينظران الى بعضهما، سألهما عبد الكريم قائلا
(هل لديكما أطفال؟)
عند هذا السؤال، انقطع التواصل بينهما، فنظر كلا منهما من نافذته و باعدهما الصمت مجددا...

دخلت تيماء الى دار الرافعية ممسكة بكف قاصي، أو بمعنى أصح هو الذي لا يزال ممسكا بها في مواجهة الجميع، ناظرا حوله و كأنه يتحدى أي رجل هنا، قد يعارض حقه في كونها زوجته...
أدارت تيماء وجهها في أرجاء المكان تتذكر تفاصيله بدقة، و شعرت بحنين غريب اليه و كأنه يخصها بالفعل، فهذا المكان ذو سحر غريب...

و بينما هما واقفان في منتصف البهو بقلق، سمعا صوت سليمان الرافعي ينادي بنبرته المعتادة و التي يشوبها بعض الإنهاك
(تعالي يا ابنة سالم، كنت أنتظرك)
نظرت تيماء الى قاصي، ثم عادت بعينيها الى باب المضيفة التي خرج منها سليمان الرافعي مستندا الى عصاه، يضع عبائته الغالية على كتفيه وهو ينظر اليها مبتسما بإنهاك...

فتركت تيماء كف قاصي لتجري الى جدها و دون تردد دفعها حافز كي تنحني على كفه الممسكة بعصاه تقبلها بقوة، ثم استقامت لتضمه بقوة، و هي تهتف بصوت مبحوح يرتجف
(سلامتك يا جدي، اشتقت اليك، لو تدري كم اشتقت اليك)
بدا سليمان الرافعي مرتبكا من سلامها الحار غير معتاد عليه، ثم رقت عيناه ببطىء قبل أن يرفع يده الحرة ليربت بها على رأسها وهو يقول بصوته الأجش المتعب...

(لو كنت قد اشتقت لجدك لكنت أتيت لزيارته على الرغم من أي شيء، على الرغم من أوامره هو شخصيا)
رفعت وجهها اليه و همست من بين دموعها الحبيسة و بصوت يرتجف
(حدثت لي العديد من الظروف، سامحني يا جدي، كنت كمن ألقى بنفسه في دوامة متسارعة هو غير قادر على التخلص منها)
ربت جدها على وجنتها ثم قال وهو يشير بعصاه الى قاصي الواقف خلفها قائلا بصراحة.

(حذرتك من الزواج بهذا الولد فلم تصدقيني و أردت خوض النار لذا عليك تحمل حريقها و ألمها)
توترت ملامح قاصي و تشنجت أصابعه، الا أنه لم يتكلم، كان قلقا، يراقب تيماء بشراسة و كأنه خائفا من أن يخطفوها منه بالقوة و يطردونه خارجا، خاصة و هو يلمح سالم واقفا خلف سليمان مع باقي أعمام تيماء، المتواجد منهم على الأقل...
التقت نظرات سالم و قاصي في صمت حاقد، بينما قال سليمان رافعا رأسه.

(لا وقت للكلام الآن، لقد أوشكت الصلاة على البدء و خفت الا تدركا الموعد، تعال معي يا قاصي، أريدك واقفا بجواري)
تحرك سالم ليمسك بذراع والده وهو يسأله بصوت متردد
(هل أنت واثق يا حاج؟، هل صحتك تتحمل هذا؟)
بدت تيماء أكثر خوفا و قلقا و هي تنظر اليهما فأمسكت بكف جدها و هي تقول
(جدي، إن كنت غير قادرا على الخروج، فعذرك معك)
نظر اليها جدها طويلا، ثم ابتسم بتعب وهو يقول.

(لأدرك ما تبقى لي من عمر يا صغيرة قبل أن يفوتني و أندم أمام رب العالمين)
عقدت تيماء حاجبيها قليلا بعدم فهم، بينما مد سليمان ذراعه الى قاصي و قال بهدوء مهيب
(تعال يا ولد، أوصلني بنفسك، أريد الدخول الى الجامع و أنت ممسكا بذراعي)
بدا قاصي متوترا وهو ينظر الى تيماء بخوف أكبر، جسده متحفز بالكامل و جاهز للدفاع، بل للهجوم إن اقتضى الأمر، فضحك سليمان قائلا بتعب.

(لا تخف يا ولد، لن نخطف زوجتك و لن نأكلها، هي في آمان، فهي في بيت جدها)
تحرك قاصي الى سليمان، حتى أمسك بذراعه بينما نظر الى تيماء و قال آمرا...
(لا تتحركي من مكانك يا تيماء، انا آت اليك، و لا تذهبي مع أي مخلوق غيري)
لم ترد تيماء. ، بينما ضحك سليمان وهو يهز رأسه ثم سحب قاصي معه بالقوة...
أما هي فوقفت في مواجهة والدها الذي كان ينظر اليها بصمت، ثم قال أخيرا بصوت أجش خافت.

(كيف حالك يا ابنة سالم، لم أراك منذ أن تسللت من بيتي مجددا، كي تعودي مع الرجل الذي أفسد حياتك و حياتنا)
أطرقت تيماء بوجهها و هي غير قادرة على النظر اليه، ثم قالت بخفوت
(الأمر ليس كما تظن)
رفع سالم حاجبيه و قال بحدة
(ليس كما أظن؟، ألم تهربي من بيت والدك لأجله مجددا؟ بعد كل ما حدث لك)
بدت غير قادرة على تفسير الأمر له، ففضلت الصمت...
لكنه تنهد متابعا بيأس.

(على العموم، لقد انتهى كل هذا و لم يعد بمقدورنا تغيير نصيبك الذي اخترتيه بنفسك)
عقدت تيماء حاجبيها و هي تنظر اليه بعدم فهم، بينما هو يبادلها النظر ثم قال بخفوت مفاجىء
(كيف حالك؟)
نظرت اليه تيماء بدهشة من سؤاله المفاجىء، و هي تهز رأسها قليلا، فتابع قائلا بصوت أجش
(هل صحتك أفضل؟)
بدت أكثر دهشة، لكنها أومأت برأسها و قالت بخفوت
(الحمد لله، أفضل بكثير)
تنهد سالم قائلا.

(جيد، يجب أن أذهب للصلاة الآن، و لنا حديث فيما بعد)
أومأت تيماء برأسها في صمت، بينما راقبته وهو ينصرف و في داخلها شعرت بشعور غير مريح...
غير مريح أبدا، فقد كان المتواجدون من أعمامها، ينظرون الى قاصي بطريقة غريبة أخافتها عليه جدا، و هي لا تأمن عليه بينهم، ماذا يريدون منه؟
لكنها تثق في جدها على الرغم من كل شيء، مهما كانت قسوته السابقة، الا أنه لا يغدر و لا يخون مطلقا.
أغمضت تيماء و هي ترفع وجهها هامسة.

احفظه يا الله، و أحطه برعايتك و رحمتك ممن يريد به السوء،
ما أن انتهت صلاة الجمعة، حتى قال الإمام الجامع في مكبر الصوت من على الممبر للمصلين المجتمعين من البلد كافتها...
(الحاج سليمان لديه ما يقوله، و يود من الجميع سماعه)
كانت تيماء في دار الرافعي تجلس بجوار أحد النوافذ المفتوحة، تستمع الى الصلاة و خطبة الجمعة، بعد انتهائهما فوجئت بما قاله الأمام في مكبر الصوت، فعقدت حاجبيها و هي تصغي بدهشة.

متسائلة عما يريد جدها قوله على الملأ و في مكبر الصوت كي تسمعه البلد...
أما قاصي فكان يستمع الى الإمام وهو ينظر الى سليمان بقلق، بعد انتهاءه من الصلاة بجواره، بينما قال سليمان
(ساعدني للوصول الى الممبر يا قاصي و قف بجواري)
عقد قاصي حاجبيه أكثر، الا أنه امتثل لأوامر سليمان، و ساعده في الصعود الى الممبر ووقف بجواره ممسكا بذراعه يدعمه، غير مستوعبا لما يحدث...

بينما بدأ سليمان الرافعي كلامه في مكبر الصوت قائلا بصوت وهن من المرض و تعب الضمير...

(السلام عليكم، لدي ما أقوله لديكم، كما قال الإمام، لدي ما أعترف به للبلد بأكملها و قد تأخر الإعتراف كثيرا و لم يعد في العمر بقية، منذ أكثر من خمسة و ثلاثين عاما، ارتكب أحد أبنائي جريمة نكراء لا تغتفر، لم يرتكبها أي من أبناء عائلتنا من قبله، و ظن أنها زلة سيختفي أثرها مع الزمن، لكن شاء السميع العليم أن يظل عمله المتردي يلاحقه حتى يومنا هذا).

سادت الهمهمات في الجامع و الجميع ينظرون الى سليمان بدهشة و عدم فهم، بينما كان قاصي ينظر الى جده بذهول وهو ممسكا بذراعه، أما أعمامه فقد سادهم الصمت و الضيق و القلق
أما سليمان فقد تجنب النظر اليه و استسلم تماما الى دفعة الحق التي تملكته، فغص بصره عن الأنظار الشاخصة اليه بإهتمام، و لم يرى سوى نفسه و الكلمة التي تقف في حلقه تمنعه من الوقوف بين يدي الله في الصلاة، ثم تابع قائلا.

(قاصي، جميعكم تعرفونه منذ سنوات طويلة، ابن هذه البلد، و ابن امرأة طيبة، تطاولت عليها الألسنة بالباطل، لكن يشهد الله على أنها بريئة، و أنها شريفة، وقعت في طريق مجرم لم يراعي حدود الله معها، هذا المجرم، هو ابني، و هي المرة الأخيرة التي أدنس فيها لساني بلقب أخجل منه...

أما قاصي الحكيم، فهو حفيدي، من دمي، وهبته جزء من أرضي حياتي و أمه امرأة أشهد أمام الجميع أنها لم تفرط في شرفها. و لقد أريق دمها ظلما، و من حق ولدها دية أدفعها من مالي الخاص، و قد زوجته من حفيدتي و ابنة عمه. تيماء سالم الرافعي)
عم الذهول المكان، و علت الهمهمات المصدومة، بينما ترنح قاصي فكان سليمان هو من أسنده و دعمه على الرغم من وهنه، ثم تابع قائلا وهو يشير الى سالم الذي ناوله ورقة على مضض...

فأمسك بها سليمان و تابع يقول
(في هذه الورقة اعتراف مكتوب و موقع من جميع أبنائي بشهادة الحق، و هي سماعهم بإعتراف أخيهم عمران الرافعي بما ارتكب، و منذ اليوم، تعاهدت عائلة الرافعي على تقبل قاصي الحكيم بينها، كفرد من أبنائنا، قد لا نملك له تغيير الإسم، الا أننا نستطيع الإعتراف ببراءة أمه و أنه من دمنا و لحمنا، وعسى الله أن يصفح عن ظلمنا له و لوالدته و يعفو عنا جميعا).

ابعد سليمان وجهه عن مكبر الصوت بينما عم الجامع الشهقات و الهمهمات، لكنه لم يهتم و همس لقاصي
(ساعدني في النزول يا ولد، فساقاي لا تحملانني)
ساعده قاصي في النزول وهو ينظر الى أعمامه مصدوما، شاحب الوجه، باهت العينين...
و ما أن حطا على أرض الجامع، حتى نظر اليه سليمان و قال بصوت يرتجف
(كنت قد أعددت الى كل هذا كي يحدث بعد وفاتي، كي أجنب نفسي ما حدث، لكن الآن أستطيع الذهاب الى قبري و أنا تارك الحمل عن ظهري).

لم يستطع قاصي النطق بكلمة، فقد كان جسده الضخم ينتفض بقوة وهو ممسكا بكف جده بعنف، بينما تابع سليمان يقول وهو يربت على وجنته كصبي صغير
(لقد أخبرني فاروق عما كان بينك و بين عمران، فعرفت أن الأوان قد حان يا ولدي، لا تحزن و الله معك و جدك لا يزال على قيد الحياة)
أظلمت عينا قاصي بشدة، الا أن سليمان شدد على قبضته هامسا بقسوة.

(اياك، اياك و الضعف أمام الرجال الآن، ارفع رأسك، و اجعل نظرتك سيفا لكل من يواجهها بعينيه).

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة