قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السادس والثلاثون

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السادس والثلاثون

رواية طائف في رحلة أبدية ج3 للكاتبة تميمة نبيل الفصل السادس والثلاثون

(بدور، هل استيقظت حبيبتي؟)
دقت والدة أمين على باب غرفتهما برفق لتناديها، لكنها لم تسمع ردا، مما جعلها تنادي مرة أخرى
(بدور حبيبتي، هل أدخل؟)
مجددا لم تسمع ردا مما جعلها تفتح الباب برفق و هي تتنحنح قائلة بمودة
(تأخرت اليوم في الإستيقاظ فشعرت بالقلق عليك، صباح ال).

توقفت عن الكلام و هي ترى الغرفة خالية، فاستدارت لتخرج بحثا عنها، لكن شيئا ما جعلها تتوقف لتعقد حاجبيها، ثم التفتت لتتأكد مما لمحته للتو...
كان هناك فراشا مرتبا على الأرض ووسادة أعلاه!
ظلت تحدق في الفراش للحظات قبل أن تطال بعينيها الى السرير المزدوج، فرأته مرفوع الأغطية من جهة واحدة بينما الأخرى مرتبة تماما، مما يدل على شيء واحد فقط
أن هناك فرد ينام وحيدا في السرير بينما الآخر ينام على الأرض!

في تلك اللحظة كانت بدور قد خرجت من الحمام و اتجهت بإعياء عائدة الى غرفتها، لكن ما أن رأت بابها مفتوحا عن بعد حتى تجمدت في مكانها للحظة متسعة العينين، قبل أن تهمس بقلق
ياللهي! لقد نسيت الفراش على الأرض! ثم أسرعت الخطى داعية الله أن تكون قد نسيت الباب مفتوح، لكن ما أن وصلت اليه و هي تلهث حتى توقفت دفعة واحدة شاهقة دون صوت و هي ترى حماتها تقف ناظرة بتفحص الى الفراش على الأرض...

و من الواضح أنها كانت غير راضية على الإطلاق...
شعرت أم أمين بحركة مما خلفها فاستدارت ببطىء و هي تنظر الى بدور الواقفة أمامها بملامح شاحبة و عينين متوترتين، غير قادرة على الكلام...
فبادرتها حماتها قائلة بهدوء.

(صباح الخير يا بدور، أتيت كي أطمئن عليك، فقد شعرت بقلق طوال الليل، كنت تخرجين و تدخلين عدة مرات، و حين سألت أمين قبل خروجه للعمل أخبرني أنك كنت متعبة قليلا و طلب مني أن أتركك نائمة، لكن، قلقت عليك)
ظلت بدور صامتة و لسانها منعقد، فمن الواضح أن القلق الذي كانت تعانيه حماتها تحول الى قلق من نوع آخر...

لا تصدق مدى غبائها في خروجها من الغرفة قبل أن تخبىء الفراش الأرضي الذي يستخدمه أمين و تعيد كل شيء الى مكانه...
لكن ربما يعود السبب الى مدى الإرهاق الذي تعانيه وعدم قدرتها على النوم...
كانت ليلة مريعة...
مر يومان منذ الليلة التي عاد فيها أمين الى البيت غاضبا كالمجنون، لا تعلم إن كان قد تقدم بالفعل لخطبة فتاة أخرى أو ما الذي حدث، كل ما تعرفه هو وعده لها بأن يتزوج فتاة بكر كي يحرق لها قلبها...

و منذ ذلك الحين وهو يعاملها بشكل أسوا من قبل...
نظرات قادرة على أن ترديها قتيلة، و الأفظع أنه أحيانا يغمض عيناه عنها و كأن مجرد رؤيته لها تذكره بالخداع الذي تعرض عله على يديها...
كان حريصا كل الحرص في الا يظهر شيئا أمام والدته، لكنه لم يكن بنفس الحرص أمام أخته...
و كأن قدرته على تحملها ذات طاقة محدودة، فكان يتجاهلها أمام نورا و أحيانا يحتد عليها في أمور تافهة...

مما جعل نورا تدرك أن العروس الجديدة غير مرغوبة بالنسبة لشقيقها...
و على ما يبدو أن هذا قد أرضى غيرتها الأخوية، و جعل عينيها تلمعان بإنتصار خفي...
ليلة أمس ككل ليلة كانت مندسة تحت الغطاء بعد أن سبقته للغرفة الا أنها كانت تكتم إعصارا من الدموع الحارقة، دخل في صمت تام
و ظلت هي تنظر اليه في الظلام حتى القى بنفسه على فراشه الأرضي الذي تعده له بنفسها...

و لم تستطع السيطرة على انتفاضات جسدها بسبب بكائها المخنوق و هي تظن أنه لن يسمعها، حتى أوشك الضغط أن يفجر عينيها...
مما جعله يقول فجأة بجفاء
(كفي عن البكاء، لا أستطيع النوم و لدي عمل باكر)
عضت على شفتها للحظات موجعة ثم تكلمت بصوت مخنوق حاولت جاهدة أن تجعله يبدو طبيعيا
(أنا، لا، لا أبكي)
صدرت عنه ضحكة ساخرة، فقد كان صوتها مريعا، كصوت طفلة تحاول اخفاء نحيبها العنيف...
ثم قال أخيرا بجفاء.

(هل كنت تبكين كل ليلة بهذا الشكل في بيت والدك؟)
ظلت صامتة قليلا ثم همست بألم
(لا)
فإبتسم مجددا بسخرية مريرة قبل أن يسألها ببرود قاس
(ما الذي ذكرك بجرمك الآن اذن؟، أهي نوبة ضمير متأخرة؟)
لعقت بدور شفتيها و همست بضعف
(هل تعطيني الأمان إن أجبتك بصدق؟)
ظل أمين صامتا وهو يحدق في السقف و ذراعاه خلف رأسه، ثم قال أخيرا ببرود
(افعلي ما تشائين، لم يعد هناك ما قد يصدمني في أخلاقك أكثر).

أغمضت بدور عينيها للحظة، ثم همست بألم دون أن تفتحهما و كأنها غير قادرة على مواجهته ولو حتى في الظلام...
(أحيانا، أحيانا كنت، أشعر بالتشفي تجاه أبي)
هتف أمين فجأة بقوة
(ياللهي، كنت مخطئا، كم أنت ماهرة في تجديد صدمتي، كم أنت فتاة حقيرة النفس)
لم تهتز بدور من هتافه الغاضب، بل ظلت ساكنة مكانها متشبثة في الغطاء بأظافرها ثم همست متابعة بإعياء.

(كان يحدث هذا كلما ضربني، أبي حين يتعامل معي لا يتعامل كما يتعامل الآباء مع أبنائهم حتى في الضرب، كان مسيئا مهينا، لا يحمل أي قدر من التربية، فقط إهانة موجعة، منذ صغري و حتى بعد زواجي، كان يضربني كثيرا و أنا على ذمة ابن شقيقه، و لا أتذكر أبدا أنني فعلت قبلها أي شيء يستحق كل هذا القدر من الضرب و الإهانة، ربما كنت فتاة وهو لا يحب انجاب الفتيات، و ربما أيضا كان مستواي التعليمي أقل من المتوسط و ذكائي محدود و مما زاد من سوء حظي هو اصابتي بشلل الأطفال حتى أنني سمعته مرة منذ سنوات يقول لأمي بحرقة انظري الى مسك ابنة سالم و سوار ابنة غانم، و قارني بينهما و بين ابنتك كان يغار من كل من لديه ابنة أفضل مني، لكنني كنت طفلة لا يسمع لها صوت و مراهقة عديمة التمرد و المغامرة، لم أرتكب جريمة تستحق طريقة عقابه لي...

و بعد أن، بعد أن حدث ما حدث، ندمت و بكيت و صفعت نفسي مرارا على خيانة ثقته
لكن مع أول مرة ضربني فيها بعدها، وجدت نفسي أنظر اليه صامتة و بداخلي نوع من ال، التشفي، و التساؤل عن رد فعله لو علم بما فعلت، و كم كانت سعادتي و أنا أتخيله يضع يده على صدره من فرط صدمته...

ثم عدت للندم مجددا و لعنت نفسي على هذا الحقد الأسود بداخلي...
لكن تكرر الأمر مرة بعد أخرى، كلما أهانني علنا أو ضربني أبدأ في تخيل شكله إن عرف بما فعلت...
هذا التخيل بدأ يخفف من قوة ضرباته، و يجعلها محتملة...

و كنت أريح ضميري بأنني لست خاطئة و أنني لم أفعل شيئا في الحرام، و كنت أقنع نفسي بأنه مجرد خيال يشعرني بالتحسن، بينما في الواقع سيكون كل شيء على ما يرام، سأتزوج في حفل زفاف ضخم و، و سيكون لأبي ما يريد و سيرفع رأسه بين الرجال، لذا، ما هو الضير من بعض الخيال المتلذذ)
صمتت فجأة غير قادرة على تعرية نفسها أكثر أمامه، و ساد الصمت القاتم بينهما و كانت تسمع صوت أنفاسه حادة تقطع هذا الصمت بلحن مزعج...

لا تعلم لماذا تفعل هذا؟
و كأنها ترغب في أن تصدمه بها أكثر! لماذا تخبره بأقصى خبايا نفسها سوادا؟
تكلم أمين أخيرا بصوت باهت، عكس ظنها في أن يكلمها بإزدراء كعادته
(و لماذا لم تعترفي له اذن بعد أن تأكد لك فشل زواجك؟، لماذا لم تحولي خيالك الى واقع كي يرضيك أكثر؟)
لم ترد على الفور، بل ظلت ساكنة طويلا قبل أن تهمس بجهد.

(أنا أرتعب منه، لا أتخيل أن أواجهه بشيء كهذا، أنا أكثر جبنا مما تظنني، و ربما، ربما كان بداخلي بعض الشفقة تجاهه، لست متأكدة أي السببين هو الأرجح)
سألها أمين بصوت أجش بطيء
(و لماذا لا تفكين عن البكاء الآن اذن؟، ألم تنتهي فضيحتك للأبد؟ يجدر بك أن تسجدي لله شكرا كل ليلة على هذا)
ترقرقت الدموع في عينيها من جديد و انقبضت أصابعها على غطائها أكثر، ثم همست بإختناق.

(لأنني نادمة، نادمة لأنني أدخلتك الى هذه الدائرة المشوهة، و خدعتك بتلك الصورة، لقد كنت خشبة خلاص لي تعلقت بها بأظافري)
عاد الصمت الثقيل ليسود بينهما لكن صوت نحيبها الخافت هو ما كان يقطعه هذه المرة...
الى أن قال أمين أخيرا بصوت بارد خفيض لا يحمل أي شعور
(سرعان ما سأطردك أنا من دائرتي، يمكنك أن تريحي ضميرك بهذا الى حين).

رفعت بدور كفها لتغطي بها فمها، ثم أبعدت الغطاء عنها بسرعة و قفزت واقفة قبل أن تجري الى الباب، ففتحته و خرجت من الغرفة مندفعة...
و حين عادت كانت تترنح بصعوبة، لكنها رأت ضوء الغرفة مضاءا و أمين واقفا يداه في خصره ينظر اليها بتفحص...
و عيناه تجولان على شحوب وجهها، ثم سألها بجفاء
(ماذا بك؟)
همست بتعب و هي تبعد عينيها عنه
(شعرت بغثيان مفاجىء، آسفة، لقد أخرتك عن موعد نومك سأطفىء الأنوار و لن أصدر صوتا).

لكن أمين سألها و كأنها لم تتكلم من الأساس
(أنت لا تأكلين شيئا منذ أيام، تدعين الأكل أمام أمي بينما تبالغين في أعمال المنزل، و هي من أخبرتني بهذا، لقد نقص وزنك كثيرا خلال أيام قليلة)
رفعت بدور وجهها الباهت اليه و حاولت أن تستدر منه أي نوع من أنواع التعاطف الا أن وجهه كان جافا كقناع يخفي كل ما يشعر به، حتى عيناه فقدتا كرهما المعتاد و تحولتا الى قطعتي زجاج معتمتين...
ليته يخاف عليها ولو قليلا...

رمشت بعينيها و همست بخفوت
(كيف يمكنني الأكل في مثل هذه الظروف؟، أتخيل شعورك ازاء كل لقمة تدخل جوفي)
ضحك أمين بسخرية وهو يقول بقسوة
(تحملت منك أشياءا أفظع من بعض لقيمات نطعمك بها)
أخفضت بدور وجهها و هي تشبك أصابعها بتوتر غير قادرة على النطق، فسألها مجددا بجفاء
(لم تتناولي شيئا من وجبة العشاء التي أعددتها، فهل تناولت غذائك؟)
هزت رأسها نفيا ببطىء و همست قائلة.

(سآكل بدئا من الغد بشكل مناسب كي لا أثير شكوك خالتي، اطمئن)
أشار أمين الى السرير و قال بنبرة آمرة
(اجلسي في السرير و سأحضر لك بعض الشطائر محاولا الا أسترعي انتباه أمي)
نظرت اليه بذهول، هل حقا يعرض عليها أن يعد لها شيئا تأكله؟
لاحظ أمين نظرة الأمل في عينيها فابتسم بسخرية و قال على الفور بإستهانة.

(ماذا؟، هل لاح لك بعض الأمل من البعيد؟، يؤسفني اذن أن أقتله لك في مهده و هذا لمصلحتك الشخصية، كي لا تحيين على الأوهام. أنا أراك مجرد كائن يحيا تحت سقف بيتي و لن يسرني أن أراك تموتين جوعا أمامي)
حينها ابتسمت بضعف، بشفتيها المتشققتين الباهتتين، و همست دون تفكير
(هذا يدعو للأمل، فقد كنت تتمنى موتي منذ يومين فقط)
اتسعت عينا أمين للحظة، قبل أن تشتعلا بجنون انفجر في لحظة فأدركت للتو مدى غبائها، فهمست بذعر.

(آسفة، آسفة، أقسم بالله لم أقصد أن)
لكن رجائها جاء بعد فوات الأوان، فقد اندفع اليها وهو يهمس من بين أسنانه كحيوان شرس مجروح
(أتملكين الجرأة على تذكيري بموقف المغفل أمام سوار و زوجها الذي وضعتيني به! و تمزحين!)
فتحت بدور فمها و هي تتمنى لو قطعت لسانها الغبي الذي نطق بهمسة لا تعرف من أين نبعت!
كل ما تعرفه أن قوله الفظ أثار بها بعض الحنان المعتوه...

لكنها لم تجد الفرصة لتنطق بشيء قد يهدىء من ثورة اندفاعه المفاجىء، فما أن وصل اليها حتى ضربها بصفعة جعلتها تشهق مبتلعة كل ما كانت تنوي قوله...
فغرت بدور شفتيها بصدمة و هي ترفع يدها الى وجنتها ببطىء تتأكد من أنه قد صفعها بالفعل، فقد كانت ضربة خفيفة لم تشعر بها تماما، على الرغم من اندفاع يده عاليا، الا أنه تراجع في اللحظة الأخيرة مما جعل يده تربت على وجنتها في ضربة خفيفة قبل أن يستطيع منع نفسه...

نظر كلا منهما الى الآخر بصدمة، و كان أمين هو أول من تحرك فاستدار عنها وهو يزفر بعنف متخللا شعره بأصابعه بقوة وهو يهمس بعنف
(تبا لهذا)
أطرقت بدور بوجهها و هي تتلمس وجنتها برفق، بينما تشوشت الرؤية أمام عينيها من غلالة الدموع التي تكونت عليهما في لمح البصر، فاستدارت هي أيضا ووقف كلا منهما ظهره الى الآخر...

(بدور، بدور)
انتفضت بدور على صوت حماتها التي كانت واقفة أمامها بينما هي شاردة تماما في أحداث ليلة أمس...
فأخذت نفسا مرتجفا و هي تقول بصوت متلعثم بسرعة
(نعم، نعم يا خالتي)
عقدت أم أمين حاجبيها أكثر ثم زمت شفتيها و هي تنظر الى السرير و الغطاء الموضوع أرضا في نظرة سريعة قبل أن تعيد عينيها الى بدور و سألتها بجدية
(هل أنت بخير يا بدور؟)
سارعت لتهز رأسها بالإيجاب و قالت بلهفة.

(أنا بخير يا خالتي، أنا آسفة جدا أنني أطلت النوم لكنني)
قاطعتها حماتها تسألها بنبرة قاطعة
(منذ متى تنامان منفصلين يا بدور؟)
فغرت بدور شفتيها و نظرت تلقائيا الى الفراش المطوي أرضا، ثم نظرت الى حماتها و قالت بسرعة و دفاع مستميت
(لا يا خالتي لقد أسئت فهم الموقف، ليلة أمس كنت متعبة، شديدة الحركة و التقلب، فلم أشاء أن يظل أمين مستيقظا فطلبت منه أن ينام أرضا، و كنت)
قاطعتها حماتها بصرامة قائلة.

(بدوووور، لا تكذبي، سألتك سؤالا، منذ متى تنامان منفصلين؟، و لماذا؟)
ظلت بدور صامتة و هي تنظر الى حماتها بذعر و قد عاد اليها شحوب وجهها بصورة أشد...
فقالت أم أمين بجدية
(ظننت نفسي في مكانة أمك، و أن أي شيء يؤرقك خلال الزواج ستفضين به الي)
ارتجفت شفتي بدور و تلاعبت بأصابعها بتوتر و هي تهمس بقلق
(و أنت كذلك فعلا يا خالتي، لكنني أقول الصدق، صدقيني. ).

زمت حماتها شفتيها و هي تحاصر بدور بنظراتها، بينما ارتبكت بدور أكثر و نظرت جانبا مشبكة أصابعها بقوة...
فتنهدت أم أمين بقلق متضاعف، ثم قالت أخيرا بأسى
(حضرت لك طعام الفطور و جئت أطلب منك الخروج لتأكلي معي، لكنك متعبة للغاية، استلقي على السرير و أنا سأحضره لك ثم تعاودين للنوم بعدها)
هتفت بدور قائلة بحرارة
(أنا بخير حال الآن يا خالتي، لما لا أعد لك قهوتك ثم نبدأ في تحضير طعام الغذاء معا؟).

الا أن حماتها أجابتها بهدوء حازم
(لن تقومي بأي شيء اليوم، فقط ارتاحي، و حين يعود ابني لي كلام معه)
اتسعت عينا بدور بصدمة قبل أن تندفع لتمسك بكفها متوسلة
(لا أرجوك، أتوسل اليك يا خالتي، ليس هناك شيئا لتتكلمي معه به، أرجوك لا تفعلي)
أمسكت أم أمين بذراع بدور قائلة بصرامة
(اسمعيني جيدا يا بدور، لن أستطيع فرض نفسي كأم لك، الا أنني أستطيع مع أمين فهو ابني الوحيد و حين أقرر الكلام معه سأفعل).

صدر أنين من حلق بدور و هي تهتف بأسى
(لا تفعلي أرجوك)
الا أن أم أمين كانت قد خرجت من الغرفة بالفعل تاركة بدور ترفع كفيها الى جبهتها و هي تدور حول نفسها هامسة بتعب
(ياللهي، ما العمل الآن! ما العمل).

(أمين، انتظر، أريد الكلام معك)
كان قد أنهى طعامه و صلاته بعد يوم طويل و في استعداد لدخول الغرفة ليلا كي ينام بعد أن شاهد أكثر من موضوع اخباري على التلفاز دون تركيز، بل كان شارد الذهن كئيب الملامح بشكل واضح...
التفت أمين الى أمه و قال بفتور
(الآن يا أمي؟، الا ينتظر الأمر حتى الصباح؟)
أجابته أمه بصرامة و هي تقف عند باب غرفتها
(بل الآن، تعال الى غرفتي حالا).

أغمض أمين عينيه وهو يتنهد بتعب، ثم تحرك دون حماس الى غرفة أمه التي سحبته برفق و أغلقت الباب خلفهما ثم قالت بجدية
(تعال اجلس)
جلس أمين في أحد المقعدين الموجودين بينما جلست أمه أمامه و هي تنظر اليه بنظرة لم يرها منذ أن كان طفلا قبل معاقبته، فابتسم قائلا دون مرح
(يبدو أنه أمر جلل)
قالت أمه دون تجاريه في الإبتسام
(هو كذلك، علاقتك ببدور)
رفع أمين عينيه لأعلى وهو يقول بنفاذ صبر.

(بالله عليك يا أمي، ألن ننتهي من هذا الأمر؟)
الا أن والدته لم تجفل بل قاطعته بقوة قائلة
(لن ننتهي الى أن أحصل على جواب مطمئن الى ما تراه عيني منذ زواجكما، أريد معرفة لماذا تسيء معاملة الفتاة الى هذا الحد؟)
نظر أمين الى أمه بطرف عينيه و قال متذمرا على الرغم من الطعم الصدىء الذي ظهر في حلقه
(أنا أسيء معاملتها!).

حتى وهو ينطق بهذه العبارة بدا صوته غير مقنعا لأذنيه، منذ خرج صباحا وهو في مزاج شرس عنيف تجاه نفسه...
كان قد عاهد نفسه أن يكظم غيظه و لا يمد لها يدا بالضرب مطلقا...
لكن ليلة أمس لم يستطع السيطرة على دفعة الغضب التي أشعلت به النار فجأة جراء مزحتها السخيفة...
قبل أن تلمس يده وجهها أدرك ما يفعل فتراجع بعد أن لسعت يده بشرتها بحدة...

و على الرغم من تفاهة الضربة، الا أن الدموع التي ظهرت في عينيها لحظتها أخبرته أن تلك الصفعة لم تقل ايذاءا نفسيا عن صفعات والدها التي حكت له عنها في الظلام...
ما لم يحسب له حسابا هو شعور غريب وهو يسمع صوتها و هي تحكي له عن والدها...
كان صوتها يتدرج بنغمات مخيفة...
فحين تصل الى مرادفات التشفي كانت تنطقها بجذل و كأنها لا تزال تشعل بنفس الشيء، ثم تعود لتحكي عن الندم فيختنق صوتها...

مستحيل أن يمتلك أي انسان هذه القدرة العالية في التمثيل مهما بلغت درجة خداعه...
كان يعلم أن عمه قد ترك أثرا سيئا في نفس كل من بدور و زاهر منذ طفولتهما، لكنه لم يتخيل أن يكون هذا الأثر بشعا الى هذا الحد...

انتابه شعور مجنون و هي تحكي له، شعور جعله يتمنى لو لم يكن قد تزوجها، و ظلت بالنسبة له بدورة الصغيرة، التي يراها على فترات متباعدة، فيبتسم لها بحنو الى أن تقرر ذات يوم اختياره كي تحكي له عن قسوة والدها عليها، ليته ظل لها مجرد ابن عم و قد يكون أخا...
لكن مجرد تعاطفه تجاهها يشعره بأنه شخص مغفل قليل النخوة...

لكن في نفس الوقت لم يتخيل أن تثير غضبه الى الحد الذي يجبره على ضربها بعد أن حكت له كل ما عانته مع والدها...
طوال اليوم وهو يشعر بإحساس خانق و منظر عينيها المصدومتين الدامعتين لا يبارح ذهنه أبدا...

تكلمت أمه تقاطع شروده الكئيب.

(هل تريد اقناعي انكما عروسان في شهر العسل؟، أنت لم تأخذها في نزهة واحدة، لم تطأ قدمها خارج باب البيت منذ زواجكما، لم تجلب لها اي هدية مهما كانت بسيطة، بل إنك لم تتكلم معها كلمة أمامي، بل لم تبتسم لها ابتسامة واحدة، هل تعتقد أنك تخدعني بتهذيبك الصامت طوال الأيام الماضية؟، مشكلتك أنك لا تصدق حتى الآن أنني أعرف جيدا كيف تكون سعيدا و متى تكون غاضبا حتى لو ادعيت الأدب و الصمت).

ضغط أمين جبهته وهو يرد عليها بجفاء خافت
(كل ما في الأمر أنني عدت الى العمل بسرعة و لدينا حاليا ضغط عمل و مشكلة في ال)
قاطعته أمه قائلة بجفاء شبيه بنبرته لكن أكثر تسلطا كي تمنعه من المزيد من الكذب
(لماذا تنام على الأرض و لا تنام بجوار عروسك؟)
رفع أمين رأسه اليها و بدا مجفلا مرتبكا و قد فاجئته دون مقدمات مما جعله يقول بتوتر
(ماذا؟، ما الذي؟، هل هي من)
قاطعته أمه قائلة بقوة عاقدة حاجبيها.

(قبل أن تزيد من اتهام الفتاة المسكينة، هي لم تخبرني شيئا، بل حاولت أن تدعي أن تعبها هو السبب لكنكما لن تخدعا قلب الأم حين يشك بخطب ما في حياة ابنها الوحيد)
صمتت للحظة و هي تنظر اليه بحرج و قلق، ثم سألته مباشرة و دون خجل
(هل تهجر زوجتك في الفراش يا أمين؟)
ارتفع حاجباه أكثر قبل أن يبعد وجهه عنها متمتما بغضب كلمات غير مفهومة، فأعادت السؤال بصرامة أكبر
(هل تفعل؟).

ظل مشيحا بوجهه عنها مغمضا عينيه يعض على فمه بغضب و نفاذ صبر، و حين أعادت سؤالها للمرة الثالثة التفت اليها هاتفا بحدة
(نعم، نعم يا أمي، هل ارتحت الآن؟)
كان هذا دورها كي ترفع حاجبيها و هي تنظر اليه مصدومة ثم سألته بصوت متهدج
(ارتحت! هل تلقي بقنبلتك أمامي، ثم تتخيل أنني قد ارتحت لمجرد أنني اثبت شيئا!)
تأوه أمين بصوت مخنوق وهو يقول بتعب و يأس.

(بالله عليك يا أمي كفى، أنا لن أحتمل ألمك الآن؟، أنا أعاني بما يكفي)
اقتربت أمه منه حتى جلست على حافة مقعدها و هي تقول بخوف حقيقي
(مما تعاني يا ولدي أرح قلبي؟، بدأت تنتابني وساوس مرعبة، هل، هل هناك ما يسوء الفتاة؟، لأنك منذ اليوم الأول و أنت)
هتف أمين فجأة وهو يقفز من مكانه واقفا
(لا)
نظرت والدته الى ظهره بقلق، بينما أخذ نفسا عميقا وهو يحاول تهدئة نبرته، ثم قال بصوت خشن أخيرا.

(لا تدعي ظنونك تأخذك بعيدا يا أمي)
نهضت والدته من خلفه و سألته بحدة
(اذن لماذا لا تقارب زوجتك و لم يمضي شهر واحد على زواجكما؟)
هتف أمين بحدة وهو يتجنب الإلتفات لها
(هذا أمر خاص بيني و بينها)
هتفت أمه كذلك في حرب للقوى
(لا، في هذه الحالة الأمر ليس خاصا أبدا، ماذا لو صبرت الفتاة قليلا ثم شكت الى والديها!)
لم يستطع أمين منع ضحكة ساخرة من الخروج الى شفتيه، ثم قال بإستهزاء قاتم.

(دعيها تفعل هذا، لنرى إن كانت تستطيع)
في تلك اللحظات كانت بدور تسترق السمع اليهما خارج الباب، و قلبها يخفق بعنف مرتعب...
لم تستطع منع نفسها بعد أن تعهدت والدته أن تتكلم معه في أمر نومه منفصلا عنها، و خافت أن يظنها اشتكت الى حماتها فيحيل حياتها الى جحيم...
حين سمعت سخريته الأخيرة شعرت بخنجر يدب في صدرها، ليشعرها بمرارة رخصها حتى و إن لم تكن قد ارتكبت حراما...

أما والدته فقد نظرت مصدومة الى ابنها وهو يوليها ظهره، ثم سألته هاتفة
(هل تتجبر على الفتاة يا ابن بطني! ما هذا الجبروت الذي تتحدث به؟، هل أخطأت الفتاة في شيء؟ أخبرني إن كان السبب منها)
ظل أمين صامتا للحظات جعلت بدور تضع يدها على صدرها الخافق بشدة...
ثم قال أخيرا بصدر يحترق كمدا
(السبب مني أنا)
شهقت أمه و هي تضرب على صدرها هامسة برعب
(هل أنت مريض؟، هل تعاني شيئا؟).

زفر أمين عاليا قبل أن يهتف و قد عيل صبره ملوحا بكفيه
(لا أعاني شيئا، كفى، كفى، لا أحتمل كل هذا التدخل يا أمي)
استدار اليها بملامح قاتمة سوداوية و هو يشعر بأنه على وشك فقدان سيطرته على نفسه مجددا و حينها ستدفع بدور الثمن في جراء واحدة من نوبات حسرته على ذاته، فصرخ قبل أن يترك نفسه لشيطانها.

(أتريدين معرفة السبب، السبب أن نفسي تعافها، أنفر منها، لا أجد سعادتي معها، و كي يكون الأمر معروفا لديك لقد اتفقنا على الإنفصال بعد فترة)
صمت أخيرا وهو يلهث، بينما أغمضت بدور عينيها بألم فانسابت الدموع على وجنتيها من هول ما سمعت حتى و إن كان كذبا...
لا ليس كذبا، بل هو صادق تماما فيما يقول...
أما أمه فقد نظرت اليه فاغرة فمها مصعوقة، لفترة طويلة، ثم لم تلبث أن هزت رأسها بصدمة و هي تقول بخفوت متلعثمة.

(ماذا يعني هذا؟، في أقل من شهر اكتشفت أن نفسك تعافها و سرعان ما تقرر الإنفصال عنها! هل بنات الناس لعبة بين يديك! أتظن الأمر بهذه البساطة؟)
ابتعد أمين عن أمه شاعرا بالضغط أشد مما يحتمل لكنه تابع قائلا بفظاظة
(لا أريد قربها يا أمي، لذا من الأفضل أن يذهب كل منها الى طريقه قبل أن يربطنا أطفال فنعيش تعساء الى الأبد، أنا أفعل هذا لمصلحتها فقد تجد شخصا يناسبها أكثر مني).

وجدت بدور نفسها تهمس بلوعة و هي لا تزال مغمضة عينيها بقوة
أتظن أنني قد أجد رجلا بعدك! ياللحسرة، ياللحسرة التي سأحياها عمري كله، أما أمه فكانت تحاول جاهدة استيعاب ما تسمعه من ابنها، هذا ليس ابنها أبدا...
ليس أمين الذي تعرفه...
لطالما كان أمين هادئا مترويا في اتخاذ قراراته المصيرية منها و حتى أبسط قرار...

لم تعرفه متهورا مندفعا، لا تحكمه أهوائه أبدا، وهو بالتأكيد ليس ظالما كي يفعل هذا في ابنة الناس و بهذه السرعة...
ابتلعت ريقها بصعوبة و هي تحاول جاهدة الا تستفز المزيد من تمرده، ثم قالت بصوت يغص في حلقها بصبر
(يا ابني اهتدي بالله، هذا حسد و أصابكما، أو عمل شرير، هل حاولت منح نفسك فرصة؟، حاول التقرب اليها، حاول أن تلمح لها بما تكرهه فيها، اطرق كل الأبواب قبل أن تتخذ قرارا ظالما كهذا في حقها).

التزم أمين بالدور الذي اتخذه بمهارة وهو يقول بصلف
(و نكون حينها قد رزقنا بطفل أو اثنين و أصبحنا مقيدين للأبد، صديقيني يا أمي أنا أتكلم للأصلح)
صرخت أمه فجأة و هي غير قادرة على التحمل اكثر
(لقد جننت، لقد جننت يا أمين و لن أسمح لجنونك أن يحط اسم والدك رحمه الله في الأرض بين أشقائه، ليتني لم أتدخل لك في زيجة قبل أن تخذلني بهذه الطريقة).

كانت بدور تعصر عينيها عصرا كي لا تنفجر في البكاء و هي تسمع كل كلمة و كأنها ألف قرار بإعدامها...
لكن صوت مفاجىء من خلفها جعلها تستدير بفزع
(ما الذي تفعلينه بالضبط؟)
نظرت بدور بصدمة الى نورا التي خرجت من غرفتها و رأتها تتنصت على باب غرفة أمها...
فلم تستطع النطق و فغرت شفتيها و قد ماتت لديها كل التبريرات الممكنة، أما نورا فقد اقتربت منها و هي تهمس بغضب مذهول.

(هل تتنصتين على أمي و أخي؟، هل جننت؟ أين تظنين نفسك؟، سأفضحك أمامهما)
اسرعت بدور لتعترض طريقها و هي تهمس بتوسل مثير للشفقة
(لا أرجوك يا نورا ارحميني، انها المرة الأولى التي أقوم فيها بأمر مماثل و هذا فقط لأنهما يتحدثان في امر يخصني، أنا قلقة على أمين من تعنيف خالتي ليس أكثر، صدقيني)
هتفت نورا بعينين تفيضان شررا.

(و هل يمنحك هذا الحق في التعدي على خصوصيتهما بهذه الصورة المقرفة؟، كنت أتسائل لماذا يعاملك أمين بجفاء، و الآن فقط عرفت السبب و عذرته، أنت بشعة، نحن هنا في بيت محترم لا زريبة كي تتصرفين بهذا الشكل)
امتقع وجه بدور بشدة و تراجعت للخلف و هي تتلقي تلك الإهانة الموجعة، أما نورا فقد اقتربت منها و مالت بوجهها اليها و هي تهمس بنبرة آمرة محتقرة
(لن أفضحك هذه المرة لكن أقسم بالله سأفعل لو أعدتيها، مفهوم؟).

أطرقت بدور برأسها تشعر بنفسها كخرقة مهترئة، الا أنها أومأت براسها في صغر، فقالت نورا بقرف
(عودي الى غرفتك، و ابتعدي عن غرفة أمي للأبد)
تحركت بدور تجر قدميها جرا الى الغرفة، فأغلقت الباب و استندت اليه و هي تبكي مرارة الإهانة تلو الإهانة...
لكن هذا ما تستحقه حين تخسر الفتاة أسرتها فلا تجرؤ على شكوى أو اعتراض...

و على الرغم من ذلك مستعدة لتحمل كل اهانات الكون لو يضمن هذا لها أن تبقى زوجة أمين و تحت سقف بيته و لا تعود الى بيت والدها أبدا...
لكن كلامه مع والدته كان تأكيدا قاطعا لا يقبل الشك...
غطت بدور وجهها بكفيها و هي تمسح دموعها بقوة ناظرة الى السقف...
لا يمكنها المحاربة في قضية خاسرة، من أين واتتها الجرأة في الأساس كي تتخيل العكس!

في الصباح وهو يستعد للخروج كانت بدور مغاطة حتى رأسها و هي تدعي النوم، على تلك الحالة منذ دخوله هائجا ليلة أمس صافقا الباب خلفه...
و ظل واقفا مكانه حتى ظنت بأنه سينهال عليها ضربا في أي لحظة، لكن ما أوجعها بشدة هو أنه أخذ نفسا عميقا وهو يستغفر الله و يستعيذ به مرة بعد مرة، الى أن رمى نفسه رميا على فراشه الأرضي بصوت مكتوم...
و بعد فترة طويلة همس لها في الظلام بصوت أشد سوادا.

(ماذا فعلت كي أبتلى بك في حياتي)
فنامت على دموعها الغزيرة و هذا السؤال يدور في ذهنها حتى اخترق أحلامها المشوشة...
الآن في الصباح كان صامتا تماما، وهو يخرج الى الحمام، ثم عاد الى الغرفة ليرتدي ملابسه التي حضرتها له بنفسها، لكنه شعر بورقة في جيب بنطاله...
عقد أمين حاجبيه وهو يخرج تلك الورقة المطوية، ففتحها ببطىء ليقرأ ما بها.

لم أقصد المزاح ليلة أمس، لقد أسرني الإمتنان لقولك أنك لا تريد أن تراني ميتة فوجدت نفسي أبتسم و لساني ينطق بمنتهى الغباء، سامحني، على كل شيء)
رفع أمين وجهه لينظر في المرآة، لكن ليس لصورته بل الى تلك الكومة الحزينة المندسة تحت الغطاء حتى رأسها و كأنها تختبىء منه منذ ليلة أمس، أراد أن يمزق الورقة بصوت عال و كاد أن يفعل...

الا أنه في النهاية ألقى بها على طاولة الزينة ثم خرج من الغرفة دون كلمة، فرفعت بدور رأسها من تحت الغطاء لتترقب الوضع، الى ان رأت الورقة التي كتبتها مطوية و ملقاة أمام المرآة، فتنهدت بأسى و هي تلقي بنفسها للخلف على السرير ناظرة الى السقف بملامح ميتة...
نادى أمين عاليا
(نورا، لقد تأخرنا، هيا بنا)
خرجت نورا من غرفتها و هي تحاول دس أغراضها في حقيبتها هاتفة بتذمر.

(قادمة، قادمة، لا أعرف لماذا أخرج قبل موعد محاضراتي بساعة كاملة)
قال أمين بجفاء
(اليس هذا أفضل من أن تستقلي المواصلات)
رفعت نورا وجهها المتمرد اليه و قالت بنبرة حادة
(لو أعدت النظر في أمر القيادة لإنتهينا من هذه المشكلة و أرحنا جميع الأفراد)
قال أمين ببطىء مشددا على كل حرف
(لقد انتهينا بالفعل، من الكلام في هذا الموضوع فأرجوك لا تحاولي الآن، فأنا لا أمتلك المزاج المناسب للجدال).

سارت معه حتى باب الشقة ثم قالت بإمتعاض
(اذن وظف لي سائق يقلني)
رد أمين قاطعا
(لا أثق في أحد، حتى إن كان محل ثقة)
تأفتت نورا عاليا و خرجت معه و هي تغلق باب الشقة خلفهما، و ما أن وقفا في انتظار المصعد حتى نظرت اليه بطرف عينيها ثم قالت بخبث
(لم تخرج أمي من غرفتها كي تدعو لك ككل صباح، هل هي غاضبة منك الى هذه الدرجة؟)
لم يرد أمين، بل ظل واقفا مكانه ينظر الى الأرقام المضيئة بملامح جامدة و عينين مظلمتين...

فمطت شفتيها و هي تقول من بين أسنانها
(ابنة عمك كانت فأل)
قاطعها أمين قائلا بجفاء
(نورا، كفى، اليوم لا يحتملك أنت أيضا)
زمت شفتيها و هي تراقب الأرقام المضيئة مثل بصمت، لكن كان أمين هو من نظر اليها هذه المرة طويلا بملامح شاردة، ثم قال أخيرا بنبرة خافتة غريبة
(نورا)
أجابته بملل دون أن تلتفت اليه
(هممممم)
ساد الصمت لبضعة لحظات و بدى مترددا قبل أن يسألها بخفوت أكبر
(اليس هناك ما تريدين اخباري به؟).

نظرت اليه بحيرة ثم سألته دون اهتمام
(ما هو الذي أريد اخبارك عنه؟)
بدا أمين أكثر ترددا وهو يجيبها
(هذا ما أسألك عنه، شيء تودين أن، تخبريني به لكن تشعرين بالقلق أو الخوف)
عقدت نورا حاجبيها أكثر ثم قالت بحذر
(لم أفهم شيئا، لما لا تتكلم بوضوح؟، أشعر أن بدور أوقعت بيننا في شيء ما)
أغمض عينيه بنفاذ صبر ثم نظر اليها قائلا بجدية
(أخرجي بدور من تفكيرك، أنا أريد سؤالك عن أسرارك، حياتك الخاصة).

ارتفع حاجبيها و هي تقول بدهشة
(حياتي الخاصة؟، ماذا تقصد؟)
بدا مرتبكا وهو ينظر اليها بقلق ثم قال أخيرا ببطىء
(لا أعرف كيف أبدأ حوار كهذا، بإختصار، هل يمكن أن يكون هناك شخص في حياتك؟)
فتحت نورا فمها و هي تردد من بعده بذهول
(شخص في حياتي؟، تقصد شابا؟، هل تسألني إن كان هناك شابا في حياتي بمثل هذا الهدوء؟، هل أنت طبيعي؟)
زم أمين شفتيه وهو ينظر الى أرقام المصعد، ثم قال أخيرا بتوتر دون أن ينظر اليها.

(لا، ليس بمثل هذا الهدوء، أشعر و كأن آلاف الإبر تخترق جسدي و أنا أسألك هذا السؤال)
بدت نورا غريبة الملامح هي تنظر اليه مكتفة ذراعيها، ثم سألته بحدة غير مصدقة
(هل أخبرك أحد بكلام باطل عني؟)
نظر اليها أمين طويلا ثم قال بهدوء.

(لا أريد أن يخبرني أحد عنك أي شيء يا نورا، أفضل المعرفة منك، بلسانك، قد أنفعل وربما أصاب بالجنون، لكنني سأظل أخيك و سأبقى كذلك طوال العمر، أريد معرفة ان كان هناك شخص في حياتك، و أعدك أنني سأستمع الى كل كلمة تنطقين بها و أتفهمك، لكن اشركيني معك منذ البداية، أنا ظهرك، )
ظلت نورا صامتة قليلا و هي غير مصدقة لما تسمع ثم سألته أخيرا بخفوت
(الا تثق بي؟)
رد عليها أمين دون تردد.

(أثق بك، الا أنني لا أثق بغيرك، أعرف كيف يمكن لشيطان أن يتسلط على حياة فتاة فيدمرها بدعوى الحب، ثقي أنت أن أخاك هو الوحيد الذي يخاف عليك أكثر من نفسه، لا تجعلي خوفك من غضبي يبني بينك و بيني حاجزا مما يسمح لأي كان بالتسلل الى حياتك)
ارتفع حاجبي نورا قليلا و هي تمط شفتيها مبتسمة، ثم قالت بخفوت.

(لا أصدق أنني أسمع هذا الكلام منك يا أمين، أعرف جيدا أن مجرد نطقك به و استعدادك لسماع الجواب يعد تضحية كبيرة منك)
أومأ أمين برأسه وهو يقول موافقا بصدق
(نعم هي تضحية كبيرة، الآن اخبريني)
فتح المصعد أبوابه أمامهما في تلك اللحظة فابتسمت له و هي تقول بثقة.

(مهما تمردت عليك يا أمين، سأظل ابنة الحاج راشد، من يريد ودي لا يملك الا طريقا واحدا فقط، الطريق لباب بيتي لمقابلتك، لأنني لا أقبل مكانة أقل من هذه و إن كنت أعرف رأيك مسبقا)
ابتسم أمين هو يسألها بجدية
(وعد؟)
أومأت برأسها قائلة بهدوء
(وعد)
ثم دخلت الى المصعد فتبعها بتمهل و ما أن وقف بجوارها و قبل أن يغلق المصعد أحاط كتفيها بذراعه فجأة و ضمها الى صدره ثم قبل أعلى رأسها وهو يهمس لها
(أشكرك).

خرجت أم أمين من غرفتها حزينة الملامح ما أن سمعت صوت باب الشقة يغلق...
لقد قاومت نفسها كي لا تخرج الى ابنها لتودعه و تدعو له ككل يوم، حتى الا آن لا تعرف كيف طاوعها قلبها، لكنها كانت غاضبة منه بشدة...
و الآن ندمت أنها سمحت له أن يخرج من البيت و هي غاضبة عليه...
أغمضت عينيها و همست
(اللهم اني استودعتك ولدي، و أنا راضية عنه حتى مماتي).

تنهدت بأسى و هي تتحرك للنافذة كي تنظر اليه قبل أن يستقل سيارته، لكنها توقفت مكانها و هي ترى أن بدور قد سبقتها ووقفت ساكنة تماما تنظر عبر زجاج النافذة منتظرة أن يخرج أمين من البناية كي تراقبه للحظات...
شعرت أمه بأن قلبها يوجعها من منظر بدور الذي يكسر الخاطر فاقتربت منها ببطىء الى أن وضعت يدها على كتفها برفق، فانتفضت بدور لتنظر اليها مجفلة...
لكن أم أمين سألتها بمحبة
(هل خرج أمين من البناية؟).

هزت بدور رأسها نفيا و هي تخفض عينيها هامسة
(ليس بعد)
فوقفت بجوارها و هي تزيح الستار قليلا لتراقب الطريق الى أن رأت أمين و نورا يخرجان بعد فترة، فنظرت بطرف عينيها الى بدور الى ابتسمت و لامست الزجاج بحزن و كأنها تلوح له، على الرغم من أنه لم يرفع وجهه لها و لم يرها من الأساس...

ظلتا صامتتان الى أن اختفى أمين بسيارته، حينها استدارت بدور بملامح يائسة كي تتجه لعملها اليومي، الا أن أم أمين أمسكت بذراعها و سألتها بحنان
(الى أين أنت ذاهبة؟)
أجابتها بدور بخفوت
(سأعد لك القهوة، ثم أباشر في التنظيف و التحضير للغذاء)
منعتها حماتها و هي تقول بحزم
(اليوم أيضا لن تقومي بشيء)
لكن ما أن حاولت بدور الإعتراض حتى قاطعتها أم أمين قائلة بجدية على الرغم من ابتسامتها التي لم تختفي عن شفتيها.

(اليوم لدي خطط أخرى لك)
ارتفع حاجبي بدور و هي تهمس بعدم فهم
(أي خطط؟)
تألقت ابتسامة حماتها بشقاوة و هي تجيبها
(يوم نسائي بحت و خاص جدا، سنمر على الأسواق التجارية، و صالون التجميل، و سنأكل في الخارج أيضا)
هتفت بدور بخوف
(لن يوافق أمين أبدا)
أجابتها والدته بصرامة
(و من قال أنني سأطلب منه الإذن؟، أنت بصحبة من أنجبته لذا لنرى كيف سيجرؤ على الإعتراض).

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة